مُكافَحَةُ الدُّخَلاء
١
وظهر طرازٌ جديد من السُّفُن الشراعية على البحر المتوسط في زمن الرومان، ظهرت الأَشْرِعةُ المُنْحَرِفة، المسماة بالأشرعة اللاتينية أيضًا، والتي تُنْصَبُ على ثلاث صَوَارٍ، ثم جاء العربُ فكانوا أولَ مَن استعمل المتفجرات قاذفين ضَرْبًا من القنابل باليد أو بالآلة فكانت تُصفِّرُ إذا ما سقطت في الماء، وتُسَاقُ سُفُن البحر المتوسط بالأشرعة والمجاديف مدة عشرة قرون.
وكان أولُ ظهورٍ لباخرةٍ مجهزةٍ بدواليبَ في سنة ١٨٤٠، ويتطرق الخطأ إلى الخبراء، الذين لا يصدر غيرُ كبير سوءٍ عنهم كما في أيامنا، حَوْلَ ما للاختراع الجديد من قيمة سِحْرِيَّةِ، ومن ذلك ما حدث حَوالَي سنة ١٧٨٠ من عزم إنكلترة أن تُنْشئ أولَ مركبٍ حديديٍّ فصَرَّح الخبراءُ بأن الحديد هو من الثِّقَل الكثير ما لا يعوم معه كما أنه يؤدي إلى انحراف إبرة البَوْصَلَة، ويبدو أصحابُ الغاب وتجار الخَشَب من ذوي الوطنية فينشرون أغانيَ وقصائدَ على «أسوار إنكلترة العجوز الخشبية»، ومع ذلك فقد ثبت أن السُّفُن الحديدية أقلُّ ثِقَلًا من السُّفُن الخشبية، ولما مَرَّت سِنُونَ أُخَرُ ظهر للفولاذ من الفوائد ما هو أعظم من ذلك.
وقد أثار تجهيزُ أولِ باخرةٍ بمُحَرِّكٍ احترازًا عامًّا.
وتَبْرُز المَدْخَنةُ بين الأَشْرِعة، وتظهر الأُسطوانةُ السوداء بين الصواري شيئًا مضحكًا، ومما كان يحدث في بعض المرات أن تَلْبُدَ خمسُ مداخنَ قصيرةٍ حُمْرٍ بين ستِّ صوارٍ عاليةٍ على فواصلَ متساويةٍ، فيزيد تضادُّ هذا المنظر بالدواليب التي تدور بلا جُهْد، ويَحْمِل منظرُ هذه السُّفُن في النقوش المُلَوَّنة على تَمَثُّل بناتٍ عجائزَ لابساتٍ شالاتٍ وقُبَّعَاتٍ مُصَنَّعَةً مجاوزاتٍ رَدْهةَ رَقْصٍ أمام حُضورٍ ساخرين.
وقد تَحَوَّل رسم السفن بتقدم الفن، كما تَحَوَّل رسم السيَّارات بعد حين، وذلك أن أمريكيًّا وضع في المركز، منذ مائة سنة، لَوْلَبًا كان اختراعُه قد أُدْرِك في بلادٍ أخرى، وكان هذا من أهمِّ الاختراعات في إنشاء السفن، وكان هذا من الحُظْوَة كالمِجْداف الأول وكالباخرة الأولى، وكان اللَّوْلَب محلَّ سُخْرِيَة الخبراء في البُداءة، وكان أسودُ يومٍ عرفته آلهةُ الرياح لدى الأغارقة، وهي مما يمكن مشاهدته على بُرْج أثينة، هو ذلك اليوم الذي جرُؤ السُّيَّاحُ فيه على الركون إلى البخار من دون الأشرعة، وتَشْعُر هذه الآلهة بما وقع من ازدرائها فتنتقم لنفسها من زَهْوِ الآدميين بإرسالها إلى القعر كثيرًا من هذه السُّفن المختالة الخالية من الأشرعة.
ومع ذلك فإن الآدميين وُفِّقُوا بالتدريج لإنشاء مُحَرِّكاتٍ أصغرَ مما كانت عليه وأقوى فزادوا بذلك طاقة السفن، وما كنت ترى حتى سنة ١٨٩٠ غيرَ واحدٍ في المائة من السفن تزيد حُمُولَتُه على ثمانية آلاف طُنٍّ، وتُزَاد الأبعادُ بسرعة فيُبْنَى الآن من السفن ما تَبْلُغ حُمُولتُه ثمانين ألف طن، وكانت السفن الشراعية والسفن البخارية تتساويان عَدَدًا تقريبًا حَوالَي سنة ١٨٨٠، ثم أخذ عدد الأولى ينقُص سريعًا كخَيْل العَربَات، وبعضُ الأغنياء الغريبي الأطوار وَحْدهم هم الذين يُصِرُّون على الطَّوَاف في البحر المتوسط في يُخُوتِهم الشراعية المُجَهَّزة بمُحَرِّكاتِ دِيزل، وذلك كما لو كانت أُخْرَيَات العَرَبات في مدخَل الحديقة المركزية بنيويورْك تُجَهَّز بُمحَرِّكاتٍ مساعِدة، وأما السفن الشراعية الكبيرة القديمة التي يتعلم فيها تلاميذ المدارس البحرية الصِّغارُ أمورَ المِلاحة فتشابه سفنَ الأزمنة الغابرة.
وأدى إنشاء قناة السويس إلى زيادة اتساع السفن في البحر المتوسط، وظلَّت المِلاحةُ في البحر المتوسط حتى سنة ١٨٧٠ ضربًا من المشاريع الداخلية، فكان أهل السواحل يسافرون بحرًا كما كان الفنيقيون والأغارقة يصنعون بين شاطئٍ وآخرَ، ومن النادر أن تجد بينهم مَن كان يَجْرُؤ على المغامرة في البحر المحيط، فلما أسفرت قناة السويس عن فتح ساحل الجَنوب صار صاحب كلِّ مركب يحاول أن ينتقل سريعًا في البحر وأن يستفيد من تجارة الشرق بعضَ الشيء على الأقل، ومن هنا كان الحافز إلى إنشاء سفنٍ أضخمَ مما في الماضى، وهذا إلى أن الإنكليز كانوا يَشُقُّون عُبَابَ البحر بأكبر سفنهم، وتُفِيقُ المرافئُ القديمة، التي كانت موانئَ عالَميةً ما عُدَّ جبلُ طارقٍ آخرَ الدنيا، عن حياةٍ جديدة رغيدة وتصبح مرافئَ بحريةً عظيمةً وَفْقَ روح القرن العشرين، وهذه هي حال مَرْسيلية القائمة منذ خمسة وعشرين قرنًا، وهذه هي حال نابل وجِنوَة والجزائر وبرشلونة، وقد أُنشئت سفنٌ كَثُرَ عددُها في مصانعَ زادت شيئًا فشيئًا، ولم تَلْبَث قدرةُ السفن العالمية أن جاوزت عشرة ملايين طن.
وقد خُدِمت هذه المرافئ، التي كانت مراكزَ وصلٍ بين الطرق الرومانية ثم الطرقِ القومية، بالخطوط الحديدية الجديدة التي تَصِل إليها رأسًا، وبَدَا أولُ نقلٍ للسِّلَع الشرقية من سفينةٍ إلى مقطورةِ خطٍّ حديديٍّ له من الشأن في تاريخ الإنسان ما لنظام القنوات الأول المصريِّ، وصار يمكن مسافرًا مريضًا أو طالبَ راحةٍ حَوالَي سنة ١٩٠٠ أن يركب للمرة الأولى، ومن غير ضرورةٍ إلى خلع خُفِّه على ما يُحتمل، مقطورةَ نومٍ بباريسَ فينتقلَ منها إلى سفينة ويجاوزَ طريقَ بِرنْدِيزِي بخُطْوَةٍ ويداومَ على السفر برًّا حتى شَنْغاي، وهكذا يصبح البحرُ المتوسط بعد الآن ممرًّا بحريًّا صغيرًا لرِحْلةٍ طويلة من خلال العالم.
واليومَ يَقْطَع الصحراء، بفضل الفنِّ الحديث، أنبوبان آتيان من حقول النِّفْط في العراق، ويجري البترولُ من الآبار إلى الأنابيب ليخرج ثانيةً في مرفأ سوريٍّ بعيدٍ ألفَ كيلومتر ويصبَّ في صِهْريجٍ واسع فيُنْقَل منه إلى خَزَّانات السفن الكبرى بأنابيبَ أخرى أصغرَ من تلك، ويسيلُ البترول إلى هذه الخَزَّانات بالمِضَخَّات آليًّا. وإذا ما نُظِرَ إلى الفوائد الفنية نظرًا عامًّا؛ أي إلى ما للقوة الدافعة من فعلٍ بالغٍ وإلى اختصار أربعة أخماس زمن الرحلة وإلى اقتصاد تسعة أعشار اليد العاملة، وُجِدَت أقلَّ شأنًا من الفوائد الاجتماعية التي اكْتُسِبت بهذه التحولات. وما كان من استبدال النِّفْطِ بالفحم يُعَدُّ حادثًا اجتماعيًّا مشابهًا لنظام المصانع الحديث أو للتدابير التي تَهْدِف إلى حماية النساءِ والأولاد، وما كان من استعمال الفحم في القرن التاسعَ عشرَ لتسيير المُحَرِّكات للمرة الأولى أثار احتجاج رَبَّات البيوت لتلويثه ثيابَهن، وأما اليومَ فيمكن باخرةً تَجُوب البحرَ المتوسط أن تظلَّ بيضاءَ كالإوَزَّة، كما أن المَلَّاحين الذين يَصُبُّون الماء من دِلائهم على سطح المركب صباحًا لا يَروْن غيرَ غَسْل أيديهم من الغُبار.
ووقع حادث ثالث ساعد على تغيير منظر السواحل بين أول استعمالٍ للبخار وأولِ استعمالٍ للبترول، وذلك أن مَنْ كان منذ خمسين عامًا يدنو من ميناءٍ ليلًا لم يُرْشَد بغير إشارةٍ لامعةٍ مترجِّحةٍ ببطءٍ، وكان كلَّما تقدَّم أمكنه أن يُبْصِر على الشاطئ نور صَفٍّ من المصابيح الكامدة.
وقد حَوَّل نورُ الكهربا منظرَ الشواطئ والمرافئ الخارجيَّ تحويلًا تامًّا، ويكون الفرقُ أوضحَ كثيرًا إذا ما نُظِر إليه من الساحل.
وقد تلَقَّت أمريكةُ قوةَ النُّورِ المُبْدِعةَ من أوروبة، فرَدَّتها إلى العالَم القديم مرتين على شكلٍ عجيب بواسطة جِفِرْسُن وإدِيسنُ، ولا يُقاس ما حَقَّقته أمريكة في أمورٍ أخرى بما أتَمَّه هذان الرجلان، فقُومُوا ذاتَ ليلةِ صيفٍ بنزهةٍ على زورقٍ بخاريٍّ في خليجٍ بالبحر المتوسط لتَرَوْا، على ما يُحتمل، منحنًى ساحليًّا منسجمًا ممتدًّا في الظلام بغتةً على أثر استدارةٍ قصيرة ولتسمعوا صُراخًا، وتتعود عيونكم نورَ الكواكب مقدارًا فمقدارًا، وتبصرون شبح الجبل، وإنكم لكذلك إذ تَرَوْن استنارة استداراتِ الشاطئ من جديدٍ، وهنالك تدركون أن سكان سواحل البحر المتوسط لم ينتفعوا، منذ أرشميدس والبَوْصَلَةِ العربية، باختراعٍ انتفاعَهم بالنور الكهربيِّ.
وكان أولُ عهدٍ لابن البحر المتوسط باللاسلكيِّ في خليج جِنوَة وسبيزْيَة، وما اتفق لمَرْكُوني ولدُلِسِّبس وللمهندسين الذين أنْمَوْا قوةَ البخار وقدرةَ البترول المُحَرِّكةَ يُلْقِي الدَّهَشَ في تِمسْتُوكْل وقيصرَ، ونابليونَ أيضًا، فيجعلهم يأسفون على جهل زمانهم لهذه الاختراعات.
ومع ذلك فإن وجهَ الطبيعة على البحر المتوسط لم يتغير في القرن العشرين بالبترول، ولا بالنور الكهربيِّ، ولا باللاسلكيِّ، تَغَيُّرَه بالطائرة في زمن الحرب وزمن السَّلْم.
وكانت الباخرةُ وحدَها واسطةَ الاتصال بين الغرب والشرق مع إمكان النزول إلى الموانئ، وأما اليومَ فيمكن أن يُذْهب من باريسَ إلى بغدادَ في عُشْرِ المدة التي كانت تقتضيها هذه الرحلة من غير أن يُمَسَّ البحر، ولا تزيد المسافة بين الشواطئ المتباعدة على بضع ساعات.
واليومَ أخذت الطائرات تَنْقُلُ السِّلَعَ نقلًا متزايدًا فضلًا عن المسافرين، فخَسِرَت قناةُ السويس، التي بذلت الأممُ الحديثة من الجهود في سبيل إنشائها ما بذلت، قسمًا من قيمتها، واليوم يتدرج البحر المتوسط إلى فَقْد شأنه العالميِّ الذي كان قد استردَّه منذ نصف قرن.
وتُثبت الحربُ الحاضرة مقدارَ ما يَخْسَرُه البحريون الحربيون من شأنهم، وتَمَّحِي القواعد البحرية والمرافئ البحرية وراء القواعد الجوية والمرافئ الجوية، حتى إن رودس وقبرس والسويس، وجبلَ طارقٍ أيضًا، عادت لا تُعَيِّن مصيرَ العالَم القديم، ونرى البحر المتوسط يتحول إلى بحيرةٍ رويدًا رويدًا.
٢
إذا ما قرأ الأمريكيُّ في بلده البعيد تاريخَ أوروبة الحديثَ وتاريخَ حروبها هَزَّ رأسه مبهوتًا سائلًا: هل تَصِفُ القصةُ مجانينَ أو أولادًا يتنازعون حَوْل لُعْبَةٍ أو قطعة من الحَلْوَى؟ لقد كَلَّفت البلقانُ الحقيرةُ الواقعةُ شمالَ بلاد اليونان، والتي اقتُتِل في سبيلها أربعَ مراتٍ من السنين الستين التي انقضت بين حرب القِرِم والحرب العالمية الأولي، بنى الإنسان حياةَ مئات الألوف من الناس مع عَطَلِها من الحضارة والتقاليد، وهل نشأت هذه المذابحُ عن خصوماتٍ دينية أو عن ثوراتٍ اجتماعية أو عن مكافحةِ رِقٍّ لا يُطاق؟
يوجد شيء من ذلك، ومع ذلك فإن فِتَن المقدونيين ورغبةَ الصرب في الحرية وعزمَ البلغار على الاستقلال وشوقَ أهل رومانية إلى الوحدة الإقليمية أسبابٌ غيرُ كافيةٍ لإثارة مثلِ تلك البَلْبَلَات، وكان أقسى وجوه الاضطهاد قد خَفَّ بعد الثورة الإغريقية، وما كان من إقامة برلمانات وحكومات شعبية وكنائسَ قومية قد أحدث ضربًا من الوَهْمِ حَوْل الحرية في روح العصر الجديد، وما كان من عَطَل هذه الشعوب البلقانية من ماضٍ عظيم كما للأغارقة والسويسريين لا يجعلها محلَّ اكتراث أحد، وما كان من هذه المنازعات حَوْلَ قطعة أرضٍ في بلدٍ كئيب حادثٌ يمكن أن يظلَّ غيرَ ذي خَطَر، أن يظلَّ غيرَ ذي صَدًى كالأنباء التي تنتهي إلينا عن التِّبت أو أُرُوغْواي، مع عدم بحثٍ في عالَمٍ مُوَحَّد بعدُ.
وقد انتهت تلك الحروبُ؛ أي حربُ القِرِم (١٨٥٤–١٨٥٦) والحربُ الروسيةُ التركية الثانية (١٨٧٦–١٨٧٨) والحروب البلقانية (١٩١٢-١٩١٣)، بتغيراتِ حدودٍ في البلقان، بتغيراتٍ قصيرة الأجل فلا يبالِي بها غيرُ المؤرخين مع أنه لم يَكَدْ يَمُرُّ عليها قرنٌ، ولم يُسْفِر مؤتمرُ برلينَ الذي أبطل نصفَ الفتوح في تركية عن قرارٍ ذي بال، وإن شِبْه جزيرة البلقان الوحشية الجبلية المضطربة دومًا والتي أحدثت في أيامنا ضجَّةً كبيرةً في البحر المتوسط والتي أنتجت قِيَمًا غيرَ دائمة، وإن وطنَ تلك العروق والشعوب الوثيقةِ القُرْبَى التي كانت قد قضت حياةَ بداوةٍ فتحولت إلى مقاتِلةٍ، ولكن مع كونها مؤلفةً، في الغالب، من فَلَّاحين أميين وقليلٍ من الزعماء الطامعين، وإن شِبْهَ الجزيرة هذه مع جميع منازعاتها حَوْل الحدود، قد جلبت إلى الروح أقلَّ مما جلبه تاريخُ مدينةٍ واحدة من مدن إيطالية أو جَنوب فرنسة، والواقعُ أن انتصارات الألبان أو أهلِ الجبل الأسود كانت غيرَ ذاتِ قيمةٍ للإنسانية.
وكان العاملُ التاريخيُّ وراء جميع هذه المنازعات هو اصطدامَ النُّظُم الأريستوقراطية الكبيرة الأخيرة الثلاثة التي كان يحاول كلُّ واحدٍ منها، على وجهٍ مباشر أو غير مباشر أو بواسطة مُوَسَّطِين، أن يُزِيح الآخَرَيْن من البلقان، وكانت روح الثلاثة تشابه روحَ الآلهة الأُوميرية التي أَوْحَت إلى روح محاربي تروادة، وإنما الفارقُ في أن الأمر عاد غيرَ خاصٍّ بآلهةٍ، بل خاصٌّ بثلاث جماعات هَرِمة، أي بروسية والنمسة وتركية، ولم يَكَدْ يتحولُ شيءٌ في طِراز الحكم، الذي هو من طُرُز القرون الوسطى، في هذه البلاد الثلاثة التي كانت نُظُمها مناقضةً لمبادئ الثورات الكبرى، وقد انساق آل رُومَانُوف وآل هابِسْبُرْغ وآلُ عثمانَ مع ملايين الرعايا وَفْقَ مقاييسهم الخاصة في غضون الأزمنة الحديثة غيرَ مبالين بحوادث الغرب.
وكانت هذه البلادُ الثلاثة متصلةً بالبحر المتوسط، فأما إمبراطورية القياصرة فتجاوره بأملاكها الواقعة على البحر الأسود، وأما إمبراطورية آل هابسبرغ فتجاوره بتِرْيِسْته وفيوم، وأما الإمبراطورية التركية فلم تَزَلْ إذ ذاك مالكةً نصفَ شواطئ البحر المتوسط تقريبًا ما دامت سورية ومصر ولُبنان تابعاتٍ للسلطان في سنة ١٩١٢، ولم يكن السلطان إذ ذاك خاسرًا لغير شاطئ شمال أفريقية الممتدَّ بين مراكش وتونس، وكذلك كان السلطان يملك اسمًا ما بين أدرنة وأرضروم، وما بين كوستنجة وأُسوان، وما بين بغداد وصحراء ليبية، ومع ذلك فإن هذه الحكومة كانت مُحْتَضَرَةً فاسدةً منذ زمن طويل، فلم تكن لتستند إلى بحرية قوية ولا إلى مالية غنية ولا إلى روح إدارية، وكان لهذه الدولة دِعامةٌ بالجيش والدين وحدهما؛ أي بالقوة والتعصب، ولم يَزَل الوضع كما كان عليه أيام (السلطان) محمد ووارثيه.
