لسنا وحدنا
سارت حياتنا على هذا المنوال سعداء منهمكين في العمل. مرت عشرة أعوام بنفس الطريقة تقريبًا شاهدنا فيها أبناءنا يكبرون ويصيرون رجالًا.
استمررنا نعتني بأرضنا، ونظفنا المستنقع وجعلنا منه بحيرة وضعنا فيها بجعًا للحفاظ على المياه من الغرباء. واستولت الأرانب على جزيرة القرش وازدهرت مزرعتنا.
صار فريتز الآن في الرابعة والعشرين من عمره، قوي البنية ومفتول العضلات ونشيطًا. وكان إيرنست يصغره بعامين، ويتسم باللطف والدعة إذ أحب الدراسة والقراءة. أما جاك الذي كان في العشرين من عمره فقد كان سريعًا ومرنًا كفريتز. وكان فرانز في السابعة عشرة من عمره واتسم بالذكاء وخفة الظل. كانوا كلهم رجالًا صالحين وشفوقين على أمهم وأحب بعضهم بعضًا.
كنا لا نزال نرجو أن نعود يومًا ما إلى صحبة أناس آخرين. وإبان إقامتنا في سويسرا الجديدة، استمر الأولاد في القيام بالمغامرات وغالبًا كانوا يخرجون بمفردهم للاستطلاع. وفي يوم من الأيام انطلق فريتز بزورقه وعاد في وقت متأخر في تلك الليلة ومعه حقيبة ثقيلة.
قال فريتز: «لقد عثرت على الكثير من الأشياء أثناء ترحالي يا أبي. بل صادفت أيضًا قاعًا مائيًّا ضحلًا مليئًا بالمحار الضخم، فغطست فيه وفتحت المحار لأجد هذه اللآلئ.»
تجمعنا كلنا لنرى كنزه.
قلت له: «حسنًا، ما أروعها! لكن لا قيمة لها بالنسبة لنا هنا. ربما يومًا ما تصبح لها قيمة.»
عندئذ أخذني فريتز على انفراد.
قال في حماس: «أبي، ثمة شيء رائع آخر حدث، لقد عثرت أيضًا على أحد طيور القطرس ملفوف حول رجله قطعة قماش قديمة، وعندما أمسكت به وبسطت قطعة القماش، كان مكتوب عليها كلمات باللغة الإنجليزية! تقول هذه الكلمات: «أنقذوا امرأة إنجليزية مسكينة من هذه الصخرة المدخنة!»
سألته في ذهول: «وماذا فعلت؟»
أجاب فريتز: «أخذت قطعة قماش وكتبت عليها: «لا تقلقي. النجدة قريبة!» وربطتها في رجل الطير وأطلقته. لكنني أتساءل الآن هل سيعثر عليها الطائر؟»
أجبته: «من الممكن أن تكون الرسالة قديمة للغاية. لا تخبر الأولاد بعد، فقد يزعجهم هذا الأمر، فلعل كاتبة الرسالة ماتت بالفعل منذ زمن.»
قال فريتز إنه شعر أن كاتبة الرسالة ما زالت على قيد الحياة، ولعل الدخان الذي أشارت إليه منبعث من أحد البراكين. وأراد أن يعثر عليها، وعلى هذا، بعد نقاش طويل، قررت أن أسمح له بالذهاب.
قلت له: «أولًا، سننطلق معًا، وبعدئذ سأتركك تذهب بمفردك.»
بعدها بفترة وجيزة انطلقنا مع إخوته وتركنا زوجتي وفرانز فحسب، كي أحاول أن أطلق فريتز بمفرده كي يعثر على المرأة المسافرة، فجعلت فريتز يضع زورقه على متن قاربنا وأبحرنا كلنا.
أبحرنا إلى أن بلغنا «خليج اللؤلؤ»، الذي أسماه فريتز بهذا تيمنًا باللآلئ الثمينة التي عثر عليها حيث عثر على الرسالة. نصبنا خيمتنا على الشاطئ وأضرمنا النيران، وذهب الصبيان الأصغر للاستطلاع على الشاطئ. بعدها مباشرة سمعت أنا وفريتز طلقات آتية من جهة الشاطئ، فهرعنا لنرى ما يحدث.
هجم خنزير بري متوحش على جاك الذي أطلق النار عليه، وكان الخنزير قد طرحه أرضًا وأصابه. اعتنينا بجاك الذي سرعان ما راح في النوم إلى جانب النيران يتعافى. وفي الصباح التالي انطلق فريتز للبحث، ووجدت أنا والصبيان الخنزير البري الذي أطلق جاك النار عليه ميتًا. كان الخنزير عملاقًا له أنياب كبيرة، وكان من الممكن أن تودي بحياة جاك بسهولة. وفجأة إذا بصوت زئير آتٍ من جهة الغابة، ومن بين الأشجار ظهر أكبر أسد رأيته في حياتي.
