حربُ التيبت الشَّتوية١
أنا جنديٌّ مُرتزِق وأفتخر بذلك. إنني أحارب العدوَّ، ليس باسم الإدارة فحسب، بل أيضًا كعضوٍ تنفيذيٍّ لها، وإنْ كان عضوًا متواضعًا، إنني أقوم بتلك المهامِّ التي تُجبرني على محاربة الأعداء؛ فالغرض من الإدارة ليس تقديمَ يدِ العون إلى المواطن فحسب، بل حمايته أيضًا. إنني أحارب في حربِ التيبت الشَّتوية. أقول شَتوية لأنَّ الشتاء يسود دومًا على مُنحدَرات الكومو–لاونجما والكويو والماكالو والماناسلو. نحارب العدوَّ على قمم الجبال الرائعة، وفي المجاري الجليدية وعلى التِّلال المُنحدِرة، في الأراضي المفروشة بالحصى، وعلى الصخور وتحت المنحدَرات، وسط متاهةٍ من الخنادق والمخابئ، وفي ضوء الشمس الباهر الذي يذهب بالأبصار. وتزداد صعوبة القتال لأنَّ كلًّا من العدو والصديق يرتدي زيًّا مشابِهًا أبيضَ اللون. هذه الحرب الْتحامٌ وحشي بين الجنود لا تقيِّده قيود. إنَّ البرودة السائدة على القمم والمنحدَرات الصخرية التي تعلو ثمانية آلاف مترٍ فوق سطْحِ البحر؛ برودةٌ غير إنسانية جمَّدت منَّا الأُنوف والآذان. ويتكوَّن جيشُ المرتزِقة التابع للإدارة من جميع أجناس الأرض؛ الزنجيُّ العملاق من الكونغو يحارب مع أحَدِ الجنود من الملايو، الاسكندنافي الأشقر إلى جانب جنديٍّ من أدغال أستراليا، وهم ليسوا جنودًا سابقين فحسب، بل أيضًا أعضاء جماعاتٍ سرِّية وإرهابيِّون يعتنقون كلَّ أطياف الأيديولوجيات، وكذلك قتَلَة مأجورون ورجال مافيا ومساجين عاديِّون. هكذا كان الحال لدى العدوِّ أيضًا. أمَّا إذا لم نكُنْ في حالة حرب، فإننا ننزوي في مغاراتنا الجليدية، وفي الأنفاق التي شُقَّت بتفجير الصخور، وفي السراديب المتصلة بعضها بعضًا والتي تكوِّن شبكةً في قلب الكُتَل الصخرية العملاقة، شبكة معقَّدة لا يحيط بها أحدٌ، حتى إنَّ الأطراف المتعادية كانت تتقابَلُ فيها صدفةً دون أن تدرك، وهناك كان كلُّ فريق يُبيد الآخر. ليس ثمَّة أمانٌ في أيِّ مكان، ولا حتى في الماخور تحت جبل الكانجشند تسونجا، في تلك المغارات الخمس الملأى بالكنوز وسط الجليد العظيم، والتي تضمُّ عاهراتٍ من مختلف البقاع. الأعداء أيضًا يتردَّدون على بيت الدعارة البدائي هذا، بعد أن تفاهَمَ ضباط الماخور من كلَا الجانبَين على ذلك. ولا ألوم الإدارة على قرارها؛ فالمضاجعة ضرورة يصعب التحكُّم فيها. ولكنْ كَم من الرِّفاق طُعن بالخنجر وهو يرقد فوق إحدى المُومِسات، هذا ما حدَثَ لقائدي — مثلًا — في الحرب العالمية الأخيرة، وهو الذي كان يفضِّل، حتى في أثناء الحرب، ماخورَ الجنود على بيت الدعارة المخصَّص للضباط. أتذكَّرُ تمامًا كيف عثرتُ عليه.
قبل عشرين أو ثلاثين عامًا — ومَن منَّا يعدُّ السنين؟ — دخلتُ مدينة نيباليَّةً صغيرة مستخدِمًا بطاقة الهوية التي أصدرتْها الإدارة. استقبلتْني ضابطةُ جيش، وأنهكتْني إنهاكًا تامًّا. كنتُ خائر القُوى كشيخٍ بلَغَ من العمر أرذَلَه عندما فتحَتْ بابًا حديديًّا صدئًا، ثم أغلقته في عنف حتى كاد ينهَارُ. حدَثَ كلُّ شيءٍ في غرفةٍ عارية، حَشيَّة بجانب البار، وعلى الأرض تناثرتْ قطَعُ الملابس: الزِّي العسكري للمرأة وثيابي المدنية الرثَّة بعد أن تمزَّقتْ. الباب مفتوحٌ على اتِّساعه، الأطفال يملئُون المكان. بكلِّ الخدوش على بشرتي، وبالغضب الذي شعرتُ به من الأطفال الذين تحلَّقُوا حولي مهلِّلين؛ اعتليتُ المرأةَ الهائلة العارية. ترنَّحتُ مخترِقًا الباب، دون أن ألاحظ أنَّ خلْفَه درَجًا مائلًا يؤدِّي إلى أسفل. هويتُ، تدحرجتُ، وسقطتُ على أرضيَّة خرسانية، ظللتُ راقدًا أنزف، لم أفقد الوعي، كنتُ فرحًا لأنني ما زلتُ أرقد. بحذرٍ جلتُ ببصري فيما حولي. وجدتُ نَفْسي في غرفةٍ مربَّعة. على الحائط أزياء عسكريةٌ بيضاء، ورشَّاشاتٌ آلية، وخوذات حديدية مكسوَّة بقماشٍ أبيض. خلْفَ أحد المكاتب جلَسَ جنديٌّ مرتزِق، لا يمكن تحديد عمره، كأنَّ وجهه مصنوعٌ من الطمي، أمَّا فمُه فيخلو من الأسنان. كان يرتدي زيًّا عسكريًّا أبيضَ وخوذة مثل تلك المعلَّقة على الحائط. فوق المكتب رشَّاشٌ آلي، وكومةٌ من مجلات البورنو راح المرتزِق يقلِّب في صفحاتها. ثم لاحَظَ أخيرًا وجودي: «هذا هو إذن، الجديد»، ثم أضاف، «منهكًا، كما ينبغي». سحَبَ دُرجًا، وأخَذَ استمارة. أغلق الدُّرج. ببطء، وبصعوبة راح يسنُّ عقبَ قلَمٍ من الرصاص مستخدِمًا مِطواة، في أثناء ذلك جرَحَ نَفْسه، فأخَذَ يسبُّ ويلعن، وأخيرًا تمكَّن من الكتابة على الاستمارة التي امتلأتْ بالدم، ثم أمرني قائلًا: «قِف». وقفتُ. شعرتُ بالبرد. في تلك اللحظة انتبهتُ إلى أنني عارٍ. الجروحُ تغطِّي أنفي ويدي، بينما كان جبيني ينزف. «رقمك هو ف (د) ٢٥٦٣٢٣»، قال دون أن يسألني عن اسمي. «هل تؤمن بالله؟» «لا»، أجبتُه. فسألني: «هل تؤمن بخلود الرُّوح؟» «لا» فردَّ قائلًا: «عمومًا، ليس هذا في اللوائح. وإنْ كان الإيمانُ ليس مناسبًا تمامًا. هل تعتقد بوجود عدوٍّ؟» «نعم»، أجبتُه. «أترى؟ هذا تشترطه اللوائح. ارتَدِ أحدَ الأزياء العسكرية، وخذْ خوذةً ورشَّاشًا. إنَّه مُعَمَّر». أطعتُ. وضَعَ الاستمارة في الدُّرج، ثم أغلَقَه بصعوبةٍ كما فتَحَه، ونهَضَ. «هل تعرف كيف تستخدم رشَّاشًا كهذا؟» «سؤالٌ سخيف»، أجبتُه، فقال: «لا تنسَ، ليس كلُّ الذين يأتون إلى هنا من الخنازير الطاعنة في السنِّ التي كانت تحارب على الجبهة مثلك، يا رقم ٢٣». «لماذا ٢٣؟» «لأنَّ رقمك ينتهي ﺑ ٢٣»، أجابني ثم تناوَلَ رشَّاشه من المكتب وفتَحَ بابًا خشبيًّا منخفِضًا وشبهَ متآكِل. عرجتُ خلْفَه. دلفنا إلى ممرٍّ ضيِّق مبلَّل. كان محفورًا في الصخر، لا تخفِّف من ظُلمته سوى لمباتٍ صغيرةٍ حمراء، كانت الأسلاك الكهربائية الموصولة بها تمتدُّ بجوار الحائط بدون تثبيت. من مكانٍ ما سمعتُ هدير شلَّالِ مياه. وفي مكانٍ ما انطلق رصاص، ثم سمعتُ انفجارًا مكتومًا. ظلَّ المرتزِق واقفًا، ثم قال: «إذا مرَّ بنا أحدٌ؛ افتح النار عليه، فمن الممكن أن يكون من الأعداء. وإذا لم يكُنْ؛ فلن نخسَرَ كثيرًا». يبدو أنَّ السرداب كان ينخفض، ولكنني لم أكُنْ متأكدًا؛ إذ إننا كثيرًا ما كنَّا نتسلَّق حتى نواصل السَّير. كان النفق يصعد بنا صعودًا مائلًا، ثم نتسلَّق الحبال لننزل إلى أعماقٍ مجهولة. سرعان ما انتهت شبَكَة الأنفاق والسراديب، ثم أقلَّتْنا شبكةٌ معقَّدة من المصاعد، وسرعان ما أمسى كلُّ شيء بدائيًّا على نحوٍ بالِغ، وكأنَّ المكان بُنيَ منذ الأزل، ويوشك على الانهيار؛ إنَّ من ضُروب المستحيل أن يكوِّن الجنديُّ المرتزِق «صورةً جغرافية» عن المتاهة التي نعيش فيها، ولا يستطيع حتى أن يصنع تخطيطًا بدائيًّا تقريبيًّا. نزَفَ الدمُ من يدي بكثرة. في إحدى المغارات نِمنا بضع ساعات، انكمَشَ فيها كلٌّ منَّا على نَفْسه كالحيوان. يبدو أنَّ المتاهة أصبحتْ أبسط. استقامت الأنفاق، ولكنْ لم يكُنْ من الممكن أن أحدِّد في أيِّ اتجاه نسير. في بعض الأحيان كنَّا نمشي كيلومتراتٍ عبْرَ مياهٍ ثلجية البرودة تصِلُ حتى الرُّكَب. يمينًا ويسارًا تتفرَّع أنفاقٌ أخرى من النفق الذي نسير فيه. تساقطتْ قطرات المياه في كل الأنحاء، ولكن في بعض الأحيان كان يَسُود هدوءُ المَقابر، فلَمْ نكُنْ نسمع سوى وقْعِ خطواتنا. وفجأةً راح المرتزِق يتحسَّس طريقه أمامي بحذَرٍ، ورشَّاشه على أُهْبَة الاستعداد، وحيثما كان يصبُّ أحدُ الأنفاق في نفقنا سمعتُ صفيرًا يمرُق بجانب رأسي: لقد عُدتُ إلى خضَمِّ الحرب العالمية الثالثة. مَشينا بقامةٍ منحنية إلى ما يُشبه السُّلَّم اللولبي، كان خشبه هشًّا متآكِلًا، ومنه أخَذَ المرتزِق يُطلق الرَّصاص الطائش — إذ لم يكُنْ هناك أي شخص — في اتجاه النفق، إلى أن أفرَغَ خِزانة رشَّاشه. بعد الهبوط مسافةً قصيرة وصلنا مغارةً مُضاءة إضاءةً أفضلَ قليلًا، وإليها كانت تؤدِّي سلالمُ لولبيَّةٌ أخرى، بعضها من فوق — ومنها التي أتينا عن طريقها — وبعضها من أسفل. من المغارة تفرَّعَ نفَقٌ عريض أدَّى إلى بابِ مصعد. ضغَطَ المرتزِق الزِّر، وانتظرنا حوالي ربع ساعة. «عندما نخرج»، قال المرتزِق، «ألقِ برشَّاشك، وارفع يدَيك». انفتَحَ الباب، ودخلنا المصعد. كان صغيرًا ضيِّقًا، ولكن — وهذا هو الغريب — مكسوًّا بقماشٍ حريريٍّ نبيذيِّ اللون، ثقَبَته رصاصات لا تُعَد. لم أعُدْ أعرف ما إذا كان المصعد أقلَّنا إلى الأعلى أم إلى الأسفل. كان له بابان. لم ألحظ ذلك إلا عندما انفتَحَ البابُ خلْفَ ظَهري بعد رُبع ساعة.
ألقى المرتزِق برشَّاشه خارجًا، وأتبعتُه برشَّاشي. خرجتُ من المصعد بذراعَين مرفوعتَين، المرتزِق أيضًا رفَعَ ذراعَيه عاليًا. ظللتُ واقفًا، مصدومًا؛ أمامي كان يجلس على كرسيٍّ متحرِّك مرتزِقٌ بلا ساقَين، ذراعاه اصطناعيتان، اليسرى من الصُّلب وتنتهي برشَّاشٍ آلي، أمَّا اليمنى فتنتهي بيدٍ اصطناعية تتكوَّن من كمَّاشات ومفكَّات وسكاكين وقبضةٍ حديدية. الجزء الأسفل من الوجه من الصُّلب أيضًا، ومكان الفم كان هناك خرطوم. تحرَّكَ الكائن على الكرسي بعيدًا عنا، ثم أعطى إشارةً بالرشَّاش أن نقترب. أنزَلَ كلٌّ منَّا ذراعَيه. في وسط المغارة رجُلٌ عارٍ ملتحٍ معلَّقٌ من يدَيه، وفي قدمَيه ربطوا حجَرًا ثقيلًا. لم يَصدُر عن الرَّجُل أدنى حركة. بين الحين والآخر ندَّتْ عنه حشرجة. مرتكزًا إلى الحائط بجوار الصخرة مباشرة، على مضجعٍ خشبيٍّ بائس، ووسط كومةٍ من الأسلحة وصناديق الذخيرة، مُحاطًا بزجاجات الكونياك؛ جلَسَ ضابطٌ ضخمٌ عجوزٌ يرتدي زيًّا حربيًّا مفتوحًا، وتحته لمعتْ شعراتُ صدره البيضاء المبلَّلة بالعرَق. كان الزِّي مألوفًا لي، كنتُ أعرفه من أيام الحرب؛ كان الضابط قائدَ فرقتي. رفَعَ زجاجةً إلى شفتَيه، وشرِبَ. «يوناتان»، تحرَّك إلى الزاوية، قال بلسانٍ ثقيلٍ وبلُكْنَة. تحرَّكَ الكائنُ بكرسيِّه إلى حائط المغارة، ثم شرَعَ ينقُش شيئًا على الحائط. «يوناتان مفكِّر»، قال القائد متفحِّصًا إياي. ثم أدرَكَ فجأةً مَن أنا: «هانز الصغير»، وضحِكَ ضحكةً متحشرِجة، «ألا تعرفني؟ أنا هو أنا، قائدك القديم». وأشرَقَ وجهُه. «لقد واصلتُ طريقي حتى وصلتُ إلى بريجنتس. تعالَ». فقلتُ متلعثِمًا: «حضرة الضابط»، وسِرتُ إليه، فوسَّدَ رأسي على صدره الرطب. «أنت هنا»، واصَلَ الصوتُ المبحوح فوقي، «ها أنت هنا مرةً أخرى، يا صغيري، يا ابن المُومِس». وأمسَكَ بشعري وهزَّ رأسي إلى الأمام والخلف. «كنتُ سأستغرب لو استطاعت الإدارة أن تروِّض صغيري هانز. الجنديُّ يظلُّ جنديًّا»، برُكْبته اليمنى المَثنيَّة وجَّهَ إليَّ ضربةً كانت من القوة بحيث إنَّني — لأنَّه في الوقت نَفْسه أطلق سراحي — وجدتُ نَفْسي أترنَّحُ مصطدِمًا بالرَّجُل المُعلَّق الذي تأوَّه عاليًا وراح يتأرجح يمينًا ويسارًا. نصبتُ قامتي مرةً أخرى، فقهقَهَ القائد. «أعطني سيجارًا يا نذل!» صاح في وجه المرتزِق الذي أحضرني إلى الغرفة، «لقد استهلكتُ حصتي». ناوَلَه المرتزِق سيجارًا دون كلمة، ثم سحَبَ دفترًا وسجَّل قائلًا: «أنت مدينٌ لي الآن بسبعةٍ أيها القائد». فزأَرَ القائدُ قائلًا: «طيِّب، طيِّب»، وأشعَلَ السيجار بولَّاعةٍ ذهبية تمايزتْ تمايُزًا غريبًا عن زِيِّه الرثِّ وبُؤس المغارة. تذكرتُ أنني رأيتُ الولَّاعة نَفْسها في فندق «كور» في منطقةِ الإنجادين السُّفلى، وهو ما أشعَرَني بالرضا؛ الزمنُ الجميل الماضي لم ينقضِ تمامًا. «اطلعْ برَّه»، قال القائد للمرتزِق الذي أدَّى التحية العسكرية واستدار، ثم انحنى ليلتقط رشَّاشه الآلي. في هذه اللحظة أطلَقَ القائد دفعةً من الرصاص ثقبتْ جسدَ المرتزِق كالغربال. راضيًا أعاد القائدُ رشَّاشه الآلي إلى المضجع الخشبي. حرَّكَ يوناتان كرسيَّه إلى الجثَّة وتفحَّصها بيده الاصطناعية اليمنى. «ألَمْ يعُدْ معه سيجار؟» أراد القائد أن يعرف. هزَّ يوناتان رأسه نافيًا. «ولا مجلة بورنو؟» هزَّ يوناتان رأسه مرةً أخرى، ثم ثبَّتَ الجثَّة في خطَّافٍ بكرسيِّه، وجرَّها مبتعِدًا. «الآن لا يعرف أحدٌ الطريقَ إليَّ»، قال القائد، «النقاط الأمامية على خطوط التَّماس خطِرةٌ؛ لأنَّها تنتقل إلى صفوف العدوِّ بسهولة. هذا الخنزير انضمَّ إلى الأعداء، فيما مضى كان يُحضر لي دائمًا مجلات بورنو». ثم حدَّقَ في الرَّجُل المعلَّق العاري. «صغيري هانز»، قال مطلِقًا سحابةً من الدُّخان أمامه، «صغيري هانز، يبدو أنَّك تستغرب رؤيةَ شخصٍ مثلِ هذا معلَّقًا عندنا. إنَّ الجيش، آمل أن تكون مدرِكًا لذلك، لا يحبُّ مَن يعذِّب غيره. وأنت بالتأكيد لم تنسَ أنَّ قائدك القديم لم يكُنْ ممَّن يعذِّب جنوده. كنتُ أحبُّ جنودي كأولادي، وجنودي المرتزِقة أحبُّهم أيضًا مثلَ أولادي». «تمام، سعادتك»، قلتُ له. أومَأَ لي، ونهَضَ، تأرجَحَ ناحيةَ حائطِ المغارة بجانب يوناتان الذي كان قد تحرَّكَ بكرسيِّه ناحيةَ الجدار الصخري وهناك نقَشَ شيئًا. بال القائد، وفي أثناء ذلك قال: «إذا كان هناك جنديٌّ عارٍ يتدلَّى من حبل؛ فإن ذلك يتنافى مع عاطفيتي، أليس كذلك يا صغيري هانز؟ أنت شابٌّ طيِّب، أنت تعرف أنَّني متعاطِفٌ مع هذا الشاب. لأنني عاطفيٌّ. والعواطف شيءٌ إنساني. الحيوانات غير عاطفية. شدَّ قامتَكَ عندما أتحدَّثُ معك». شددتُ قامتي: «تمام، سعادتك». استدار العجوز، وزرَّرَ سِرواله، محدِّقًا فيَّ بعيونٍ ضيِّقة، ثم سألني: «صغيري هانز، ما رأيك في ابن الكلب هذا؟ لماذا، في رأيك، علِّقناه هنا؟» رُحتُ أفكِّر. «إنَّه سجين، سعادة القائد»، أجبتُ وقامتي ما زالتْ منتصِبة، «عدو». خبَطَ القائد بقدمَيه على الأرض. «إنَّه أحدُ أفراد فرقتي. مرتزِق. تريد أنت أيضًا أن تصبح من المرتزِقة يا عقيد». ونظَرَ إليَّ متفحِّصًا، دون أن يتفوَّهَ بكلمة، نظرةً كادتْ تكون عدوانية؛ فأجبتُ دون أن أتحرَّك: «إنني مصمِّم على ذلك». هزَّ القائد رأسه قائلًا: «كما أرى، ما زلتَ كما كنتَ، وغدًا مطيعًا. يمكن استخدامك في كلِّ شيء، تمامًا مثل أيام فندق كور. انتبِهْ جيدًا يا بُنيَّ، لمَا أفعله الآن». ترنَّحَ بخطواتٍ بطيئة إلى وسط المغارة ثم أطفأ سيجاره المشتعِل في بطنِ المرتزِق المعلَّق. «والآن، يمكن أن تبول أنت أيضًا»، قال القائد. لم تَصدُر عن المرتزق سوى آهة. «المسكين لم يعُدْ يقوى على التبوُّل»، قال القائد، «يا غلبان!» ثم أرجَحَ المرتزقَ سائلًا إياي: «صغيري هانز؟» «سعادتك؟» «الكلب معلَّق منذ ١٢ ساعة»، قال، ثم واصَلَ أرجحتَه. «وهو كلبٌ مطيع، مرتزِقٌ طيِّب، أحبُّه مثلَ ابني الصغير». ووقَفَ أمامي. كانت قامة العملاق العجوز أعلى منِّي بمقدارِ رأس. «هل تعرف يا صغيري هانز مَن الذي أمَرَ بهذه الأعمال القذرة؟» سألني بلهجةٍ مهدِّدة. «لا، سعادتك»، أجبتُ وأنا أضمُّ الكعبَين معًا. لزم القائد الصمتَ. «أنا، يا صغيري هانز»، قال بصوتٍ حزين. «وهل تعرف لماذا؟ لأنَّ ابني العزيز يتوهَّم عدمَ وجود أعداء. خذْ رشَّاشك الآلي يا هانز. إنَّه أفضلُ شيءٍ لابني العزيز». أطلقتُ كلَّ رصاص الرشَّاش. كتلةٌ دامية من اللحم هي كلُّ ما تبقتْ على الصخرة. «صغيري هانز»، قال القائد بحنان، «فلْنذهب إلى المصعد. سأختنق هنا في الأسفل. لا بد أنْ أعود إلى الجبهة. استخدمنا أكثرَ من مصعد. الأولُ كان فخمًا. تمدَّدنا وتمطَّعنا على أريكة، وعلى الجدار أمامنا رأيتُ صورةً معلَّقة لفتاةٍ عاريةٍ ترقد على بطنها فوق أريكة. «هذه اللوحة لبوشيه أحضرتُها من متحف البيناكوتيك القديم»، قال القائد موضِّحًا. «ميونيخ كلُّها كانت كومةً من الأنقاض. جنة لمَن يريد السلب والنهب». كلُّ مصعد أخذناه بعد ذلك كان يفوق سابقه بؤسًا وحقارة، وسرعان ما وجدتُ الجدران ملصوقةً بصفحاتٍ من مجلات البورنو، وفي كل مكان نكات بذيئة محفورةً على الجدران، وبعد فترةٍ لم تعُدْ ثمَّة مصاعد. مرتدِين الأقنعة، وعلى ظهورنا أجهزة الأكسجين الثقيلة؛ رُحنا نتسلَّق جدرانَ مغاراتٍ مائلةً، غيرَ أنَّ القائد العملاق لم يكلَّ، بل كان يزداد حيويةً. ولأنه كان يعرف مكانَ عَددٍ لا يُحصى من المخابئ التي خُزِّنت فيها زجاجاتُ الكونياك؛ فقد ازداد مجونًا أيضًا، فكان يُطلق صيحات التهليل والفرح قبل أن يتسلَّق المواضعَ الصعبة. واصَلْنا الزحف في ممرَّاتٍ واطئة، ثم ركبنا سِلالًا مثبتةً في حِبال صعدتْ بنا إلى أعلى، حتى وصلنا إلى مخبأ ومقرِّ قائدي.