ولم يكْتَفِ قياصرةُ روسية بإمبراطوريتهم الواسعة، ولم يَنْفَكُّوا يوجِّهون أبصارهم إلى المضايق مع أن روسية لم تُهَدَّد من هذه الناحية قَطُّ، وقد انتحلوا أمرَ حماية أمم البلقان التي تَمُتُّ إلى الروس بقرابة العِرْق والأرثودوكسيةَ، وهم لم ينقطعوا عن إثارة الفِتَن آملين أن تفِيدَهم في الاستيلاء على الآستانة. وبينما كانت الأمم الغربية تُعْنَى بالمسائل الاجتماعية العظيمة وباستعمار أفريقية، كانت هذه الإمبراطورياتُ العريقةُ في الرَّجعية تتخاصم مُبَدِّلةً محالفاتِها دومًا، وكان من نتائج هذا أن تُقَدِّم رعاياها إلى المَجَازِر من غير أن تستطيع ترغيبَهم بعواطفَ ومنافع، وكنت لا ترى في ذلك الزمن من الشوق إلى الحرية في غير أمم البلقان المُزْدَرَاة والمُبْتَغاة معًا.
وإذا رَجَعْتَ البصرَ إلى حروب البلقان الأربع لم تَجِدْ فيها من الأباطرة أو القُوَّاد أو السياسيين مَنْ هم عِظَامٌ، وابحَثْ في حياة الإمبراطور فرنسوا جوزيف وفي حياة قيصريْ روسية الأخيريْن وفي حياة السلطان عبد الحميد، تَرَ أن بعض هؤلاء الملوك كان ضعيفًا وأن آخرين منهم كانوا طاغين غادرين، وكان هؤلاء الأربعة يَمْلِكون أَرَضين كثيرةً وكانوا يطلبون المَزِيدَ مع ذلك، وكانت هذه الحكومات تَحُوك الدسائس في الخارج بدلًا من جعل دُولِها عصريةً، وكان الإمبراطور النمسويُّ والقيصر الروسيُّ من شِدَّة التباغض ما لا يشتركان معه في مهاجمة تركية واقتسام إمبراطوريتها كما حَلَمَا به، وكانت إمبراطورية كلٍّ منهما من كثرة المؤامرات ما أدى إلى شَهْرِ حروبٍ وما أَسفر وقت السَّلْمِ عن فتَنٍ بين الأمم. وإذا ما وَجَب علينا، مع ذلك، أن نذكر أمةً بلقانية أكثر بروزًا من غيرها ببسالتها وحَمِيَّتها القومية، وجدنا الصربَ الذين يتألف منهم مُعْظَمُ ما يُدْعَى اليوم صقالبة الجَنوب، أي اليُوغُوسْلاف، ويلوح أن أقلَّ أمراء البلقان قوةً أكثرُهم أهلًا للالتفات، فقد استعدَّ ملكُ الجبل الأسود الجنديُّ الصَّيْرَفيُّ الشاعرُ الصَّنْديدُ كأبطال الروايات الفِينِّيَّة الهزلية، مِيكِيتَا، لاعتصار مالٍ من الدول الكبرى ولتزويج بناته الحِسَان بوارثي البَلَاطات الأوروبية العظيمة، واليوم ترى إحداهنَّ مَلِكةَ إيطالية.
وكان اكتراث الروس للبحر المتوسط أقلَّ من اكتراث الترك له، وإذا ما نُظِرَ إلى الأمر من حيث اتِّقَادُ الذهن فاسْتُثْنِيَ فردريكُ شُوبنُ الآتي من ناحية البحر المتوسط لا من الشرق، وُجِدَ اقتصارُ الروس على بضعة آلافٍ من المُثَقَّفين ووُجِدَ الروسُ قومًا من الفَلَّاحين المحدودي الذكاء والعابدين للقيصر كإلهٍ والمُضَحِّين بأنفسهم في سبيله. وعلى العكس لم يَكُفَّ التركُ عن القيام مدة ثلاثين سنة بما يثير ما لا حَدَّ له من الفِتَن في سورية ومصر وألبانية وجزيرة العرب وكريد، ولم تُكَلَّلْ هذه الفِتَنُ بالنجاح في غير البلقان حيث كان الروسُ والنمسويون يتناوبون إمساكَ الدُّوَيْلاتِ الجديدة في أحواض العِمَاد، ولم يكن هؤلاء الحُماة ليَسْمَحُوا بإقامة جُمهوريات لِمَا تنطوي عليه الجُمهورياتُ من بذور الخطَر نحو الإمبراطوريات المُسِنَّة، وهكذا أُنْعِم على البلغار والرومانيين والصرب بملوكٍ حُفِظُوا حتى بعد الحرب العالمية الأولى مع أنه جُدِّد تنظيم بقية أوروبة بين الدَّوْرَيْن، وقد حافظ هؤلاء الملوك الصِّغار على عروشهم مدةً أطولَ مما حافظ حُمَاتُهم ما دامت روسية والنمسة أَسقطتا أُسرَهما المالكة.
وقد أَدَّت حروب البلقان، التي هي مُقَدِّمةُ الحرب العالمية الأولى، إلى ضعف تركية، ثم قد أدت هذه الحروب إلى نزاعٍ بين المُؤْتَمِرين طمعًا في الدولة العثمانية، وزاد هذا ما كان يسود الدول العظمى من تَوَتُّرٍ حول موضوع الآستانة، وعَجَّلَ هذا وقوع الصِّراع، وتُوضَعُ سلسلةٌ من المعاهدات فتُغْلَق المضايق أمام جميع السفن في البُداءة، ثم تُفْتَحُ للجميع، ثم تُفْتح وَفْق بعض الشروط، ثم تصبح إحدى هَدَفِي الحرب العالمية الأولى الرئيسيْن في البحر المتوسط، والواقعُ هو أن مَنْ يَمْلِك المضايقَ والسويس يكون في وضعٍ أحسنَ من وَضْع مَنْ يُمْسِك رِينْس أو وارْسُو، والبحرُ المتوسط هو الذي سَبَّبَ حدوثَ محالفات حاسمة، سَبَّبَ تحالفَ إيطالية والحلفاء وتحالف تركية وألمانية.
وعلى البحر فُصِلَت الحروب العالمية أو فُصِلَت بسبب البحر على الأقل.
٣
حاولت كلٌّ من الإمبراطوريات الثلاث المُنحَطَّةِ أن تقوم، قبلَ انهيارها في الحرب العالمية الأولى، بأعمالِ يأسٍ إنقاذًا لنفسها مُضَحِّيَة بروح الزمن، وذلك كالجاني المتهم الذي يحاول أن يُبَرِّئ نفسه بيمين كاذبة، ومن ذلك أن إمبراطور النمسة ظنَّ أنه يحُول دون ارتداد الشعوب الساكنة ضِمن حدود الإمبراطورية بالإذن في حرية استعمال لغات هذه الشعوب، ومن ذلك أن كلًّا من القيصر والسلطان مَنَح شعوبه دستورًا مزعومًا بفعل الحوادث الثورية، وذلك في سنة ١٩٠٥ وسنة ١٩٠٨، ولكن مع عدم كفايةٍ في العمل وقلةٍ في الإخلاص، وكان الإمبراطور والسلطان من المَشِيب ما لا يتنزلان معه عن امتيازاتٍ تَعَوَّداها، وكان القيصر عاجزًا عن اتخاذ قرارٍ حَوْل هذا الموضوع. ومن علائم الانحطاط الأخرى ما نذكره من انتحار ولي عهد آل هابسبرغ نتيجة صلاتٍ غرامية، وما كان من المزاج النَّزْفِيِّ في كثير من أبناء الأسرتين الروسية والإسبانية ينطوي على تحذير رمزيٍّ لهما.
ويَسْلُك زعماء تركية الفتاة سبيلَ العنف، ولكن مع روحٍ إنشائية، شأنُ بلاشِفَةِ الرُّوس بعدهم، ويَنْشُرون في أثناء كفاحهم مرسومًا يقضي على حياة ألوف الحيوانات فيُعَدُّ أفظعَ حادثٍ وقع في البحر المتوسط مع غِنَى هذا البحر بالوقائع والأوبئة والزلازل، فقد جُمِعَ ذات يوم ما في شوارع الآستانة من الكلاب السَّاكعة عِدَّة قرون، وتُوضَع في سفينة ويُؤتى بها إلى جزيرة قَفْرٍ في بحر مرمرة حيث يأكل بعضُها بعضًا، ويُرْجَع إلى هذه الجُزَيِّرة بعد بضعة أسابيع فلا يُرَى فيها غيرُ عظام، ولم تنل الآستانة بذلك شيئًا من النظافة ما أُلْقِيَ عِبءُ إدارة الأَزقَّة هنالك على عاتق الكلاب، وكان هذا أولَ عملٍ فاشيٍّ في أوروبة مُؤَيِّدٍ للقانون الأدبيِّ الجديد الذي يَهْدِف إلى توطيد النظام بالظلم.
ولما أخذت الإمبراطورية التركية، التي كانت آنئذٍ أعظمَ دول البحر المتوسط، تَفْنَى بَدَتْ إيطالية وفرنسة وارثتيْن طبيعيتين لها، وتُبْصِر إنكلترة، التي هي أقوى من كلِّ واحدة من هاتين الدولتين بدرجاتٍ، ما ينطوي عليه اتفاقُهما العَرَضِيُّ من تهديدٍ لها فَوُفِّقت لفصل كلٍّ منهما عن الأخرى، وكان يُمْكِن قطبين سياسيين حقيقيين في باريسَ ورومة أن يَعْرِف إمكان ائتلاف «الأختين اللاتينيتين» وأن جهاد بلد كلٍّ منهما بنجاحٍ لا يكون إلَّا باتحادهما عند الخطر الأجنبيِّ، ومع ذلك فإن أمور أوروبة كانت تعاني الكثير من تخاصم بعض الأُسَر، وكان تنازع الأُختين وتحاسد الإخوة يَحُول دون وقوفهما حِيَال مطامع الأجنبيِّ.
وما قامت به إنكلترة من كفاحٍ وصولًا إلى سيادة البحر المتوسط ضِمْن الأحوال العالمية الجديدة يُعَدُّ موضوعًا أساسيًّا لتاريخ هذا البحر في عصرنا، كما يُعَدُّ مبدأً تقليديًّا من مبادئ تاريخ إنكلترة، وقد لاح حين إمكانُ تحالف الدول اللاتينية أو تفاهمِها على الأقل، وقد نشأ هذا الميل إلى الاتحاد عن إحدى المصائب، وذلك كما يقع في الأُسَر غالبًا، والمصيبةُ هي ما كان من إزاحة الدولتين من السِّبَاق الاستعماريِّ بأفريقية، وكانت إيطالية المستقرة بالبحر الأحمر تطمع في شمال أفريقية الشرقيِّ لتجعل منه مَعْقِلًا ضِدَّ إمبراطورية فرنسة الاستعمارية الناشئة في شمال أفريقية الغربيِّ، غير أن إيطالية أُصيبت بهزيمة ساحقة من قِبَل فِرَق إمبراطور إثيوبية في سنة ١٨٩٦.
وتمضي أربعُ سنين فيزحف الفرنسيون نحو النيل آتين من الغرب، ويُقْهَرُون من غير أن يخوضوا غمار معركة؛ وذلك لأن قائد المائة مَرْشانَ الذي هو من أحسن المستعمرين بأفريقية اضْطُرَّ إلى إنزال العلَم الفرنسيِّ الذي كان قد رفعه في القرية الزنجية، فاشودة (كُودُوك)، الواقعة على النيل الأعلى؛ وذلك لأن القائد الإنكليزيَّ كتشنر رجا منه بأدبٍ أن يَدَع المكانَ للعلَم البريطانيِّ.
وقد أسفر امِّحَاءُ فرنسة عن تقسيم أفريقية إلى مِنطقتين تقسيمًا سَلْمِيًّا، ثم كان الائتلافُ الوديُّ، ثم كان إخاءُ السلاح في الحرب العالمية الأولى، وقد قضى هذا التغيير بسيادة البحر المتوسط لنصفِ قرنٍ، فوافقت فرنسة على تأييد مصالح إنكلترة بأسطولها الخاصِّ، وحافظت إنكلترة على شواطئ فرنسة الشمالية في مقابل ذلك، وتجد إيطالية نفسها خارجةً عن هذه المصالحة، وتحاول إيطالية في أربعين سنةً أن تُزعزع الصداقةَ الفرنسية الإنكليزية التي تضمن سيادة البحر المتوسط باجتماع الأسطولين اللذين هما أعظمُ أساطيل أوروبة.
وتكاد تنجح ذات مرة، وتقتسم الدولتان الكبيرتان، فرنسة وإسبانية، مَرَّاكِشَ بعد مفاوضاتٍ دامت أعوامًا فأخذت إسبانية فاس وأخذت فرنسة مَرَّاكِشَ، وغَدَت طنجة دَوْليةً لكيلا يقيم أحدٌ حصونًا أمام جبل طارق، وهكذا تكون دولتان من دول البحر المتوسط قد انتحلتا حماية أُمة ثالثة.
وكان جِيُولِتِّي يدير أمور إيطالية إدارةَ المُدْرِك فلاحت له فرصةُ مقابلة الشَّرِّ بمثله فاستولى على طرابلس امتلاكًا لهذه الولاية التركية التي تُدْعَى اليوم لِيْبيَة، وكانت تركية الواهنةُ تَحْتَضِن انقلابَها في ذلك الحين، وكانت النمسة وأَلمانية المرتبطتان في إيطالية بحِلفٍ ثلاثيٍّ قد تركتا هذه الأخيرة تحتلُّ جزيرة رودس وجزائرَ الدُّودِيكانِز.
وبما أن ليبية واقعةٌ بين تونس الفرنسية ومصرَ نصفِ الإنكليزية وبما أن هذه الجُزُرَ واقعةٌ في الطرف الأقصى من الشرق؛ أي بجانب ساحل آسية الصغرى الجَنوبيِّ الغربيِّ، فإن إيطالية كانت، كما يلوح، متجهةً نحو البحر المتوسط الشرقيِّ تمامًا كاتجاه فرنسة نحو البحر المتوسط الغربيِّ، ومع ذلك فإن إنكلترة التي لم تكن مالكةً لأرضٍ على ساحل البحر المتوسط بَدَت في كلِّ مكانٍ من هذا البحر، وقد قُسِّمَ شمال أفريقية بين الدول الأوروبية حين انحياز تركية إلى جانب ألمانية سنة ١٩١٤، وسيؤدي هذا الحِلْف إلى ضَيَاعها عما قليل، ولم تُسْفِر الحربُ العالمية الأولى البالغةُ الخُطُورَةِ في البحر المتوسط بأسبابها ونتائجها عن أية معركة بحرية كبيرة؛ لأن جميع دول هذا البحر كانت في معسكر واحد خلا تركية التي أسطولها لا يستطيع الخروج وخلا النمسة التي ظلت محصورةً في شواطئ البحر الأدرياتيِّ الضيقة، وإِذا عَدَوْت معركة أُتْرَانْتَه التي وقعت سنة ١٩١٧ لم تَسْمَع للمدافع صوتًا غير الذي وقع أيامَ الحرب الأولى عندما شَقَّت بارجتان ألمانيتان رائعتا القيادة طريقًا لهما بين أساطيل الأعداء بعد كثير من المِحَن فطالبتا بالمرور من الدردنيل.
ولم يكن لها الحقُّ في المطالبة بهذا المرور ما دامت تركية محايدةً في ذلك الحين، غير أن زعماءَ تركية الفتاة القابضين على زمام الحكم آنئذٍ كانوا من خِرِّيجي المدارس الحربية الألمانية، وكانوا مُدَرِّبو جيوشِهم يهتدون بضباطٍ من الألمان، وقد حمل رجالٌ من ذوي الإقدام سلطانَ تركية وبرلمانَها على عَقْدِ حِلْفٍ تركيٍّ ألمانيٍّ في بضعة أيامٍ وعلى ترك البارجتين الألمانيتين تَمُرَّان من المضايق، وكان هذا العملُ من الجُرْأَة ما يُقَاسُ معه عَزْمُ شابين عاشقين على الفرار ثم اقترانُهما وجعلُ أبويهما تِجاه أمرٍ واقع، وما كان من وقوع هذا الزواج نتيجةَ نَفْحَةِ ريحٍ بين تركية وألمانية انتهى بطلاقٍ وانهيار بعد أربع سنين.
أجَلْ، إن ذلك القِرَان لم يُعَيِّن مصير الحرب، غير أنه أطالها كثيرًا، ولو كانت تركية من الحلفاء لاستطاع الحلفاء أن يساعدوا روسية ويقهروا الدولَ الوسطى سريعًا، ولم يكن الحِلْف الألمانيُّ التركيُّ نتيجةَ صداقةٍ تاريخية ولا نتيجةَ شعورٍ شعبيٍّ مفاجِئ، وإذا كان قُوَّادُ الألمان قد دَرَّبوا الجيش التركيَّ في سِنِي ما قبل الحرب فإن أمراء البحر الإنكليزَ دَرَّبوا البحرية التركية ومهندسو الإنكليز حَصَّنُوا الدردنيلَ، ولم تَعْرِف الحكومة التركية غير قسم من خطِّ بغدادَ الحديديِّ أنشأه الألمان، ولم يتمَّ هذا الخطُّ إلَّا وَفْقَ تصاميمِ إنشاءٍ إنكليزية، ومن ثَمَّ ترى الحِلْف التركيَّ الألمانيَّ لم ينشأ عن غير رغبة شرذمة قليلين من ضباط ثوريين لم يعيشوا إلَّا قليلًا بعد الهزيمة، ولم يكن هؤلاء الرجال، ولاسيما طلعت باشا وأنور باشا، غيرَ سَلَفٍ بارزين لطغاة الساعة الراهنة.
وتُهْزَم في ذلك الحين أقوى دولةٍ بحرية في العالَم من قِبَل أضعف دولة بحرية، فقد دَحَرَ التركُ، الذين لم يكونوا مَلَّاحين قَطُّ، الإنكليزَ في الدَّرْدَنيل دَحْرًا متصلًا وأكرهوهم على الرجوع نهائيًّا، وقد جعل ضِيقُ المضايق، حيث تتدانى القارَّتان تدانيَ ضِفَّتَي نهر البوتُومَاك، هذا الوضعَ أمنعَ من عُقَاب الجَوِّ، وقد قام الدليل بذلك مرةً أخرى حول قدرة مَوْقعٍ ملائم على الدفاع بقُوًى صغيرة ضِدَّ أسطول قويٍّ جدًّا، ولمثل هذا السبب دُحِرَ الرُّوس فيما سَعَوْا إليه من اقتحام المضايق من الشمال في قرون كثيرة كما دُحِر البندقيون في محاولاتهم دخولَ المضايق من الجَنوب.
وما قام به الترك من الدفاع عن بِزَنطة السابقة في معارك الدردنيل وغَلِيبُولي تلك يَدُلُّ على حُمْقِ كلِّ حرب أوروبية تجاه مصادرِ صِناعة السلاح الأوروبيِّ، وكان الإنكليز قد أَعَدُّوا المضايق للترك وسَلَّحُوها بمدافعَ من صُنع معامل كرُوب الألمانية، وقد ذَبَحت هذه المدافعُ نفسُها الإنكليزَ الذين حاولوا التقدم، وأغرقت بارجةً من أعظم بوارج العصر، وأنقذت العاصمة التركية، وقد حَبِط حصارُ البرزخ المزدوجُ بسبب ما أُبدي من رخاوةٍ في تنفيذ الخِطط التي هَيَّأَها تِشرْشِل، ولَمَّا ضُرِبت المضايق بالمدافع في سنة ١٩١٤ ظَنَّ الكثيرُ في العالَم بأسرِه أن الحضارة رجعت إلى الوراء ألفَ سنة، وأن الناس لم يزالوا في عصر حربِ تِرْوَادة، وكان قد أتى جيش من بعيد فيما مضى وحاصر قلعةً مدة عشر سنين، وكانت بقايا أسوار تلك القلعة صامتةً وحيدةً بين أشجارٍ مزهرٍة هنالك، ويزورها المؤلف حين وقوع المعركة البحرية الكبرى.