أخذ الأسد يجول في المكان ذهابًا وإيابًا يراقبنا مزمجرًا، وكنا نحن مرتعدين حتى إننا لم نستطع الحراك، ولم يكن بحوزتنا أي أسلحة. وأخذ الأسد يشتد ضراوة أكثر فأكثر، ثم ركض نحونا فجأة، وعندما كان في الهواء دوت طلقة نارية. خرّ الأسد صريعًا على الأرض وظهر فريتز من بين الظلال. لقد أنقذنا كلنا من الوحش.
تجمعنا كلنا حول الأسد، فإذا بأنثى الأسد تخرج من الغابة، وبعد أن رأت رفيقها ميتًا، اندفعت نحونا أيضًا واضطر فريتز أن يطلق النار عليها بالمثل. حزنا كلنا لموت أنثى الأسد، لكن فريتز أنقذنا من موت محقق. رأيت أنه صار رجلًا بحق الآن.
تركنا هذه المحنة خلفنا، وركبنا قاربنا مرة أخرى. وبعد فترة استعد فريتز كي ينطلق بمفرده بزورقه الصغير ليقوم بمغامرته. وحين كان يستعد للانطلاق، أخبرت الصبيين أنه ذاهب للبحث عن اكتشافات جديدة. فدعونا تلك البقعة «بقعة الوداع» وكنا نشاهده وهو ينطلق. واصلنا إبحارنا بقاربنا وذهب فريتز في طريقه؛ رجل يبحث عن قدره. ولم يكن أحد سواي يعرف غرضه الحقيقي.
عندما عدنا إلى منزلنا، استبد القلق بزوجتي لدى علمها برحيل فريتز. أخبرتها أنه سرعان ما سيعود، كل ما هنالك أنه ذهب ليستطلع. وفي الواقع، لم يكن لدي أدنى فكرة عن متى سيعود. انتظرنا وانخرطنا في العمل، لكن بعد مرور خمسة أيام لم أستطع أن أمنع نفسي أنا أيضًا من القلق. لذا قررت أن نذهب كلنا في القارب للعثور عليه.
أبحرنا عائدين إلى المكان الذي افترقنا فيه عن فريتز عندما انطلق بزورقه. وحين وصلنا جزيرة القرش، مررنا فوق حوت هائل كاد يغرق قاربنا الصغير وهو يمرّ تحته. هدأنا مرة أخرى ثم واصلنا إبحارنا إلى أن رأينا فجأة شخصًا غامضًا يمر بنا في زورق كياك. وقف الشخص وراقبنا ثم قاد قاربه إلى ما وراء إحدى الصخور.
وفجأة جال بخاطري أن هذا الشخص قطعًا أخذ فريتز المسكين. رفعت رايتنا البيضاء وناديت عليه، غير أنه كان بعيدًا للغاية وما كان ليسمع صرخاتي، فتولى جاك هذه المهمة بدلًا مني لأن صوته كان أعلى كثيرًا من صوتي.
صرخ جاك: «تعال هنا، وإلا سنأتي إليك لننال منك!»
بعدها استدار القارب واتجه نحونا. وإذ بإيرنست ينهض ويصرخ.
قال إيرنست بصوت مرتفع: «مرحبًا يا فريتز!»
جاوبه فريتز وهو يتنفس الصعداء: «إنه أنتم! عندما رأيتكم، لم أتخيل أنكم عائلتي، ظننتكم قراصنة أو سكانًا أصليين، لذا اختبأت.»
روينا له مغامرتنا مع الحوت، وأخبرنا هو أنه عثر على جزيرة أخرى يمكننا أن نرسو فيها.
قال فريتز: «اتبعوني!»
بعدها استدار وانطلق بزورقه. تركت قيادة القارب للأولاد والتفت إلى زوجتي كي أخبرها بحقيقة مهمة فريتز، فحكيت لها عن الرسالة وأنه ربما يكون قد عثر على تلك المرأة. غمرت الفرحة زوجتي، لكنني رأيت أنها كانت قلقة أيضًا — وكذلك كنت أنا — بشأن ما ينتظرنا خلف الشاطئ.
حين رسونا على شاطئ الجزيرة، انطلق فريتز أمامنا حيث اختفى، فتحيرنا كلنا أين عساه ذهب، وإذا به يظهر مرة أخرى ممسكًا بيد فتاة.