نمتُ طويلًا ودون أحلام. لقد أصبحتُ أنا أيضًا — بعد أن قتلتُ المرتزِق وجعلتُه كالغربال برشَّاشي الآلي — مرتزِقًا، كانت هذه أول مرةٍ أقوم فيها بواجبي في خدمة الإدارة. على المرتزِق ألَّا يسمح لنَفْسه بالسؤال عن العدوِّ؛ لأنَّ هذا السؤال يعني، ببساطة، موتَه. إذا تساءل عن العدوِّ — حتى لو كان السؤال في اللاوعي — فإنه لن يَقدُر على القتال. فإذا ضاق صدرُه بالسؤال وتجرَّأ على طرحه؛ فقد ضاع وانتهى أمرُهُ، ولم يعُدْ بالإمكان إنقاذه. عندئذٍ يتحتَّم على القائد والجنود المرتزِقة الآخرين أن يُنقذوا ما يمكن إنقاذه. ولهذا فأنا فخورٌ لأنني فتحتُ النار باسم الجميع. ومنذئذٍ لم يَعُد السؤال عن العدو مطروحًا. إنَّ الحرب الشَّتوية تعلِّم المرتزق أيضًا أن يطرح أسئلةً لا يمكن الإجابةُ عنها، ولكنَّها أسئلةٌ ذات مغزًى. إنه لا يكترث بمعرفة مَن هو العدو، ما يهمُّه هو: لماذا يحارب؟ ومَن يُصدر الأوامر؟ هذه الأسئلة ذات مغزًى، بينما السؤال عن العدوِّ يتضمَّن غوايةَ إنكار وجود العدو الذي نحاربه يومًا بعد يوم، العدو الذي لا شكَّ في وجوده لأننا نقتله. لا معنى لحرب بلا عدو، بل إنَّ هذا هو الهُراء بعينه؛ ولهذا لا يَطرح المرتزِق هذا السؤال من أساسه، وإلا فإنَّه يطرح نَفْسه هدفًا لرشَّاش زميله الواقف بجواره. هذا هو اليقين الوحيد المتبقِّي، ليس ثمَّة يقينٌ آخر. تنتشر الأنباء عن انتصاراتٍ مذهِلة، النصر النهائي دائمًا وشيك، بل لقد تمَّ تحقيقه، ولكنَّ الحرب الشَّتوية مستمرَّةٌ. لا يعرف المرتزِقة لماذا يحاربون ولماذا يموتون، أو لماذا تُبتر أعضاؤهم في مستشفيات الميدان البدائية ثم يُرسلون مرةً أخرى إلى الجبهة بأطرافٍ اصطناعية فجَّة الصنع، البعض يُزوَّد بخطَّافٍ ومسامير بدلًا من اليدَين، والبعض الآخر فقَدَ بصره، الوجه ليس إلا كتلةً فظَّة من اللحم. يرسلون إلى جبهةٍ موجودة في كلِّ مكان. لا يعرفون سوى أنَّهم يحاربون الأعداء. يقومون بأعمالٍ بطوليةٍ غير إنسانية ولا معنى لها دون أن يعرفوا السبب؛ لقد نسُوا منذ أمدٍ بعيد أنَّهم تطوَّعوا بمحضِ إرادتهم. يشرعون في البحث عن معنًى لحرب الشتاء، ويُنشئون نُظمًا فكرية خيالية — ما ضرورة هذه الحرب؟ ولماذا قد يتعلَّق بها مصير الإنسانية جمعاء؟ — لأنَّ هذه الأسئلة هي الوحيدة التي تعني شيئًا لهم. إنَّ الأمل في العثور على معنًى يمنحهم القوة التي يحتاجون إليها؛ هذا ما يجعل الذبح والقتل أمرًا ممكِنًا ومُحتمَلًا. ولهذا، من المفهوم ألَّا يحارِب المرتزِق العدوَّ فحسب، بل أيضًا المرتزِقة في صفوفه. ليس للمرتزِق أعداء فحسب، إنَّه يواجه الخصوم أيضًا؛ أي المرتزِقة الذين يفهمون مَغزَى الحرب الشَّتوية فهمًا مُغايرًا. يكره ذلك الخصم، أمَّا العدو فلا يكترث به. إنَّه وحشيٌّ أمام الخصم، يقوم بنحره، أمَّا العدو فإنَّه يقتله فحسب. ولهذا يكوِّن المرتزِقة جماعات وفِرقًا، وينضمُّون إلى تلك التي ربما يعتبرونها فرقةً مُعادِية، غيرَ أنَّها تبدو أكثرَ احتمالًا من تلك التي يتَّفقون معها في الخطوط الرئيسية، ولكنهم يرون أنفسهم بعيدين عنها في المسائل الثانوية التافهة، أو في أحد تفاصيل المسائل الثانوية؛ فجأةً يعتبرون الفروق والظلال أهمَّ من الرأي الرئيسي. بعض الجماعات تكوِّن أغربَ النظريات عمَّن يقود تلك الحروب، وفي أيِّ المغارات الجبلية يعيش قادةُ الأعداء، تحت جبال الخانجسته أو اللوتسه، بينما يعتقدون أنَّ قادتهم يختبئون في جبال الأنابورنا أو الداولاجيري. ثمة فرقة — غريبة الأطوار بالطبع — كانت تُلاحَق من الجميع، حتى من العدوِّ، تعتقد في وجود قيادةٍ واحدة، وتحديدًا في جوف جبل «برود بيك» البعيد ذي القمم الثلاث. نعم، بل إنَّ ثمَّة فرقة — قُضي عليها واجتُثتْ من جذورها — أعلنتْ أنَّ هناك قائدًا واحدًا للعمليات الحربية، مارشال أعمَى بلَغَ من العمر عتيًّا، ولوجوده في معسكر التصفية الضخم؛ فقَدْ كان يشنُّ في الوقت ذاته حربًا ضدَّ نَفْسه؛ لأنَّ كلتا القوَّتَين قدَّمتْ له رشوةً في آنٍ معًا. ويُقال إنَّ ثمَّة فرقة تعتقد أنَّ هذا المارشال هو مخبولٌ أيضًا. هذه الفِرَق المختلفة تكوِّن بدورها جبهاتٍ متصارعةً، وهذه الجبهات تنقسم إلى جبهاتٍ أخرى وجبهاتٍ مضادة. وهكذا، فإن نظام المرتزِقة ليس على أفضل حال؛ إنهم يكوِّنون — في أثناء المذابح والتقتيل — جماعاتٍ كثيرةً تقضي على بعضها البعض، بدلًا من أن تقضي على العدوِّ، تمزِّقهم شظايا قنابِلِهم، وتُصيبهم طلقاتُ رشَّاشاتهم الآلية، فتجعل جسدَ الواحد منهم كالغربال، يحترقون من لهب قاذفي النيران في فرقتهم، ويتجمَّدون بردًا في أوكارهم الجليدية، يَلقَون حتفهم بسبب نقص الأكسجين في الكهوف الرائعة التي حفروها بأيديهم يأسًا؛ لأنَّ الشجاعة لم تُواتِهم للعودة إلى معسكراتهم، خوفًا من أن تكون فِرقٌ وجماعاتٌ جديدة نشأتْ في تلك الأثناء، بينما لا ينقطع المدد الذي يأتيهم من كلِّ البلاد ومن جميع الأجناس، مُلقين بأنفسهم في أَتُّون المذابح. أمَّا حالة العدوِّ فلا تختلف كثيرًا، هذا إذا كان للعدوِّ وجودٌ من الأساس، يحقُّ لي طرحُ هذا السؤال الآن؛ لقد أضحيت القائد منذ فترة.
عندما رفعوه من فوق المُومِس عاريًا وضخمًا، عندما تخلَّصوا من جثَّته؛ ارتديتُ زِيَّه، ونلتُ على الفور احترام المرتزِقة. أعرف أنَّ المرتزِقة يعرفون أنني غرزتُ الخنجر في قلبه؛ ولكنهم ليسوا بحاجة إلى أن يعرفوا أنَّ تلك كانت أمنيته. «صغيري هانز»، قال ضاحكًا قبل أن ندخل الماخور، وبعد أن ارتكز على الجدار الصخري لمغارته القديمة حيث شنقوا المرتزِق قبلها بعامَين، «صغيري هانز، أفرغ رشَّاشك في جسدي. إنَّه من الهُراء أن تعتقد أنَّ هناك عدوًّا واحدًا. هيا يا بُنيَّ». لزمتُ الصمت وتصرفتُ وكأنني لم أفهمْه، بينما راح يوناتان على كرسيِّه المتحرِك ينقش شيئًا على جدار المغارة الرئيسية. ثم انطلقنا عبْرَ شبكةِ المغارات والممرَّات التي لا تنتهي إلى أن وصلنا إلى الماخور. بعد أن تأوَّه فوق عاهرته، طعنتُه؛ لقد استحقَّ قائدي أنْ يَلقَى حتفه على نحوٍ لائق. صرَخَت المُومِس، والمُومِسات الأخرى أنزلنه على الأرض، وتحلَّقنَ حوله بأجسادهن الثقيلة العارية. مسحتُ الخنجر في مُلاءةِ سرير. رأيتُ القائد يتفرَّج عليَّ. «صغيري هانز»، همَسَ، وتوجَّبَ عليَّ أن أركَعَ حتى أفهَمَ ما يقوله. «صغيري هانز، هل درستَ في الجامعة؟» فأجبتُه: «فلسفة». «وحصلتَ على الدكتوراه؟» «برسالةٍ عن أفلاطون»، قلتُ له، «وقبل مناقشة الرسالة بدأت الحربُ العالمية الثالثة». صدرت حشرجةٌ عن القائد. ببطءٍ فهمتُ أنَّه كان يضحك. «أنا درستُ الأدب، يا صغيري، هوفمنستال». نهضتُ. «لقد مات»، قلتُ للمُومِسات. كان قائدًا عظيمًا. لو كان حيًّا لشكَرَني مرتَين لأنني قتلتُه. لقد انقرضت المواخير منذ زمن، وهي كانت محطَّ أشواقه، أمَّا الكونياك فلَمْ يكُنْ سوى عادة. في المقابل بادَرَت الجنديَّات المرتزِقة بالهجوم في المعارك، وأعترفُ أنهنَّ يفُقنَ الجنودَ جرأةً وتهوُّرًا، وبالجنس ازدادتْ نار جهنم على الجبهة استعارًا؛ الجندي يقتل وينكح كي يكسب الرهان، الدماء والحيوانات المنوية والأحشاء وسوائل الرَّحم والأجنَّة والقيء وأغشية المساريقا والمواليد الصارخون، الأمخاخ والعيون والمشايم تتدافع أنهارًا هابطةً المجاري الجليدية العملاقة، ثم تهوي وتختفي في شقوقٍ عميقةِ الغور.
لم يعُدْ هذا يُزعجني. بلا ساقَين أجلس على كرسيٍّ متحرِّك في المغارة القديمة، فقدتُ ساعديَّ أيضًا، ذراعي اليُسرى تنتهي مباشرةً بالرشَّاش الآلي. أُطلق النيران على كلِّ مَن يظهر أمامي، الممرَّات ملأى بالجثث. لحُسن الحظِّ هناك جرذان. يدي اليمنى آلةٌ متعدِّدة الأغراض: كمَّاشات ومطارق ومفكَّات ومقصَّات وأقلام … إلخ، وكلها من الصُّلب. في أحد الكهوف الجانبية مخزن هائل للمعلَّبات وأجود أنواع الكونياك — هذا ممَّا أعدَّه سلفي للمستقبل. بالتأكيد، لقد أصبح الأمر أكثرَ هدوءًا، لم أعُدْ محتاجًا إلى ذراعي اليسرى — الرشَّاش الآلي؛ قبل سنوات اهتزَّ كلُّ شيء، ربما تكون الإدارة قد ألقتْ قنبلة. الأمر سواء. عندي وقتٌ للتأمُّل، ووقتٌ لنقْشِ أفكاري على الجدار الصخري بالقلم الحديدي في نهاية يدي الاصطناعية اليمنى. كان يوناتان هو الذي هداني إلى الفكرة، وإلى الطريقة أيضًا. ثمَّة جدران صخرية بما يكفي، مئات الكيلومترات، وما زالتْ مضاءة في بعض الأماكن، وإن كانت المصابيحُ المحترِقة لم تُستبدل. ولكنني أستطيع — ولا بد — أن أنقش في الظَّلام على الصخر؛ حتى الآن قمتُ بالكتابة عن الحرب الشَّتوية وكيفية الْتحاقي بها ولقائي بالقائد وموته، جدران المغارة مغطَّاة بكتاباتي؛ والآن شرعتُ في الكتابة على حائط النَّفَق الرئيسي الكبير المؤدِّي إلى المواخير، يبلغ طول السطر مائتي متر، ثم أتحرك بكرسيٍّ لأنقش سطرًا آخر طوله مائتي متر، وهكذا كتبتُ سبعة أسطر تحت بعضها، كل سطر ٢٠٠ متر. عندما أنتهي، أبدأ النقش على الحائط المقابل في النفق، فإذا كتبت مائتي متر، أواصل الكتابة على الحائط الأول حيث توقفت، فأنقش مائتي متر، وهكذا دواليك؛ على كلِّ حائط كتابات في سبعة أسطر، طول السطر ٢٠٠ متر. في أثناء ذلك يتحوَّل المرء إلى كاتبٍ ذي أسلوب.
