موجامبي «عثمان»
قفز «أحمد» إلى سيَّارةٍ صغيرةٍ من طراز «رينو»، ثمَّ أسرع يشقُّ شوارع القاهرة الهادئة، في اتِّجاه «مدينة نصر»؛ حيث ستقام المباراة في استاد القاهرة الكبير … كان يريد أن يرى مسرح الأحداث عن قُربٍ … ويُفكِّر في الصباح الباكر فيما سيفعل في الساعات القادمة.
وعندما وصل إلى الاستاد أخذ يطوف حوله، ولاحظ أنَّ هناك حُرَّاسًا على الأبواب، وأدرك أنَّ إجراءات الأمن بدأت مُبكِّرةً … وتخيَّل عشرات الألوف من المشاهدين الذين سيحضرون المباراة، وكيف سيكون من السهولة أن يندسَّ بينهم القاتل أو القتلة … ودخلت ثلاث سيَّاراتٍ تحمل بعض الضبَّاط والخبراء، ولاحظ «أحمد» أنَّهم يحملون بعض الأجهزة، التي عرف على الفور أنَّها تقوم بالبحث عن المُتفجِّرات والأسلحة … وأحسَّ بقدرٍ من الاطمئنان أنَّ مهمَّة القاتل لن تكون سهلةً.
ودار بالسيَّارة مرَّةً أخرى، ثمَّ انطلق في شوارع القاهرة، التي بدأت تزداد فيها حركة النشاط … ووصل إلى المقرِّ السِّري في الساعة الخامسة والنصف، ومعنى هذا أنَّ «عثمان» والمجموعة سيصلون بعد خمس دقائق إلى مطار القاهرة، وأنَّه سيراهم في السادسة تقريبًا.
«من المُهِمِّ أن تُراقبوا الجالسين في المقصورة … فإنَّ المسافة بين مقاعد الدرجة الثالثة والضيف الكبير لا تسمح بدِقَّة التصويب … ومقاعد الدرجة الأولى بجانب مقاعد المقصورة من الجانبين … ومن الصعب إخراج بندقيَّةٍ دون أن يراها الجالسون … ونحن نعتقد أنَّ القاتل سيستعمل مُسدَّسًا.
إنَّني أعتمد عليكم … فإنَّ الضيف «موجامبي» شخصيَّةٌ شديدة الأهمِّيَّة … كما أنَّه له أعداءٌ كثيرون.»
وقبل أن يعود «أحمد» إلى مكانه، سمع دقَّةً صغيرةً على الباب، ثمَّ ثلاث دقَّاتٍ … وأسرع إلى الباب، ولم يجد أحدًا … ولكنَّه وجد مظروفًا مغلقًا تحت عَقِب الباب … وعرف أنَّ عميل رقم «صفر» قد أحضر الصورة.
أضاء «أحمد» مصباحًا قويًّا في الصالة … وفتح المظروف، ولم يكد يرى ما فيه حتى صاح في دهشةٍ: غير معقولٍ! …
ثمَّ أخد يُردِّد: إنَّه «عثمان» … «عثمان»!
والواقع أنَّ صورة «موجامبي» كانت تقريبًا هي صورة «عثمان» … إذا أُضيف إليها عشرون سنة! نفس الملامح الأفريقيَّة … نفس اللون … نفس الشعر … نفس الأنف، ولا تزيد على صورة «عثمان» إلا بالشعر الأبيض المتناثر في الفَوْدَين (بجانب الأذنين وما فوقهما)، ونظَّارةٍ طبِّيَّةٍ ملوَّنةٍ. وفي هذه اللحظة لَمعَتْ في ذهن «أحمد» الفكرة الوحيدة التي يمكن أن يُنقذ بها الضيف … أن يحُلَّ «عثمان» محلَّ «موجامبي».
وصاح «أحمد»: وجدتها … وجدتها.
ولكن … ما كاد يجلس مكانه ويعيد التفكير في خطته، حتى تذكَّر … أنَّه عندما يُنقذ «موجامبي» سيقتل «عثمان» … صديقه، وزميله السودانيَّ المُخلِص، الذي خاض معه عشرات المغامرات.