وكانت المدافع تَقْصِف بعيدةً، وكان أهل العاصمة يرتعشون حينما يَمُرُّ صَدَى قَصْفِها من خلال بحر مَرْمَرة حتى الآستانة، بَيْدَ أن هذا لم يكن غيرَ وهمٍ سَمْعِيٍّ، وكان الأسطول الروسيُّ يحاول أن يَشُقَّ طريقه في البسفور آتيًا من البحر الأسود، وكانت تُعَدُّ هزيمةٌ عظيمة للترك كما يلوح.
وكان الروس قد تَلَقَّوْا من الإنكليز في ذلك الزمن وعودًا قاطعة حول موضوع الآستانة مع أنهم كانوا قد أَقْصَوْهم عنها عِدَّة قرون، وكان بطرس الكبير قد قال بصوت عالٍ: «لا أحاول نَيْلَ أرضٍ، بل أحاول نَيْلَ ماءٍ.» ولم يَنْفَكَّ خلفاؤه يَحْلُمُون بقبة كنيسة أيا صوفية. أَجَلْ، صارت الآستانة مَسْرَحَ اعتراكٍ مرةً أخرى، أجَلْ، قاومت الآستانة ودامت المعركة، غير أن الترك والألمان لم يستطيعوا استغلالَ انتصارهم في البحر المتوسط، وهم قد دُحِرُوا عندما حاولوا اقتحام قناة السويس من فلسطين.
وكان لدى سياسي الإنكليز إصابةُ نظرٍ في كلِّ أمرٍ خلا ما وقع في بلاد اليونان، وكان لا بُدَّ للحلفاء من مساعدة بلاد اليونان بلوغًا لباب الدردنيل وقهرًا للترك في آسية الصغرى، وكان ملك اليونان على خلافٍ مع وزيره الأول فأدى هذا الخلاف إلى إِسقاط الملك. وكان الملك قسطنطين قد استولى على أَرَضين كثيرةٍ في ولاية عهده أو أمر بالقبض عليها، وكان شديد الإعجاب بالجيش الألمانيِّ وكان صِهْرًا للإمبراطور، كما كان يأبى أن يُمْلِيَ الإنكليز عليه وَضْعَه، ومع ذلك فإن الحلفاء كانوا محتاجين إلى حليف، لا إلى محايد، فأكرهوه على التنزل عن العرش، وكان ابنُ اليونان الحقيقيُّ الوزيرُ فِنيزِلُوس يشابه أُوليسَ بسجيته فيتصفُ بالسرعة والنشاط والجُمُوح ويخاطر مِقْدامًا، ويغادر أثينة سِرًّا، وينضمُّ إِلى كتائب الغزو في شمال اليونان، ويَظْهَر حاكمًا شِبْهَ رسمىٍّ، وتُذَكِّرنا مأساة آل الملك اليونانيِّ من غير ناحيةٍ بمأساة أسلافهم الأسطوريين، ولكن مع خُلُوِّهم من مثل سُوفُوكل ليجعلهم خالدين، ولَمَّا رَوَى مندوبُ جمعية الأمم الفرنسيُّ السامي هذه القصة بعد حينٍ صَرَّح برغبته في الفراغ من هذه الصفحة غير المُشَرِّفة كثيرًا في التاريخ.
ويظهر في الحرب العالمية الأولى مضيقٌ آخرُ منيعٌ مَنَاعة الدردنيل، ولكن الإنكليز هم المدافِعون في هذه المرة، وذلك أن جيشًا ألمانيًّا تركيًّا شَقَّ طريقًا له من خلال صحراء القدس متوجهًا نحو قناة السويس التي تقول القِصَّةُ إن موسى قادَ اليهودَ من محلِّها إلى الجهة الأخرى، وكان الإنكليز قد تَسَلَّطُوا على مصر منذ بدءِ الحرب ونصبوا خديوًا مواليًا لهم مع التصريح باستقلاله … تِجاهَ أنفسهم، وقد عَزَم الإنكليز، كالترك في الدردنيل، على إمساك قناة السويس بأيِّ ثمنٍ كان، والواقعُ أن القبض على الدردنيل كان يعني سقوطَ الآستانة واتصالَ بعض جيوش الحلفاء ببعض، وعلى العكس كان احتلالُ قناة السويس من قِبَل العدوِّ يعني سَدَّ طريق الحلفاء، ويلوحُ اليوم أن مثل هذا العمل يتوقف على العامل الجوِّي الذي كان غيرَ فَتَّاكٍ في ذلك الحين.
ولم يُمْكِن انتصار إنكلترة في فلسطين وسورية إلَّا لأن العرب انضمُّوا إلى إنكلترة في وسط الحرب، ويدلُّ ما بين الزعيمين العربيين، حسين باشا وابن سعود، من منازعات لا نستطيع بيانَها هنا على أن هذين الرجلين كانا مسلميْن تَقِيَّيْن، كانا خصميْن إذَنْ لفتيان الآستانة التُّرْكِ الذين كانوا قد ابتعدوا عن قواعد الدولة العثمانية الدينية بما تَلَقَّوْه من تربية أوروبية. أَجَلْ، إِن ثَوْرِيِّي العرب لم يكونوا أقلَّ ملاءمةً للعصر الحديث من ثوريي الترك، غير أن أبناء بلاد العرب الحقيقيين وَفَّقُوا بين سلاحيْ محمد: العِلْمِ الحربيِّ والإيمان.
وكانت الوهابية مذهبَ حَنْبلِيِّي الشام (؟)، وجَدَّ الوَهَّابيون مائةَ سنة لتنقية الدين القويم الذي يدافعون عنه بقوة السلاح، ولا جَرَمَ أنهم اقترفوا من الخطأ ما كانت مذاهب البحر المتوسط النصرانية قد اقترفته في اقتتالها بدلًا من أن تحارب عَدُوَّها المشترك، فقد انضمَّ المسلمون إلى الشعوب النصرانية الغربية قضاءً على أبناء دينهم في استانبول.
والواقعُ أن التعصب الدينيَّ الممزوجَ بالتعصب القوميِّ يُعْمِي الناس.
٤
لا عهد للبحر المتوسط بمثل هذا السقوط منذ خمسة قرون، وقد فتح الترك، بعد القسطنطينية، نصفَ ساحل البحر المتوسط كما فتحوا ما وراءه مع سرعة نجاحٍ وزيادةِ فلاحٍ، وقد صار جميع شرق البحر المتوسط وجَنوبه قبضةَ الترك في نهاية الأمر، ولما سقطت بزنطة، أو القسطنطينية، للمرة الثالثة في أواخر سنة ١٩١٨ انهارت إمبراطوريتُها في آسية وأفريقية نتيجةً لهذا السقوط.
نَعَمْ، غَيَّرَت البلادُ الساحلية الأخرى سادتَها في الأوقات الأخيرة، غير أن هذا التبديل المحدود زمانًا ومكانًا لم يتناول سوى أقسام صغيرة من الساحل، ومع ذلك فإن عالَمًا انكسر في هذه المرة بأشدَّ مما انكسرت به الإمبراطورياتُ الثلاثُ التي تكلمنا عنها آنفًا، وذلك أن روسية وألمانية غَيَّرَتا شكلَ حكومتيهما مع عدم تعديلٍ جوهريٍّ في منظرهما وحدودهما، وذلك أن النمسة قُسِّمَت مع بقاء أجزاء إمبراطورية آل هابسبرغ قبضةَ الشعوب الساكنةِ هذه الأملاك، وعلى العكس جَزَّأَت تركيةَ ثلاثٌ من الدول العظمى الأجنبية إلى ستة بلادٍ مع بقاء سيادةٍ ضيقةٍ لها، والجزءُ السابعُ من الإمبراطورية وحدَه هو الذي ظلَّ تركيًّا، وهكذا صار نفوذ الدول الغربية عظيمًا في القسم الشرقيِّ من البحر المتوسط ولا يزال كذلك حتى اليوم.
ولكمالٍ ما يكفي لخلوده بتحريره المرأة من دوائر الحريم؛ وذلك لأن هذا العمل أكثرُ ثوريةً من كلِّ ما أُتِمَّ في حَقْل تحرير المرأة بالغرب، فقد تَحَوَّلت بفضلِ كمالٍ هذه المخلوقاتُ المبرقعات، اللائي لم يكنْ لينبغيَ لهن أن يُبْدِين أفواههنَّ ولا رءوسَهن ولا أعناقَهن، إلى فَتَياتٍ عصريات يَسْبَحْن في البِرَك العامة، وهكذا يكون كمالٌ قد قضى في سنينَ قليلةٍ على نظامٍ اتُّبِعَ عِدَّةَ قرون، وهكذا يكون نساءُ أُمةٍ مؤلفةٍ من خمسةَ عشرَ مليونًا من الآدميين قد جِيءَ بهنَّ من عُزْلتهن إلى نور العصر الجديد، وفي الوقت نفسه حَظَرَ هذا الجَبَّارُ المُنَوَّرُ، هذا المشترعُ الذي يُذَكِّرُ الإنسانَ بمحمدٍ في عنايته بالصحةِ العامة، الزواجَ المُبَكِّر الذي كان شائعًا عند بلوغ البنت اثنتي عشرةَ سنةً من عمرها، كما أنه حَظَر تَعَدُّد الزوجات.
ويَتَخَلَّى كمالٌ بالتدريج عن سلطاته المطلقة في سبيل برلمانٍ لا ينال حقوقَه ولا يُوَسَّع نطاقُها إلَّا بنسبة تقدُّم التربية العامة بين شعبٍ كان مُعَبَّدًا، ويُثْبِت كمالٌ دهاءَه وإِقدامَه بعدم حلوله محلَّ الخليفة بعد أن خلعه، ولا يُقَاس هذا الخَلْعُ بخلع أحد البابوات عَرَضًا كما قد يُفَكِّر فيه طغاتنا اللَّانصارى. والواقعُ أن الخلافة التي قيلَ بها بُعَيْدَ محمدٍ، كما قيل بالبابوية بعد يسوعَ والقديس بولس، قد ظَلَّت مع القرون مرتبطةً دومًا في سلطة الإسلام الزمنية، ولم يحدُث قَطُّ أن انغمرت في منازعاتٍ كالتي اشتدت في الغرب في القرون الوسطى، وكلُّ ما في الأمر هو أن الرئيس الزمنيَّ والرئيس الروحيَّ شخص واحدٌ في الإسلام، فإذا ما غَيَّرَ الخليفةُ عاصمته أحيانًا كان ذلك نتيجةَ نقلِ مَقَرِّ الأُسَرِ المالكة بالتتابع فقط.
وكان كمال أتاتُرْك عالِمًا بتاريخ بلده وروح قومه، وقد قام أيام كان ضابطًا بدراساتٍ أعمقَ مما صنع معظم معاصريه من شبان الترك الذين قبضوا على زمام تركية المُحْتَضَرة في دور الانتقال، وكان كمالٌ يَعْرِف أن بُنْيان الإسلام يهتزُّ إذا ما أُلْغِيَت الخلافة، وكان يَعْرِف أن مسلمي مكة والهند يَفْقِدون طُمَأنينتَهم بذلك، ومع ذلك كان من الشجاعة ما صَرَّح معه بأن زمن هذا النظام قد انقضى فقال: «يكفي أن نكون إخوانًا في ديننا.» وليس من الصحيح إِذَنْ أنه أبطل الدين كما أبطل لُبْسَ الطربوش وإِن كانت بعض تصريحاته العامة واضحةَ الزَّنْدَقة. أَجَلْ، إنه صادر الأوقاف الدينية وحَوَّل رجال الدين إلى أناسٍ من موظفي الدولة، غير أنه لم يضطهدهم كما فعل رُوسُ هذا الزمن، وكما فعل الألمان بعد حين. أَجَلْ، إنه لم يُغْلِق المساجد، غير أنه أدخل الأبجدية اللاتينية وحمل حتى الشِّيبَ على تَعَلُّمها.
وما أصوبَ حُكْمَه في الزمن إِذَنْ! وقد ثَبَتَ هذا بما أبداه المُثَقَّفُون من سُخْطٍ حينما جَرُؤَ الملك العربيُّ الحسين على انتحال لقب الخليفة الذي ألغاه كمال. وكان علماءُ الكلام من المسلمين يجادلون في مؤتمراتٍ مهمة تُعْقَدُ في الحين بعد الحين بالقاهرة ومكة، كالمجامع النصرانية في القرون الوسطى، حَوْل معرفة مَنْ يُنْصَب خليفةً من غير أن يَنْتَهُوا إلى قرار. وقد تَبَدَّد نفوذ الشرق بالسيارة والمذياع، وعاد الملوك المسلمون في الشرق الأدنى وفي مصر لا يختلفون عن أواخر ملوك الغرب بشيء خلا ما يُحْتَملُ من كونهم أكثرَ مَكْرًا وأَدْكَنَ منهم أَدَمًا، ولن تقوم الخلافة، ولن تُبْعَث تُرْكية السابقة، مع أن البابوية لا تزال قائمةً حتى بعد زوال الدولة البابوية، وهي لم تُعَدَّلْ تعديلًا جوهريًّا بمنح الحَبْر الأعظم شوارعَ قليلةً في رومة وأمتارًا مربعةً قليلةً من الأملاك.
وما تَمَّ لهذه الأُمة الصغيرة المُجَدَّدة من انتصارات كبيرة مَكَّنَ كمالًا من إلغاء معاهدات باريس بعد إمضائها بأربع سنين، ولم يَحْمِل الدولَ العظمى على الاعتراف بتركية الحديثة فقط، بل نال فضلًا عن ذلك سيادةَ المضايق مع هدم ما كان قد أُنشئ فيها من الحصون ضمانًا لحرية مرور السُّفُن كما نال الجزيرتين المجاورتين.
وعلى العكس ترى تركية الصغيرة الجديدة التي تشتمل على جميع آسية الصغرى تقريبًا حائزًة كلَّ ما تحتاج إليه لتعيش، ولا يمكن أن تجوع كإيطالية أو بلاد اليونان، ولا تجد ما تخشاه من بَغْيٍ أجنبيٍّ أو حِصار، وقد استطاعت حتى الآن أن تحافظ على حرية عملها بين إنكلترة وروسية، وما يربط تركية الجديدة من صداقةٍ بروسية منذ زمن كمال، وما عقدته من معاهدةٍ مع فارس وأفغانستان، لم يَلْبَثا أن جَعَلا منها نصيرةَ شَعْبَيِ العراق وإيران المضطهديْن وصديقةَ بلاد اليونان، ولتركية هذه شأنٌ فائق في العُصْبَة البلقانية.
وأدت المصيبة التي أُصيب بها قسطنطين إلى تجربةٍ لا يَعْرِف التاريخ لها مثيلًا سعةَ نطاقٍ، وذلك أن نصف مليونٍ من الترك الذين كانوا يعيشون في شمال بلاد اليونان استُبْدِل بهم أغارقةٌ يسكنون آسية الصغرى، ويُمْكِنُ الشخصَ الذي كان قد طُرِد من بيته، ولو ليعود إلى بلد أجداده، أن يَتَمَثَّل ما توجبه هجرة مليونٍ من الآدميين من المشاعر والمآسي، ومع ذلك فإنك إذا عَدَوْتَ الآلام الفردية وجدتَ هذا التدبير يَجْلُب إلى ألوف الناس حريةً وأمنًا أكثرَ من قبل، ومَنْ يُنْعِم النظر في نتائج تبادل السكان هذا لا يَسَعُه سوى الاعتراف بنجاح هذه التجربة.
ويوضحُ تماثلُ إزميرَ وسلانيكَ إقليمًا ونباتًا بعضَ الإيضاح كونَ تبادل السكان المفاجئ، كالذي باشره الترك والأغارقة، قد يظهر في نهاية الأمر علاجًا شافيًا على ما ينطوي عليه من ألمٍ في بعض الأحيان. وقد سار كمالٌ، وفنِيزِلُوسُ الذي عاد إلى السلطة، صديقيْن حقيقيين للإنسانية فضلًا عن ظهورهما قُطبيْن سياسييْن، وقد ثبت من مثالهما إمكانُ نقل بعض الآدميين، في أحوالٍ ملائمة وعند أقصى الضرورة، إلى بلاد أجنبية من غير خطر ومع وجود نفع.
٥
تَحَوَّل برزخُ جبل طارق، الذي كانت الأُسود والفُيول تجاوزه من أفريقية إلى أوروبة، إلى مضيقٍ ممدودٍ قليل العمق فاصلٍ بين قارَّتين، والإنسان قد حفر من ناحيته مضيقًا مصنوعًا منذ زمنٍ قليلٍ في المكان الذي كان برزخ السويس يَرْبِط فيه أفريقية بآسية، واليومَ يُدْرَس إمكانُ إعادةِ برزخ جبل طارق، المستور ماءً في الوقت الحاضر، صِنَاعيًّا. وكان الساحرُ الحقيقيُّ القادر على تحويل الأَسودِ إِلى أبيض والأبيض إلى أسود، دُلِسِّبس، أولَ مَن اقترح إعادةَ برزخ جبل طارق، ثم وضع مهندسون من الفرنسيين والإسبان من التصاميم ما أُبْعِدَ معه نتيجةً لتحاسد الحكومات.
وإذا ما نُظِر إلى الأمر من الناحية الفنية وُجِدَ من غير الصعب إنشاءُ نَفَقٍ تحت مضيق جبل طارق كما لا يكون صعبًا إنشاء مثله بين إنكلترة وفرنسة، فلا يزيد عمق البحر في مكان هنالك أكثر من أربعمائة متر، ويكون إنشاءُ النَّفَق الجَبَّار سهلًا، ويكون هذا النفق مَصُونًا من ضغط الماء صَوْنًا كافيًا؛ لهذا السبب، ويكون مجموع الطول خمسين كيلومترًا، ويكون نحو ثمانية وعشرين كيلومترًا من هذه المسافة تحت الماء، ويكون المدخل في إسبانية واقعًا شرق صخرة جبل طارق، ويكون المخرج في أرضٍ إسبانية قريبة من سَبْتَة، وهكذا تكون إسبانية قد أشرفت على مدخل البحر المتوسط الغربيِّ كما تُشْرِف إنكلترة على قناة السويس وكما تُشْرِف تركية على الدردنيل، وهكذا تستطيع فرنسة أن ترسل سِلَعها بهذه الطريق حتى مرافئ أفريقية الغربية، وهكذا تستطيع إسبانية أن تقتصر في الوصول إلى أمريكة الجَنوبية على انتقالٍ واحدٍ إلى السفينة، وهكذا يُرْسل حرير ليون إلى ريودوجانيرو من داكار بحرًا كما أن لحم الأرجنتين يبْلُغ مطاعَم باريس بهذه الطريق. وهكذا يكون الاتصال من تحت جبل طارق متمًّا للخط الحديديِّ الصحراويِّ الذي يُبْحَث فيه منذ زمنٍ والذي يُعَدُّ مشروعه من مميزات العبقرية الفرنسية. ومن قول الباريسيين في السنوات الأخيرة: «إن فرنسة تنتهي في الكونغو.» ولهذه الكلمة نصيبٌ من الحقيقة أكثرُ مما لتصريح بُلْدوين القائل: «إن حدود إنكلترة على الرِّين.»