[مقطع طويل لا يُقرأ، وذلك لأنَّ الكاتب لم يرَ، أو لم يُرِد أنْ يرى أنَّ كتابته منقوشةٌ على موضع في الحائط تمَّت الكتابة عليه من قبل، وهكذا أضحتْ كلتا الكتابتَين لا تُقرأ. بعد عدَّةِ أمتارٍ من الحائط خاليةٍ من النَّقش؛ تتواصَلُ الكتابة على النحو التالي:]
لم أعُدْ أعرف الطريق إلى المغارة الرئيسية. لا أعرف في أيِّ نفقٍ دخلتُ، وعلى أيِّ حائط نقشتُ كتاباتي. المواد الغذائية التي عثرتُ عليها بالمصادفة في الظُّلمة — معلَّبات تحتوي على شرابٍ مقوٍّ رخيص — هي من مخزن المغارة الأصغر كثيرًا من مغارة القائد. وجدت مصعدًا، هو أيضًا لم يعُدْ يعمل، الجدران خالية، لا أثر للوحةِ بوشيه. الصندوق الذي يحوي المعلَّبات ثبتُّه — بعد عملٍ استغرق أيامًا — بيدي الاصطناعية اليمنى على كرسيِّي المتحرِّك — من العسير البحث بالأطراف الاصطناعية عن شيءٍ في الظَّلام — أمَّا ذراعي اليسرى المنتهية بالرشَّاش فقَدْ أمستْ عديمة الجدوى. حاولتُ المرةَ تلوَ الأخرى أن أخلعها، ولكنَّ محاولاتي ذهبتْ حتى الآن أدراج الرياح. جررتُ صندوق الحساء خلفي، لا أعلم إلى أيِّ اتجاه. كنت أتوقَّف أحيانًا؛ حتى أنقش سطورًا على الحائط، ملاحظات لم أكُنْ أستطيع قراءتها، ولكن كان من الضروري نقشُها؛ لستُ عالِمًا فلكيًّا ولا فيزيائيًّا، معلوماتي عن النجم معلوماتٌ تقريبية فحسب. قبل الحرب العالمية الثالثة قرأتُ عددًا من الكتب عن ذلك، وهي كتبٌ تقادمتْ معلوماتها الآن بالتأكيد. حاولتُ أن أتذكَّرها وأن أستحضر صورةَ تطوُّر النجوم. ولهذا نقشتُ ملاحظاتي بثلاثِ صيغ مختلفة. [لم يتمَّ العثور حتى الآن إلا على صيغةٍ واحدة، هي تجميع للنقوش الموجودة في عدَّة أنفاق؛ ولكن ربما تكون أيضًا تجميعًا للصيغ الثلاث]. لا بد أنَّ عقلي تشوَّش نهائيًّا خلال كتابة الصيغة الأخيرة. لم أستطع العودة إلى المغارة الثانية أيضًا. لا بد أنَّ هناك مغاراتٍ أخرى. وهكذا رحتُ أتدحرج على كرسيِّي في هذا الاتجاه أو ذاك. أعتقد أنني ما زلتُ في أحد الأنفاق المحفورة في جبلِ كومو لونجما. الصخور هنا ملساء، أُواصل العمل بأقصى إتقانٍ ممكن. ليست فكرةُ الثقب الأسود وحدها هي التي تُدخل السرور إلى نَفْسي؛ كومو لونجما كان يُسمَّى في الماضي جاوريسنكار، وهكذا فإنني تحت جبلِ جاوريسنكار أتأمَّل في قانون تشاندريسكار. ربما تحتَّم عليَّ من أجل هذا السبب أن أشارك في الحرب الشَّتوية؛ لقد أغواني اسمه، ونحن إذا تمعَّنا في الأقدار لاحقًا وجدناها منطقيةً؛ فالحديد الذي صُنعتْ منه أطرافي الاصطناعية وجبل جاوريسنكار العملاق نشأتْ كلُّها من تلك الشمس التي لم تأبَه للحدِّ التشاندريسكاري وتحوَّلتْ إلى ذلك النجم المستعِر الأعظم الذي لطخ الشمس البروتونية قبل ستة ملياراتٍ من السنين، ثم جعَلَها قادرةً على أن تلِدَ كوكبنا الأرضي؛ معظم ما فيَّ أقدَمُ من الأرض. بشعورٍ غالب من المهابة نقشتُ اسم «تشاندريسكار» في الصخر. بعض الملاحظات تشير إلى حدوث تغييراتٍ في جوف الشمس ستجعل الأرض في غضون العشرة ملايين سنة القادمة غيرَ صالحةٍ للحياة البشرية، ولكنَّ هناك احتمالًا أن تظلَّ جبال الهمالايا راسخةً في هذا الجزء من الأرض الشبيهة بالقمر، كما ظلَّت الجبال راسخةً على سطح القمر. وهناك احتمالٌ — وإن كان ضئيلًا للغاية — أنَّ روَّاد فضاءٍ من عالَمٍ مستقبليٍّ سيطئُون الأرض خلال ملياراتِ السنين التي ستدور فيها الأرض المحترِقة حول القزم الأبيض الذي نُطلق عليه الآن شمسنا، وخلال مليارات السنين التي لا تُحصى، حيث ستدور الأرضُ حول الشمس المتحوِّلة إلى قزمٍ أسود. وهناك احتمالٌ آخرُ ضئيلٌ إلى أبعد حدٍّ، احتمالٌ هو في الحقيقة مستبعَد، أن تكتشف هذه الكائنات الغريبة شبكةَ المغارات والكهوف في الهمالايا، وتقوم بفحصها. عندئذٍ لن يعرفوا شيئًا عن البشرية سوى كتاباتي. استعدادًا لهذه الحالة غير المحتمَلة قمتُ بالكتابة. ليس هناك، في وضعي، مهمَّةٌ أخرى. كان عليَّ أن أعثر على نقشٍ يمكن أن يُستشفَّ منه مصيرُ البشرية؛ ليس لهذا النقش أن يكون شيئًا خاصًّا، شيئًا لا يهمُّ أحدًا سواي، حتى وإن كنتُ واحدًا من البشر. نعم، ليس لهذا النقش أن يكون له أيُّ علاقةٍ بالبشرية. الكائنات الغريبة التي ستقرأ النقش يومًا بعد ملياراتٍ لا تُعدُّ من السنين؛ لن يفهموا شيئًا، فالأكيد — إذا حدثتْ هذه الاحتمالية وقرأ أحدٌ النقش — أنَّ القارئ لن يكون من البَشَر. إنَّ الطبيعة، مَهمَا كان عِنادها، لن تكرِّر حماقةَ خلْقِ الأولويات إلا فيما ندر؛ إنَّ الصدفة — وهي، في نهاية الأمر، المسئولة عن خلْقِ جنسنا — لن تَحدُث مرةً ثانية إلا فيما ندر. لا يمكن أن نتحدَّث مع تلك المخلوقات عن شئوننا، لا يمكننا سوى التحدُّث عن شيءٍ يُثير اهتمامنا معًا: عن النجوم. لن يعرفوا من نقوشي شيئًا عن الأديان أو الأيديولوجيات أو الثقافات والفنون والعواطف وما يُشبه ذلك، هذا صحيح، كما لن يعرفوا شيئًا عن أمور تغذيتنا وتكاثرنا، ولكنَّهم سيستنبطون من كتاباتي طريقةَ تفكيرنا، حتى إذا كانت النقوش فجَّة وغيرَ متقَنة. سيحدسون عبْرَها المستوى الذي وصلنا إليه في العِلم، كما سيعرفون أننا كنَّا نمتلك قنابلَ ذرِّية وهيدروجينية، وأنَّ نُشوب الحرب العالمية الثالثة كان أمرًا لا مفرَّ منه. سيفكُّون شفرةَ كتاباتي؛ لأن الإنسانَ لا يصِفُ — أيًّا كان ما يصِفُه — إلا ذاته. ستستنتج الكائنات الغريبة من نقوشي أنَّ على الكوكب الحجري العاري واللافح الذي وَطِئتْه أقدامُهم كانت تعيش كائناتٌ تتميَّز بالذكاء والفطنة، تجاوزت — في مجموعها — حدَّ تشاندريسكار. هل الشمس تجمُّعٌ للهيدروجين؟ هل الدولة تجمُّعٌ للبَشَر؟ كلاهما يخضع للقانون نَفْسه. كلاهما يكون مستقِرًّا عندما ينشأ توازُن في الضغط والطاقة والسطح. كلاهما خاضعٌ للجاذبية التي تبدأ في تكوين نواةٍ وحولها منطقة حَمْل حراري. في البداية، على نحوٍ غير ملحوظٍ، النواةُ ومنطقة الحَمْل الحراري للشمس البروتونية لم تكَدْ تتشكَّل بعدُ. إنَّ الشروط مهيَّأة لذلك فحسب. فإذا طبَّقنا ذلك على الدولة، فإنَّ منطقة الحَمْل الحراري هي الدوائر الحكومية، والنواة هي الشعب. ذات مرةٍ استقلَّ أحد القياصرة مع مستشاره عرَبَة تجرُّها الثيران، وتنقَّلوا من ديرٍ إلى دير، ومن مدينةٍ إلى أخرى حتى يتسوَّلوا الطعام. كان القيصر ومستشاره هما الدائرة الحكومية آنذاك. أمَّا الأمة الألمانية في الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة فيُمكن تشبيهُهَا بالشمس البروتونية. ولم تكَدْ تمضي خمسمائة عامٍ حتى غدتْ هذه الشمس البروتونية شمسًا قلِقةً غيرَ مستقرَّة: الرايخ الثالث. ولكننا لا نحتاج إلى إعطاء أمثلةٍ أخرى تاريخية، أي مُبهَمة ومُلتبِسة. كانت وظيفةُ الدولة في الأساس توفير الحماية في الخارج والداخل، وحماية المواطنين من الذين يقومون بالحماية، أولئك الذين من أجلهم تخلَّى الفرد عن سُلطته ومنْحِها للدولة. فإذا شبَّهنا هذه الوظيفة بالتوازُن بين الضغط والطاقة والسطح، الناشئ عن شمسٍ مستقرَّة؛ فإننا نستطيع أن نتخيَّل العلاقة بين الدولة وكلِّ فرد، وبين الأفراد فيما بينهم. ينشأ التوازن في الضغط داخل الدولة المستقرَّة من قُدرة الفرد على التحرك بأقصى قَدْر من الحرية، أيْ بقَدْر من الحرية لا يتعارض مع الأفراد الآخرين؛ وكلَّما زاد عددُ الجماهير، تقلَّصتْ حرية الفرد. يرتفع الضغط على الفرد، وترتفع درجة الحرارة بين الجماهير التي تبدأ في الشعور بوجود الدولة، وهو ما يُطلق المشاعر تجاه الدولة، إلخ. أمَّا التوازُن في الطاقة داخل الشمس فيتمثَّل في ألَّا يزيد ما تحوِّله من مادة إلى طاقة عمَّا تستطيع إشعاعه، ويعني ذلك لدى الدول ألَّا تُنتج أكثر ممَّا تُنفق. وينهار التوازُن في الطاقة عندما يضعُف الضغط أو عندما يزداد. وفي حالة العملاق الأزرق، مثل س-دورادوس الذي يشعُّ ثمانين ضِعفَ إشعاع الشمس، فإنَّ منطقة الحَمْل الحراري تتَّسم بالضَّعف البالغ؛ وبالتالي فإنَّ الضغط في الداخل لا يكون كافيًا، ولذلك يقوم النجم دون عائقٍ بتحويل مادة نواته إلى طاقة، وبذلك يستنفد نَفْسه بالإشعاع. مثل هذه الدول كانت موجودةً أيضًا. وقد انتصرتْ لدى الأغلبية بالطبع — قبل الحرب العالمية الثالثة — منطقةُ الحَمْل الحراري: الدوائر الحكومية. ثم تنامتْ سُلطة الدولة. وبدأت الدول، خصوصًا ذات الثقل البالغ، في بثِّ إشعاعٍ أقلَّ ممَّا تحوله. لقد أصبحتْ أسيرةَ دوائرها الحكومية. يحدُث التوازن في الطاقة عندما يكون العَرض متماشيًا مع الطلب. لدى العملاق الأزرق، أي الشمس ذات منطقة الحَمْل الحراري الضعيف — مع أن هذه المنطقة، قياسًا بمنطقة الحَمْل الحراري لشمسنا، أقوى بكثير — فإنَّ العَرض يفوق الطَّلب؛ في باطن مثلِ هذا النجم يحدُث صراعٌ تنافسيٌّ لا مثيل له. مثل هذه العملية أمكَنَ ملاحظتُها لفترةٍ في الدول الصناعية قبل الحرب العالمية الثالثة. أمَّا في الشمس الفائقة الثقل؛ فإنَّ الطلب يزيد على العرض. صحيحٌ أنَّها تحوِّل المادة إلى طاقة، إلا أنَّها تُمتَصُّ في منطقة الحَمْل الحراري. الدوائر الحكومية تستغلُّ مثلَ هذه الدولة. تلك الدوائر تحتاج إلى أسلحةٍ كي تؤمِّن نَفْسها ضدَّ الداخل والخارج. وهي لا تحتاج إلى أسلحةٍ فحسب، إنها تحتاج إلى أيديولوجية أيضًا، إنها تكوِّن في الوقت نَفْسه حقلًا فكريًّا هائلًا. فمنطقة الحَمْل الحراري لا تتحمَّل أيديولوجيات أخرى سوى أيديولوجيتها، مَن يخالف الفكرَ السائد يوصمْ بالانعزالية أو الجنون، بل قد يُعامل على أنَّه خائنٌ للوطن. بذلك تزيد دولةٌ مثلُ هذه من كثافتها، أيْ من ضغطها نحو الداخل. وهكذا فإن العملية الجوهرية، التي تحدُث لدى الجزء الأعظم من الشعب، لا تصبُّ إلا في مصلحة الدولة، أو بكلماتٍ أدقَّ: في مصلحة الدوائر الحكومية التي تتزايد إمكاناتُ سُلطتها على نحوٍ مطَّرِد، ليس لأنها شريرةٌ وخبيثة، بل لأنها عاجزة. إنَّ الدول البالغة الثقل دولٌ يحكمها التخطيط الشامل. ولهذا فإنَّ التوازن في الطاقة — في حدِّ ذاته — مستحيل؛ فالضغط في تلك الدول لا يمكن أن ينقُص، إنَّه يزداد على الدوام إلى أن ينهار نظام الجاذبية. هكذا كانت الظروف السياسية قبل الحرب العالمية الثالثة. النجوم الفائقة الثقل لم تكُن تنوي غزوَ العالَم، لكنَّها ابتزَّتْه بفضل ثقلها. وفي الوقت نَفْسه امتصَّتْ جاذبيتُها المادة المشِعَّة المنبعثة من العملاق الأزرق. وبهذا انكمشتْ وتزايد ضغطها؛ ولأنها أُخرجت عن توازُنها الاقتصادي؛ فإنها «تتأقلم اجتماعيًّا»، وتصبح هي أيضًا شموسًا فائقةَ الثقل — بغضِّ النظر عن تركيبتها الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية — فحتى الدول «الحرَّة» بدأتْ في ممارسة الضغوط الداخلية عبْرَ إصدار القوانين ضدَّ الذين يفكِّرون تفكيرًا مغايرًا للسائد. وتمضي العملية في مصيرها المحتوم، ويبدأ سِباق التسلُّح. كلُّ دولة تُنتج الآن أكثرَ ممَّا تشعُّه من طاقة. يرتفع الضغط الداخلي في كلِّ دولةٍ إلى درجة لا تُحتمَل. يغيِّر الضغط الهائل معالمَ كلِّ مجتمعٍ في جوف الشمس؛ العائلات الكبيرة تنكمش إلى عائلاتٍ صغيرة، وحتى هذه تغلبها الاضطرابات، وتنحدر إلى بلديات وتجمُّعاتٍ سَكَنية، تتفتتُ هي الأخرى، ويسود قلقٌ عظيم، جنونٌ هائل، صراعٌ لا يَرحم من أجل البقاء على قيد الحياة، مقترِنًا بنَهَمٍ لا يُشبع إلى الحياة. يزداد انقسام المجتمع إلى طبقتَين: الأولى مستقرة في منطقة الحَمْل الحراري وقد أمَّنتْ نَفْسها، والثانية لا حولَ لها ولا قوة أمام الضغط الهائل والحرارة الهائلة المتولِّدَين من باطن الشمس، واللَّتَين نشأتا من هذا القلَقِ، ثم امتصَّتْهما منطقةُ الحَمْل الحراري، أي الدوائر الحكومية، التي تحتاج إلى ضرائبَ تزداد ارتفاعًا يومًا بعد يوم حتى تستطيع مسايرة جوف الشمس. ولهذا فإنَّ السياسة لم تعُدْ تقوم بدورها إلا على سطح الشمس، دون تأثيرٍ على العمليات النووية في جوف الشمس، لقد أصبحت محضَ مرحلة، وهكذا تخرج التفاعلاتُ في جوف الشمس عن السيطرة، يتعاظم الضغط وتُثقب مناطق الحَمْل الحراري من الداخل على نحوٍ متزايد، تصعد إمبراطوريات اقتصاديةٌ كبيرةُ النفوذ، ثم تسقط ثانيةً، الأزمات تعيث فسادًا في الأرض، حالات تضخُّم، تدافُعٌ ودهسٌ واكتساحٌ لا يُصدَّق، أعمالٌ إرهابيةٌ جنونية، الجريمة والكوارث الطبيعية تتزايد على نحوٍ انفجاري؛ يسود الاضطراب في الدول. ولأنَّ السياسة تشعُر بالعجز أمام هذا الشُّواظِ الشمسيِّ الرهيب؛ فإنَّها تسقط في التهكُّم والاستهزاء، وتُمسي مثلَ الكنيسة الميتة غيبيةً ومتمسِّكةً بالطقوس ومؤمنةً بامتلاك الحقيقة النهائية. القسُسُ يعِظون الناس عن صراعِ الطبقات أو الليبرالية، غيرَ عالِمين أنَّ كلَّ شيءٍ يتوقَّف على تحوُّل الكتلة إلى طاقة؛ دون التفكير في سلوك الشعب إذا تحوَّل إلى كتلةٍ من الجماهير، سلوك خارج عن السيطرة. يدعون إلى الدولة التي تقدِّم ضماناتٍ اجتماعية، إلى الدولة الليبرالية، دولة الرفاهية، الدولة المسيحية أو اليهودية أو الإسلامية أو البوذية أو الشيوعية أو الماوية … إلخ، بدون أن يَنتَابهم أدنى ارتيابٍ في أنَّ الدولة المثقَلة بالمهامِّ والواجبات قد تُمسي كِيانًا خطيرًا مثلَ النجم البالغ الثقل. وهو ما حدَثَ بالفعل عندما اندلعت الحرب العالمية الثالثة. التأثير الذي لم يتوقَّعْه أحدٌ للقنابل الهيدروجينية على حقول البترول لم يكُنْ سوى إشارةٍ رمزية إلى تولُّدِ نجمٍ مستعِرٍ أعظم، ناهيك عن تأثير القنابل الأخرى. الضغطُ الداخلي، وبالتالي الحرارةُ الداخلية؛ بلَغَا حدًّا هائلًا لم يتحمَّله التوازن السطحي؛ فاختلَّ. مناطقُ الحَمْل الحراري العملاقة — أي الجيوش التي سلَّحتْها الدوائر الحكومية تسليحًا يفوق الاحتياج، ورغم أنها جزءٌ من الدوائر الحكومية، فإنَّها هي التي تتحكَّم في الحكومة الآن — كسَحَت المكان، وهو ما يزيد من الكارثة؛ لأنَّ الشموس هنا تتلاصق، بينما يبتعد كلُّ نجمٍ في الفضاء عن الآخر بمسافةٍ طولها في المتوسط ثلاث سنواتٍ ونصف السنة الضوئية. وبعد النجم المتوهِّج الأعظم ندخل في المرحلة النهائية: البشرية كنجمٍ نيوتروني. بقيَّة البشرية المحشورة في الأجزاء القليلة القابلة للحياة أو المهيَّأة للحياة — تُرى كمْ يبلغ عدد الذين قضَوا في مشروعِ الصحراء وحده! — هذه البقيَّة أصبحتْ كتلةً واحدة من مناطق الحَمْل الحراري، يمكن تشبيهها فلكيًّا بالغاز النيوتروني الذي فقَدَ خواصَّه، كتلة تتحكَّم فيها الإدارة بشكلٍ تام، بل إلى «إدارة»، ولكن لا يمكن التفرقة هنا بين المدير والمُدَار. وكما حدَثَ للنجم النيوتروني، هكذا احتفظت البشرية بعزمِ دورانها السابق، أيْ بعدوانيتها. الزمنُ كفيلٌ بالتغلُّب على هذا العزم لدى النجوم، أمَّا عند البَشَر فإنَّ الحرب الشَّتوية في جاوريسنكار تقوم بذلك؛ خلال الحرب تندلع مذابحُ بين أولئك الذين تحتاج عدوانيتهم إلى عدوٍّ ملموس، أمَّا الذريعة فليست مهمَّة. (قبل الحرب العالمية الثالثة كانت ذرائع الإرهابيين أغربَ ما تكون، نوعًا من التنويم المغناطيسي للذات. كانوا يتوهَّمون حقًّا أنهم يكافحون لتأسيس نظامٍ عالميٍّ قائمٍ على الإخاء، لكنهم لو كانوا عاشوا في ذلك النظام، لماتوا ضجرًا). لقد أثبتتْ معادلةُ تشاندريسكار صحتها.
ولكن، قبل أن أُواصل، لا بد أنْ أردَّ هنا على اعتراضٍ قد تتفوَّه به القوى الغريبة عندما تقرأ يومًا نُقوشي: إنَّ المادة خاضعةٌ للقصور الحراري، وهي تطمح للوصول إلى أقصى حالته المتاحة. لقد بدأ هذا القُصور إثرَ اصطدامِ كلِّ المواد في مكانٍ يبلغ حجمه مسارَ نبتون، هذا المكان الضخم كانت تحتلُّه جزيئاتُ عناصر الكون، وذلك عندما تكون متلاصِقةً بعضها ببعض. كانت هذه الحالة هي أكثر الحالات بُعدًا عن الاحتمال بالنسبة للمادة. أمَّا أكثر الحالات احتمالًا، فهي نهايتها: بالإشعاع تستنفد المادة نَفْسها بنسبة ٩٥٪، حُطامُ النجوم يظهَرُ كأقزامٍ حمراءَ مسودَّة، أو أقزامٍ بيضاءَ وسوداء، أو ثقوبٍ سوداء، أكوامٌ من الكواكب الميتة والكُويكبات السيَّارة والنيازك، إلخ. وفي المقابل الحياة، إنَّ الظروف التي نشأتْ فيها كانت أيضًا بعيدةً عن الاحتمال، غيرَ أنَّ استبعاد الاحتمالات أنتَجَ أكثرَ الأشياء احتمالًا؛ الفيروس، ثم الخلية الأحادية. وإذا انطلقنا منها، فإنَّ الحياة تبعُد شيئًا فشيئًا عن الاحتمالية، الكائن المفكِّر هو أكثر الأشياء بُعدًا عن الاحتمال؛ لأنَّه أكثرَ كائنات الكون تعقيدًا. يعارض هذا الكائن ظاهريًّا قانونَ العالم، قانونَ القصور الحراري؛ ولا سيما لأنَّه عبْرَ ثلاثة ملايين من السنين قد تطوَّر من نوعٍ نادر إلى كُتلةٍ من الجماهير تبلغ ستةَ مليارات نَسَمة. لكنَّ المظاهر خدَّاعة؛ كلَّما أصبحت الحياةُ بعيدةً عن الاحتمال، زاد احتمال الوصول إلى حالتها النهائية: الموت. قد يعيش فيروس، أو خليةٌ أحادية، إلى «الأبد»، صحيحٌ أنَّ الحيوانات تَنفُق، ولكنَّها لا تعلم ذلك. ولكنْ، لأنَّ الإنسان يعلم أنَّ الموت قادمٌ لا محالة، فإنَّ موته يصبح أكثر من مجرد حالةٍ نهائية هي الأكثر احتمالًا، ويُمسي الموت هو حالته النهائية الأكيدة. إنَّ الموت والقصور الحراري وجهان للقانون العالمي الواحد، إنهما مشتركان في هويةٍ واحدة؛ ولذلك فإنَّنا — نحن «البَشَر» — (هذه الكلمة لن تعني لكم أيَّ شيء)، وأنتم، يا مَن تقرءُون نُقوشي، مشترِكون في هُويةٍ واحدة؛ فالموت هو مصيركم أنتم أيضًا.