تمدَّد «أحمد» على كرسيٍّ في الصالة، وأخذ يُمعِن التفكير في الخُطَّة؛ إنَّها خُطَّةٌ مُدهِشةٌ حقًّا أن يحُلَّ «عثمان» محلَّ «موجامبي»، بعد إجراء عمليَّة ماكياجٍ بسيطةٍ … بعض الشعر الأبيض، وبعض الخطوط العميقة في الوجه … ونظَّارة طبِّيَّة ملوَّنة، وكرسي في المقصورة؛ وكلُّها أشياء بسيطةٌ. ولم يُفِق «أحمد» من تأمُّلاته إلا عندما سمع باب المقرِّ السرِّيِّ يُفتح، ويظهر الأصدقاء.
تبادل الجميع التحيَّة، وأخذ «أحمد» يروي لهم ما حدث خلال الساعات القليلة الماضية … وعندما وصل إلى صورة «موجامبي» … كان طبيعيًّا أن يطلبوا منه الاطِّلاع عليها … وما كادوا يرونها حتى صاحوا في نَفَسٍ واحدٍ: ياه … إنَّه يُشبه «عثمان»!
وأخذ «عثمان» نَفْسُه ينظر إلى الصورة وهو يقول: «سأكون طبق الأصل مثل هذا الرجل بعد عشرين عامًا!» ضحكت «إلهام»، وقالت: وتتعرَّض للاغتيال!
عثمان: إنَّني مُعرَّضٌ للاغتيال من الآن.
وصمت قليلًا … لقد كان يُفكِّر كما فكَّر الجميع … أنَّ أفضل خُطَّةٍ لإنقاذ «موجامبي» أن يحُلَّ «عثمان» محلَّه … أن يتعرَّض للموت بطلقةٍ من يد رجلٍ مجهولٍ يندسُّ بين ١٠٠ ألف مُتفرِّجٍ سیزدحمون في استاد القاهرة بعد ساعاتٍ؛ لمشاهدة المباراة النهائيَّة.
وقال «عثمان»: أظنُّك فكَّرت یا «أحمد».
أحمد: في أيِّ شيءٍ؟
عثمان: فيما أُفكِّر فيه.
سكت «أحمد»، وقال «عثمان»: إنَّني على استعدادٍ للقيام بالدور یا «أحمد»، ما دام هذا هو الحلُّ الوحيد.
أحمد: مَن قال إنَّه الحلُّ الوحيد؟
عثمان: أو هو أفضل الحلول.
أحمد: إنَّني لا أستطيع أن أُضحِّي بك من أجل أيِّ شيءٍ في الدنيا.
زبيدة: سنبحث عن حلٍّ بديلٍ.
قيس: إنَّ نسبة نجاتك لا تزيد على ثمَّانين في المائة، على أكثر تقديرٍ.
عثمان: ليس هذا مُهِمًّا … المُهِمُّ أن نُنقذ «موجامبي»؛ هذه تعليمات رقم «صفر» … إنَّ اغتيال هذا الزعيم الأفريقيِّ ضربةٌ للتضامن الأفريقيِّ … ولحركة عدم الانحياز … وهذا الرجل قرأت عنه كثيرًا؛ لقد كان دائمًا يُناصر القضايا العربيَّة … واغتياله في «مصر» بالذَّات تَحَدٍّ لنا.
ساد الصمت … وأخذت أفكار الشياطين تدور حول اقتراح «عثمان»، ولكن «عثمان» قطع الصمت قائلًا: سأستأذن رقم «صفر».
إلى «ش. ك. س»، من رقم «٢»:
«علمتُ منذ دقائق بالعمليَّة الجديدة … إنَّ الضيف يُشبهني تمامًا … وأعتقد أنَّه ببعض الرُّتوش يمكن أن أحُلَّ محلَّه … إنَّني أستأذن الزعيم في القيام بهذا الدور … وبالطبع ستتوفَّر لي الحماية التي تتوفَّر للضيف … وقد لا يحدث شيءٌ على الإطلاق … ومهما كان رأيك يا سيِّدي في العمليَّة كعمليَّةٍ انتحاريَّةٍ … فأنت الذي علَّمتنا أنَّ الإنسان لا يتردَّدُ في التضحية بحياته من أجل الوطن … فأرجو الموافقة وإخطاري.»
وخرج «عثمان» إلى الشياطين مبتسمًا، وقال ضاحكًا: من الآن، لا بُدَّ أن تُعاملوني على أنَّني ضيفٌ مُهِمٌّ جدًّا … أو كما يقولون بالإنجليزيَّة «ڨي آي پ».