وتُعَدُّ جبال دَرَن قاعدةً لإمبراطورية استعمارية تشتمل على ثلث أفريقية، وهذه هي الإمبراطورية التي ندرسها هنا لمواجهتها البحر المتوسط، ويَنِمُّ تاريخُها الطويلُ المملوءُ حوادثَ على زَهْو فرنسة، ولو بحثتَ عن سبب اكتراث العالم للإمبراطورية البريطانية أكثر من اكتراثه للإمبراطورية الفرنسية لم تجده في نبوغ الإنكليز الاستعماريِّ الكبير، بل في استقرار عدد عظيم من المستعمرين البريطانيين بأراضي إمبراطوريتهم فقط، ولو نظرتَ إلى فرنسة، إلى هذا البلد القليل السكان، لوجدت الإمبراطورية عندها مَهْدًا لكتائبَ استعمارية، ولكن مع وجود مكانٍ كافٍ، مع وجود عملٍ كافٍ، مع وجود حَبٍّ كافٍ، في فرنسة لجميع الفرنسيين، وما انفكَّ يكون في المستعمرات من الإنكليز أكثر من الفرنسيين بمقاديرَ كبيرة، وما انفكَّ الفرنسيون يكونون أقلَّ إقدامًا منذ إقامتهم بكَنَدَة، ولم يهاجر من الفرنسيين إلى شمال أفريقية غيرُ بضع مئاتٍ من الألوف، وقد بلغ الطلاينةُ من الكثرة هنالك ما نالوا معه حقوق الوطنيين في تونس الفرنسية.
وإذا ما حَسَبْنَا الكثبانَ وصحراءَ الجَنوب بحرًا محيطًا لاحت لنا سلسلةُ الجبال العالية الطويلة الممتدة من مَرَّاكِش الغربية؛ أي من المحيط الأطلنطي، حتى حدود ليبية ذاتَ صفةٍ جَزَرِيَّة، وهذه السلسلةُ خاصةٌ بالبحر المتوسط، لا بأفريقية، من كلِّ ناحية، حتى من الناحية الحيوية، وتبدو هذه الأرض الممتدة إسبانيَّةً، أو بروفنْسِيَّةً، أكثر منها مصرية، ويبْلُغ أقصى شمال تونس عَرْض قَرطَاجَنَّة وسَرَقُوسَة، وهذا ما يُثبت كونَ إقليم هذه الولايات من البحر المتوسط، وهذا ما يسهل علينا أن ندرك به السبب في شعور القرطاجيين والوَنْدال والعرب والترك مدةً تزيد على ألفي سنة بأنهم في بلدهم هنالك. وقد حافظت على بأسها تلك الشعوب المتمازجة التي نطلق عليها اسمَ البربر المبهمَ والتي قاومت الفتح الفرنسيَّ مدةَ قرنٍ في جبال درن، وقد أدى قتالُها الفرنسيين في عشراتِ السنين بقيادة رؤساءَ من ذوي الإقدام إلى شَدِّ عزيمة الفاتحين وتعديلهم فنَّهم الحربيَّ، وهذا ما يحمل إلى عَدِّ أفريقية الشمالية مدرسةً حربية واسعةً لفرنسة مدةَ قرنٍ، وفتحُ مَرَّاكِش، الذي تَمَّ سنة ١٩٢٦، وحدَه هو الذي مَنَح فرنسة منفذًا في الأطلنطيِّ مستقلًّا عن إنكلترة وإسبانية يمكنها أن تتصل منه بمستعمراتها في أفريقية الوسطى.
وقد حُقِّقَ بنجاحٍ ما وُضِعَ قبل الحرب العالمية الأولى من مشروعٍ قائلٍ بحماية أربعين مليونَ فرنسيٍّ في القارَّة من قِبَل مليونِ فرنسيٍّ من لَوْنٍ آخر، وقد قُدِّرت مزايا المرَّاكِشيين والسِّنغاليين الحربية في شنبانية، وقد نُقِلَت جيوش بأسرها من غير خطر؛ لكَون القسم الغربيِّ من البحر المتوسط قبضةَ الحلفاء فلم تجرؤ غواصات الألمان على المغامرة فيه؛ ولأن إسبانية كانت محايدة.
ومن نتائج قدرة الجيوش المحلية زيادةُ حقوق الشعوب المستعمَرَة، وتتوقف سلامةُ فرنسة على جنود ما وراء البحر أكثر من توقُّف سلامة إنكلترة عليهم، وهذا يُفسِّر السبب في معاملة الفرنسيين لمن يختلفون عنهم لَوْنًا بغير ما يُعامَل به أهلُ المستعمرات البريطانية.
ومن الضباط الفرنسيين مَنْ يَرْقُصون مع المسلمات الجزائريات، ويُسْتَقْبَل هؤلاء من قِبَل الحاكم؛ أي يقع من الأمور ما لا يصدر مثله عن الإنكليز، ويَعُدُّ الفرنسيون هذا دليلًا على تسامحهم، وقد تكون الضرورة هي التي تملي عليهم هذا، غير أن هذا السلوك ذو تأثير حسن في وَلاء أهل المستعمرات نحو البلد الأمِّ.
ويمكن اتخاذ الحقوق التي جادت بها فرنسة على رعاياها البالغين اثنين وستين مليونًا في أفريقية والهند الصينية أحسنَ مثالٍ ودليلٍ على ما تمتاز به باريس من لندن من جميع الوجوه تقريبًا، وكان ضابطًا استعماريًّا الجنرالُ غَلْيِنِي الذي خَدَم بلده في ثلاث قارَّاتٍ مدةَ خمسٍ وعشرين سنةً فأنقذ فرنسة أيام معركة المارْن بإرساله نَجَداتٍ من باريسَ إلى الجبهة في سياراتٍ مشهورٍ أمرها، وكان المَرِيشال لِيُوتِي الذي هو أكبر استعماريٍّ في زماننا رجلًا ذا مبادئَ إنسانيةٍ، فيُعَدُّ أولَ فاتحٍ جرؤ على التصريح بأن الاستعمار في زماننا لا يُسَوَّغ بغير الطبيب والمهندس الأبيضين.
وما بدأ به ليوتي وأستاذُه وصديقُه غَلْيِنِي في تونكين ومَدغَشْقَر من عملٍ امتدَّ إلى مَرَّاكِش؛ حيث أصبح مثالًا في ميدان الاستعمار، كان أَثَرَ نشاطٍ وصبرِ خمسَ عشرةَ سنة، وهنالك في أقصى الغرب من البحر المتوسط فَرَغَ الفرنسيون للاستعمار بروحٍ جديدة، فلم يُرْهب لِيُوتِي أهلَ مَرَّاكِش ولم يَضْغَطْهم إلَّا عند المقاومة الشديدة، وقد استطاع أن يَحْكُم فيهم من غير أن يَسْلُبَهم مُقَدِّمًا إليهم نِعَم الحضارة الفرنسية.
ولفرنسة أن تَفْخَر دَوْمًا بما أنشأته هنالك من مرافئَ ومُدُنٍ وطُرُق، وينتحل لِيُوتِي الشعارَ: «تبَسَّمُوا ولا تقنطوا!» ويَصْلُح أثرُه نَمُوذجًا للمستعمرات الفرنسية الأخرى التي نَمَتْ سريعًا والتي أعاد تنظيمها بحِذْقٍ جورج مَنْدِل الذي هو من أكثر فرنسيِّي زماننا إقدامًا مُبْصِرًا حربًا آتية.
وكان ضَعْفُ إسبانية شرطًا لازمًا لقوة فرنسة الاستعمارية، وقد اضطُرت إسبانية المنحطة، التي تهددها الصخرةُ الإنكليزية القائمة في نقطة حيوية من ساحلها الجَنوبيِّ، إلى الاكتفاء في أواخر العهد المَلَكيِّ بأرضٍ ضيقة من مَرَّاكِش مع مرفأ سَبْتَة كتعويضٍ لها عن جبل طارق، ويَسْهُل أن يُضْرَب بالمدافع شريطُ الأرض الطويلُ المكشوف عند الخروج من المِصْر، وعلى العكس يمكن الهجومُ على جبل طارق من التلِّ الذي يسيطر على مينائه.
ومن جهة أخرى، يَمْلِك الإسبان ثلاثَ جُزُرٍ تُعَدُّ أهمَّ من جميع المرافئ، يَمْلِكون البليار، وكانت هذه الجُزُر تابعةً للإنكليز مدة سبعين عامًا ثم الفرنسيين مدةَ سبع سنين، وهي تَصْلُح قواعدَ من الطِّراز الأول لحربٍ عصرية، وذلك لوقوعها في منتصف الطريق بين مرسيلية والجزائر. وليس من المحالفات البسيطة ذلك الاتفاقُ الذي منحَ به الطاغيةُ الإسبانيُّ برِيمُودِي فالِيرَا في سنة ١٩٢٦ مثالَه مُوسُولِّيني حَقَّ إنزال فِرَقٍ إلى هذه الجزائر في حال الحرب وَقْفًا لوسائل النقل الفرنسية، بل كان عملًا غادرًا تجاه فرنسة الديمقراطية، ولم تلبث الجُمهوريةُ التي قامت في مدريد بُعَيْدَ ذلك أن فَضَحَت أمرَ هذه المعاهدة.
ولم تنل فرنسة في القسم الشرقيِّ من البحر المتوسط أكثر مما وُفِّقَ له في القسم الإسبانيِّ، فقد ناهضها العرب مدةَ عشرين سنة في سورية التي حَلَّت فيها محلَّ تركية، ويلوح أن الفرنسيين لم يكونوا في بيروتَ أكثرَ حُظْوَةً منهم في دَمَشْق مع ارتباط كلٍّ من الشعبين في الآخر برابطة الكنيسة والتجارة منذ قرون، ومن المحتمل أن يكونوا قد أخطئوا في فصلهم سورية عن البحر بسلسلةٍ من الجُمهوريات الصغيرة جِدًّا بدلًا من إقامتهم دولةً واحدةً قويةً مع ساحل طويل، والواقعُ أنه كان هنالك من الأحوال ما استعدت معه فرنسة، التي نهكتها الحربُ العالمية الأولى، لترك سورية التي أخذتها وقت السَّلْم أو للمقايضة بها، ومن الممكن أن تُبْصَر علائم نَصَب الفرنسيين حينما تَخَلَّوْا عن عُدَّتهم الحربية في الإسكندرونة التي رَدُّوها إلى تركية.
ولم تنقطع اضطراباتُ سورية لهذا السبب أيضًا، فمن الممكن أن كان العرب يَشْعُرون، كبقية العالَم، بأن نجم فرنسة أخذ يَأْفُلُ بعد انتصارها على الألمان. أَجَلْ، اضْطُرَّ الملكُ فيصلٌ إلى التسليم في نهاية الأمر بعد أن أعلن سورية مملكةٌ مستقلة، بَيْدَ أنه لم يَلْبَث أن دُعِيَ ليَمْلِكَ العراق على حين وُفِّق أخوه ليسيطر على البقاع الغنية المجاورة، وكان كلا الأخوين يعتمد على مساعدة إنكلترة، ولولا النِّفْطُ الذي يَصُبُّ في الأنابيب الجديدة لانزوى رأسُ المال الفرنسيُّ من هذه البلاد تمامًا على ما يُحتَمل.
ومع ذلك فإن غِنَى هذه البُقْعةِ الطبيعيَّ وموقعَها الجغْرافِيَّ وجمالها مما يَمُنُّ عليها برخاءٍ أعظمَ مما في مَرَّاكِش أيضًا، ولا يزال لُبنان يتمتع بمنظرٍ جليلٍ كما في غابر الأزمان، ولا يزال أَرْزُ لُبنان المئويُّ ناهضًا كما في أيام الملك سليمان، ولا تزال دمشقُ في الأدنى، في السهل، محافظةً على بهائها في عهد العرب، ولكن النساءَ أصبحن سافرات، وهنَّ يُبْدِين جواربهن الحريرية الباريسية ويُفَضِّلْن الثعلبَ الفِضِّيَّ على جلد الدبِّ الذي يُباع في كلِّ مكانٍ بلُبنانَ مع عدم صدوره عن أيِّ محلٍّ في البلد مطلقًا.
٦
يُعَدُّ الصِّراعُ بين إيطالية وإنكلترة سببًا أوليًّا لِمَا يُعَدُّ من نزاعٍ قاطع في البحر المتوسط في الزمن الذي يَلِي سنة ١٩٣٠، وما كانت إسبانية، ولا يُوغُوسلَافْية، ولا تُرْكية أيضًا، لتُمثِّل دورًا مهمًّا، ولم تكن فرنسة نفسُها غيرَ كوكبٍ سيَّارٍ تابع لإنكلترة. ونحن، لكي ندرك آمالَ الطلاينة، نرى الرجوع إلى ما دار حول اقتصاد البحر المتوسط من إحصاءات تمت حَوالَي سنة ١٩٣٠.
تَشْغَلُ إيطالية، التي يُحْسَبُ سكانُها أكثفَ ما في البحر المتوسط، موقعًا عظيمًا في هذا البحر، والواقعُ أن فرنسة المجاورةَ لبحرين ليس لها غيرُ خطٍّ ساحليٍّ قصير نسبيًّا على البحر المتوسط، ولا يمكن أن تُعَدَّ من بلاد البحر المتوسط تمامًا، ويبلُغ عدد سكان إسبانية خمسة وعشرين مليونًا، ويبلُغ عددُ سكان كلٍّ من يُوغُسْلَافْية ومصرَ وتركيةَ الحديثةِ نحوَ أربعةَ عشرَ مليونًا، ويبلُغ عددُ سكان إيطالية خمسةً وأربعين مليونًا، وأما مصرُ الواقعةُ في وادي نهرٍ بين صحراوين فلا يُقَاسُ بها بلدٌ كثافةَ سكانٍ، ويُعَدُّ في إسبانية وبلاد اليونان وفلسطين ١٣٠ أو ١٤٠ نَفْسًا في كلِّ كيلومتر مربع، ويُعَدُّ في تركية ٥٣ نفسًا في كلِّ كيلومتر مربع، ويُعَدُّ في فرنسة ١٩٧ نَفْسًا في كل كيلومتر مربع، وأما إيطالية فيُعَدُّ فيها ٣٥٩ نفسًا في كلِّ كيلومتر مربع، وهذا إلى أنك، إذا ما طرحت بعض البقاع غيرِ العامرة في إيطالية، تَجِدُ ٥٤٠ إيطاليًّا في كلِّ كيلومتر مربع.
وإذا نظرت إلى سنة ١٩٣٠ وما حَوْلهَا لم تجد بين بلاد البحر المتوسط الأربعةَ عشرَ غيرَ التي تَقِلُّ كثافةُ سكانها كثيرًا، كتركية وتونس والجزائر وإسبانية، قد استطاعت أن تقوم باحتياجاتهم الغذائية، وكان معظم هذه البلدان ذا محصولِ خَمْرٍ وزيتِ زيتونٍ يُصْدِر ما زاد على احتياجه منه، وذا محصولٍ كافٍ من اللحم والصوف. وكان كلٌّ من البلدان: فرنسة وإسبانية ويُوغُوسْلَافية، يعيش مستقلًّا تقريبًا من زراعته الخاصة وموادِّه الأولية، ولكن مع افتقار هذه البلاد الثلاثة إلى القطن والبترول.
وكانت فرنسة أحسنَ توزيعًا من ناحية المصادر الطبيعية، وكانت إيطالية أقلَّ حُظْوةً، وكانت فرنسة مشتملةً على كلِّ ما تحتاج إليه خلا البترول والمَطَّاط، وكانت من فَيْضِ الحديد الخام ما لم تُحَوِّل معه غيرَ خمسةٍ في المائة من إنتاجها المَعْدنيِّ إلى فولاذ، على حين كانت إيطالية تُنْتِج من الفولاذ أكثرَ من حديدها الخام أربعَ مرات، وكان يمكن فرنسةَ أن تحتفظ بثمانين في المائة من خمرها الخاصة لاستنفادها المحلِّيِّ، وعلى العكس كانت مِساحات واسعةٌ من الأراضي جديبةً في إيطالية، ولُنْبَارْدية وصِقِلِّية وحدَهما هما اللتان كان يمكن عَدُّهما خصيبتين، وبما أن فرنسة كانت تَتَمتع عن سَعَةٍ، ولكن مع رغبةٍ في قضاءِ حياةٍ أكثرَ تَرَفًا، فإنها كانت تُدْخِلُ بمقدار ما تُصْدِر تقريبًا، على حين كان مُعَدَّل الإصدار الإيطاليِّ ثلاثةً في مقابل اثنين، وإذا نُظِرَ إلى الأمر من جهة النفوس وُجِدَ ما تُدْخله فرنسة يجاوز ما تُدْخِله إيطالية مرتين على الرغم من غِنَى فرنسة الطبيعيِّ، وكانت إيطالية محتاجةً إلى الفحم والحديد والخشب والقمح، ومع ذلك فإنها كانت تكتنف ثلثَ أهل البحر المتوسط.
ولا شيء أقرب إلى الطبيعة من رغبة هذا البلد في التوسع لكثرة سكانه وفقرِه في الموادِّ الأولية، والطبيعةُ تشير إلى أفريقية موضعًا لتوسُّعه.
والواقعُ أن التاريخ يُمثِّل دوره في هذا البلد على شكلٍ مزدوج، فلم يزل اسم رومة الطَّنَّان يثير في أعقابها الأباعد آمالًا تحفِزهم إلى تقليد أجدادهم، ومن الطبيعيِّ أن تطمع أمةٌ أربعةُ أخماسِ حدودها بحريةٌ في التوسع وراءَ البحر. وقد خَيَّبَت السِّلْم التي عَقَبَت الحربَ العالميةَ الأولى آمالَ إيطالية؛ لأنها لم تُعْطِها شيئًا على البحر، أَجَلْ، إن النمسة زالت عن البحر الأدرياتي، غير أن يُوغوسلافية حَلَّت محلَّها، وكان ما بين الصرب والطلاينة من تنافسٍ قد بلغ من العِظَم في الحرب العالمية الأولى ما نَظَّمَ الصربُ معه تظاهراتٍ احتجاجًا على ما قُطِعَ من وعودٍ لإيطالية الحليفة حين دخولها الحربَ؛ ولذا انطلق الفاشيُّ الأول دَنُونْزِيُو فَوْرَ انتهاء الحرب العالمية الأولى محتلًّا فِيُومَ نتيجةَ هجومٍ روائيٍّ مفاجئ بالغًا بهذه الحركة أشدَّ ضروب الملاذِّ الفنية، ويُسْأَل عن مشابهته للورد بايْرُون فيُزْعجه ذلك، ولم يَسْطِع الطلاينة إلَّا بعد حينٍ أن يَنْزِعوا من اليُوغوسلاف، بمعاهداتٍ وبالقوة، خلجانًا ومرافئَ وجزائر في القسم الشرقيِّ من البحر الأدرياتيِّ، وقد داوموا على تقوية حصونهم واضعين حمايتهم على ألبانية.
وخيبةُ الأمل بسبب معاهدة الصلح هي التي أدت إلى ظهور الفاشية، لا الشيوعيةُ التي كانت قد خَسِرَت كثيرًا من نفوذها في إيطالية، وما كان المحاربُ السابق مُوسُولِّيني ليجهل قيمةَ أبناءِ وطنه الحربيةَ المشكوكَ فيها، ولم يكن هؤلاء ليستطيعوا أن يقهروا أعداءَهم النمسويين في عشر معارك، ثم حَمَلَهم الألمان على الارتداد عن هزيمةٍ جالبةٍ للنوائب. ويُنْظَرُ في مؤتمر السَّلْم إلى فقدان القيمة الحربية هذه، ولا يصيب إيطاليةَ أَذًى من مناقشة هذه المعاهدة، وعلى العكس تنال إيطالية أكثرَ مما تأمُل فيه بعد معاركَ خاسرةٍ في ثلاث سنين، فقد ملكت وَلايتين غنيتين في الشمال، ولكن بما أنها لم تنل غيرَ فوائدَ قليلةٍ في البحر نَسِيَت كَسَلها البحريَّ وهزائمَها العسكرية في أثناء الحرب وصَرَّحت بأن حقَّها هُضِمَ عن مكافأة اليُوغُوسلَاف مع أن هؤلاء قاتلوا وأَلِمُوا أكثرَ منها.