فقدتْ عقلها مثل كثيرين. خرجتُ من المرسم. درَّاجتي سُرقتْ، القرية هُجرتْ، والحدود بدون حراسة. كان الضباط الأتراك قد نَهَبوا مدينةَ كيافنا الصغيرة في محاولةٍ منهم لإنقاذ أنفسهم من جنودهم. أخذتُ درَّاجةً نارية من أحد الجراجات، نظَرَ إليَّ صاحبُها غيرَ عابئ، كانوا قد اغتصبوا زوجته وابنتَيه ثم ضربوهنَّ حتى الموت. في الشبلوجن رميتُ بضابطٍ روسيٍّ في بحيرةِ السدِّ، الدرَّاجة النارية غرقتْ أيضًا. كان قد هجَمَ عليَّ عندما توقَّفتُ مُعجَبًا بشكلِ السحابة النووية التي تُشبه عيشَ الغراب في السماء الغربية. كنتُ أرى هذه السحابة للمرة الأولى. بعد ذلك بقليلٍ عثرتُ على هليكوبتر محطَّمة. فتَّشتُها؛ فوجدتُ أوراقًا للضابط. نسيتُ اسمه، أتذكَّر فقط أنه يتحدَّر من الإيركوتسك. الخراب والدمار يعمَّان مدينةَ توسيس. بدأتُ أدرك ما يحدُث في بلادنا. ستفهمون كلَّ شيء عندما أقول إنني احتجتُ عامَين حتى أَصِل إلى هدفي. ولهذا لستُ بحاجةٍ سوى إلى أن أُشير، مجرَّد إشارة، إلى جحيمِ تلك الفترة. الناس الذين ظلُّوا على قيد الحياة بعد القنبلة — إذا كانت هذه تُسمَّى حياةً أساسًا — وجَّهوا أصابع الاتهام إلى التقنية والتعليم، باعتبارهما سببَ الحرب العالمية الثالثة. لم يدمِّروا المفاعلات النووية فحسب، بل أيضًا السدود ومحطات الكهرباء، ٨٠٠٠٠٠ إنسان لقُوا مصرَعَهم في الفيضان وفي السحابة السامَّة التي انتشرتْ بعد احتراقِ المصانع الكيميائية التي طالها أيضًا غضَبُ العامة. في كلِّ مكانٍ كانت محطات الوقود تنفجر والسيارات تحترق، كما حُطِّمت أجهزة الراديو والتلفزيون والأسطوانات والغسَّالات الكهربائية والآلات الكاتبة وأجهزة الكمبيوتر التي أضحتْ عديمةَ الجدوى، ودُمِّرت المتاحف والمكتبات العامة والمستشفيات. كان الأمر شبيهًا بانتحارِ بلدٍ بكامله. مدينة كور، مثلًا، أضحتْ مستشفى مجانين. في جلاروس حرقوا «الساحرات»، أيْ عاملات الاختزال والعاملات في المختبرات. نهَبَ سكَّان منطقة أبنتسلر ديرَ سانت جالن ودمَّروه بحجَّة أنَّ المسيحية هي التي ابتدعت العلم. احترقت المكتبة الثمينة التي تضمُّ على رفوفها نشيد النيبلوجن التاريخي. في كومة الأنقاض الهائلة — التي كانت يومًا مدينةَ زيورخ — كانت اليد الطُّولى لعصابات الشَّبيبة. في نهر الليمات أغرقوا التقدُّميين والاشتراكيين، وأساتذة الجامعتَين ومساعديهم. بين أنقاض المسرح تجمَّعتْ إحدى الطوائف الدينية التي تؤمن بنظرية العالَم الأجوف. كانت كاهناتُ الطائفة حواملَ. وعلى خشبة المسرح ولَدنَ ولاداتٍ شائهةً وبشِعَة، وعلى الخشبة ذُبح الأطفال. القُدَّاس الإلهي حفلٌ ماجن. انقضَّ المؤمنون بعضهم على بعض على أملِ أن يُنجِبوا ولاداتٍ أكثرَ تشوُّهًا وبشاعة. في مدينة أولتن شَنَقوا على سقالاتٍ كبيرة آلافًا من معلمي المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية. ساقوهم من جميع ربوع البلاد. أمَّا «الموت الكبير» فقد بدأ في إقليم جراوبوندن. إذا كان الناس قد انغمسوا في البداية بلا رادع في الشهوات التي لا توصف، ونهبوا وسلبوا وحطَّموا ودمَّروا كلَّ ما تقع عليه أياديهم، مشعِلين الحرائق الهائلة التي شلَّتْ حركة المواصلات تمامًا؛ فإنهم سرعان ما أمسَوا متبلِّدي الشعور. أصابهم إجهادٌ ثقيل، فجلسوا أمام أطلالِ منازلهم التي دمَّروها بأنفسهم، محملِقين أمامهم، ثم ظلُّوا راقدين في أماكنهم لافظين أنفاسهم الأخيرة. شيئًا فشيئًا قلَّت أعمال التدمير. لم تعُدْ هناك سيارات، ولا سكك حديدية، ليس إلا الأنقاض في كلِّ مكان، أكوامٌ عملاقة من موادِّ التغذية التي جمعوها، تمَّ تخزينها لشعبٍ يبلغ تعداده ثمانية ملايين، لم يعُدْ يضمُّ الآن أكثر من مائة ألف. مع البَشَر نفَقَت الحيوانات أيضًا. في الحقول تكدَّست الجيف. الطيور وحدها تكاثرتْ تكاثُرًا مُفرِطًا. دفَنَ الناس موتاهم بمهابة. صنعوا التوابيت، ولكنَّهم لم يستطيعوا صُنع عددٍ كافٍ، فنهبوا المدافن القديمة، وأفرغوا التوابيت ممَّا كانت تحتويه، أو دفنوا الجثث في الخزائن. جنازاتٌ مَهيبة لا تُحصى؛ في الحرارة الفظيعة التي لم تنخفض حتى في الخريف، كان لابِسُو السَّواد يخطُون وراء التابوت، أو يجرُّون بحبالٍ طويلةٍ عرَبةً تكومتْ فوقها التوابيت. ولائمُ عظيمةٌ بعد الجنازات، كانت بالنسبة للأغلبية وجبتَهُم الأخيرة، وبعدها يُدفنون هم أيضًا، وتتقدَّم الجنازات — مع تناقص عدد المشيِّعين — ناحيةَ حقول الموتى مرةً أخرى. وكأنَّ الشعب يدفن نَفْسه بنَفْسه. بعد ذلك، لا بد أنَّ مخزن القنابل النيوترونية في شراتن روه، قد انفجَرَ من تِلقاء نَفْسه. في منطقة الإيمنتال تمشَّيتُ في دروبِ قريةٍ بها مصنعٌ كبيرٌ لمنتجات الألبان. كانت القرية نظيفةً، مُعتنًى بها، زهور الجيرانيوم أمام النوافذ ناريَّةُ الحمرة، ولكنَّ الشوارع تخلو من البَشَر. دخلتُ مطعم «إلى الصليب». غرفة الاستقبال خالية. في المطبخ تمدَّد صاحب المطعم الميت، جثَّةٌ ضخمةٌ مسالِمة، ووجهه في صحنٍ به آيس كريم. دخلتُ قاعة الطعام. حوالي مائة شخصٍ كانوا يجلسون حول وليمة، رجال ونساء من كلِّ الأعمار، وأيضًا بناتٌ وصبيان. على مائدةٍ طويلة في المنتصف جلَسَ عروسٌ وعريس. العروس في فستانِ زفافٍ أبيض، وبجانب العريس امرأةٌ ضخمةٌ ترتدي زيَّ مدينة برن التقليدي. كلُّهم موتى، وفي سلامٍ تامٍّ بملابسهم التي لا يرتدونها إلا أيام الآحاد. الصحون نصف ممتلِئة، لا بد أنهم أخذوا لتوِّهم المزيد من الطعام. بين الموائد تمدَّدتْ جثثُ خادمات المطعم. على الموائد صينيةٌ ضخمةٌ تحتوي على أطعمة برن التقليدية: جامبون على الطريقة الفلَّاحية، وضلوع خنازير، ولحم مطهوٌّ، وشحم الخنزير، ونقانق من اللسان، وفاصوليا، وكرنب مخلل، وبطاطس مسلوقة. بجوار العروس كان هناك مقعدٌ مزحزح إلى الجانب، على الأرض تمدَّد رَجلٌ طاعنٌ في السنِّ، لحيته العظيمة غطَّتْ صدره كأنَّها حجاب. في يده اليمنى يُمسك بورقة، تطلَّعتُ إليها، قصيدة. أمسكتُ بمقعده، وجلستُ بجانب العروس، وأخذتُ من الصينية بعضَ الأصناف ووضعتُها على صحني. كان الطعام لا يزال ساخنًا.
لم أنقش هذه الذكريات على جدرانِ الأنفاق إلا بتردُّد؛ إنها تَظهَر لي في عديدٍ من النقاط غيرَ جديرةٍ بالتصديق، خصوصًا النقطة التالية: ألَمْ تنخفض الحرارة عبْرَ الشتاء كله؟ عندما أفكِّر فيما حدَثَ، أرى أمامي دومًا فيضاناتٍ هائلة. عبْرَ الطريق الخالي وصلتُ إلى مدينتي بعد تَجوالٍ طويل. كلما اقتربتُ منها، كانت المدن تُقفِر وتخلو من البَشَر. طوالَ كيلومتراتٍ كان الطريق السريع مغطَّى بالعُشب الكثيف الذي شقَّ طريقه في الطبقة الخرسانية، مررتُ أيضًا بطوابيرَ من السيارات التي الْتفَّتْ عليها بكثافة نباتات اللَّبْلاب. ذاتَ مرة اعتقدتُ أنني لمحتُ طائرةً في السماء، كانت تطير عاليًا جدًّا بحيث أنني لم أسمعها. عندما وصلتُ إلى المدينة كانت الضواحي أطلالًا، مراكزُ تسوُّق فقدتْ معناها. أبراجٌ سكنيةٌ متفحِّمة. تركتُ الطريق السريع. في شمس المغيب، رأيتُ المدينة القديمة أمامي. وكأنَّها لم تُمسِ في موقعها على ظَهْر الصخرة فوق النهر. تخلَّل الضوءُ الأسوارَ مثلَ ذهَبٍ دافئ. بَدَت المدينةُ رائعةَ الجمال، أمام ذِكراها تبهتُ ذكرى الماكالو والكومو لونجما. ولكنَّ الجسورَ التي تصِلُ إلى المدينة كانت محطَّمة. رجعتُ إلى الطريق السريع، فوق أنقاضه كان يمكن عبور النهر. السحابة الذرِّية الشبيهة بالفِطر في الناحية الجنوبية الآن. أمستْ ناقوسًا مشِعًا يجثِم على جبال الألب، مُضيئًا السماءَ الليلية في أثناء توغُّلي في الغابة. بقيت المخابئُ سليمةً دون ضرر، الأَسِرَّةُ مفروشة بمُلاءاتٍ نظيفة. انتظرتُ. لم يأتِ بوركي. غفوتُ. وفي الصباح تحرَّكتُ في اتجاه وسط المدينة. الجامعة تحوَّلتْ إلى أنقاض، مبنَى قِسم الفلسفة متفحِّم، الجدار الأمامي منهار، كُتبُ المكتبة كتلةٌ واحدة من الورق الأسود. الطاولة التي كنا نجلس خلفها انكسرتْ. السبورة وحدها ظلَّت سليمة. أمامها وقَفَ رجُلٌ أعطاني ظهْرَه دافنًا يده في مِعطفٍ عسكريٍّ مهترئ. ألقيتُ عليه التحية، فلَمْ يردَّ. «أنت!» صِحتُ. يبدو أنَّ الرجلَ لم يسمعْني. فذهبتُ إليه ولمستُ كتفَه. أدار وجهه ناحيتي. كان محترِقًا من الأشعة وجامدًا بلا تعابير. تناوَلَ قطعةَ طباشيرَ كانت ساقطةً أسفل السبورة، وكتَبَ: «إصابةٌ في الرأس. أصمُّ وأبْكَم. أقرأُ الشفاه. تكلَّمْ ببطءٍ». ثم الْتفتَ إليَّ. «مَن أنت؟» سألتُه ببطء. هزَّ كتفَيه. «أين قِسم رعاية الجنود؟» سألتُه. تناوَلَ الطباشير وكتَبَ على السبورة. «تيبت. حرب». نظَرَ إليَّ. «رعاية الجنود»، قلتُ ببطءٍ مؤكِّدًا على كلِّ مَقطَع، «أين؟» كتب ٦٠٢٣١٠٢٣، رقم لا معنى له، احتفظتُ به في ذاكرتي، لا لشيءٍ سوى لأنني كضابطٍ معتادٌ على حفظ الأرقام: ستون، ثلاثة وعشرون، عشرة، ثلاثة وعشرون. تطلَّع إليَّ. تقلَّصَ فمُه المحترِق. لم أستطعْ أن أتبيَّن ما إذا كان يبتسم لي، أم يَشمت بي. نقرتُ على جبهتي. فكتَبَ الأصمُّ الأخرس: «التفكير يكفي»، ونظَرَ إليَّ مرةً أخرى متأمِّلًا. أخذتُ الطباشيرَ من يده، وشطبتُ ما كتبه، وكتبت تحته: «هُراء»، ثم ألقيتُ الطباشير على الأرض، وسحقتُه بقدمي وغادرتُ أطلال الجامعة. أمام مطعم الطلاب المحترِق قابلتُ رجلًا قصيرًا. على خدِّه الأيمن دُمَّل أسودُ كبيرٌ. كان يدفع أمامه عربةَ يدٍ مليئةً بالكتب. إنه يأتي من قِسم اللغة الألمانية، قال لي مُشيرًا باتجاه حقول الأنقاض خلْفَ الجامعة. وجدتُ هذه الكتب هناك. تناولتُ كتابًا من العربة، «إيميليا جالوتي». «أنا أجلِّد الكتب»، قال الرَّجُل مفسِّرًا: «ويعمل معي أيضًا طبَّاعُ كتب. نحن الآن بصدد نشْرِ كتاب، مائة نسخة، تليها مائة نسخة. لقد بدأ الناس يقرءُون من جديد، وسيصبحون مع الأيام قارئين نهِمين. تجارةٌ مربِحة للغاية». أشرَقَ وجهه. «لن أموت. لقد نجوتُ. في خدِّي ورمٌ خبيث». قلتُ له إنني كنتُ أعتقد أن كتابات ليسنج صعبةٌ، فسألني الرَّجُل عمَّن يكون ليسنج. أشرتُ على الكتاب. «هذا؟!» قال متعجِّبًا، «هذا طعامٌ للنيران. إنني أطبع «هايدي». بقلم يوهانا شبيري. خذْ بالك من الاسم: يوهانا شبيري. كتابٌ من الكلاسيكيات». ثم ارتاب في أمري. «هل كنتَ جنديًّا؟» أومأتُ برأسي. «ضابط؟» سألني بنبرةِ تهديد. هززتُ رأسي نافيًا. «وقبل ذلك؟» أجبتُه: «طالب». وألقيتُ نظرةً على العربة التي يدفعها. «هل قرأتَ مثل هذه الكتب؟» سألني متجهِّمًا. «أيضًا»، رددتُ. فزمجَرَ قائلًا: «لقد ارتكبتم أخطاءً فظيعة في أثناء فترة التعليم. أنتم وكتبكم الهباب هذه». سألتُه عن مكتب رعايةِ الجنود. «عند البلدية»، أجابني. «ربما كنتَ ضابطًا أيضًا». وبخطواتٍ ثقيلة دفَعَ عربةَ اليد إلى الأمام.
عدتُ إلى الأطلال مرةً أخرى. كانت قد تزايدتْ وغطَّت الأنحاء. الغابة التي تقع إلى شمال المدينة أصبحتْ أشجارها تنمو وسط الأنقاض. في القِسم المدمَّر وجدتُ أجزاءً من «تاريخ الأدب التراجيدي»، وبضعَ صفحاتٍ من مقدمةٍ تتناول «أساسيات فنِّ الشعر». المحطة أسفل الجامعة ليست سوى كومةٍ من الأنقاض. امتدَّ الخراب والدمار إلى البيوت وشارع المستشفى والسوق. واجهاتُ عَرض المحلات مهشَّمة. الكاتدرائية ما زالتْ قائمةً. سرتُ إلى المدخل الرئيسي، لوحة «يوم الحساب» كانت حُطامًا. عندما سرتُ بحذاء صحن الكنيسة، تساقطتْ من المزاريب قطراتُ المياه على أحجار الشارع. في مدخل «شارع الصليب» استنَدَ رَجلٌ رثُّ الثياب إلى حائطِ منزل. «هل الخطر المهدِّد للحياة يسبب المتعة للإنسان؟» سألني. فاستفسرتُ منه عمَّن حطَّم «يوم الحساب». «أنا»، قال الرَّجُل. «لم نعُدْ بحاجة إلى يوم حساب». مكتب رعاية الجنود لم يكُنْ بعيدًا عن دار البلدية، لا بد أنَّه كان يومًا كنيسةً صغيرة، إذا لم تخُنِّي الذاكرة. على امتداد الأسوار وضِعتْ حشياتٌ وكومةٌ من البطاطين. حول جُرن المعمودية ثلاثة كراسيٍّ، وفوقه طبقٌ عليه قطعةُ تورتة. على الجدران بقايا باهتةٌ من إحدى صور الفريسكو، لم يعُدْ من الممكن تبيُّن ملامحها. كانت الكنيسة خاليةً. دخلتُها وخرجتُ منها مراتٍ عدَّة. لم يأتِ أحدٌ. فتحتُ بابًا بجانب جُرن المعمودية. دخلتُ غرفةَ الكَهَنة. خلْفَ طاولة جلستْ عجوزٌ بدينةٌ بنظَّارة من النيكل وراحتْ تأكل من التورتة. على سؤالي — إذا كان مكتب رعاية الجنود هنا — أجابتْ والطعام يملأ فمَها: «أنا رعايةُ الجنود»، وبعد أن ابتلعت القضمةَ سألتْني: «ومَن أنت؟» ذكرتُ لها اسمي الحركي: «روكارت». استغرقت البدينةُ في التفكير. «والدي كان يمتلك كتابًا لروكارت»، قالت بعد بُرهة، «حكمة إبراهيم». «حكمة البراهما، لفريدريش روكرت»، قلتُ مصحِّحًا. «جائز»، قالت البدينةُ واقتطعتْ لنَفْسها من التورتة. «تورتة روبلي»، قالت شارحة. «أين قائد المدينة؟» سألتُها. استمرتْ في المضغ، ثم قالت: «الجيش استسلم. لم يعُدْ هناك قائدٌ للمدينة. لم يعُدْ إلا الإدارة». كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها عن الإدارة، فسألتُها: «ماذا تعنين بذلك؟»، لحَسَت المرأةُ أصابعها متسائلةً: «بأيِّ شيء؟» «بالإدارة؟» «الإدارة هي الإدارة» أجابتْ عندئذٍ. رحتُ أتفرَّج عليها وهي تلتهم التورتة. سألتُها عن عدد الجنود الذين ترعاهم، فأجابتْ: «جنديًّا أعمى». فسألتُها بحذرٍ: «بوركي؟» استغرقت المرأة في الأكل والبلع، ثم أجابت أخيرًا: «شتاوفر. الأعمى يُدعى شتاوفر. قبل ذلك كنتُ أرعى عددًا من الجنود. لكنهم لقُوا كلُّهم مصرعهم. كلهم كانوا عميانًا. يمكنك أن تسكن هنا، لقد كنتَ جنديًّا، وإلا ما كنتَ ستجيء إلى هنا». «أسكن في مكان آخر». «هذا شأنك» ردَّتْ وهي تحشر آخر قطعة من التورتة في فمها. «نتناول الغداء في تمام الثانية عشرة ظهرًا، وفي تمام الثامنة مساءً تورتة روبلي». انصرفت. في الكنيسة الصغيرة جلَسَ رَجلٌ مسنٌّ عند جُرن المعمودية. جلستُ مقابله، فقال: «أنا أعمى». سألتُه: «كيف أُصبتَ؟» «رأيتُ البرق. الآخرون رأوا البرق أيضًا. كلُّهم ماتوا». ثم دفَعَ الصحن عنه، قائلًا: «أنا لا أحبُّ تورتة روبلي. العواجيز فقط هم الذين يحبُّون هذه التورتة». فسألتُه: «شتاوفر؟» «لا»، أجابني، «هادورن. اسمي هادورن. شتاوفر مات. هل اسمك روجر؟»
– «اسمي روكارت.»
– «خسارة. لو كان اسمك روجر، كنت أعطيتُك شيئًا.»
– «ماذا؟»
– «شيئًا من شتاوفر.»
– «إنَّه ميِّت.»
– «وهو حصَل عليه أيضًا من شخصٍ ميِّت.»
– «من أيِّ ميِّت؟»
– «من فون تساوك.»
– «لا أعرفه.»
– «وهو أيضًا حصَلَ عليه من ميت.»
فكَّرت قليلًا، ثم سألته: «من بوركي؟»
أخذ يفكِّر، ثم قال: «لا، بورجر.»
لم أستسلم، وسألتُه: «ربما بوركي.»
راح يفكِّر من جديد، ثم قال: «ذكراتي لا تحتفظ بالأسماء. لقد قلتَ إنَّك لستَ روجر. ولكن، سيَّان بالنسبة لي مَن تكون». ثم دفَعَ إليَّ بشيء. مفتاح بوركي. سألتُه: «مَن هي الإدارة؟»
فأجاب الأعمى: «إدينجر.»
– «ومَن هو إدينجر؟» سألتُه.
فأجاب الأعمى: «لا أعرف.»
نهضتُ ووضعتُ المفتاح في جيب مِعطفي. قلتُ له: «سأنصرف.»
– «وأنا سأبقى. سأموت وشيكًا على كلِّ حال.»
كان «شارع الجزارين» كومة من الأنقاض، برج «تستجلوجه» حُطام. عندما وصلتُ إلى مقرِّ الحكومة كان الليل قد هبط، ولكن العتمة لم تكُنْ مسيطِرة، وكأنَّ القمر بدر. التمثالان بجانب المدخل الرئيسي كانا من غير رأس. القبَّة مكسورة، الدرَج الكبير لا يمكن استخدامه إلا بمخاطَرة. من المدهِش أن صالة البرلمان الكبيرة لم يُصِبها أيُّ ضرر، حتى الفريسكو الضخم الشنيع لم يمسسه سوء، ولكنَّ صفوف مقاعد النُّواب لم تكُنْ موجودة. بدلًا منها وضعوا في الصالة أرائكَ متهالِكة، وعليها جلستْ نساءٌ يرتدينَ أَرْوابًا صباحيةً مهترِئة أيضًا، بعضهنَّ عاريات الأثداء، ولا ينير وجوههن إلا ضوءٌ شاحب من مصابيح الكيروسين. أماكن الجمهور كانت مغطاةً بالستائر. منصة المتحدثين ما زالتْ قائمة. في مكان رئيس البرلمان جلست امرأةٌ ذات وجهٍ مستدير يشِي بالعزم. كانت ترتدي زِي ضباط جيش الخلاص، وتفوح منها رائحة البصل. بقيتُ واقفًا عند باب الدخول دون أن أحزم أمري.
– «تعالَ هنا»، قالت الضابطة آمرةً، «ابحثْ لك عن واحدة.»
– «ليس معي نقود»، أجبتُها.
حدَّقت المرأة فيَّ: «من أين تأتي يا بُنيَّ؟»
– «من الجبهة.»
اندهشتْ. «لا بد أنك تجوَّلتَ كثيرًا إذن. هل معك ممحاة؟»
– «لماذا؟»
– «لإحدى الفتيات بالطبع»، أجابتْني. «نحن نأخُذ ما نحتاجه. والأفضل لو كان معك مبراة.»
– «ليس معي إلا مسدس.»
فقالت المرأة: «إليَّ به يا بُنيَّ، وإلا تحتَّمَ عليَّ إبلاغ الإدارة.»
فتساءلتُ: «إدينجر؟»
– «ومَن غيره؟» أجابت المرأة.
فسألتها: «وأين الإدارة؟»
– «في ميدان أيجر»، ردَّت المرأة.
– «هذا الماخور …»
فاعترَضَت المرأةُ قائلةً: «هذا البيت … البيت، يا بُنيَّ!»
– «… هذا البيت، هل كان إدينجر هو الذي أمر بتجهيزه؟»
– «بالطبع. نحن مصابون بأشعة القنبلة يا بُنيَّ. سنموت حتمًا. وكل متعةٍ يقدِّمها الإنسان للإنسان هي من أعمال الحبِّ الإلهي. رُتبتي رائد. وأنا فخورةٌ أن لوائي قد فهِمَ ذلك»، وأشارت إلى النسوة على الكنبة المتهالِكة. «منذوراتٌ للموت، مستعدَّاتٌ للحب.»
قلتُ لها: «أنا أبحث عن نورا.»
تناولت الرائدة ناقوسًا وقرَعَتْه، ثم صاحت: «نورا.»
في الطابق العلوي، في أماكن الدبلوماسيين، فُتح ستارٌ. ثم ظهَرَ رأسُ نورا. «ماذا هناك؟» سألتْ نورا.
– «زبون»، قالت الرائدة.
– «ما زلتُ مشغولة»، ثم اختفت.
فقالت الرائدة بنبرةٍ تقريرية: «ما زالت تعمل.»
– «سأنتظر.»
ذكرتْ لي الرائدة السِّعر: «مقابل المسدس». أعطيتُها المسدس. «اجلس يا بُنيَّ، وانتظر». جلستُ بين امرأتَين على إحدى الكنبات المتهالكة. أخذت الرائدة جيتارًا من خَلْف مقعد الرئيس، وضبطتْه، ثم غنَّينَ معًا:
جاءت نورا. في البداية اعتقدتُ أنها تحمل صبيًّا، ولكنه كان رجلًا في الستين من عمره، مقطوع الساقَين وبوجهٍ طفوليٍّ مجعَّد. «وصلنا، أيها النطَّاط»، قالت نورا ووضعتْه على الكنبة. «سوف تتحسَّن الآن حالتك النفسية». «نورا»، نادتْ عليها الرائدة. «زبونك التالي». تطلَّعتْ إليَّ نورا، وتصرفتْ كأنَّها لا تعرفني. لم تكُنْ ترتدي شيئًا تحت الروب. «إذن، فلْنصعد يا عزيزي»، قالت. ومشت عبْرَ الباب المؤدِّي إلى البهو. تبعتُها. شرعت الرائدةُ تعزف على الجيتار من جديد، وغنَّى اللواء:
«هل معك المفتاح؟» سألتْني نورا. أومأتُ، فقالت: «فلْنذهب». سِرنا بحذر عبْرَ القاعة ذات القبَّة المدمَّرة، ثم عبرنا البَهو إلى الجناح الشرقي. توغَّلنا في الممرِّ، ورغمًا عنَّا بقينا واقفين. قلتُ لها: «أنا لا أرى شيئًا». فأجابت: «لا بد أن نتعوَّد على الظُّلمة. وهناك دائمًا ما يُرى». بقينا بلا حَراك. قلتُ لها: «كيف تجرَّأتِ، وفعلتِ ذلك؟!» «ماذا؟» «أنتِ تعرفينَ ما أقصد». لزمت الصَّمت. كانت الظُّلمة أمامنا لا تُقهر. «كان لا بد أن ندافع عن موقعنا هذا»، أجابت. «هل أرغمكِ إدينجر؟» ضحكتْ. «طبعًا لا. ولكنْ، لولا ذلك لمَا كان هناك سببٌ كي أسكُن هنا. هل ترى الآن شيئًا؟». كذبتُ: «بعضَ الشيء» «فلْنواصل السَّير». توغَّلنا بحذَرٍ في الممرِّ. شعرتُ أنني كالأعمى. «لماذا كنتَ ثائرًا عليَّ؟» سألتْني نورا، «حتى فيما سبَقَ كنتُ أتفاني في خدمتكم جميعًا». واصلتُ تحسُّسَ طريقي في الظُّلمة. «نعم، في خدمتنا نحن»، قلتُ غاضبًا. «يا عزيزي»، ردَّتْ نورا، «أعتقد أنَّ زمنكم مضى ولن يعود». نزلنا درَجَ القبو. «هنا»، قالت، «انتبه، الدرَجُ ٢٢ درجةً». أحصيتُها في أثناء النزول. بقيتْ واقفةً. سمعتُ أنفاسها. «الآن، يمينًا»، قالت، «في هذا السُّور». تحسَّستُ الحائط المبطَّن بألواح، ووجدتُ المكان، الذي استجاب لي. مررتُ بأناملي باحثًا عن ثُقب الباب، كان المفتاح ملائِمًا. «أغلقي عينَيكِ»، قلت لها. ثم انفتحتْ أبواب المخبأ. شعرنا أنَّ المكان مُضاء. تحسَّسْنا طريقنا إلى الداخل، وانغلق الباب خلْفَنا. فتحنا أعيُنَنا، فوجدنا أنفُسَنا نقِفُ في غرفة الكمبيوتر. تفحَّصت نورا الأجهزة. «مولدات الطاقة على ما يُرام»، قالت. سِرنا إلى جهاز اللاسلكي. شغلتْه نورا، ولدهشتنا سَمِعنا «أيها الآتي من الفجر الوردي»، بصوتٍ بالِغ الارتفاع حتى إنَّ الرجفة قد اعترتْنا. «أهالي البلومليسالب»، صرختْ نورا. فقلتُ مهدِّئًا: «إنَّه اللاسلكي الأوتوماتيكي. من المستحيل أنْ يكون أحدٌ منهم لا يزال على قيد الحياة». ولكننا عندئذٍ سمعنا صوتًا. كان صوتَ هوسمان، المذيع المحبوب الذي يقدِّم برنامجًا ليليًّا به موسيقى ونوادر ومقابلات. «حان وقتُ الاسترخاء، الآن يأتيكم هوسمان. عزيزتي المُستمِعة، عزيزي المستمع»، قال الصوت، «الساعة الآن العاشرة مساءً». ثم ذكَرَ هوسمان التاريخ وأعلن تَكرار بثِّ حلقةٍ وطنية. «ما زالوا يعيشون»، صرختْ نورا، «ما زالوا يعيشون. التاريخ تاريخ اليوم». ثم ارتفع من السمَّاعات صوتُ رئيس القِسم العسكري. «رئيسي!» وخرجتْ نورا عن طَورها. ألقى الرئيس بصوته الجهوري خطابًا إلى الشعب، أعلن فيه أنَّهم كلَّهم — الحكومة والبرلمان وأجهزة الدولة، إجمالًا أربعة آلافٍ من النساء والرجال، وإنْ كانت الأغلبية من الرجال، إضافةً إلى عاملات الاختزال — كلُّهم نجَوا بسلامٍ من الكارثة تحت البلومليسالب، دون أن يُصابوا بأضرارٍ من جرَّاء الأشعة، ومعهم موادُّ غذائية تكفي لجيلَين أو ثلاثة أجيال، وأنَّ المفاعِل النوويَّ لا يزال يعمل، ويمنحهم الضوء والهواء — وهو ما يجب أن يُخرس نهائيًّا كلَّ معارضي الطاقة النووية — وأنَّ الحكومة والبرلمان وأجهزة الدولة تستطيع أنْ تواصل حُكمها للبلاد وخدمة الشعب، وإنْ كان من المستحيل مغادرة البلومليسالب؛ لأنَّ العدوَّ يتَّسم بالخسَّة والغدر، وقد يَرمي قنبلةً فوق البلومليسالب تحديدًا، ولكن ليس عليهم أن يخشَوا شيئًا. إنَّ على السُّلطة التنفيذية والسُّلطة التشريعية وجهاز إدارة الدولة أنْ يضحُّوا بأنفُسهم من أجل الشَّعب، وهو ما فعلوه. وفيما واصَلَ رئيس الجهاز العسكري خطابه، سدَّدتُ بصري إلى نورا. كانت تقِفُ مرتديةً الرُّوب الصباحيَّ الذي انفتح، مستغرِقة في الإنصات إلى رئيسها. انقضضتُ عليها وطرحتُها أرضًا ورفعتُ فخذها، منذ مدَّةٍ طويلةٍ لم أنَم مع امرأة. واصَلَ الرئيس حديثَه قائلًا إنَّه سمِعَ ببهجةٍ عظيمة عن النصر الذي تحقَّقَ على العدوِّ الغادر في لاندك، وإنَّه مقتنِعٌ بأنَّ الجيش والحلفاء الشُّجعان قد اقتربوا من النصر النهائي في أعماق البراري الآسيوية، وربما حقَّقوه بالفعل، ولكنه — وجميع أعضاء الحكومة — لم يسمعوا الأخبار بعدُ من العالَم الخارجي للأسف الشديد؛ لأنَّ الإشعاع القوي للغاية في البلومليسالب يمنع، على ما يبدو، استقبالَ الإشارات اللاسلكية. راح يتكلَّم ويتكلَّم، ونورا تُصغي إليه. أخذتُ ألهث وأتأوَّه، وهي تضغط بكفِّها اليمنى على فمي حتى تسمع رئيسها ولا يفوتها كلمةٌ منه. كنتُ أرقد فوقها، أصعد وأهبط، نهِمًا لا أشبع، وهي لا تُصغي إلا إلى الصوت الآتي من السمَّاعة، تاركةً جسدها حرْثًا مستباحًا. من الممكن بالطبع، قال الرئيس شارحًا بصوتٍ يشفُّ عن القلَق، بالطبع ليس من المستبعَد، وإنْ كان من غير المحتمَل، أن تكون الحرب قد اتَّخذت مسارًا مختلِفًا عن المتوقَّع، وأن يكون التفوُّق العدديُّ الهائل والتفوُّق في أنظمة التسلُّح التقليدية للعدوِّ قد مكَّناه من الانتصار، وأنه قد غزا البلاد. ولكنه — كما حدَثَ أيام المورجارتن وسيباخ والمورتن — سيكون قد غزا الأرض فحسب، لا الشَّعب الذي لا يُقهر. جُن جنوني على جسد نورا، وازداد الغضب في صدري اشتعالًا؛ لأنَّها كانت لا تزال تُصغي إلى ما يُقال، ولأنَّها ما زالت لا تُعيرني أدنى اهتمام. لا بد أنَّ العدوَّ قد أدرك الآن شيئًا فشيئًا هذه الحقيقة، ليس فقط من خلال المقاومة البطولية التي ما زال الشعب يُبديها — وهل يشكُّ في ذلك أحدٌ؟ — بل لأنَّ الحكومة الشرعية المنتخَبة من الشَّعب، ومعها البرلمان وأجهزة الدولة، تقوم بواجباتها بكلِّ حرية تحت البلومليسالب، نهارًا وليلًا؛ إنَّها تحكُم، وتشرِّع، وتسنُّ القوانين، إنَّها تمثِّل الشعب الحقيقيَّ وليس هناك سواها، ومن صلاحياتها التفاوض مع العدوِّ، ليس من وضْعِ المهزوم، بل من وضْعِ المنتصِر. فحتَّى لو كانت البلاد في دمارٍ وخراب — لو افترضنا حدوثَ ما ليس محتمَلًا — وحتى إذا لم تَعُد البلاد تقاوم المعتدي، أو — وهذا شيء للأسف ليس مستبعَدًا — إذا لم تقُمْ لها قائمة؛ فإنَّ حكومته ما زالت تقوم بواجباتها، والبرلمان الذي انتَخَبه الشعبُ ما زال قائمًا، وما زالت أجهزةُ الدولة تضطلع بمهامِّها على أكملِ وجه. إنَّ هذه الجهات لن تستسلم أبدًا. على العكس، إنَّها مستعدَّة لتعزيز استقلاليتها في خدمة السلام العالمي، وبالارتكاز على حياديَّتها الدائمة المسلَّحة.
ما أتذكَّره لا يتعدَّى أشلاءَ كلماتٍ أحاول الآن لملَمَتها، لقد شعرتُ بما لم أشعُرْ به يومًا، شعرتُ وكأنَّ الخطاب لن ينتهي أبدًا، وعندما نزلتُ من فوق نورا، سمعتُ «أيها الآتي من الفجر الوردي» من مكبِّر الصوت مرةً أخرى. نهضنا. كنتُ أعوم في عَرَقي. سِرنا إلى المخبر عاريَين، ثم أخذَتْ عينةً من دمي وقامَتْ بتحليلها. «ستظلُّ حيًّا»، قالت. «وأنتِ؟» «لقد حلَّلت الإدارة دمي. كنتُ محظوظةً. مثلَك». انقضضتُ عليها من جديد، وطرحتُها أرضًا بجانب طاولةِ التحاليل، ولكنَّ الغضب تملَّكني مرةً أخرى، لأنَّها قالت لي بصوتٍ هادئٍ وموضوعيٍّ في أثناء محاولتي استمالتَها: «حكومةٌ بكامل هيئتها بلا شعبٍ؛ أمرٌ مثاليٌّ للحكومة»، ثم ضحكتْ ولم تتوقَّف عن الضحك، فتركتُها. «كَم شخصًا يعملون في الإدارة؟» سألتُها بعد أن هدأتُ. «عشرون، ثلاثون، لا أكثر»، أجابتْ وقامت، وظلَّتْ واقفةً أمامي. «وأين يسكُن إدينجر؟» سألتُها وأنا ما زلت قاعدًا على الأرض، عاريًا، خائر القُوى. نظرتْ إليَّ متأمِّلة:
– «لماذا تريد معرفةَ ذلك؟»
– «هكذا.»
– «هل تعرفين اسمه الأول؟»
تردَّدتْ ثم أجابت: «أرميا.»
سِرتُ إلى الكمبيوتر. لم يَرِد اسمُ إدينجر كثيرًا، ومن ضمن الأسماء وجدتُ أيضًا أرميا إدينجر. قرأتُ البيانات بسرعة: درَسَ الفلسفة، لكنه لم يُتمَّ الدراسة. من حُماة البيئة. امتنع عن الخدمة العسكرية، حُكم عليه بالإعدام، ثم حصَلَ على عفوٍ من البرلمان، وحُوِّلت العقوبةُ إلى سجن مدى الحياة. ذهبتُ مرةً أخرى إلى غرفة اللاسلكي، وأغلقتُ الباب، كانت الشفرة في الخِزانة السرِّية. عُدت إلى نورا، وغيرتُ ملابسي. كانت قد ارتدت الرُّوب مرةً أخرى. ذهبتُ إلى مخزن السلاح، واخترتُ مسدسًا كاتمًا للصوت، وقلتُ لها أنْ تحتفظ بالمفتاح وأن تقفل الباب، فأنا أنوي أن أفعل شيئًا يتَّسم بالخطورة. اعتصمتْ نورا بالصمت، ثم غادرتُ مبنى الحكومة عبْرَ أحدِ أبواب الجناح الشرقي.