وكان لدى هذا البلد الفقير الزاخر بالسكان أربعُ وسائلَ لإِصلاح حاله، وهي: الهجرة والصِّناعة والاستعمار وتحديد النَّسل، والهجرةُ، وهي أقربُ هذه الوسائل إلى الطبيعة، قد سَهَّلَتْ أمورَ إيطالية؛ وذلك أن نحو مليونٍ من الطلاينة هاجروا في سنينَ كثيرةٍ طلبًا للرزق، واليومَ يعيش في الخارج عشرةُ ملايين من الطلاينة، واليوم يعيش ثمانيةُ ملايين من هؤلاء في أمريكة، فلما أغلق هذا البلد الأخير أبوابه سنة ١٩٢٧ فاض ما زاد على فرنسة، وكانت الهجرةُ الإيطاليةُ تُغْنِي الوطنَ الأمَّ بمبالغَ عظيمةٍ من المال، وكان المهاجرون من الطلاينة يرسلون إلى أُسَرِهم ملايينَ الدولاراتِ في كلِّ سنة، وكان الإصدار الإيطاليُّ يعود بالفوائد نتيجةَ ما بين الوطن الأمِّ والمهاجرين من صلات.
ولكن حركةً قوميةً كالفاشِيَّة لا تؤيِّد حَلًّا طبيعيًّا كهذا، وأقلُّ من هذا تشجيعُها على تحديد النسل، فالطُّغَاةُ يحتاجون إلى جماهيرَ كثيرةٍ، وهم يطمعون في زيادة رأس المال هذا كما يَطْمَع المقامرون، والطغاةُ يحتاجون إلى جنودٍ قبل كلِّ شيء، وهم يفكرون في العِوَض منهم لهذا السبب، وتُقَيِّدُ الفاشيَّةُ الهجرةَ إذَنْ، وتزيد مُعَدَّل النسل بما تمنحه من جوائزَ إذَن، وما فتئت الفاشية تتوجَّع من ضِيق المسافة، وهكذا لم يبقَ للطلاينة غيرُ الصِّناعة على نِطاق واسع أو الحُصُول على مستعمرات.
وقد ثبت أن الإيطاليَّ لا يَلْبَث أن يلائم بِيئَته الجديدةَ ويدلَّ على قيمته في الخارج على حين لا يُكْتَبُ له نجاحٌ في مستعمراته الخاصة على العموم. والإيطاليُّ كمستعمرٍ يُعْوِزه العناد والتضحية والصبر والضبط؛ أي يُعْوِزُه كلُّ شيء خَلَا الخيال، والطلاينةُ هم من شدة الوَلَع بالهَوَى ما لا يكونون معه من أكابر بُنَاة الإمبراطوريات. والطلاينةُ هم من شِدَّة التَطَبُّع بأخلاق أهل الجَنوب ما لا يعاملون الزنوجَ معه بالحُسْنى، فما انفكوا يزدرونَهم ازدراءَ النَّخَّاسين إياهم فيما مضى؛ ولذا كان الطلاينةُ غيرَ محبوبين في أفريقية الشرقية قبل الحرب العالمية الأولى، حتى إن الطلاينة في أثناء هذه الحرب طُرِدوا نحو الساحل عن اضطراباتٍ محليةٍ متصلة؛ أي كانوا عُرْضَةً لحالٍ لم يواجَه الفرنسيون والإنكليز بمثلها قَطُّ، ولم يتمَّ خضوع السنوسيين في ليبية إلَّا سنة ١٩٢٨؛ أي بعد الحرب بعشر سنين.
واسمُ ليبية هو الذي أطلقه مُوسُولِّيني على البلد الواقع بين تونس ومصر مُذَكِّرًا بالاسم الرومانيِّ القديم لهذه الولاية، ولا تُقاسُ ليبية بتونسَ ولا بمصرَ، فهي مؤلفة من كُثْبانٍ وصحارٍ على الخصوص، ولا تشتمل على بقاع خصيبة في غير الساحل. وليست إيطالية، ولا الطبيعة، مسئولةً عن هذا الوضع الموروث عن الترك الذين خَرَّبوا هذا البلدَ الكثيرَ الخِصْبِ فيما مضى، فيجب مرورُ مائة عام لإصلاح ما تراكم من إهمالٍ في أربعة قرون. ولم تكن على الشاطئ الأفريقيِّ بلادٌ مُعَدَّة حينما قالت الفاشِيَّة: «نَبْغِي انتشارًا، وإلَّا أَوْجَبْنا انفجارًا.» ولم يكن الوضعُ العسكريُّ ملائمًا للطلاينة حتى الزمنِ الذي وُفِّقُوا فيه نهائيًّا لقطع الحِلْف الفرنسيِّ الإنكليزيِّ الذي تَفْصِل ليبيةُ مِنْطقتَيْ نفوذه، وكان من الممكن إنشاءُ طريقٍ تجوب الصحراء حتى تُمْبُكْتُو ودارفورَ فتبلغ السودان الإنكليزيَّ وتشَاد.
وهكذا لم تكن لِيبْيَة غيرَ بابٍ نافذٍ نحو الجَنُوب وغيرَ قاعدة حربية، وهي لا تشتمل على غير طُبْرُقَ حِصْنًا طبيعيًّا، ويُعْوِز ليبيةَ مثلُ ما يَمْلِكهُ الإنكليز في الشرق والفرنسيون في الغرب؛ أي يُعْوِزُها نصفُ قَارَّةٍ يَصْلُح أداةَ وصلٍ بين بحرين محيطين. وكانت إيطالية قابضةً على أَجزاءٍ مبعثرةٍ في أفريقية الشرقية؛ أي على بِقاعٍ قليلةِ الخِصْبِ في الغالب وغيرِ هدفٍ لمشروعٍ اجتماعيٍّ أو استعماريٍّ جامع.
وكيف ترى الفاشيةُ بلوغَ غَرَضٍ تكون به إيطالية دولةً مسيطرةً على البحر المتوسط أو تكون لها الصدارة به في هذا البحر؟ تحتاج الصناعةُ إلى نَفَسٍ طويل تُمِدُّه وتُسَهِّلُ أمرَه روحُ اختراعٍ؛ ولذا لم يبقَ لإيطالية سوى الميل إلى الاستعمار. وقد داومت إيطالية على تقييد الهجرة مع تَوَجُّعِها من افتقادها أبناءَها المهاجرين وإن كان مالهُم عاملًا عظيمًا في اقتصادها، وتُمْسِكُ أبناءَها وتمنحهم جوائزَ ليتناسلوا خلافًا لمصلحة البلد، وهكذا لم يبقَ مفتوحًا أمامها غيرُ طريق واحد، غيرُ عَمْرِ بلادٍ صالحة للسكن والاستعمار مُنْتِجَةٍ للقمحِ والموادِّ الأولية.
وما كان هذا الهَدَفُ ليُبْلَغَ بغيرِ أمرٍ واحد، بغير محالفة إنكلترة.
وقد عُرِضَ مُوسُولِّيني في العالَم طاغيةً فَظًّا، وقد كان هكذا في أحوالٍ كثيرة، والواقعُ أن مُوسُولِّيني كان دِبْلُمِيًّا أكثر منه جَلَّادًا أو قائدًا أو متهوسًا، والواقعُ أن مُوسُولِّيني بقيةُ المدرسة الدِّبْلُمِية الإيطالية التي ذَرَّ قَرْنُها في أيام البندقية الأولى فضَمِنَت نجاحَ طُغَاةِ عصر النهضة وخُتِمَتْ بكرِيسْبي وجيُولِتِّي في أيامنا.
وقد وُفِّقَ مُوسُولِّيني في عشر سنين لاجتذاب خصومه أو لتسكينهم على الأقل، وذلك بنظامٍ مُحْكمٍ من المعاهدات، وهو بما عقده من عهودٍ ملائمة مع كمالٍ بتركية ومع فنِيزِلوسَ ببلاد اليونان ومع العرب والإسبان واليُوغُوسْلاف استطاع أن يكون له وضعٌ نافع في جميع هذه البلدان في زمن السَّلْم على الأقل، ولولا هذا لغُلِب مُوسُولِّيني في اللَّعِب.
ولمأساة مُوسُوليني ثلاثةُ أوجه، فهو قد سار مع سُنَّة الطُّغَاة قبل كلِّ شيء، أي وَفْقَ الناموس الذي يسوقه إلى حروب جديدة على الرغم منه؛ وذلك لأن أساليبَ حكومتِه البَرَّاقَةَ تَحُول دون وقوفه، وذلك إلى أنه كان ممن حملوا بلدَهم على الانحياز إلى جانب الحلفاء في سنة ١٩١٥ خلافًا لرغبة مُعْظَم أبناء وطنه، وبذلك يكون قد أبصر مصالحَ إيطالية الحقيقيةَ آنئذٍ، فلما قبض على زمام الحكم خَسِرَ قدرةَ نفوذه في الحوادث. ويَدْخُل عنصرٌ ثالث في مأساة مُوسُولِّيني، وهو معرفته أخلاقَ قومه، ولم يُبْدِ أحدٌ من الشكِّ في الطلاينة أكثر من زعيمهم هذا، وقد سَمِع المؤلِّفُ حديثَ مُوسُوليني، والحزنُ مِلْءُ فؤاده، عن الألمان الذين يتألف منهم جهازٌ رائع طَيِّعٌ حول الحرب؛ ولذا تراه، بعد محاولته عشرين سنة أن يُنَظِّم الطلاينة على الطريقة البروسية مع معرفته تَعَذُّر هذا، قد حالف الألمانَ المُنَظَّمين غيرَ مُبْصِرٍ أن هذا الحِلْف سيورده مورد الهلاك لا محالة.
ولم يَسِرْ مُوسُولِّيني في سياسته على خطٍّ مستقيم، وقد حاول مُوسُولِّيني أن يتعاون هو وإنكلترة غيرَ مرة، كما أن إنكلترة حاولت أن تحالفه، ولا غَرْوَ، فالإنكليزُ يُحِسُّون بتقاليدهم وتاريخهم وآدابهم أنهم أقربُ إلى إيطالية مما إلى فرنسة، فإنكلترة قد حاربت فرنسة دومًا تقريبًا، ولم تحارب إيطاليةَ قَطُّ تقريبًا، ولما قَرَّر مؤتمر وَشِنْغتُن تساويَ الولايات المتحدة وإنكلترة بحريةً من ناحيةٍ، وقَرَّرَ جَعْلَ بحرية فرنسة وإيطالية ٥ أمام ٢ من ناحيةٍ أخرى، أخذ مُوسُولِّيني يناهض فرنسة، فذَكَّرَ قومَه بنِيسَ وقُورْسِقة وتونس، مع تشجيع إنكلترة إياه في وَضْعِه هذا، وتَنْسَجم مِنْطقةُ النفوذ الإيطاليِّ ومِنْطقةُ النفوذ الإنكليزيِّ في إثيوبية سنة ١٩٢٥ فَيقِلُّ نفوذ فرنسة في البحر الأحمر.
وتمضي ثلاث سنين فيَعُود الإنكليزُ غيرَ أصدقاءَ لإيطالية؛ وذلك لأن إيطالية بدأت تكون من القوة ما لا يريدونه؛ ولأنه كان على حكومة العمال بإنكلترة أن تكافح الجَبَروُتَ الإيطاليَّ، وهذا إلى أن من شأن سياسة القطب السياسي القائمةِ على القَهْر أن تقيم كثيرًا من العوائق في علائقه الدَّولية. ويَخْسرُ مُوسُولِّيني بعد بُداءة مُوَفقةٍ نفوذَه كزعيمِ حزبٍ لنظامه اللااجتماعيِّ، ثم يُصاب بانتكاسٍ في الحقل السياسيِّ الخارجيِّ في إنكلترة وفي غير إنكلترة.
وكان يُمْكِن الفريقين المتنافسين أن يتفاهما حَوالَي سنة ١٩٢٨، وكانا مستعديْن لصنع ذلك، وقد أنبأت إنكلترة في سنة ١٩١٩ بأنها تَنْوي إنقاص حصونها في مالطة وبأن لديها من الأسباب ما يحمِلها على نَقْل قُوَاها البحرية إلى البحار المحيطة. وكانت الدِّبْلُمِيَّة الإنكليزية قد أثبتت أيام بَلْفُور كيف تُحَوَّل الإمبراطوريةُ وَفْقَ روح الزمن، وكان ساسَةُ الإنكليز يَعْرِفون، كما يلوح، ضرورةَ ترك أممٍ أخرى تَتَوَسَّع في البحر المتوسط على أن يضعوا حَدًّا لهذا التوسع وأن يَرْقُبُوه بعضَ الرَّقابة. وأما مُوسُولِّيني فكان يَعْرِف أن مبدأ «الإمبراطورية الرومانية» يمكن أن يكون شعارًا فاتنًا للجماهير، ولكنه كان يَعْرِف أيضًا أن رومة عادت لا تكون مركزَ العالَم كما عادت باريس لا تكون هكذا، واليوم تُدْعَى عواصمُ العالَم الكبرى وَشنْغتنَ ولندنَ ومُوسْكو، ويجب أن تُضاف برلينُ إليها في هذه الساعة، وبما أن مُوسُولِّيني كان مناهضًا لفرنسة، وبما أن سلطان فرنسة أخذ يأفُلُ في أوروبة، لم يكن عليه غيرُ محاولة الاتفاق مع لندن أو برلين، وكان لا يَفْصِله شيءٌ عن الألمان؛ وذلك لأن مسألة التِّيرُول الجَنوبيِّ لم تُزْعجْه قطُّ كما أنها لم تَهُزَّ ألمانية، وكان يمكنه أن يتفاهم مع إنكلترة تفاهمًا مستمرًّا ما دامت حكومتُها الاشتراكية أمرًا مؤقتًا، وما دام احتمال الاتفاق مع هذه الحكومة لم يُبْعَدْ أيضَا. والواقعُ أن الفظائع التي اقترفها مُوسُولِّيني أقلُّ بدرجاتٍ من التي أثارت غضب العالَم ضِدَّ ألمانية بعد عشر سنين، حتى إنه أمكن أصدقاءَ إيطالية أن يزعموا أن مُوسُولِّيني حال دون بعض المفاسد وإن قضى على الحرية.
ويُسَمِّي مُوسُولِّيني إيطاليةَ جزيرةً في البحر المتوسط، ويُحَرِّض مُوسُوليني قومَه على التفكير في الأمور كجَزَرِيِّين، ويُصَرِّح مُوسُولِّيني بأن البحر المتوسط بالنسبة إلى فرنسة خندقٌ بينها وبين مستعمراتها، وبأنه بالنسبة إلى إنكلترة مُقَصِّرٌ للطُّرُق البحرية، وعلى العكس يرى مُوسُولِّيني أن البحر المتوسط بالنسبة إلى إيطالية ساحةٌ حيوية، ومع أن جِيُولِيتِّي كان ينكِر على قومه تسمية البحر المتوسط «بحرَنا» ما وَجَبَ أن يَظَلَّ مفتوحًا لجميع الأمم جَهَرَ موسولِّيني بقوله: «البحر المتوسط لأبنائه.» وكان الأغارقة قد دافعوا عن هذه النظرية ضِدَّ الغُزَاة من الفُرْس، وكان الرومان قد دافعوا عنها ضِدَّ الجِرْمان والعرب كما دافع عنها البابا يُولْيُوس الثاني، بعد زمنٍ، ضِدَّ الألمان والفرنسيين المُتَوعِّدين، وكما دافع عنها البندقيون والإسبان ضِدَّ الإنكليز والهولنديين، فهذه النظرية مما يدافَع عنه على الدوام.
بَيْدَ أن ذلك لا يكون إلَّا بشرط واحد، وهو أن على البلد الذي هو أكثر بلاد البحر المتوسط سكانًا وطولَ سواحلَ، والذي هو وارثٌ لرومة السابقة، أن يشتمل على أمَّةٍ بَحْرِية. ومن قَوْلِ المريشال الفرنسيِّ مَكْمَهُون أن الطلاينة خَسِروا جميع المعارك وكَسَبُوا جميعَ الحروب، ومعنى هذا هو أن الطلاينة كانوا دِبْلُمِيِّين ومفاوضين بارعين منذ مئات السنين. وكان الطلاينة حائزين نُبُوغَ متأخري البزنطيين الذين كانوا يَكْسِبون معاركهم بغيرهم والذين ظَلَّ النجاحُ حليفَهم زمنًا طويلًا بعد زوال مزاياهم الحربية. أَجَلْ، قد يكون من الصواب اعتقادُ الشعب الإيطاليِّ أفضليتَه على جميع أمم البحر المتوسط بعد انحلال الدولة العثمانية وتجاه نَصَب فرنسة، غير أن هذا الاعتقاد تُعْوِزه الصَّلَابة والأوزان، ومع ذلك فإن من المتعذر زَعْمَ توجيه الآخرين مع البقاء مدافعًا دومًا ما لم يُنْعَمْ بقوةٍ بالغةِ المتانةِ ذائعة الصيت.
ولا بُدَّ للتغلب على هذا الزائر الغريب الذي كان لا يَسْكُن البحر المتوسط، والذي كان يَخْتَلِف إليه بلا انقطاعٍ، أن يُتَّصَف بروح الغَزْو والتضحية والتنظيم والطُّمُوح إِلى السيطرة، فإذا ما فُقِدَت هذه الصفات وجب الاتفاق مع هذا الأجنبيِّ، ولم تكن محالفة فرنسة أمرًا ممكنًا لِمَا يؤدِّي إليه هذا من مضاعفة إنكلترة قُوَاها في البحر المتوسط لمقاومته، ومحالفةُ إنكلترة وحدَها هي التي ظَلَّت ممكنة.
وما كان من تفضيل مُوسُولِّيني محالفةَ الألمانِ على محالفة الإنكليز مع كلِّ ذلك، ومع مَقْتِه الزعيمَ الألمانيَّ والألمانَ على العموم، يُثْبِت سِحْرَ طاغيةٍ لآخرَ بمنظر سلاحه الهائل، ولا يَلْبَث مُوسُولِّيني أَن يُدْرِك أنه أساء الاختيار بظهوره عَدُوًّا للإنكليزيِّ؛ لهذا الزائر الغريب.
٧
كان الزائرُ غريبًا؛ لأنه لم يحاول احتلالَ أرضٍ وهو لم يحتلَّها فعلًا كما صنع جميع الغزاة السابقين، وكان القُوط والوَندال والعرب والترك والبربر قد أَوْغَلُوا في البحر المتوسط اقتطافًا لثمرات شواطئه وإنشاءً لمستعمرات كانت تشتمل في قرونٍ كثيرةٍ، في القرون الوسطى، على جميع إسبانية وعلى جَنوب فرنسة وعلى جميع إيطالية وبلادِ اليونان. وكان أولئك الغزاة الأوَّلون قد جلبوا دينهم وطبائعهم ومناهجَهم ومراكبَهم مع سلاحِهم، وكان أولئك الغزاة قد أَتَوْا قاصدين البقاءَ حتى الذي اضْطُرَّ منهم إلى الارتداد بعدئذٍ. واذْهَبْ مِن دارَا إلى مهردَاد، ومن شارلمانَ إلى شارلكن، ومن بطرسَ الأكبرِ إلى إسكندر الثاني، ومن قلب الأسد ريكاردس إلى فرنسوا الأول، ومن عمرَ إلى سليمان، تَجِدِ البحر المتوسط قد اجتذب الأمم التي تسكُن حوله ما عُدَّ مركزًا للعالم، فكان جميع هؤلاء يرغبون في هذه البقاع المُشْمسة وهذه السماءِ الصافية وهذا البحرِ اللُّجَيْنيِّ وهذه الجُزُرِ المُطَوَّقة بفِضة، فتشابه صُوَرَ الفِرْدَوْس.