في بيت لحم لم يكُنْ هناك سوى برجٍ سكنيٍّ واحد، وإنْ كان بالأحرى شبيهًا بهيكلٍ شبحيٍّ من الخرسانة. دخلتُ البناية، الطوابق السفلى محترقة عن آخرها، وبئر المصعد خالية. أخيرًا عثرتُ على دَرَج. الطوابق لم تعُدْ سوى حواملَ حديديةٍ تحمل السقف الخرساني. الطابق الأعلى كان خاويًا، ليس هناك إلا الإضاءة الساطعة الصادرة عن السماء الليلية. اعتقدتُ أنني أخطأتُ عندما ظننتُ المنزل خاليًا من السُّكان؛ إذ إنني وجدتُ سلَّمًا. تسلقتُه إلى الأعلى، ووقفتُ على سطح المنزل، مباشرةً أمام شقةٍ غارقة في الظَّلام، وعبْرَ شقِّ الباب نفَذَ ضوء. قرعتُ الباب. سمعتُ خطواتٍ بالداخل، ثم انفتح الباب، وفي المساحة المضاءة المائلة للزُّرقة وقَفَ شخصٌ لم أتبيَّن ملامحه. سألتُ: «هل أرميا إدينجر موجود هنا؟»
– «أبي ما زال في المكتب»، أجاب صوتُ فتاة.
– «سأنتظره تحت.»
– «انتظرْهُ عندي»، قالت الفتاة، «ادخُلْ. أمي أيضًا لم تأتِ بعدُ.»
دخلت الفتاة الشقَّة، فتبعتُها واضعًا يدي في جيب الجاكيت. الباب المقابل لم يكُنْ سوى حائطٍ زجاجيٍّ ضخم، وأدركتُ عندئذٍ لمَ بَدَت الشقَّة من الداخل مُضاءة. خلْفَ اللوح الزجاجي كان الليل ساطعًا، ولكنَّه لم يكُنْ مشعًّا بلونٍ فضيٍّ أزرق بسبب ظهور القمر، بل لأنَّ الجبال كانت تضيء كالفسفور؛ لقد توهَّج جبل البلومليسالب توهُّجًا شديدًا حتى إنه خلَّفَ ظِلالًا. تطلَّعتُ إلى الفتاة. بدتْ في الضوء كالشبح. كانت نحيفةً، عيناها واسعتان للغاية، وبياضُ شَعرها يشبه بياض البلومليسالب الذي أضاء الغرفة. على أحد الجدران رفَّان، وفي منتصف الغرفة مائدة وثلاثة كراسيٍّ. على المائدة كتابان، «هايدي»، و«مختصر تاريخ الفلسفة – دليلك إلى نظرةٍ عامة» لشفجلر. بجانب الجدار الآخر مَوقِد، وبجوار الحائط الزجاجي كرسي هزَّاز. أشعلت الفتاة شمعدانًا عليه ثلاث شمعات. غيَّر الضوء الدافئ ملامحَ الغرفة. رأيتُ على الجدران رسوماتِ أطفال ملوَّنة. كانت الفتاة ترتدي بدلةً رياضيةً حمراء، عيناها متَّسعتان وبشوشتان، شَعرها أشقر يميل إلى اللون الأبيض، لا بد أنها في العاشرة من عمرها. «أنت مذعور»، قالت البنت، «لأنَّ البلومليسالب يُضيء.»
– «يعني … أنا فعلًا مذعورٌ قليلًا.»
– «لقد زادت الإضاءة في الأسابيع الأخيرة. أبي يعتقد أنَّ عليَّ الرحيل مع أمي بعيدًا عن هنا.»
تطلَّعتُ إلى الرسوم، فقالت البنت: «هايدي. لقد رسمتُ كتاب هايدي كلَّه. هذا هو «أوهي» الذي يعيش في الألب وهذا هو الماعز بيتر. ألَا تريد أن تجلس؟ على الكرسيِّ الهزَّاز، إنَّه للضيوف.»
سِرتُ نحو الحائط الزجاجي، ونظرتُ إلى البلومليسالب، وجلستُ على الكرسيِّ الهزَّاز. راحت الفتاة تقرأ «هايدي» على المائدة. لا بد أنَّ الساعة كانت نحو الثالثة صباحًا عندما سمعتُ خطواتٍ تقترب. في إطار الباب بدا رجُلٌ طويلٌ وبدين. ألقى عليَّ نظرةً خاطفة، ثم اتَّجه إلى الفتاة. «كان عليكِ أن تكوني في الفِراش منذ وقتٍ طويل يا جلوريا. هيا، انهضي». أغلقت البنتُ الكتابَ، قائلةً: «لا أستطيع النوم قبل أن تجيء يا بابا. كما أنَّ ماما لم تأتِ هي الأخرى». «ماما ستأتي قريبًا»، قال الرَّجل الطويل الثقيل الحركة، ثم سار ناحيتي، وقال: «مكتبي في ميدان أيجر.»
– «أريد أن أتحدَّث معك على انفرادٍ يا إدينجر.»
– «ألَا تريد أن تعرِّفني بك؟»
هززتُ كتفي، وأجبتُ: «اسمي لن يغيِّر في الأمر شيئًا.»
– «طيب. فلْنشرب كأسًا من الكونياك.»
وسار إلى رُكن المطبخ، وانحنى، ثم أحضَرَ زجاجةً وكأسَي كونياك. عاد إلى الغرفة، ومسَحَ على شَعر الفتاة التي كانت قد رقدتْ في الفِراش، ثم نفَخَ الشموعَ مُطفِئًا إيَّاها، وفتَحَ الباب مشيرًا لي. خرجنا إلى السطح الذي امتدَّ أمامنا في الضوء الشبحيِّ للجبال الفسفورية مثل سهلٍ تفترشه الأطلال والأدغال. جلسنا على أنقاض مَدخَنة، وتحتَنا بيتُ لحم الخراب. خلْفَ أحدِ الأبراج السكنية المقصوفة يحدس المرء المدينة من بعيد حيث ينهض شبحُ الكاتدرائية. «كنتَ جنديًّا؟» «ما زلتُ جنديًّا»، أجبتُه. أعطاني كأسًا، ثم صبَّ فيه، ثم لنَفْسه، قائلًا: «من السِّفارة الفرنسية. الكئُوس أيضًا. كريستال». سألتُه عمَّا إذا كانت لا تزال قائمة، فأجاب: «القبو فقط، فالإدارة لها أسراها أيضًا». احتسينا الكونياك. سألني: «وماذا كنتَ قبل ذلك؟»
– «طالب، لدى كاتسباخ العجوز. كنتُ على وشك كتابة رسالة دكتوراه.»
– «أهكذا؟»
– «عن أفلاطون.»
–«وعن أيِّ شيء في أفلاطون؟»
– «عن الدولة. الكتاب السابع.»
قال لي إنَّه درس أيضًا لدى كاتسباخ، فقلتُ له: «أعرف». فردَّ بنبرةٍ تقريرية، ولكن دون تعجُّب، أنني إذن أعرف عنه كلَّ شيء. واصَلَ احتساءه. فسألتُه: «وما أخبار كاتسباخ؟» أخبرني وهو يحرِّك كأسَ الكونياك في يده أن النيران اشتعلتْ في شقته عندما سقطت القنبلة، «كانت بالشقة مخطوطاتٌ أكثر من اللازم». «هذا هو قَدَر الفلاسفة التعيس»، أجبتُه، مُضيفًا أنَّ القِسم احترَقَ بكامله، لم يبقَ منه شيءٌ. فقال لي إنَّه لم يَجِد سوى شفجلر، هذا هو ما استطاع إنقاذه. «لقد رأيتُه على المائدة». لزمنا الصمت محملِقين في البلومليسالب. «هل ستأتي غدًا إلى الفحص الطبي؟» سألني إدينجر، «في ميدان أيجر». فأجبتُه: «سأعيش. لقد أجريتُ فحصًا». لم يسألني عمَّن أجرى لي الفحص، وصبَّ لي ولنَفْسه الكونياك من جديد. «أين الجيش يا إدينجر؟ لقد حشدنا ثمانمائة ألف جنديٍّ». «الجيش»، قال، «الجيش». وشرِبَ. «سقطت قنبلةٌ على إنسبروك». واصَلَ الشراب. «قنبلة تأخَّر انفجارها. أنت من الجيش. إذن أنت محظوظ». لزمنا الصمت محدِّقين في المدينة، وواصلنا الشراب. من المرجَّح أن نسلِّم هذا البلد، قال إدينجر. أوروبا عمومًا. إن ما حدَثَ في وسط أفريقيا وجنوبها لا يمكن وصفه. ناهيك عن القارات الأخرى. لم تأتِنا من الولايات المتحدة حتى الآن إشارةُ حياة. لم يعُدْ يعيش على الأرض حاليًّا إلا أقلُّ من مائة مليون. كانوا عشرة مليارات. أرسلتُ النظر إلى البلومليسالب. أمسى أكثر إشعاعًا من البدر. «لقد أسَّسنا إدارةً عالمية»، قال. أخذتُ أهزُّ الكونياك في الكأس، ثم سألتُه: «نحن؟» لم يُجِب على الفور. «أنت امتنعت عن الخدمة العسكرية يا إدينجر»، قلتُ مادًّا كأسي ناحية البلومليسالب. توهُّجه كان شبحيًّا. «أنت مدينٌ بالحياة لأسوار السِّجن التي حمتْك. يا لَلسخرية. لو كان لدى البرلمان بعض الشجاعة، لكنتَ لقيت مصرعك رميًا بالرصاص منذ وقتٍ طويل». «يبدو أن الشجاعة كانت لديك أنت»، قال. أومأتُ برأسي. «كنْ متأكِّدًا من ذلك يا إدينجر». واحتسيتُ جرعةً مستمتِعًا بها. من ناحية المدينة سمعتُ انفجارًا مكتومًا. اقترب شبحُ الكاتدرائية، ثم سمعتُ رعدًا بعيدًا، وارتفعتْ في السماء سحابةٌ من الغبار الأزرق، ثم هبطتْ، ولم أعُدْ أرى شيئًا من الكاتدرائية. قال غيرَ مبالٍ: «لقد سقطتْ شُرفة الكاتدرائية، وانهارتْ معها الكاتدرائية كلُّها. كنَّا ننتظر حدوث ذلك منذ فترة. وبالمناسبة، أنت محقٌّ، حضرةَ العقيد»، ثم أضاف: «نحن الممتنعين عن تأدية الخدمة العسكرية أسَّسنا الإدارة هنا، في الأماكن الأخرى قام بذلك المنشقُّون أو ضحايا القوانين الراديكالية». فضَحَ إدينجر نَفْسه. كان يعرف مَن أنا. ولكنَّ ذلك لم يكُنْ — بدايةً — ذا أهمية. الأهمُّ هو معرفة بعض المعلومات عن الإدارة. قلتُ له: «هناك إذن فروع لإدارتكم في الأماكن الأخرى. لديك معلوماتٌ حول ذلك يا إدينجر». «باللاسلكي». فاعترضتُ قائلًا: «لم يعُدْ هناك تيارٌ كهربائي». فأجابني: «بعض الرِّفاق يتصرَّفون باستخدام المتاح». كان وجهه شبحيًّا في ضوء الليل، ينبعث منه شيءٌ لا يُفسَّر، شيءٌ غريب، جامد. «ذات مرة اعتقدتُ أنني رأيتُ طائرة»، قلت له. شرِبَ جرعةً من كأسه، ثم قال: «من الإدارة المركزية في نيبال». لديها طائرة لقياس الإشعاع النووي. تمعنتُ فيما يقول. ثمَّة شيءٌ غير صحيح في هذه الحكاية. «أنت تعرف من أنا يا إدينجر»، قلتُ بنبرةٍ تقريرية. «كنتُ أعرف أنَّك ستجيء، حضرة العقيد. بوركي هيأني». اعتصمنا بالصمت. سألتُه: «وهل أعطاك المفتاح؟» «أيضًا». «ونورا؟» فأجاب أنَّها لا تعرف شيئًا عن الأمر. كان من السهل العثور على المخبأ تحت الجناح الشرقي. لقد سمِعَ بعض خطابات الحكومة، ثم أرجع المفتاح إلى بوركي الذي تُوفِّيَ، وعن طريق تساوج وشتاوفر وروجر وهادورن وصَلَ المفتاح إليَّ. قلتُ له: «أنت إذن في الصورة». شرِبَ من كأس الكونياك، ثم ردَّ: «الإدارة في الصورة». أشرتُ إلى البلومليسالب المتوهِّج. «الإدارة هناك يا إدينجر»، قلتُ له، «حكومةٌ كاملة، برلمان كامل، وأجهزةُ الدولة الكاملة. إذا حرَّرناها، ستكون لدينا إدارةٌ أفضلُ من إدارتكم العالمية بأعضائها من الممتنِعين عن الخدمة والمنشقِّين. لا بد أنَّ إدارتَك ترتجل ارتجالًا عظيمًا. صُب لي جرعةً أخرى يا إدينجر». صبَّ في كأسي، فواصلتُ: «لا بد أنَّك تُدرك الآن على الأقلِّ شيئًا واحدًا يا إدينجر. أنا الأقوى بيننا نحن الاثنَين». فتساءل وهو يشرب: «أنت تقصد، لأنَّ لديك سلاحًا؟» فرددتُ عليه: «مسدسي سلَّمته للقوَّادة التي عيَّنتْها إدارتُك في مبنى الحكومة». فضحِكَ. «حضرة العقيد، كان مخزن السلاح تحت تصرُّفك في المخبأ تحت الجناح الشرقي. والشفرة أيضًا». تعجَّبتُ. «ماذا تعرف عن الشفرة؟» لم يُجب مباشرةً. راح يحدِّق في البلومليسالب، واكتسب وجهه الكبير ذو الحضور الطاغي جمودًا غريبًا مرةً أخرى. ثم حكى أنَّ بوركي أطلَعَه على الشفرة في الخِزانة السرِّية تحت الجناح الشرقي، ومعًا قاما بفكِّ شفرة بعض الرسائل السرِّية التي بعثتْ بها الحكومة من البلومليسالب. وبالمناسبة، لم يكُنْ ذلك ممكنًا إلا لأنَّ الكابل الممتدَّ تحت الأرض سليمٌ، أمَّا محطةُ الإرسال الإذاعي في البلومليسالب فقَدْ تعطَّلتْ بسبب الإشعاع النووي، ولا يمكن الوصول إلى الحكومة إلا عن طريق الجناح الشرقيِّ للمبنى الحكومي. إنَّ الحكومة تشعُر باليأس. لقد حاولتْ عبثًا الاتصال بي، والآن تخلَّت عن محاولاتها. كانت تأمل في أنْ أحرِّرها، والآن توجَّه هذا الرجاء إلى الطرف الذي تعتقد أنَّه قد انتصر، إلى الأعداء، دون أن تُدرك أنه ليس هناك منتصرون، ليس هناك إلا المهزومون؛ لا تُدرك أنَّ جنود كلِّ الجيوش قد امتنعوا عن مواصلة القتال بعد أنْ قَتَلوا ضباطهم رميًا بالرَّصاص، أنَّ الإدارة تولَّت السُّلطة، وأنَّ الجنود الذين عاشوا بعد الكارثة يحاولون الآن استصلاح الصحراء، ربما تتمكَّن البشرية أن تنجو رغم كلِّ ما حدَثَ. لزم الصمتَ. استمعتُ إلى ما قاله وتمعَّنتُ فيه، ثم سألتُه: «وماذا تقترح؟» أفرَغَ الكأسَ في جوفه، ثم قال: «الناس في الصحراء يعملون كي يواصلوا الحياة». وأضاف أنه ليس من المستبعَد أن تتوغَّل الإشعاعات النووية وتَصِل إلى هناك. الناس يحاولون ريَّ الصحراء بوسائل بدائية على نحوٍ لا يُصدَّق. إنهم يعملون كما عمِلَ الإنسانُ الأول. يكرهون التكنولوجيا. يكرهون كلَّ ما يذكِّرهم بالعالم القديم. إنَّهم يعيشون تحت صدمة، وهذه الصدمة لا بد من التغلُّب عليها. لقد درستُ مثلَه الفلسفة. ما زال يقتني شفجلر. في الماضي كنا نسخر من «مختصر تاريخ الفلسفة»، ولكن ربما استطعتُ أنْ أعلِّم الناس في الصحراء أنَّ التفكير ليس أمرًا خطِرًا فحسب، ثم صمَتَ. كان الاقتراح شاذًّا. قلتُ مُقهقِهًا: «تعلِّم التفكير بمعونة شفجلر.»
– «ليس لدينا إمكانيةٌ أخرى.»
– «ليس لديك فعلًا إمكانيةٌ أخرى تَعرِضها عليَّ غير ذلك؟»
تردَّد. ثم أجاب أخيرًا: «بلى؛ ولكنني أعرضها عليك كارهًا.»
– «وهي؟»
– «السُّلطة.»
نظرتُ إليه متمعِّنًا، إنَّه يُخفي عنِّي شيئًا ما. «أنت تريد قَبولي في الإدارة يا إدينجر؟»
– «لا؛ لا يمكن قبولك في الإدارة يا حضرةَ العقيد». ثم الْتفَتَ إليَّ بوجهه الثقيل مواصِلًا: «ليست الإدارةُ إلا محكمةً. على كلِّ إنسانٍ أن يقرِّر إذا كان يريد الوعيَ أم فقدان الوعي، إذا كان يريد أن يكون مواطِنًا أم مرتزِقًا. أنت أيضًا لديك الاختيار، وعلى الإدارة أن تقبل اختيارَك.»
تأمَّلتُ فيما قال، ثم سألتُه متشكِّكًا: «وما هي سُلطة المرتزِق؟»
– «مثلها مثل أيِّ سُلطة أخرى: السُّلطة على الناس.»
– «أيُّ ناس؟» سألتُه مواصِلًا تمحيص ما يقول. فأجاب إجابةً غائمة: «على الناس الذين يتحكَّم في أقدارهم.»
– «أجِبْني بلا لفٍّ أو دوران يا إدينجر.»
– «إنَّك لا ترى الصورةَ كلَّها، حضرةَ العقيد. والحرب العالمية الثالثة لم تنتهِ بعدُ.»
– «هه، وإلى أين تسير الحربُ إذن؟»
تردَّد مرةً أخرى، وحملَقَ من جديدٍ في كأسه، ثم أجاب في النهاية: «في التيبت. هناك يواصلون القتال.»
– «مَنْ؟»
– «المرتزِقة.»
بدا لي الأمر بعيدًا عن التصديق، فسألتُه: «ومَن يهاجم المرتزِقة؟»
– «العدوُّ»، أجاب إدينجر. فأردتُ أن أعرف: «ومنْ هو العدو؟» فأجاب مراوِغًا: «هذا شأن المرتزِقة. الإدارة لا تتدخَّل في شئونكم». كان حديثنا يدور في حلقةٍ مُفرَغة. إمَّا أنَّ العدوَّ أقوى ممَّا يريد إدينجر أن يعترف، وإمَّا أنَّ الحرب في التيبت فخٌ. عليَّ أن أحذر المخاطرة. «إدينجر. لقد كنتُ ضابط الاتصال في قيادة جيشنا. عندما استسلم الحلفاءُ واحتفلت القيادة بهذا الاستسلام؛ أطلَقَ القائدُ رصاص مسدسه على أركان الحرب.»
– «ثم؟» تساءل إدينجر. تطلَّعتُ إليه، ثم قلتُ: «إدينجر. على حافة الطريق أمام تسنيتس لقي ما يزيد على ثلاثمائة ضابطٍ حتفهم. رميًا برصاص جنودنا». أفرغ إدينجر كأسه، ثم قال: «لم يعُدْ جنودنا يريدون القتال». سحبتُ المسدس الكاتم للصوت، وقلتُ له: «صب لنفسك كأسًا أخرى يا إدينجر. إنَّ المرتزِقة في التيبت لا يَعنُونني في شيء، ولا إدارتك تَعنيني في شيء. الحكومةُ وحدها هي ما تهمُّني، البلومليسالب. البلد يعجُّ بالمحتضرين. وبهم — وهم سيموتون على كلِّ حال — سأُنقذ الحكومة». ملأ إدينجر كأسه، ثم راح يؤرجِحها. «رغم ذلك ستذهب إلى التيبت، حضرةَ العقيد»، قال بهدوءٍ، ثم وضَعَ الزجاجة بجانبه على السطح، وتذوَّق الكونياك. «قِف»، أمرتُه، «وسرْ إلى حافة السطح. أنت ممتنِعٌ عن الخدمة وخائنٌ للبلد». أطاع إدينجر، وعندما وصَلَ إلى حافة السطح الْتفَتَ إليَّ مرةً أخرى، شبحًا يقِفُ أمام البلومليسالب المضيء. «البلومليسالب»، قال ضاحكًا، ثم سألني: «هل تعرف، حضرةَ العقيد، فيمَ أفكِّر عندما أرى البلومليسالب مضيئًا هكذا؟» هززتُ رأسي. «إنني اقترحت آنذاك في أثناء محاكمتي، عندما حكموا عليَّ بالإعدام، أنَّ بإمكانهم القيام بشيءٍ مجنون بالأموال التي سيوفِّرونها لو ألغَوا الجيش: إنشاء أكبرِ مَرصَد للنجوم في العالم فوق البلومليسالب». قَهقَه، ولوَّح لي، ثم أفرغ كأسه، وألقى بها خلْفَه في الأنقاض، وأعطاني ظَهْره. «باسم حكومتي»، قلتُ ثم صوَّبتُ ثلاثًا على الشَّبح. سقَطَ. وخَلَت السماء الليلية المضيئة أمامي من الأشباح. سمعتُه يصطدم بالأرض. بدأتُ أفتقد شيئًا. تناولتُ الزجاجة، ورميتُها في إثره.
شعرتُ أنَّ أحدًا يقِفُ خلفي. استدرتُ والمسدس في يدي. كانت نورا. كانت ترتدي «أوفرول» كالذي يرتديه العُمَّال. سقَطَ شَعرُها على الكتفَين. بدا في الليل المنير أبيضَ مثل شَعر البنت في شقة السطح. هتفتُ: «نورا. لقد قتلتُ الخائنَ إدينجر. لم يكُنْ ضروريًّا أن تتبعيني». لم تقُلْ شيئًا. سارتْ عدَّة خطواتٍ إلى حافة السطح، ثم عادت. «نورا»، قلتُ مضطرِبَ المشاعر، «ينقُصُني شيء، ولا أعرف ما هو.»
– «أنا هنا منذ فترة. لقد أصغيتُ لكما. جلوريا طفلتي، وإدينجر زوجي.»
حملقتُ فيها: «لم يكُنْ شيء من هذا مكتوبًا في الكمبيوتر.»
– «لو كان مكتوبًا، لمَا كنتُ سأعمل في خدمة الحكومة»، قالت ثم مرَّتْ بي في طريقها إلى حافة السطح، وهناك ألقتْ نظرةً إلى أسفل. «أنا سعيدةٌ لأنَّك قتلتَه. عندما سقَطَت القنبلة، كان يعمل مع المعتقَلين الآخرين في منطقة الأحراش الكبيرة. كان من المستحيل إنقاذُه. آلامُه كانت فظيعة، بعد أن مرَّ بأهوال جهنم». استدارت وسارت باتجاهي. «أعرف فيما تفكِّر الآن، لأنَّك لا تفكِّر إلا على نمطٍ واحد». بقيتْ واقفةً أمامي، هيئة مظلِمة أمام السماء التي تزداد استضاءة. «ولكنني لستُ خائنة. إدينجر كان رَجُلي، ليس أكثر. رَجُل. ولكنني كنتُ أعتقد أنَّه مخبول. كنتُ أؤمن بالدفاع عن البلد وكل هذا الهُراء. كنت حاملًا عندما حكموا عليه، لامتناعه عن الخدمة، بالإعدام ثم بالسَّجن مدى الحياة. كان ذلك قبل بدء الحرب بثمانية أعوام. مكَّنتُه من الدراسة الجامعية. كان يمزح ويدعوني إكسانتيبه. هذه المرأة — قال لي — أسدتْ للفلسفة خدماتٍ أكثر من أيِّ امرأةٍ أخرى. امتنع عن الخدمة لأنَّ هذا ما يقتضيه صدقُ الفكر: على الإنسان أنْ يفعل ما يفكِّر فيه. ليس الضمير هو الذي يُملي على الإنسان أفعاله، بل الفكر. كان يقول إنَّ الضمير والفكر صنوان متَّحدان. كان يحبُّ البلد، غير أنه كان يتَّهمه بأنَّه يتملَّص من التفكير. لم يكره أحدًا. ولكنني شعرتُ أنَّه تخلَّى عنِّي. كنتُ خائفة. غريزتي قالتْ لي إننا بحاجة إلى الدفاع عن البلد. أمَّا هو فكان يقول لي إنَّ الحكومة والبرلمان وأجهزة الدولة ستُنقذ نَفْسها فقط. تنبَّأ بكلِّ ما حدَثَ فيما بعد. لم أصدِّقه. عندما دخَلَ السِّجن، بدأتُ أثأر لنَفْسي: كنت أنام مع كلِّ واحدٍ منكم». انتشر الضياء إلى حدِّ أنني استطعتُ أن أتعرَّف على ملامح وجهها. كان متحجِّرًا، ويَسُوده سلامٌ كامِل. «ولأنني ثأرت من الرَّجُل الذي أحببتُه، ولأنني كنتُ أنام مع كلِّ أعضاء الإدارة العسكرية العليا، أصبحتُ وطنية. وظللتُ وطنية، حتى عندما حدَثَ كلُّ ما تنبَّأ به إدينجر». ابتسمَتْ، وفجأةً اكتسب وجهُها رِقة لم أكُنْ أتوقَّعها منها قَط. «ظللتُ وطنيةً جدًّا لدرجة أنني عملت في الماخور الذي أمَرَ ببنائه في مبنى الحكومة، أيضًا من مُنطلَق إيمانه بالمنطق الخالص؛ لأن المحتضرين يحتاجون إلى ماخور. هو أيضًا الذي أقنَعَ جمعية «جيش الخلاص» الخيرية بذلك». وضحكتْ. «وهكذا أصبحتُ مُومِسًا، كي أنتظرك، وأنتظر ما تُكلِّفني به. كنتُ أعتقد أنَّ إدينجر لا يدري شيئًا عن ذلك، ولكنني الآن أعرف أنَّه كان يعرف». قلتُ لها: «لم يكُنْ يهتمُّ بأمرك». سدَّدتْ بصرها إليَّ. «كلَّ ليلة، في مثل هذا الوقت، كنتُ آتي إلى هنا. لم يكُنْ يستطيع النوم من شدَّة الألم، ولكنني لم أقضِ يومًا وقتًا جميلًا مع إنسان، مثل تلك الساعات التي تسبق الفجر. كنا نتبادل الحديث، وعندما كان يُمسك بالكتاب الذي وجَدَه بين أنقاض الجامعة، كنتُ أعرف أنَّه يريد أن يواصل التفكير، فكنتُ أستغرق في النوم. لقد شيَّد صرحَ الفلسفة كلِّها في داخله، قال لي ذاتَ مرة، بذلك الكتاب التعليمي السخيف. في بعض الأحيان كان يأتيه في الليل أصمُّ أخرس. كانا يبنيان معًا صروح الرياضيات والفيزياء والفلك. كان يقول: كلُّ شيء يمكن إعادةُ بنائه، ليس هناك فكرةٌ واحدةٌ تضيع». سِرتُ إلى حافة السطح، وألقيتُ نظرةً إلى أسفل. كان إدينجر مُلقى هناك في الهوَّة، لم يعُدْ ممكنًا معرفة ما إذا كان يرقُد على ظَهْره أو على بطنه، ذراعاه مفتوحتان، والساقان متباعدتان. الأمرُ سواء، قلتُ عندما عُدتُ إلى نورا، ليس المهم الآن إذا كان إدينجر عبقريًّا أم لا، فردَّت: «أنت تريد تنظيم أمرِ المحتضرين». فأجبتُها أنَّ عليَّ أن أنفِّذ ما كُلِّفتُ به، ولذلك فإنني أريد إطلاع الحكومة في البلومليسالب على الأمر بأسرع ما يمكن، قبل أن تُعيقني الإدارة عن ذلك. «لن تستطيع ذلك»، قالت بهدوء. «بعد أن غادرتَ أنت المخبأ تحت الجناح الشرقي، ضبطتُ جهاز التفجير الآلي وتبعتُك. رأيتُك وأنت تسير في اتجاه البرج السكنيِّ. انتظرتُ خارج الشقة على السطح. حتى إدينجر لم يرَني. كنتُ أقِفُ خلْفَكما عندما وقَعَ الانفجار. ما زالت بقيَّةُ القبَّة قائمة. ولكنَّ الكاتدرائية انهارت. لم يعُدْ هناك اتصالٌ مع الحكومة». حملقتُ فيها مذهولًا. لم أعُدْ أفهم شيئًا. لقد جُنَّت نورا. راحتْ تنظُر إلى البلومليسالب. «لمَّا كنَّا في غرفة اللاسلكي، وسمعنا فجأةً صوتَ المذيع، ثم خطاب ذلك الرئيس، أدركتُ فجأةً أنَّ إدينجر كان على حقٍّ». «لقد كنتُ أضاجعكِ»، صحتُ. اقتربتْ مني وبقيتْ واقفة أمامي، ثم قالت بهدوء: «حضرةَ العقيد، ألَمْ تفهم ما قاله الرئيس؟» «لقد كنتُ أضاجعكِ»، صحتُ في وجهها. «ربما»، أجابتْ، «لا يهمُّني ما فعلتَه بي. لكنني كنتُ أُصغي إلى الخطاب وأدركتُ فجأةً ما سيفعلونه بنا، حكومةٌ وبرلمان وأجهزةُ دولة تَعتبر نَفْسها تعمل من أجل الشعب، بينما الشعب في الحقيقة ليس إلا ذريعةً بالنسبة لها حتى تنجو بنَفْسها وتعيش في أمان، ما أغربَ كلَّ ذلك يا حضرة العقيد! فلْيجلسوا إلى الأبد إذن في حضن الجبل! والآن تأتي أنت بفكرتك الحمقاء وتحاول أن تجعل المحتضرين يحفرون بأظافرهم طريقًا كي تخرُج هذه الحكومة التي بلا شعب من قبرها الذي حفرتْه بنَفْسها. ألَا تفهم حتى الآن أنَّ الوطنية بجميع أشكالها ليست إلا هُراء؟ لأيِّ غرض ما زالت هذه الحكومة موجودةً على الإطلاق؟ وهل تعتقد أنَّها الحكومة الوحيدة التي تجلس في قلب البلومليسالب؟ إنَّ كلَّ حكومات العالَم تقبع سجينةَ المخابئ، يقول إدينجر، حكومات مثل حكومتنا، بلا شعب، وبلا عدوٍّ». وفجأةً أدركتُ ما ينقُصني منذ أن قتلتُ إدينجر. «العدوُّ»، قلتُ ببطء، «لم يعُدْ لديَّ عدوٌّ». فجأةً شعرتُ بتعبٍ هائلٍ وبيأس. غاب البلومليسالب في الضوء المتزايد. لقد أقبل الصباح. مرَّت الفتاة بجواري، والْتجأتْ إلى حضن أمِّها التي وقفتْ أمامي، فخورةً وجميلة. «اذهبْ إلى التيبت»، قالت لي، «إلى الحرب الشَّتوية …»
[هنا ينقطع النَّقش. وقد عُثر على أجزاءٍ من بقيَّة النصِّ في نفقٍ بعيد.] … أنا مشوَّش منذ فترة (شهور، سنين؟) ليس لأنني أعيش في ظلامٍ دامس، فأنا أعرف المكان، وأستطيع الوصول دائمًا إلى الذخيرة والمعلَّبات. يستطيع العدوُّ، بالتأكيد، أن يتوغَّل في نظام الأنفاق الذي كنتُ أسيطر عليه عندما كانت الإضاءة تعمل، بل لعلَّه توغَّل بالفعل، ولكنَّ العثور عليَّ بات أصعب. الكتابة أيضًا تُرهقني؛ إذ يتحتَّم عليَّ أن أتحسَّس الحائط الصخريَّ بالجزء الضئيل المتبقي في عضدي الأيمن الذي ما زال سليمًا، أو أحيانًا بوَجنتي، كي أعرف ما إذا كنتُ قد نقشتُه فيما قبل. إنني أكتب أسطرًا بطول كيلومترَين، هذا هو تقديري بحساب لفَّات كرسيِّي المتحرِّك، ولا أكتب سوى سطرَين، الواحد تحت الآخر. ولكنْ لا شيءَ يُقلقني، لا الهجوم المحتمَل للعدوِّ، ولا آلامي الشخصية. لقد استسلمتُ وتكيَّفتُ مع وضعي؛ بل إنَّ وضعي يَملؤني فخرًا؛ فأنا الآن مكان إدينجر، إنني في هذه المتاهة تحت جبل الكومو لونجما المدافِع الوحيد عن الإدارة. إنني أكفِّر عن مقتل إدينجر، حتى وإن لم تَكُن الرصاصةُ التي أطلقتُها سوى رصاصةِ الرحمة. إنَّ اقتراحه، بأنْ يتعلَّم أولئك الذين يقومون بريِّ الصحراء الفلسفةَ، اقتراحٌ مفهوم. كان يحاول أن يُعيد بناء الفلسفة. ولكنَّ نورا كانت محقَّةً؛ إنني أُسدي للإدارة في الحرب الشَّتوية خدمات أكثر، من خلال وظيفتي ومن خلال مصيري. ربما يكون ذلك شنيعًا، ولكنه ذو مغزًى. إنني أتذكَّر تلك الليلة تحت قمَّة جبل الجوساينتان في قيادة الأركان، عندما سمعنا «أيها الآتي من الفجر الوردي». على الموجات القصيرة. بالصدفة تسبَّبَ الإشعاع النووي في قطْعِ الإرسال الإذاعي في البلومليسالب. استمعنا أيضًا إلى خطاب رئيس الحكومة: إنه على استعدادٍ للتفاوض مع العدوِّ تفاوضَ الشُّرفاء. إنني أشعُر بالخزي عندما أفكِّر أنني خدمتُ هذه الحكومة. في بعض الأحيان كنَّا نستمع إلى النشيد الوطني لبلدان أخرى، كما أنَّ رؤساء حكومات آخرين أعلنوا هم أيضًا استعدادهم للسَّلام. ذاتَ مرة تحدَّث أحدهم باللغة الروسية ونبرات صوته تشفُّ يأسًا، ولكننا لم نفهم الروسية، وفي الختام عرَضَ استسلامه بكلِّ اللغات. الإدارة التي أعمل الآن في خدمتها لا تعرف مثل هذه الأفكار. لن تستسلم للعدوِّ أبدًا. ولكن ثمَّة حدَثًا يُصيب تفكيري بالاضطراب، لأنني لا أفهمه. إنَّ من المستبعَد أن تكون الحرب الشَّتوية قد شهِدتْ تحوُّلًا مصيريًّا بالنسبة للإدارة. أنا أُومن بالنصر النهائي. هذا بديهيٌّ. ولكنْ، عندما وصلتُ بنقوشي مؤخَّرًا إلى مكانٍ لا يمكن أن يكون بعيدًا عن الماخور الذي أغلَقَ أبوابه منذ زمنٍ بعيد، لمحتُ ضوءًا ينبعث من بعيد. من الممكن أنْ يكون العدوُّ الذي لزم الصمتَ والحذَرَ طيلةَ سنوات؛ ربما يكون قد بدأ هجومًا شاملًا. حرَّكتُ كرسيِّي إلى الأمام بحذَرٍ وحيطة، فوجدتُ صالةَ الماخور مضاءةً كالنهار، وتكتظُّ بالبَشَر، رجال ونساء وعائلات بأكملها، كثيرون الْتقطوا الصُّور، آخرون — رجال بالزيِّ الرسمي — كانوا يشرحون عمَلَ الأجهزة. سيطرتْ عليَّ الصدمةُ لدرجة أنني حرَّكتُ كرسيِّي في اتجاه الجَمْع، أعماني الضوءُ، فكِدتُ أُطلق النار، ولكنني أدركتُ أنني لستُ موجودًا وسطَ مرتزِقة من الأعداء، بل وسطَ مجموعةٍ سياحية. أطلقتُ دفعةً من الرصاص التحذيري من الرشَّاش الآلي، كان السُّياح في خطَرٍ؛ فمن الممكن أن يهاجمهم العدوُّ. كان أمرًا طائشًا أن يسمحوا بزيارة الماخور القديم وأن ينظِّموا هذه الزيارة. صرَخَ السُّياح مرتاعين، وركضوا هاربين عبْرَ أحد الأنفاق الكبيرة. حرَّكتُ كرسيِّي وراءهم، كان من الممكن أن يكونوا من الأعداء الذين تخفَّوا في شكل سُيَّاح. كان النَّفق مضاءً كالماخور، الأرضيَّة مسفلَتة. وفجأةً وجدتُ نَفْسي في الهواء الطَّلق. من إحدى المغارات الجليدية حملَقَ فيَّ مرتزِقة بأقنعةِ أكسجين ورشَّاشاتٍ آلية. أطلقتُ الرصاص. تهشَّم زجاجٌ، كان المرتزِقة أشكالًا شمعيةً معروضةً خلْفَ لوحٍ زجاجيٍّ ومسلَّط عليها ضوءٌ اصطناعي. وجدتُ نَفْسي وسطَ قاعةِ معارضَ كبيرةٍ، خلْفَ ألواحٍ زجاجية أخرى كانت مناظرُ مختلفةٌ من الحرب الشَّتوية معروضةً بأشكالٍ شمعية. ارتعبتُ عندما تعرَّفتُ خلْفَ أحد الألواح الزجاجية على قائدي؛ أمَّا مركز القيادة على قمَّة الجوساينتان فكان صورةً خادعةً طِبقَ الأصل. لقد دخلتُ متحفًا. حانقًا رحتُ أُطلق النارَ على خِزانات العَرض الزجاجية. لمحتُ ظلالَ أشخاص بالزيِّ الرسمي يهربون، كانوا من العاملين في المتحف. حرَّكتُ كرسيِّي في اتجاههم، فوجدتُ نَفْسي فجأةً أمام بوابةِ الخروج. في الخارج حديقةٌ عامةٌ مليئةٌ بالأزهار، سماءٌ صَحْو زرقاء، رجُلٌ في مِعطف أبيضَ، أصلعُ، بنظَّارةٍ، يلوِّح بمنديلٍ أبيضَ، كأنَّه طبيب. أرديتُه قتيلًا، ودفعتُ كرسيِّي في اتجاه المتحف عائدًا إلى النَّفق وإلى الماخور المهجور. بالكمَّاشة المثبتة في يدي اليمنى الاصطناعية الْتقطتُ كُتيبًا من الأرض. كان بعنوان «دليلك إلى ماخورِ المرتزِقة في الجازهربروم ٣»، «الحائط المضيء». الْتقطتُ كتيباتٍ أخرى، كلُّها بالعنوان نَفْسه. لم أصِلْ إلى المغارة القديمة إلا بعد أيام.