وإذا عَدَوْت الفصلَ الهولنديَّ الثانويَّ وجدتَ الإنكليزَ وحدَهم هم الذين ظهروا على هذه الشواطئ سائحين أغنياءَ ممتازين فيَنْزِلون من يَخْتٍ ويَخْفِضون علَمهم للتحية في جميع المرافئ وأمام جميع السُّفُن، ولا يَقِفُون في غير بعض الجزائر حفظًا لمكانهم، وذلك كما يُصْنَعُ عند وضع الإنسان قَلَنْسُوتَه أو مِظَلَّتَه على كرسيٍّ، ثم يتوارَوْن مُجَدَّدًا من غير أن يقولوا شيئًا، ولا يَلْبَث أسطولُهم أن يَصِل، مع ذلك، ليَشْغَل الأماكنَ المحفوظة على هذا الوجه، ومع ذلك فإن هذا الأسطول يبدو مُتَنَزِّهًا. والواقعُ أن الإنكليز لم يُطْلِقُوا النار إلَّا نادرًا في أثناء إقامتهم بالبحر المتوسط، لم يطلقوا النار إلَّا ثلاث مَرَّاتٍ في ٢٤٠ سنة؛ أي في سنة ١٧٩٩ بأبي قِير، وفي سنة ١٨٨٢ بالإسكندرية، وفي سنة ١٩١٥ بالدَّرْدَنيل.
وكان على الإنكليز أن يحتفظوا بمنفذي البحر الداخليِّ الكبير: جبلِ طارقٍ والسويس؛ ضمانًا لمراسي هذا الطواف، ثم استطاعوا أن يَرْقُبُوا تجارةَ آسية نحو إنكلترة بفضل مُرْتَكَزَاتهم في البَرِّ وأن يَحُولوا دون اجتماع أسطولَيْ فرنسة في المحيط الأطلنطيِّ والبحر المتوسط. وأخيرًا خُيِّل إلى فرنسة، تجاه الحاجز، وَصْلُ قناةِ الجَنوب للمحيطِ الأطلنطيِّ بالبحر المتوسط بواسطة نهر الغارون فيمكن الأسطولَ أن يَجْرِيَ بذلك من طُولُون إلى برِسْت، وبَدَت فرنسة آخرَ منافسٍ تخشاه إنكلترة بعد القضاء على الأسطول الإسبانيِّ، ومع ذلك فإن الصراع الفرنسيَّ الإنكليزيَّ ظَلَّ خفيًّا في السنين الأربعين الأخيرة، وقد زاد فتحُ الفرنسيين للجزائر احترازَ الإنكليز أكثر مما في أيِّ وقتٍ كان.
وكان تحريرُ إِيطالية مبدأً شعبيًّا في إنكلترة ككلِّ شيءٍ إيطاليٍّ، فلما تَمَّ هذا التحرير أمكن اشتماله على بذورِ تهديدٍ لقوة إنكلترة في البحر المتوسط، ولم تَكْسِب إيطالية حروبَ وحدتها بغير السلاح الأجنبيِّ، ومع ذلك يتساءل الإنكليز: ألا يمكن فوز الطلاينة في البحر ذات يومٍ كما فاز العرب والبندقيون والجِنوِيُّون في هذه الشواطئ؟ أَلَا يهدِّدون إنكلترة بأسطولٍ هائل بعد بضع عشرات من السنين؟ أبصرَ الإنكليزُ تِجاه هذه الأحوال احتياجَهم إلى قواعدَ أقوى مما لديهم ضمانًا لطُرُقهم البحرية، فوَجدوا أن أهمَّ قاعدةٍ تكون في مدخل القناة الجديدة التي سَهُل على ديسرائيلي أن يبتاع معظم أسهمها.
ومن الاتفاق أن تَمَّ إنشاءُ قناة السويس أيام تمام الوَحدة الإيطالية، وعلى العكس لم يكن من المصادفة بدءُ الدول العظمى باقتسام أفريقية منذ فتح هذه القناة، ويَغْدُو أمر مثل هذه الأملاك من المُوضَة بين عشية وضحاها، وذلك كما يتكلم العالَم بأَسْرِه عن قُبَّعةٍ جديدة أو رواية أخرجتها المطبعة، ويَخْتَصُّ الإنكليز برَقابة القناة الجديدة مع طريق الهند ويفتحون السودان في الوقت نفسه. وكان المصريون قد اعْتَزُّوا بالقناة وصاروا يمقتون الأجانب، وكان من نتائج هذا ما وقع من فِتَنٍ في الدلتا وحول مجرى النيل الأعلى حوالَي سنة ١٨٨٠، ويرفع محمد أحمد راية العصيان ويَنْزِع منهم السودان مدة خمسَ عشرةَ سنة، وتحدث ثورة عرابي، ويقع جميع هذا في الوقت المناسب للإنكليز.
وتُثبت دِبْلُمِيَّةُ البريطان سلطانَها في مثل هذه الأحوال، ولا يَجْزع الإنكليزُ أمام عدوٍّ غيرِ منتظَر، بل يشتدون ويشعُرون في أنفسهم بوَحْدَةٍ رائعة كما حدث في الحرب العالمية الثانية، وما لاح لهم من فرصة تحرير مصرَ من زعيمها الشعبيِّ ومن ضرب الإسكندرية بالمدافع ومن موت غُورْدُون بعد ذلك، يُعَدُّ ذريعةً صالحة لفتح جميع السودان، وفي كلا الحالين يصرِّح الإنكليز على مَضَضٍ بأنهم مضطرون إلى إطالة إقامتهم بمصر. وتَخْسَر فرنسة نفوذَها في هذا البلد مع أن عدد الفرنسيين كان فيه أكثر مما في الوقت الحاضر. وأما إيطالية فلم تكن نافذةً فيه قَطُّ، وذلك لأن الطلاينة، وإن كانوا فيه أكثر عددًا من الإنكليز ثلاث مَرَّات، كانوا من الفقراء المرتزقين في الغالب على حين كان الإنكليز أغنياءَ قادرين.
ويقضي احتلالُ مصر من قِبَل الإنكليز منذ ستين سنة على النفوذ التركيِّ، ويُحَقِّق المبدأ الأكبر، الذي صاغَه اللورد كُرْزُن بعد حين، فيَرْمُز إلى مثلث السويس والكاب وسنغافورة، ولا يقتصر الأمر على تقصير طريق الهند أكثر من ١٢٠٠٠ كيلومتر، ولا على زراعة القطن في دِلتا النيل وفي النيل الأزرق، بل يَضْمَن أيضًا أَمْنَ نصف القارَّة الأفريقية باحتلال مصر، وتُعَزِّز إنكلترة مركزَها في أوائل الحرب العالمية الأولى في هذه الأماكن بوَقْفِها حياة قناة السويس وباحتلالها القناةَ مع جميع وادي النيل واضعةً مصر تحت حمايتها.
وكانت استفادة المصريين من الاحتلال الإنكليزي في الكرامة أكثر مما في الحرية، ويُنْصَب خديو طَيِّعٌ في سنة ١٩١٤، ويُنادَى بعد الحرب العالمية الأولى بابن حفيد لمحمد علي ملكًا، وينال هذا الأخير عِدَّةَ حقوق لبلده، ومع ذلك لا يغادر جنود الإنكليز ومدافعُهم وطائراتهم مصرَ تمامًا، ويَظَلُّ المندوب السامي البريطانيُّ، الذي عاد لا يحمل هذا اللقب، أقوى مَنْ في القاهرة، ويداوم المصريون على إبداء مَلَلِهم من منظر الكتائب البريطانية حتى تدريبها في ثُكْنَتِها الواسعة الواقعة على ضِفَّة النيل. ويسأل رئيسُ الوزارة مَكْدُونَلْدُ الزعيمَ المصريَّ القوميَّ زغلولًا عن الحدِّ الذي يرغب أن يرتدَّ الإنكليز إليه، ويجيبه زغلول باشا عن ذلك بقوله: «إلى لندن.»
ويكون لجبل طارق شأنٌ جديدٌ منذ قبضت إنكلترة على هذا القسم الجنوبيِّ الشرقيِّ الحيويِّ من البحر المتوسط، وذلك لتحوُّلِه من حاجزٍ إلى مركز رَقابةٍ لطريق الإمبراطورية؛ أي لقيامه بعمل الكاب فيما مضى، ومع ذلك فإن جبل طارقٍ في زمن الحرب يَسُدُّ الطريق نحو الغرب على حين تحاصِر السويس المخرجَ نحو الجَنوب، ويمكن الإنكليزَ في هذه الحال إِذَنْ أن يجلُبوا كتائبَهم وسلعَهم من الهند إلى أفريقية دائرين حَوْل رأس الرجاء الصالح من غير أن يكونوا عُرْضةً لمخاطر البحر المتوسط. وهكذا يتألف من جبل طارق والسويس عند عدم احتلالهما من قِبَل دولة أجنبية، ضربٌ من الاتحاد الشخصيِّ كالذي كان بعض الملوك يزيدون به سلطانَهم بضَمِّهم إلى مملكتهم ما يَرِثُون من ولاياتٍ أُخَر، وقد وَرِثت إنكلترة نفسُها قناةَ السويس، ورِثَتْ هذه القناةَ التي أنشأها الفرنسيون.
وقد استولت إنكلترة على الجزيرتين: مالطة وقبرس، بين احتلال جبل طارق واحتلال مصر؛ أي بين سنة ١٧٠٤ وسنة ١٨٨٢، مُوَطِّدَةً بذلك وضعَها الاسْترَجيِّ في البحر المتوسط.
وتصبح مالطة نصيبَ إنكلترة سنة ١٨٠٠؛ أي في زمن بونابارت الذي سَمَّى هذه الجزيرةَ قلبَ البحر المتوسط، ويكون ضَياعُها هزيمةً لفرنسة فيُشْعَرُ بنتائجه في هذه الأيام مُجَدَّدًا ويُضَافُ إلى ما مُنِيَ به نابليونُ من خُسْرٍ كثيرٍ على البحر. وتُعَدُّ هذه الجزيرةُ الصغيرة مرآةً لتاريخ البحر المتوسط من حيث اللغةُ وفنُّ البناء، واذهَبْ من الكتابات الغريبة التي تَرْجِع إلى الأهلين الأوَّلين، ومُرَّ على المَسْكَن الذي يُعْزَى إلى الرسول بولس، واقْصِدْ أبراجَ النورمان، وابْلُغْ قصورَ فرسان مار يُوحَنَّا الغريبة الزاهية، تُبْصِرْ ما لهذا البحر من آثارٍ عجيبة مؤثِّرة، وإذا ما نظرنا إلى هذه الجزيرة بعيونٍ شِبْهِ مُفَتَّحَةٍ، كما يُنْظرُ إلى منظرٍ عند غروب الشمس، إدراكًا لاستدارتها ألقت في روعنا رُؤْيَا حُورِيَّة، وتُحْسَبُ لغةُ أهل مالطة مزيجًا من إيطالِيِّةِ الجَنوب والعربيةِ مع مَسْحَةٍ فرنسية، ويلوح هؤلاء الأهلون، الذين هم من أبناء مختلف العروق فيقضون حياةً هَيِّنَةً متوانية تحت ريحٍ سَمُومٍ مُوهِنَة، منحطين منذ احتلال جزيرتهم، ويقوم معاشُهم الرئيسُ على إصدار المُخَرَّمات والخمر، وكان أجدادُهم يقضون هنا حياةَ فَيْضٍ ومغامرة. وما فتئت مالطة البعيدةُ ألفَ مِيلٍ بحريِّ من جبل طارق وبورسعيد وقبرس تكون هدفَ طمعٍ نظرًا إلى موقعها المركزيِّ، ويُمْكِنُ جزيرةً كهذه أن تكون نقطة فتحٍ للعالَم أو غَرَضَ فتحٍ من العالم، فتشابه بذلك أمرَ امرأةٍ تابعةٍ لهواها، واليومَ يَعُدُّ الخبراءُ مالطةَ أقوى حصون العالَم، أقوى من جبل طارق وهُونْغ كُونْغ؛ وذلك لأن هذه الجزيرة لا ترتبط في اليابسة بغير شريط ضَيِّق تُكلَّف بحمايته؛ ولأنه يمكنها أن تقِفَ جميعَ قُوَاها على الدفاع عن نفسها.
ويحتلُّ الإنكليز جزيرةَ قبرس سنة ١٨٧٨ مُدَّعين حمايةَ الترك ضدَّ الروس، فجاء هذا دليلًا ناطقًا على فِطْنَة ديسرائيلي، وتَطُول إِقامة الإنكليز بها منذ ذلك الحين، وهم لم يَضُمُّوها إليهم نهائيًّا إلا سنة ١٩١٤. وقُبْرُسُ أكبرُ من جميع الجُزُرِ الواقعة شرقَ صِقِلِّية، وتقطعها سلاسلُ جبالٍ سكنها جميع شعوب البحر المتوسط الجبلية فتَجِدُ نُبَذًا تاريخيةً في كلِّ مكانٍ منها تستُرها الطبيعة وتزخرفها، ويقوم مَقَرُّ الحاكم الإنكليزيِّ على مُنْحَدَرِ الأُلِنْب، فإذا ما تناول هذا الحاكم راحَ قبرسَ الحُلْوَ أبصرَ رَمْزًا اتصالَ ما بين أغارقة الماضي وبندقييه من ناحية ومَلَّاحيه الماثلين اليوم في الجزيرة من ناحيةٍ أخرى.
وتُحْسَبُ قبرسُ ومالطة — وهما كلُّ ما لإنكلترة من مستعمراتٍ في أوروبة — أثرَ مبدأٍ حكوميٍّ زال سلطانه، ويبدو سكانُهما مُبْغضين لإنكلترة، ويبلغُ الأغارقةُ بقبرسَ والطلاينةُ بمالطةَ تسعين في المائة منهم، وتدوم الفِتَن في قبرس حتى سنة ١٩٣٠، ويرى الخبراء وجوب ترك هاتين الجزيرتين مُقَدِّرين عدم الفائدة من احتلالهما، ومع ذلك فإنهما يُحَصَّنان في السنين الأخيرة أكثر مما في أيِّ زمنٍ ماضٍ، فتبدو في ميناء فَمَابُوسْتَة، في قريةِ صيادي السمك الصغيرة هذه، أفواهُ المدافع بين الخرائب الفِنِيسيِّة.
وتَبْعُد قبرس من سورية دقائقَ قليلةً بالطائرة، وهنا، في الساحل الشرقيِّ من البحر المتوسط، أسفر انكسارُ تركية عن وضع جديدٍ لإنكلترة، وعن ضرورةِ فنٍّ حربيٍّ جديد لها، وهنالك كان لإنكلترة بضعُ سفنٍ حربية قبل الحرب العالمية الأولى، فأنشأت بعد حينٍ قواعدَ كبيرةً ونظمت مواقعَ استْرَجِيَّةً، ومن أهمِّ ما اتفق لإنكلترة من نتائج الحرب العالمية الأولى هو سيطرتها على القسم الشرقيِّ من البحر المتوسط بين حدود ليبية وحيفا، مع عَدِّ سوريةَ الفرنسيةَ في الشمال دولةً واقيةً ضِدَّ تركية المجدَّدة.
ومع ذلك فإن سقوط الإمبراطورية التركية الذي كان لإنكلترة به مواقعُ بالغةُ القوة قد أوْجَد لها خصمًا جديدًا، أوجد قوةَ العرب المتزايدة. وكانت السياسةُ الإنكليزية تستند في هذه البقاع إلى مختلف الأُسَرِ العربية المالكة مع تفاوتٍ في النجاح، ولم تبحث إنكلترة عن مستعمراتٍ لها هنالك، وكلُّ ما في الأمر هو أنها كانت تَهْدِف في الغالب إلى معارضة مطامع الطلاينة الذين كانوا يحاولون مُلْكًا هنالك أو اشتراكًا في الحكم على الأقلِّ هنالك. وكانت إنكلترة قد وضعت القسم الجَنوبيَّ الشرقيَّ من جزيرة العرب؛ أي عَدَنَ، تحت حمايتها في سنة ١٨٣٩، ثم استولت على جزيرة بريم، فلما وقعت الحرب العالمية الأولى فتَحَتْ لها طريقَ الهندِ البريةَ الموازية لطريق الإسكندر الأكبر مارَّةً من إيران والعراق حتى الخليجِ الفارسيِّ، ثم فتحت عنصرًا ثالثًا في آخر الأمر، فتحت السماءَ بخطوطٍ جويةٍ ضامنةٍ للتجارة أيامَ السَّلْم وللدفاع عن الإمبراطور أيام الحرب، وقد حَوَّلت بغدادَ التي هي أجملُ بلدٍ شرقيٍّ إِلى مدينة عصرية جاعلةً منها مركزَ اتصالٍ بين خطوط الجوِّ الكبرى.
وتُتِمُّ قِصَصُ ألف ليلة وليلة دَوْرَتَها، فيَنْقُلُ حاكٍ طويلٌ في سوق مكة خُطبةَ ابن سعود إِلى الجُمهور، وتَقْطَع شوارعَ المدينة سياراتٌ مصفَّحة، ويُسْمَعُ أزيزُ طائراتٍ فوق بغداد، ويَسْمَع البُسْفُورُ صَفَّارَةَ البواخر، ويجري نِفْطُ العراق في أنابيبَ إلى عكا، وتُمَرَّنُ الفَتَياتُ بدمشقَ على الألعاب الرياضية لابساتٍ «سراويلَ قصيرةً»، ومع ذلك فإن كلَّ واحد يتوجَّه وقت الغروب نحو مكة رافعًا يديه إلى السماء مُرَدِّدًا قول الأجداد: «لا إله إلَّا الله، محمدٌ رسول الله.»
٨
ثَبَتَ العربُ والترك أمام هجوم النصارى أكثر من ألف سنة، وعاشوا حتى بعد انهيار الخلافة، وأثبت الإسلامُ قوتَه ووَحدتَه إثباتًا مؤثِّرًا على حين كانت النصرانية في هذه السنينَ الألفِ تُمَزَّق بمنازَعاتٍ بين مختلَف المذاهب؛ ولذا لم يَسْطِع النصارى أن يفتحوا الشرق. أَجَلْ، تنازَع العربُ كما تنازَع الحلفاء غير أن أساسَ دينهم لم يُزَلْزَل بمنازعاتهم، ولَمَّا تصادَمَ زعيمُ الحنبليةِ الإسلامية ابنُ سعودٍ هو وحسينٌ لم تُؤَدِّ العواملُ السياسية إلى غير نتائجَ سياسية، ولما صار ابنُ سعودٍ ملكًا للحجاز في سنة ١٩٢٥ اجتنب لقبَ الخليفة خلافًا لِمَا صنع خصمه حسينٌ. أَجَلْ، إن جميع هذه المُعْضِلاتِ لم تُحَلَّ بَعْدُ، ولكنْ هل تكون هنالك مُعْضِلاتٌ أُخَرُ لو كانت تلك قد حُلَّت؟
ويُجادَل حول الأماكن المقدسة في القدس بأشدَّ مما حَوْل مكة، حتى إنه رُئِي في أثناء الحرب العالمية الأولى، ذاتَ حينٍ، أن تُسَلَّم القدسُ إلى البابا كما صُنِع في القرون الوسطى، وكان الفاتِيكان يسعى وراءَ هذا الرأي الذي لم يُكْتَب له الفوز بسَعْيٍ من إنكلترة الراغبة في حيازة ضفَّتي قناة السويس الغربية والشرقية، وهذا الطمعُ الإنكليزيُّ هو أساسُ قيام دولةٍ يهودية في فلسطين.