وسط ظلامٍ لا يُقهر رُحتُ أنقشُ هذه الكتابات في نفقٍ جديد. لستُ مضطرِبًا بسبب اقتحام العدوِّ. إنني مشوَّش الفكر لأنَّني كنتُ دائمًا أعتقد أنَّ الماخور تحت الكانجشند تسونجا، في تلك «المغارات الخمس الملأى بالكنوز وسط الجليد العظيم»، في شرق الهمالايا. أمَّا الجازهربروم — الذي تدَّعي الكتيبات أنَّ الماخور تحته — فإنَّه يقع في سلسلة جبال الكاراكوروم، على بُعد ألف كيلومتر في اتجاه الشمال الغربي. من الممكن طبعًا أن يكون العدوُّ قد كتَبَ عمدًا معلوماتٍ خاطئةً. أيًّا كان الأمر، لم يعُدْ مكانُ إقامتي القديم آمنًا. أتذكَّر مغارةً شكَّلتُ فيها — وأنا ضابط برتبة ملازم — أولَ فرقة اقتحام، كان اختيارًا فظيعًا؛ لم ينجح في الاختبارات أكثرُ من الثلث. قرَّرتُ أن أبحث عن معسكرِ التدريب ذلك، ربما أجِدُ فرقتي مرةً أخرى، وإنْ كان الخطَرُ ماثلًا: أنْ يكون العدوُّ قد احتلَّ المعسكر، وهو احتمالٌ يجبُ أن أحسب حسابه الآن. صحيحٌ أنَّ زيارة السُّياح للماخور — مثلما كان المرءُ يزور قديمًا الحفريات الأثريَّة — يدلُّ على أنَّ أعمالَ القتال قد ابتعدتْ إلى الجبهة الغربية، ولكنْ من الممكن أيضًا أن يكون العدوُّ قد غزا قطاعاتٍ واسعةً من المناطق التي تسيطر عليها الإدارة، وهو ما لا أعتقده بالطبع. ومع ذلك، لقد قتلتُ الرَّجُل المرتديَ المِعطف الأبيض، رغم احتمال انتمائه للإدارة. وربما كان عدوًّا. سأنهي الكتابة في هذا النفق. [نهاية الكتابة.] دفعتُ كرسيِّي بحذَرٍ إلى شَبَكة الأنفاق التي تؤدِّي إلى معسكر التدريب بعد أن تزوَّدتُ بزادٍ يكفيني عدَّة أيام. ما زلتُ أتذكَّر الطريق جيدًا، بدون ذاكرةٍ سليمة لا يمكن البقاء على قيد الحياة في هذه الحرب. عند تقاطُع نفقَين — وهو ما شعرتُ به عبْرَ تيار الهواء الذي لا يكاد يُلاحظ والذي ينشأ عند كلِّ تقاطُع — بدا لي أنني أسمعُ خربشةً في أحد الأنفاق الجانبية. كان الصوت شبيهًا بمَن ينقش على الجدار الصخري. حرَّكتُ كرسيِّي ببطء في اتجاه النفق، سنتيمترًا بعد الآخر، توقَّفْتُ، وتوقَّفَت الخربشات. ولكنْ، كأنني سمعتُ شيئًا يتدحرج ناحيتي. ثم سكون. دفعتُ الكرسي بحذَرٍ إلى الأمام مرةً أخرى سنتيمترًا بعد الآخر، توقَّفتُ، أرهفتُ السمعَ؛ ثانيةً سمعتُ شيئًا يتدحرج ناحيتي، سكونٌ من جديد. واصلتُ تحرُّكي، توقفتُ، أرهفتُ السمع. لساعاتٍ استمرَّ التدحرُج والتقارُب. وفجأةً تنفَّسَ شخصٌ أمامي تمامًا، لم أحرِّك ساكنًا. حبستُ أنفاسي. سمعتُ التنفُّس مرةً أخرى. كان من الأفضل ألَّا أستخدم الرشَّاش الآلي، فمن الممكن أن يكون أكثر من عدوٍّ بالقرب مني. مددتُ ذراعي اليمنى على اتِّساعها، وضربتُ بها الفراغ، تحرَّكتُ إلى الأمام، وضربتُ بذراعي، الصوت الصادر كان يشبه ارتطام الحديد بالحديد. واصلتُ الضرب، سقطتُ من كرسيِّي المتحرِّك، تقلَّبتُ مع شيءٍ آخر على الأرضية، واصلتُ الضرب، مرةً في المعدن، ومرةً في شيءٍ ليِّن. عندئذٍ أضحى الشيءُ الآخر ساكنًا. بحثتُ عن كرسيِّي. فوضى من الحديد. زحفتُ على بقيَّة أعضائي المبتورة، بحثتُ عن أيِّ شيء، سقطت في بئر، ثم اصطدم وجهي بشيء ما، تدحرجت، ووقعت في بئر أخرى. لا بد أنني ظللتُ وقتًا طويلًا راقدًا فاقدَ الوعي. عندما أفقتُ كنت ممدَّدًا في شيءٍ لزجٍ غطَّى وجهي. أردتُ أنْ أُطلق الرصاص فربما أكون سقطتُ وسط الأعداء، ولكنَّ ذراعي الاصطناعية اليسرى لم تكُن موجودة. لقد فقدتُ سلاحي.
إنه أنا مرةً أخرى. يبدو أنني في مغارة. أحسستُ أنَّ وجهي كتلةٌ دامية. الأرضية من الحصى. تدحرجتُ بصعوبة بحذاءِ حائط المغارة، لا بد أنَّ المغارة هائلةُ الاتساع. تيارُ الهواء ثلجيٌّ حينًا، وقيظٌ غيرُ محتمَل أحيانًا؛ قد تكون الورشُ العملاقة التي يتمُّ تصنيع الأسلحة فيها؛ بالقرب منِّي. هل هي ورشتُنا أم ورشة الأعداء؟ لا أعرف. أنا في حالةٍ ميئُوسٍ منها. ليس لي الآن مَن أعتمد عليه سوى نَفْسي. رحتُ أزحف بحذاء المغارة الهائلة التي كثيرًا ما تنعطف انعطافاتٍ غريبةً. والآن يمكنني أن أسأل نَفْسي السؤال الذي لم أسمح به طوال القتال: مَن هو العدو؟ لم يَعُد السؤال يُصيبني بالشلل، ولا الإجابة أيضًا. لم يعُدْ لديَّ ما أخسره. هذا هو سرُّ قوَّتي. أصبحتُ لا أُقهر. لقد حللتُ لغز الحرب الشَّتوية. صحيحٌ أنني فقدتُ كرسيِّي المتحرِّك، وذراعي الاصطناعية المنتهية بالرشَّاش ملقاةٌ في مكانٍ ما ورائي بأحد الأنفاق، ولكنني أنقش المعارفَ التي حصلتُ عليها في الصخر بالمقبض الحديدي بخطٍّ مُنَمنَم، لا لكي تُقرأ، بل حتى أصوغَ أفكاري صياغةً أفضل. ففي أثناء حفري لها في الصَّخر، أحفرها في عقلي؛ إن الطريق إلى المعرفة وَعْر، أكثر وعورة من الطرق التي سِرتُ فيها منذ أن سقطتُ عاريًا في مدينةٍ نيباليةٍ صغيرة من فوق دَرَج زَلِق. لا يمكن السَّير على طريق المعرفة دون مخاطرةِ التخيُّل. وهكذا أتخيَّل ضوءًا وسطَ الظَّلام المطلَق المحيط بي؛ ليس الضوءَ المطلَق، ولكنْ ضوءًا يتناسب مع وضعي؛ إنني أتخيَّل بشَرًا في مغارتي، أشخاصًا مقيَّدين منذ شبابهم بالسلاسل المحكَمة حول الأفخاذ والأعناق، لا يستطيعون حَراكًا، فيظَلُّون جالسين مسدِّدين البصر إلى الأمام، إلى حائط المغارة. في الأيدي رشَّاشات آلية. فوقهم تَظهَر نيران. بين النيران والمقيَّدين هناك طريقٌ عرضي. وعلى طوله أتخيَّل سورًا صغيرًا. أمام هذا السُّور يسحب حرَّاس السِّجن المرهوبو الجانب أشخاصًا، مقيَّدين هم أيضًا، وأيضًا في أيديهم رشَّاشات آلية. ثم عندئذٍ، متزحلِقًا فوق حصى أرضيَّة المغارة، ومواصِلًا حفْرَ كتاباتي، سألتُ نَفْسي عمَّا إذا كنتُ سأرى يومًا شيئًا آخر غير ظِلالي أو ظلال الآخرين، تلك الظلال التي ترسمها النيران على حائط المغارة المقابل لوجهي، وعمَّا إذا كانت تلك الظلال هي الشيء الحقيقي الوحيد بالنسبة لي. نعم، وإذا ناداني صوتٌ من مكان ما، فإن هذه الظِّلال — ومعها تظهر ظلال الرشَّاشات الآلية — هي عدوِّي؛ هل أُطلق النار على الظلال الملقاة على حائط المغارة أمامي، وبذلك — لأنَّ الرصاص سيرتدُّ من الحائط — أقتل أولئك المقيَّدين مثلي بالسلاسل في الأفخاذ والأعناق؟ أم أنَّ هؤلاء — لأنهم يعتقدون ويتصرَّفون مثلي — سيقتلونني؟ ولكن إذا كنتُ مقيَّدًا وأُكرهت على الوقوف فجأةً وأن أدير رأسي، وأن أسيرَ في المكان، وأن أحدِّق في الضوء، وإذا شعرتُ بالألم في أثناء ذلك بسبب الضوء الباهر، ولذلك لا أستطيع أن أنظُر في وجوه أولئك الذين اعتدتُ أن أرى ظِلالهم، الذين يُشبه وضعُهم وضعي؛ ألن أعتقد عندئذٍ أنَّ تلك الأشكال الظِّلالية، التي كنت أراها، أكثر واقعيةً من تلك التي أظهروها لي؟ وإذا أرغموني على أنْ أنظُر في الضوء نَفْسه؛ فسوف أهرب ألمًا، متوجِّهًا إلى أولئك الناس الظِّلاليين الذين رأيتُهم من قبل؛ وسأبقى على قناعتي بأنَّ أولئك أكثر وضوحًا من هؤلاء الذين يظهرون أمامي؛ لأن أولئك هم أعدائي؛ ألن أبدأ عندئذٍ في إطلاق النار حتى أقتلهم مرةً أخرى، وأَدَعهم يقتلونني المرةَ تلوَ الأخرى؟ لم أعُدْ بحاجةٍ إلى الإجابة عن أسئلتي. ذاتَ مرةٍ رحتُ أتصارع مع هذا التشبيه، ولعلِّي قرأتُه في مكانٍ ما، أو استنبطته في أثناء التفكير، لم أعُدْ أعرف. من المحتمَل أن أكون اخترعتُه في أثناء نقشي إيَّاه على الصَّخر. إنَّ النيران التي تُلقي بالظِّلال لا بد أن تكون من العصور السحيقة، ليس عبثًا أنَّ كلَّ حيوان يخشى النار؛ النار عدوانية، وعدوُّ الإنسان هو ظِلُّه. ولهذا أطلقتُ الرصاص على إدينجر والرَّجل المعلَّق في المغارة، وقتلتُ القائد؛ لأنهم لم يعودوا يعتقدون أنَّ الظِّلال مُعادية، كانوا يعتقدون أنها أشخاصٌ مقيَّدون مثلي. والآن، لأنني أفكِّر هكذا، وجدتُ نَفْسي أتفهَّم فجأةً سلوكَ الإدارة؛ لأنها خرجتْ منتصِرةً من حروبٍ عالمية ثلاث، فإنها تتحكَّم في إنسانيةٍ فقَدَت معنى إنسانيتها لأنَّها قبلتْ أن تُحكم؛ ليس للإنسان-الحيوان أيُّ معنًى، إنَّ وجوده على الأرض لم يعُدْ له أيُّ هدف. ولماذا الإنسان أصلًا؟ هذا سؤالٌ بلا جواب. الإنسان والأرض تنقُصهما الإرادة. كما أنَّ الإنسان يُعاني، إنَّه عمومًا حيوانٌ مريض، ولكنَّ مشكلته ليست المعاناة في حدِّ ذاتها، بل لأنَّه لا يعرف إجابةً عمَّن يقول صارخًا: لِمَ المعاناة؟ الإنسان، أكثر الحيوانات شجاعةً وتعوُّدًا على المعاناة. لا ينفي المعاناة في حدِّ ذاتها؛ إنه يريدها، ويبحث عنها، على افتراضِ أن يرى معنًى، معنًى للمعاناة. ليست المعاناة نَفْسها هي اللعنة التي لا تستطيع الإدارةُ أن تُبعدها عن الإنسان، بل خلوُّ المعاناة من المعنى؛ إلا إذا منحتْه الإدارةُ المعنى القديم الذي — وهذا هو العبثي في الأمر — حررتْه منه: العدوُّ. لا وجود للإنسان إلا كحيوانٍ مفترِس. حتى لو لم يكُنْ هناك ما هو أصعبُ من قَدَر الحيوان المفترِس الذي يعذِّبه الألمُ ويطارده في شبكة الأنفاق تحت الكومو لونجما أو الكويو أو الماكالو والماناسلو أو الجوساينتان، ونادرًا ما تشبع غرائزه، وإذا حدَثَ ذلك فإنَّ الإشباع يتحوَّل ألمًا، في الصراع الدموي الساحق مع الحيوانات الضارية الأخرى، أو من خلال النَّهَم المُقرِف والتُّخمة في المواخير تحت الأرض. أن تكون أعمى وتتعلَّق بالحياة كالمجنون حتى لا تدفع ثمنًا أغلى، ودون أن تعرف أنَّك تعاقَب، ولمَ تعاقَب هكذا، بل أن تتحرَّق شوقًا إلى العقوبة كما يتشوَّق الإنسان إلى السعادة، هذا يعني أنْ تكون حيوانًا مفترِسًا، فإذا كانت الطبيعة كلُّها تَدفَع إلى الافتراس، فإننا نفهم ضرورةَ ذلك كي ننال الخلاصَ من لعنة الحياة، ونفهم أنَّ الوجود يُرينا أخيرًا مرآة، عندما ننظُر فيها لا نجِدُ الحياة عديمةَ المعنى، بل تُظهر لنا أهميَّتها الميتافيزيقيَّة. ولكنْ فلْيتمعَّن المرءُ جيدًا: أين ينتهي الحيوانُ المفترس — هذا القِرد الدمويُّ الضاري المتوحِّش الذي يسمِّي نَفْسه إنسانًا — وأين يبدأ الإنسانُ الأرقى؟ هل يحدُث ذلك عند الذي يتجاهل جهنمَ المغارة المنفيِّ فيها؛ الذي لا يقع صريعًا لوَهْم الاعتقاد بأنَّ الظِّلال ظِلال أعدائه، لا ظِلاله هو؟ ذلك الذي يمزِّق الحجاب الرقيق الذي تختفي الحقيقة خلْفَه؟ إنَّ هدف الإنسان هو أن يكون عدوًّا لذاته؛ الإنسان وظلُّه شيءٌ واحد. مَن يدرك هذه الحقيقة، يربح العالَم، إنَّه يُعيد للإدارة المعنى. سيِّد العالَم أنا. في الضوء الساطع الباهر أرى نَفْسي على كرسيِّي المتحرِّك أترك نفقًا لأدخل في مغارة، ومن النفق المواجِه لي أُقابلني، كلانا له يدانِ اصطناعيَّتان تنتهيان برشَّاشَين آليَّين، لم يعُدْ هناك إمكانيةٌ للنقش على الجدار، كلٌّ يصوِّب الرشَّاش على الآخر، ونُطلق النار معًا في آنٍ واحد.
[عثر عمَّال المناجم على جثَّة المرتزِق في سفح جبل الجازهربروم ٣، ٧٩٥٢م، في منطقة كاراهوروم، على أحد المُنحدَرات. كان المرتزِق قد تدحرج مسافةً قدرها حوالي ١٥٠ مترًا على طول الصَّخر، وبيده الاصطناعية اليمنى نقَشَ كتاباته على الجدار وعلى الصخور الكبيرة التي — كما يبدو — اعتقدَ أنها جدار جبل الجازهربروم ٣ الذي ينحدر بشدَّة في المنطقة، أو جدران جبلٍ آخر. وجهه كُتلةٌ دموية. لا بد أنَّه كان أعمى. كما أنَّ أحد الجوارح (نسر، ابن آوى؟) افترس جزءًا من الجثَّة، ثم تركها. كان من الصعب فكُّ شفرة النُّقوش، لا سيما أنَّ اتجاه كلِّ النقوش تقريبًا — حتى في أنفاق الجازهربروم ٣ — سرعان ما أصبح من اليمين إلى الشمال بدلًا من الشمال إلى اليمين، أيضًا على الحائط المقابِل، ربما بسبب الكرسي المتحرِّك؛ ففي الظَّلام كان أسهل على المرتزِق أن يكتب هكذا. لا بد أنه واصَلَ النقش في الخارج، على المُنحدَر المليء بالدَّبش، على سفح الجازهربروم ٣، فهناك شريطٌ طوله ١٥٠ مترًا، من اليمين إلى اليسار، بحروف دقيقة، لا تكاد تُقرأ، بلا فراغ بين الكلمات، وبلا نقطة أو فاصلة. الجزء الختامي يؤكِّد دراساته الفلسفية السابقة، ويبدو أنَّه ذكرياته خلال فترة الدراسة، كولاج من أقوال أفلاطون (الدولة، مثال المغارة) ونيتشه (علم جينات الأخلاق، وشوبنهور مربيًا). بعد أن فقَدَ القدرةَ على التفكير، لم تبقَ له سوى الأقوال المأثورة. دون أن يريد شيَّد بناءً، ليس بناء الفلسفة، ولكنْ فلسفته هو. على كل حال، هذا هو ما نفترضه منذ أن عثرنا في جيمس تاون (أستراليا) بالصدفة على مكتبة، على ما يبدو مكتبة فيلسوف، وهي أهمُّ ما يكمل عمل شفجلر. (عدا دولة أفلاطون وأعمال نيتشه الكاملة ضمَّت المكتبة أساطير القرن العشرين لروزنبرج. ولأنَّ نيتشه وروزنبرج لا يأتي ذكرهما لدى شفجلر؛ فإنَّ البحث العلمي الحديث ينظُر إليهما باعتبارهما نثرًا فلسفيًّا مخترَعًا) ولكنَّ النقوش متناقِضة. إنَّ الوضع الصَّعب الذي ما زالت الإنسانية تعيش فيه بعد الحرب العالمية الثالثة لا يَسمح للإدارة أنْ تموِّل أكثر من فريقِ باحثين واحدٍ في منطقة صخور الجازهربروم. بعد فترةٍ قصيرة من انتهائها من عملها انهَارَ الجبلُ الصخري، لا بد أن المرتزِقة حفروا المغارات في معظم أجزائه؛ فانهَارَ. أمَّا لماذا كانوا يعتقدون أنَّهم في جبال الهمالايا؛ فهذا أمرٌ غير مفهوم. ليس لدينا من النقوش سوى نسخة. ويعتقد علماءُ مختلفون أنَّ النقوش كتبتها «نفسان». رقم ٦٠٢٣ ١٠ أس ٢٣ — الذي دوَّنه الأصمُّ الأخرس على الحائط — يمكن اعتبارُه عددَ لوشميدت، ٦٫٠٢٣١٠ أس ٢٣. وبالمناسبة، فإنَّ الفضل في إعادة اكتشاف هذا الرقم يرجع إلى النُّقوش. «النفس» الأخرى ستكون عندئذٍ الأصمَّ الأخرس. ويعتقد كنورهول وهوبلر وأرتور بول أنَّ هذا الأصمَّ الأخرس هو يوناتان. فهذا حفَرَ نقوشه أيضًا على الصَّخر. من اللافت أن ذِكره لا يأتي فيما بعد. حكتْ نورا «للعقيد» أنَّ إدينجر قد أعاد تشييدَ الرياضيات والفيزياء والفلك مع الأصمِّ الأخرس. «العقيد» كان يشغله سؤالُ العدو. ولكنَّ جزءًا من الكتابات تهتمُّ بمصير الإنسانية، وتربط هذه القضية ﺑ «الشموس»؛ من المستحيل أن يكون «العقيد» قد دوَّن هذا الجزءَ أيضًا. باحثون آخرون، مثل شتيرنكنال ودو لا بودر وتايلهارد فون تسيل، يُشيرون إلى أنَّ «إدينجر» لا يُذكر في أرشيف الإدارة، وأنَّ الكتابات نوعٌ من الحلم الذي اخترعه العقيد؛ فهو — في وضعه اليائس — قام بعملية انقسامٍ للذَّات، إلى مرتزِقٍ فاعل وآخرَ مفكِّر. بالإضافة إلى كلِّ ذلك، علينا أنْ نلاحظ أننا لا نعلم شيئًا ملموسًا عن أوروبا الزائلة؛ إذ لم تبقَ منها سوى الموسيقى. إنَّها إنجاز تلك القارَّة. كما أنَّ لحنَ «أيها الآتي من الفجر الوردي» ما زال محفوظًا. ولكننا نشكُّ في أنَّهم استمعوا إلى هذا اللحن على الموجة القصيرة من راديو قام أحدُهم بصُنعه عشوائيًّا؛ لقد كان الرَّجُل معروفًا بسُكرِه المُزمِن.].