ولم يُنْتَقص المبدأُ الرئيسُ الذي يَهْدِف إلى إيجاد مثل هذه الدولة بما كان يستتر وراء تحقيقه من رأيٍ، وعلى العكس كانت الدولة التي تقيم دولةً لليهود تنتفع بهذا الإنشاء، وما أعطته هذه الدولة من ضمانٍ بَدَا أدومَ مما كان بعضُ المثاليين ينالون به هذا القرارَ الإنسانيَّ، وما كان من عَزْمٍ عَبَّرَ عنه الوزير البريطانيُّ مستر بَلْفُور في تصريحه المشهور الذي أصدره سنة ١٩١٧ ينطوي على صدقٍ تامٍّ، والواقعُ أن هذا التصريح هو كتابٌ موجزٌ، على الطريقة الإنكليزية، وُجِّه إلى اللورد رُوتشِلْد بهذه الصيغة وهي: «إن حكومة جلالته تنظر بعين الرِّعاية إلى إقامةِ وطنٍ قوميٍّ للشعب اليهوديِّ في فلسطين، وهي ستبذل أكبر الجهود وصولًا إلى هذا الغَرَض، ولكنْ على أَلا يُجْحِفَ شيءٌ بما للجماعات غير اليهودية الموجودة من الحقوق المدنية والدينية.»
ولم يكن بلفورُ واليهودُ الذين ساورتهم فكرة هذا الوطن القوميِّ أولَ مَن لاح لهم هذا المشروع، ولكنهم كانوا أولَ مَن حَقَّقُوه في الوقت المناسب وبالوسائل الملائمة. وكانت الحركة الصهيونية قد وَجَدَت، حوالي سنة ١٨٩٠، في شخص ثيودورِ هِرْزِل زعيمًا ملتهبًا ذا روحٍ نبوية، وكان هِرْزِلُ هذا حسنَ الذِّكر مُبْتَدِعًا، وكان أديبًا عاطلًا من الحَوْلِ والمال، وكان قلبُه عامرًا بإيمانه وعبقريته فطرح حياتَه البُرْجوَازِيةَ جانبًا وترك حضارةَ مَسْقط رأسه فينة وموسيقاها، وجاء ليقيم على الصخور العالية في البَرِّيَّة التي كان أجدادُه قد طُرِدوا منها منذ ألفي سنة، ويغادر الصِّحافِيُّ بلادَ النمسة ويَقْصِد البحرَ المتوسط ويَعْزِم على اجتذاب أبناءِ دينه إلى هنالك.
ومع ذلك لم يُجِبْ دعوتَه أحدٌ في السنين الثلاثين التي عَقَبَتْ ذلك، والواقعُ أن التُّرْك الذين كانوا يَمْلِكون فلسطين، وكذلك الدولُ العظمى، لم يمنحوا المهاجرين أيَّ ضمانٍ كان، وينطوي تاريخ المستعمرات اليهودية الأولى في فلسطين على فُتُونٍ كالذي تَجِدُه في تاريخ الطلائع الأولى بأمريكة وجَنوب أفريقية، ويَشُدُّ مثالُهم العظيم عزائمَ اليهود أيامَ الاضطهاد.
وتُرَدُّ الحركة الثانية، التي هي أشدُّ من الأولى بمراحلَ، إلى سنة ١٩١٩، وترتبط في عصر الأجداد ارتباطًا عاطفيًّا، ومع ذلك فإِن العنصر الدينيَّ في هذه الحركة الثانية أقلُّ كثيرًا مما في الأولى فتقوم الصهيونية اليوم على الأمور العِرْقية أكثر مما على الأمور الدينية، ولو نظرتَ إلى نسبة اليهود القليلي التدين في فلسطين لوجدتها كنسبة المرتابين من اليهود والنصارى في جميع العالم، ويُعَدُّ هذا الدور الثاني من الدولة اليهودية أشدَّ عَصْفًا من الأول نظرًا إلى ما بُلِغَ من النتائج وإِلى ما يعترض في طريقه من المصاعب.
ولَمَّا وَصَلَ أولُ رَعِيلٍ من اليهود إِلى المَحْمِيَّة البريطانية الجديدة أكرمه العربُ كأقرباءَ وأَبْدَوْا له عطفًا بالغًا عَبَّرَ عنه الملك العربيُّ فيصلٌ في كتابٍ حارٍّ، حتى إن هذا الكتاب يوكِّدُ كون الشعبين فوق أرض فلسطين لا يقدران على العيش مع النجاح إلا بتعاونهما.
ومع ذلك وقع على عَجَلٍ مِثلُ الذي أثارَ اللاساميةَ في أنحاء العالَم في كلِّ زمن، فقد بَرَزَ ما اتصف به اليهود من الذكاء والهِمَّة والثبات بما يوجب عجب الشعوب المجاورة التي لم تَثُرْ إلَّا لأن هذه المزاحمة الجديدة الصارمة تحمِلهم على العمل الشاقِّ خشيةَ الموت جوعًا في مثل هذا البلد، ويُذْعَرُ الإنكليزُ من أمرٍ كان يمكنهم أن يبصروه، وتَتحول شكاوَى العرب إلى وعيد، والوعيدُ إلى عنف، وتشتعل فِتَنٌ في البلد، ويتدخل الجيش في الأمر، ويحُفُّ الخطرُ بغتةً حول ما ناله الإنكليز من عطف العرب بمشقة.
ويعترف الإنكليز بخطئهم مع الألم على خلاف معظم الأمم الأخرى فيرسلون لَجْنة إلى القدس، وتُصَرِّح هذه اللجنة مُخْلِصةً بأن كلا الفريقين على حق، ويصف مكدونلدُ السياسةَ الإنكليزية في فلسطين ﺑ «اللَّعِب ذي الوجهين»، ويلوم الحكومة على قطعها وعودًا يتعذر إيفاؤها، ويوضح تِشْرشِل الوضع بقوله إن اليهود لم يُوعَدُوا بجميع فلسطين قطُّ، بل وُعِدُوا بوطنٍ قوميٍّ فقط، وتقف الحكومة الإنكليزية الهجرةَ اليهوديةَ لهذا السبب وتضع من الخِطط ما يُقَسَّم به البلد، ثم تطرح هذه الخِططَ جانبًا، وتشتعل فِتَنٌ جديدة نتيجةً لذلك، وتقع حوادثُ قتلٍ وتبدأ حربٌ صَمَّاء، ويحيق الخطر بعمل طلائع اليهود ويُقْضَى عليه في الغالب.
والواقعُ أن ما أُنْجِزَ على ذلك الشاطئ البحريِّ في سِنِي الهجرةِ اليهودية الأولى كان أثرَ نهضةٍ عظيمة، وقد حاول منتقِصوه أن يثيروا الرِّيبَ بتوكيدهم عملَ المبالغ الضخمة التي أخذها اليهود من جميع بلاد العالم، مع أن جميع المستعمرات تنال مالًا أو تستمدُّ عونًا من الوطن الأمِّ أو من الشِّرْكات الخاصة. وعلى مَنْ يودُّ أن يتبيَّن عظمةَ هذا العمل أن يقابل بين فلسطين قبل الهجرة اليهودية وبعدها، فهنالك يرى أن عددَ اليهود من السكان في سنة ١٩١٩ كان ثمانيةً في المائة؛ أي خمسين ألفًا، فأصبح عدد مَنْ يعيش من اليهود في بلد أجدادهم بعد رُبْع قرن خمسمائة ألف؛ أي ٣٥ في المائة من السكان، وما كان من تحويل هذه البقاع الجافَّة الجديبة التي لا تفِيض لبنًا ولا عسلًا خلافًا للتوراة، وإنشاءِ مدنٍ ومرافئَ وخطوطٍ حديدية وشَبَكَاتٍ كَهْرَبية، يُثْبِتُ للعالَم ولليهود أنفسهم اتصافَ اليهود بما كان مجهولًا من قدرةٍ على الاستعمار.
ومن دواعي العجب أن يتحول قومُ التجار والدكاترة والعلماء الذين كان يلوح بُعدُهم من الطبيعة إلى قومٍ زُرَّاعٍ، ولم تكن هذه حالَ الأولاد وحدَهم، بل هي حالُ أولِ جيلٍ من المهاجرين، بل هي حالُ الرجال والنساء الذين قَضَوْا حياةَ أبناء المدن في أوروبة، ففي هؤلاء اليهود جميعهم بُعِثَتْ غرائزُ الأجداد التي كُبِتَتْ في البلدان الأوروبية، والحقُّ أن اليهود صنعوا في فلسطين ما كان الفنيقيون قد صنعوه في قرطاجة، فأصبحوا زُرَّاعًا.
وقد أَدَّى وزنُ العصر وما هنالك من خصام وآلام وما لدى اليهود من مِزَاجٍ نشيطٍ إلى إيجاد أسطورة جديدة، فعاد اليهود لا يتكلمون فيما بينهم عن الملكِ سليمان أو عن هدم الهيكل مُوَجِّهين بحثهم حَوْل الموالح وكَهْرَبة الصِّناعة وحَوْلَ مصانعَ بحريةٍ جديدة في حيفا، ويَحَارُ العالَمُ المملوءُ احترازًا من كون النظام وحفظ المواعيد قاعدةً بين الجماعات اليهودية الجديدة، ولا غبار على ما بين اليهود وقدماء المستعمرين من صلات، وما اتصف به اليهوديُّ من عنادٍ وتفاؤلٍ أعانه على اقتحام الأزمة الشديدة التي عَقَبت ازدهارَ المستعمرة الجديدة الأَوليَّ.
والحقُّ أن أمرًا مُحَيِّرًا غيرَ منتظَر قد ظَهَر، فقد غامر اليهود بحرًا وبَدَوْا مَلَّاحين صالحين، وقد لاح في البحر المتوسط علَمٌ جديدٌ أزرقُ وأبيضُ، ولا يكفي هذا لحلِّ المُعْضِلَة اليهودية لا ريب؛ وذلك لأن جزءًا صغيرًا فقط من اﻟ ١٥ مليونَ يهوديٍّ يمكنه أن يعيش في فلسطين أو يرغب في الإقامة بها، ومع ذلك فإن الأمر لا يعدو حَدَّ البُداءة، ومع ذلك فإِن هذا الشعب الطريدَ المضطهد بين الأمم وفي غضون الأجيال يَمْلِك من جديدٍ وطنًا روحًا وعملًا.
٩
كانت مرافئ البحر المتوسط مدججةً بالسلاح في صيف سنة ١٩٣٩، وما بين إنكلترة وإيطالية من صدام، وما بين الطليان والألمان من حِلْفٍ، كانا يجعلان الحرب في هذه النواحي البحرية أمرًا لا مفرَّ منه. والواقعُ أن مصير السَّلْم في البحر المتوسط كان يتوقف على رجل واحد، ولو انحاز مُوسُولِّيني إلى الدول الغربية كما كان قد صنع قبل ذلك بخمسٍ وعشرين سنةً لظلَّ البحر المتوسط أكثر سكونًا مما كان عليه في الحرب العالمية الأولى. والحقُّ أن تركية المُجَدَّدة الصغيرة كانت لا تستطيع أن تنحاز إلى الألمان بين المحالفات والمصالح الراهنة، وما كان الألمان ليقوموا بحرب بحرية في الجَنوب بلا حلفاء، وذلك إلى أن وجودَ أملاك كبيرةٍ خلفَ الشواطئ الشرقية تابعةٍ للرَّقابة الإنكليزية أو الفرنسية كان يؤدي إلى حياد البحر المتوسط ما رَضِيَت إيطالية بالمِنَح السخيَّة التي كانت إنكلترة مستعدةً لمنحها إياها لا ريب.
ومع ذلك فإن مُوسُولِّيني الذي كان يزدري مقلِّدَه الألمانيَّ في البُداءة أخذ يُبهَرُ بتسلُّح الألمان الهائل، فصار يحْسُبُ هزيمةَ فرنسة وإنكلترة في حربٍ قادمة وصار يرى إمكان توسُّعه على حساب فرنسة بانتصارات بحرية ينالها بعد هذه الهزيمة. وكان إخاء السلاح مع الألمان قد جُرِّب في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية منذ سنةٍ، ثم أسفر تماثل النظام الاستبداديِّ في البلدين، إيطالية وألمانية، عن تقرير مُوسُولِّيني لسياسته نهائيًّا. أَجَلْ، لم يكن مُوسُولِّيني ليجهل أن تاريخ إيطالية وأخلاق الطلاينة وتحوُّلَ مركز العالَم أمورٌ يتعذر معها إقامةُ إمبراطورية رومانية جديدة، غير أن ما عَزَم عليه هذا المغامر من مقاتلة إنكلترة نشأ عن تقارب طبيعيٍّ بينه وبين هِتْلر الذي يشابهه في ازدراء الديمقراطيات كممثلةٍ لنظامٍ بَطَلت عادته.
ولا مِرَاءَ في أن مُوسُولِّيني قد نجح في حمله أُمةً عَزُوفًا عن العمل على القيام بمشاريعَ مهمة، فأنشأ أكبرَ أسطولِ غَوَّاصاتٍ في البحر المتوسط، كما بَنَى بحريةً حربية رائعة. بَيْدَ أن قلة رءوس الأموال ونقصَ الموادِّ الأولية وعدمَ النظام والإيمان؛ أي طبيعةَ إيطالية والطليان، أمورٌ قَيَّدت برنامجَ تسلُّحه وحالت دون بلوغه الأرقام الألمانية ولو من بعيد، وقد كان من سوء الحظِّ عدمُ سيطرته على شعب يشابه الألمان كما صَرَّح بذلك ذات مرةٍ في أثناء حديثٍ خاصٍّ. وكانت إيطالية تَمْلِك مدرعتين في سنة ١٩٣٦ وكانت تصنع مدرعتين أخريين في مقابل ثلاث سُفُنٍ فرنسية قديمة من الصنف نفسه، وفي مقابل نحو ستِّ مدرعاتٍ يملكها الإنكليز في البحر المتوسط من مجموع خمسَ عشرةَ مدرعةً.
ولا مِراءَ في أن لإيطالية فائدةَ وقوعها في مكان القتال نفسِه على حين لا تَمْلِك إنكلترة في البحر المتوسط الغربيِّ غيرَ بضعِ قواعدَ بحريةٍ أُنْشِئَت على عَجَل. وعلى العكس كانت إنكلترة وفرنسة تَفْضُلَان إيطاليةَ بنَيْلِهما مصادرهما من خارج الوطنِ الأُمِّ مع إمكان تَمَوُّنِهما بطريق المحيط الأطلنطيِّ، وكان يُمْكِنُ إنكلترةَ في السويس أن تَحُولَ دون اتصالِ إيطالية بإِثيوبية، وكان يمكن إنكلترةَ في جبلِ طارقٍ أن تَحُول دون دخول موادَّ أوليةٍ إليها، ولا يوجد على طول السواحل الإيطالية المكشوفة مصابُّ واسعةٌ عميقةٌ كما يُرَى في الشمال غالبًا، وتنتهي الخطوط الحديدية إلى البحر الذي تقع كبرياتُ المدن بجواره، وتبْدُو إيطالية مُعَرَّضةً لغاراتٍ بحرية وجوية يَشُنُّها عدوٌّ أقوى منها عُدَدًا أو أكثرُ منها جهازًا.
وقد صنعت الفاشِيَّةُ لإيطالية شيئًا كثيرًا، ففي صِقِلِّية، التي تُلَقَّبُ برأس جسر الإمبراطورية، وُسِّعَ ميناءُ سَرَقُوسَة كما أُصْلِح ميناء مَسِّينَة الذي هو من أعظم موانئ العالَم الطبيعية فيمكن أن يشتمل على ألف سفينة دفعةً واحدة، وقد أُنشئ ميناءُ كالْيارِي في سَرْدينية الجَنوبية، وكان يُمْكِن أن تُضْرَب بالمدافع من أقصى شمال هذه الجزيرة، جزيرةُ قُورْسِقة الفرنسيةُ البعيدةُ منها بضعةَ أميالٍ بحرية فقط. وقد بلغت سِبيزْيَة، الواقعةُ في موضعٍ ممتازٍ عند مصبِّ أحد الأنهار، من النمو ما صارت معه أعظمَ مصنعٍ إيطاليٍّ بحري، أو أعظمَ مصنع بحري في جميع البحر المتوسط على ما يُحتمل، ولو نظر شعراءُ إيطالية، الذين ظهروا بين دانتي ودانُونْزِيُو فكتبوا مثلهما أشعارهم هنا، إلى ما لهذا الميناءِ القوميِّ من منظرٍ جديد لرَضُوا عنه أكثر من رِضا زميلهم الإنكليزيِّ شِلِّي الذي لم يكن ليَحْلُمَ بوجود آلاتٍ في هذه الفُرْضة.
وقد وُسِّعَ نطاق الدفاع عن البحر الأدريانيِّ إلى أعظم حَدٍّ، وكاد صقالبةُ الجَنوب الذين هم آخر الخصوم يُحْجَبون عنه، وصار من الممكن أن تقع سفنُهم في الشَّرَك. وكانت الطبيعة تُحَابِي إيطاليةَ في هذه البُقْعة ما بَدَتْ دَلْماسية شَرِيطًا ضَيِّقًا نحو البحر وما وُجِدَ قليلُ مزارعَ في جبالها الجُرْد، وعلى العكس كان العامل العِرْقيُّ ملائمًا لصقالبة الجَنوب الذين أقاموا بهذا المكان أكثر من عشرة قرون، وبما أن الساحلَ الشرقيَّ، الذي يستند البحرُ الأدرياتيُّ إليه بعضَ الاستناد، لا يشتمل على غير قليل من الموانئ، وبما أن ما يحتويه من هذه الموانئ لا قيمة له، لم يكن على الطلاينة في أيامنا، كما في عهد البندقية، إلَّا أن يُحَصِّنُوا أقاصيَ شمال هذا البحر وجَنوبه ليصبحوا سادتَه فعلًا.
وفي الشمال لم تُحَوَّل تِرْيَسْتة وبولَا والبندقية إلى مرافئَ مُهِمَّةٍ بعد الحرب العظمى كما حُوِّلت سبيزْية، وصارت تِرْيَستة الغنية، التي عَرَفها النمسويون رائعةً، مرفأً قَفْرًا، وأُغْلِقَت البيوت التجارية في القصور القديمة وعاد لا يكون وراء هذه المدينة بلدٌ، وعلى العكس ترى زارَة، الواقعةَ على عَرْض سبيزْية وفي وسط يوغوسلافية، متوعِّدةً كجبل طارق في إسبانية كما تراها مهدَّدةً من قِبَل الجزائر اليُوغُوسْلافية المجاورة، وأضحت فيُوم التي اشتَهرت بمغامرة دَنُونْزيُو مدينةً تجارية قاتمةً مُجَرَّدةً من القيمة الحربية كما لاحظ ذلك هذا الشاعرُ نفسُه في مشيبه ساخرًا.
وأنشأ الطلاينة ضدَّ الترك وضدَّ الإنكليز الذين هم حلفاءُ الترك نظامًا دفاعيًّا بحريًّا في القسم الشرقيِّ من البحر المتوسط بَلَغَ من القوة ما صَرَّح معه قائدٌ إنكليزيُّ بأن جميع المِلَاحة في بحر إيجه تحت رَقابة إيطالية، فقد حُصِّنَت جُزَيِّرة لِرْيُوز الواقعةُ في جَنوب سامُوس تحصينًا قويًّا فصارت تُهَدِّد كلَّ عدوٍّ طارئ كما يهدِّدُ جبل طارق وزَارة، وقد صُوِّبت مدافعُها نحو سواحل تركية وجزيرة قبرس البريطانية معًا، وتُعَدُّ لِرْيوز من جُزُر الدوُّدِيكانِيز التي يجب أن تكون مشتملةً على اثنتي عشرةَ جزيرةً وَفْقَ اسمها اليونانيِّ، لا على أربعين جزيرةً كما هو الواقع. وكانت هذه الجزائر قد احْتُلَّتْ من قِبَل إيطالية «احتلالًا مؤقتًا» أيام كانت إيطالية دولةً ديمقراطية يَقْبِض على زمامها جِيُولِيتِّي فَحَوَّلَها النظامُ الفاشيُّ فيما بعد.
وجعل مُوسُولِّيني من رودسَ أشهرَ تلك الجزائر، جَعَل منها مركزًا للثقافة الإيطالية، فأنشأ فيها جامعةً وأقام فيها مَصَحَّاتٍ نظرًا إلى إقليمها الرائع مُوَاصِلًا تقاليدَ البندقية بذلك، ولَمَّا دخل السلطان سليمان رودسَ راكبًا جوادًا بعد انتصاره على الهيكليين أغلق باب المدينة خَلْفه، ومن هنا أتت الأسطورة القائلة إن مَنْ يفتح هذا الباب يَخْسَر رودس، ثم تَعْقُب ذلك إدارةُ الترك السيئةُ التي دامت أربعة قرون، وأخيرًا يأمر مُوسُولِّيني باقتحام هذا البابِ باحتفال رسميٍّ ليمرَّ منه الموكِبُ الذي يقوده حاكمه.
وما استعدَّ له مُوسُولِّيني في البحر والجوِّ على نِطاقٍ واسعٍ كان يَهْدِفُ إلى حربٍ قصيرة يمكن أن تنجوَ إيطالية بها وحدَها من ضَنْكِ الحِصار، وكلما طالت الحرب صارت إيطالية عالةً على ألمانية التي لم تكن لتستطيع أن ترسل إليها غيرَ الفحم والسلاح. وكان الطيران الإيطاليُّ يَفْضُل الطيرانَ الإنكليزيَّ لاستطاعته أن يضرِب بالمدافع جميعَ سواحل البحر المتوسط مُنْطَلِقًا من عِدَّة نقاطٍ في شبه جزيرته المستطيلة ومن قواعدَ في صِقِلية وسردينية وبنْتِلَّارْية ولِرْيُوز، وهذا هو السبب الذي حَفَزَ مُوسُولِّيني إلى حَمْلِ شبابٍ كثيرٍ من الطلاينة على المِلاحة وعلى التَّخَرُّج في إسبانية وإثيوبية.
وعلى العكس كان عليه أن يخشى حربًا طويلةً يحتاج فيها إلى البُرِّ والبترول، كما كان عليه أن يخشى ضربَ شواطئه ومرافئه ومصانعه البحرية الخاصة، وكان عليه أن يخشى قبل كلِّ شيء أخلاقَ قومه الذين يَدِبُّ اليأس فيهم سريعًا ولا يُحِبُّون الحرب.
ووقعت في صيف سنة ١٩٣٦؛ أي في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية التي كانت ترديدًا فاشيًّا عامًّا للحرب العالمية الثانية، وذلك على البحر حَوْلَ جبلِ طارقٍ، عِدَّةُ معاركَ بحريةٍ لم يحدث مثلُها منذ قرون؛ فقد استولى آخرُ قراصنة المغرب فرَنْكُو على مراكبَ إنكليزيةٍ وفرنسيةٍ كثيرة أو أغرقها من غير أن تحتجَّ حكومتا لندن وباريس على ذلك، وكانت هذه الحرب بُدَاءَةَ انهيار فرنسة في سنة ١٩٤٠ وما مُنِيَت به بريطانية من هزائم.
١٠
كان ثلاثة من خصوم إيطالية أضعفَ منها بدرجاتٍ قبل صيف سنة ١٩٣٩، وكان الأغارقة، الذين هم شعب بحريٌّ رائع، قد تركوا كلَّ سعيٍ للسيطرة على البحر منذ القرون القديمة، ومع ذلك فإن ستين في المائة من الأغارقة يعيشون اليومَ من التجارة والمِلاحة؛ أي يَبْلُغون في هذا المضمار مَبْلغًا لم يَصِلْ إليه شعبٌ آخر، ومع ذلك فإن أسطولهم التجاريَّ الذي تَبْلُغ حُمُولتُه نحو مليوني طُنٍّ لا يمكنه أن يعتمد على حماية أسطولٍ حربيٍّ، ومع ذلك فإن جميع الأرخبيلِ الإغريقيِّ؛ أي المركزَ الحيويَّ والروحيَّ لبلاد اليونان، مُعَرَّضٌ لكلِّ هجومٍ يأتي من الخارج. وكانت جُزُرُ الدُّودِيكانيز أيام الحكم التركيِّ، مثلًا، معمورةً بأغارقةٍ تبلغ نسبتُهم تسعين في المائة من السكان، ولا يزال مُعْظَم أهل هذه الجزائر من الأغارقة في العهد الإيطاليِّ، وما انفكت جميع مظاهر الحياة في بحر إِيجه تكون يونانيةً تمامًا، وإنما الذي يُعْوِز سكانَ هذه الشواطئ هو ما تقتضيه الحماية من قوة ضرورية.
وظَلَّت قناةُ كُورِنْث، التي هي كلُّ ما حققته بلاد اليونان الحديثة في البحر، غيرَ ذات تأثيرٍ في مِلاحة هذا البلد، ولم تَزِد نفقات إنشاء هذه القناة الذي تَمَّ سنة ١٨٩٣ على عشرة ملايينَ من الدولارات، ولا يجعلها ضِيقُها صالحةً لغير السفن الصغيرة، والسفنُ تَصْدِم شواطئَ القناة المرتفعةَ في الغالب، وتُعَدُّ مِهْنَةُ الرُّبَّان في كورنث أقسى ما في البحر المتوسط، ولا قيمة لهذه القناة من الناحية الاسْترَجِيَّة؛ وذلك لأنها لا تنطوي على غير اقتصادِ دورانٍ طفيف حَوْلَ البلُوبونيز، وبرزخُ كورنث البالغُ من العرض أربعةَ أميال بحرية هو الذي كان قيصر وأَدريانُ من بعده قد ارتأيا فتحه.
ويتوقف الدفاع عن بلاد اليونان على محالفتها إنكلترة التي ما انفكت تبدو حاميةً لها منذ عودة المَلَكيةِ إليها ثلاثَ مرات في عشر سنين. وكان فنِيزِلُوسُ قد حاول في تلك الفاصلة أن يحالف إيطالية التي لم تكن في ذلك الحين قد اتفقت مع ألمانية والتي كانت صديقةً طبيعية لبلاد اليونان، وكان يسهل على إغْرِيقْية وإيطالية أن تتفاهما حول كثير من المسائل المختلَف فيها، ومع ذلك فإن الإنكليز أنشئوا في كريدَ، وإِغْرِيقْيةَ نفسِها، وفي الجُزُر، قواعدَ بحريةً وجوية كانت أنفعَ لإنكلترة مما للأغارقة على ما يُحتمل، والإنكليزُ يعرفون جيدًا جُزُرَ اليونان الواقعةَ أمام الساحل الغربيِّ والتي كانوا مُحْتَلِّين لها فيما بين سنة ١٨١٥ وسنة ١٨٦٤ فلم يُعيدوها إلا في مقابل حَقِّ استعمال الموانئ الإغريقية.
والتركُ حلفاءُ لإنكلترة أيضًا، وما كان كمال أَتَاتُرْك ليستطيع اتباعَ سياسة أخرى؛ وذلك لأن ما بين إيطالية وتركية من أوجه خلافٍ أصعبُ حَلًّا مما بين إيطالية وإغريقية، ولو نُظِر إلى الأمر على نِطاقٍ ضَيِّق لوُجد أن بزنطة تُعارض رومة مُجَدَّدًا، ولكن مع الفارق القائل إن لبزنطة جارًا في الشمال أشدَّ قوةً في الوقت الحاضر، ولما جَهَرَ بطرس الكبير بقوله: «لا أطلب أرضًا، بل أطلب ماءً» كان يُعَبِّرُ عن آمالٍ يشاطره السوفْيِت إياها في أيامنا، على ما يُحتمل، فاستطاعوا أن يتفاهموا هم والتركُ حولها مع ذلك، وهكذا ينمو ضربٌ من الصداقة الغريبة بين خصمي الماضي، إنكلترة وروسية، بواسطة حليفتهما تركية، وتُلَبِّي الدولُ في سنة ١٩٣٦ طلبَ تركية الجديدَ حَوْل الإذن لها في تحصين المضايق مع سماحها بالمرور لأنواع المراكب خلا الغوَّاصات ومع بعض القيود عن وقت المرور، واليوم ترى من المدافع المنضودة ما يَحْرُس المضايقَ من جديدٍ كما كانت عليه الحال في الحرب العالمية الأولى.
ومع أنه كان على إسبانية أن تتبع سياسةً مترجحة بين إنكلترة وإيطالية منذ أواخر حربها الأهلية فإنها لم تَسِرْ في تسلُّحها الحديث قُدُمًا، على ما يُحتمل، إلَّا لِمَا بينها وبين مُوسُولِّيني من معاهدات سِرِّيَّة. ومن الصواب أن قِيل إن جبلَ طارقٍ إذا كان مِفتاح البحر المتوسط فإن طَنْجَةَ قُفْلُه، ومع ذلك فإن طنجة جُعِلَت دَوْلية؛ وذلك لأن إنكلترة لم تكن لتسمح لدولةٍ بإنشاء حصونٍ أمام جبل طارق، وعلى العكس يمكن ضربُ الصخرة بالمدافع من سَبْتَة، ومن الصعب أن يُبْصَر مقدارُ ما يُمْكِنُ جزائرَ البَلِيَارِ المُحَصَّنةَ أن توجبه من عُسْرٍ لإنكلترة إذا ما جَهَرت إسبانية بقتال إنكلترة. ولو نظرتَ إلى السنين العشر التي جاءت قبل الحرب العالمية الثانية لوجدتَ فرنسة أشدَّ تسلحًا في البحر المتوسط مما يَحْمِل على ظَنِّه نُقَّادُ الديمقراطية الباريسية، وكان عليها أن تُمْعِن في التسلُّح ما دامت دولةَ البحر المتوسط الوحيدةَ، ودولةَ العالَم الوحيدةَ أيضًا، التي يتوقف دفاعُها على مستعمراتها. وكانت كلمةُ «الأُسْرة الفرنسية الكبرى» الرائعةُ مرآةً لتعاون أربعين مليونَ فرنسيٍّ وستين مليونَ تابعٍ من لونٍ آخر، وكان هذا التعبيرُ يعَيِّن سياسةً تَعُمُّ مقدارًا فمقدارًا، وكان أصحاب الألوان الأخرى يخدِمون في الجيش عن إغراء، لا عن إكراه، فكانت القوةُ الاستعمارية تُقَدَّر بمليونين. وبما أن الفرنسيين لم يَرْغَبُوا في فتح شيء منذ ١٣٠ سنة، بل كانوا يَوَدُّون الاحتفاظ بما يَمْلِكون، فإنهم كانوا يقتصرون على الدفاع عن سواحلهم الأوروبية والأفريقية وعلى حماية أسطولهم التجاريِّ في سَفَره إلى أفريقية.
وفي هذا سِرُّ محاولة فرنسة مزاحمةَ إيطالية، لا إنكلترة، في المؤتمرات البحرية، وترى مخاوفَ فرنسة حَوْلَ فَصْلِ أسطولِها إلى شطرين بجبلِ طارقٍ قد هَدَأت لمحالفتها إنكلترة منذ أربعين عامًا، وصار يمكن الكتائبَ الاستعمارية أن تَمُرَّ من المحيط الأطلنطيِّ نحو الشمال منذ تَمَّ لفرنسة احتلالُ مَرَّاكِشَ الواقعةِ في شمال أفريقية الغربيِّ. وكان من نتائج هذه الطريق العملية فَقْدُ بعض المفارز التي تُنْقَل، وكان أحسنُ حَلٍّ لذلك هو الطريقَ الذي يقطع الصحراء ذاهبًا من مرفأ وَهْران بغرب الجزائر والذي كان وزير الحربية ماجينو قد وضع تصاميمَه في سنة ١٩٢٩، ولم تَسْطِع فرنسة الغنيةُ، مع قلةِ سخاءٍ، أن تجمع مليار دولار لإنشاء هذا الخطِّ الحديديِّ الذي لم تقدر خطوطُ الجَوِّ وسياراتُ النقل أن تقوم مقامَه.
ومن شأن الخطِّ الحديديِّ الذي وضعت إسبانية رسمَه وَصْلًا لِما بين إيرُن والجزيرة، وانفصالًا عن الطرُق الفرنسية، أن تُنْقَل به السِّلَع بَرًّا بإنشاء نَفَقٍ تحت جبل طارق مُتَّجِهٍ نحو الجَنوب الشرقيِّ بخطٍّ حديديٍّ، وكان يمكن هذه المشاريعَ العظيمة أن تُحَقَّق بفضل الفَنِّ الحديث بأسهلَ مما حُفِرَت به قناة السويس، ومشاريعُ مثل هذه مما أُحسن تنفيذه في أمريكة، وتَبْلُغُ أرض الصحراء من الصلابة في بعض الجهات ما يمكن معه وضعُ عوارضَ هنالك، وهكذا كان يمكن وَصْل السِّنِغال والسودان بالبحر المتوسط، وهكذا كان يمكن سُودَ الكُونْغُو أن يكونوا على الرِّين بعد سَفَر ثمانية أيام.
وكان هذا الحلُّ أكثرَ ملائمةً للخُلُق الفرنسيِّ من النقل بحرًا ما صار الفرنسيون — كالألمان — جنودًا أكثر منهم مَلَّاحين بفعل قرونِ حروبٍ وقعت على حدودهم، ومثلُ ذلك وقعًا في النفس ما حققته فرنسة في السنين العشر الأخيرة من منهاجٍ للدفاع عن نفسها بحرًا تجاه إيطالية. وكان البرلمان الفرنسيُّ يَقْبَل ميزانية كلِّ تدبيرٍ يَهْدِف في فرنسة إلى إقامة حاجزٍ ضدَّ الطلاينة دفعةً واحدة ما أسفرت تهديداتُ إيطالية عن زيادة ازدراء الفرنسيين للطلاينة.
وكان تحقيقُ أمر الدفاع عن أفريقية الشمالية من الصعوبة بنسبة سهولةِ التجارة معها، والواقعُ أن ساحل شمال أفريقية لا يشتمل على غير قليلٍ من الموانئ الطبيعية، وكان هذا سببَ استطاعة القراصين أن يستقروا به طويلَ زمنٍ فيما مضى. وقد وَسَّعَتْ فرنسة الموانئَ الكبيرةَ الثلاثةَ: وهرانَ والجزائرَ وبنزَرْت مع مشقةٍ كبيرة ونفقة عظيمة كان القراصينُ لا يُقْدِمون عليهما مذعورِين، ولم يبقَ شيء يُذَكِّرُ بعهد القراصين في أفريقية، وعلى العكس حافَظَ ميناء وهران على ذِكرى أُخرى مدة ثلاثين سنة، ذكرى ثمانٍ وثلاثين قطعةً من الأسطول القيصريِّ في البحر الأسود تُرِكت في الميناء في أثناء الحرب العالمية الأولى، واليومَ تراها نصفَ متآكلةٍ بالصَّدَأ مع نشاط المشاغبين الشيوعيين حولَها …
ومع ذلك لا تَجِد دولةً من دول البحر المتوسط، مهما بلغت من كمال العُدَّة، تَتَدَخَّل بمثل قوة إنكلترة في حياة هذا البحر الذي لا يَمَسُّ سواحلَها. والواقعُ أن هذا الزائر الغريب الذي يلوح تردُّدُه إلى هذه النواحي البحرية فقط يتخذ جميعَ الوسائل فيُثير تَسَلُّح الأمم الساحلية أو يؤثِّر فيه، وعلى ما ليس لإنكلترة في البحر المتوسط غيرُ بضعِ جُزُرٍ وبضعِ مَحْمِيَّاتٍ تَجِدُها كأنها في بلدها غربًا ووسطًا وشرقًا، وما كان لأيِّ شعبٍ من شعوب البحر المتوسط أن يَزْهوَ بمثل هذه السيطرة، حتى إن الذي أبصرَ صخرة جبل طارق يحتاج إلى ما يُتمُّ به ما لديه من خبرٍ عن موضوعه، شأنُ بعض أقطاب السياسة الذين لا يرى معاصروهم غيرَ أعمالهم مع بقاء أهدافهم مجهولةً إلى ما بعد موتهم، ولم نَعْرِف إلَّا بعد الحرب ماذا كان قد صُنِع وأُعِدَّ في هذه الجُزُر وهذه الصخر وهذه المرافئ وهذه الشواطئ، وعن جبل طارقٍ كتب أحدُ حكامه السابقين غُودْلِي يقول إنه لا يُمْكِنُ هذه الصخرةَ الضيقةَ، البالغةَ من الطول أربعةَ كيلومترات ونصفَ كيلومتر ومن العرض كيلومترًا ونصفَ كيلومتر، أن تكون مَرْمًى صالحًا، وأن على العدوِّ أن يطير منخفضًا كثيرًا حتى يَبْلُغ غرضه مصادفةً، وهذا إلى عدم وجود مكانٍ يَحْسُن تحويله إلى مَطِيرٍ هنالك، وهذا إلى ما يجب حسابُه من ريح الشرق التي تَهُبُّ في هذه النواحي. أَجَلْ، يُمْكِن ضربُ جبلِ طارق بالمدافع من سَبْتَة، غير أنه لا يكون بعضُ التأثير في ذلك لغير المدافع الثقيلة البعيدة المَرْمَى.
ويظهر أن أربعةَ آلافٍ من المدافع رُفِعَت إلى دهاليز جبل طارق، كما رُفِعَت إليها صهاريجُ مُصَفَّحةٌ جُرِّبَتْ بالقذائف فيَستوعبُ الواحدُ منها أربعين طُنًّا من الماء، ويُمْكِن أن يأوِيَ إلى ملاجئها ستُّ فِرَقٍ حين الحرب، وتُذَكِّر الحصونُ في مجموعها بمُدَرَّعةٍ ما وُجِدَت في جبلِ طارقٍ، قِلَاعٌ منضودةٌ وأبراجٌ صغيرة مستورة ومخابئُ خَفِيَّةٌ مملوءة بالذخائر ومدافعُ مُضَادَّةٌ للطائرات مُنَكَّرَة، وقد بَلَغَت الأسرار من الكتمان ما عُيِّن المتخصصون الموكولُ إليهم تنظيفُ العُدَد للفروع نفسها دَوْمًا لكيلا يَعْرِفوا المجموعَ.
وقد أثبتت مالطة، التي هي مركز البحر المتوسط، شأنَها في أثناء الحرب العالمية الثانية على الرغم من تقدُّم الطيران، وقد دعَا الطلاينةُ هذه الجزيرةَ بالساحرة فزعموا أنهم قادرون على تخريب موانئها من قواعدهم بِصِقِلِّية في ساعة واحدة، ومع ذلك فقد دَلَّت الحوادث على عدم صواب هذا الزعم ما قاومت مالطةُ جميع الغارات الجوية العنيفة محافِظَةً على قيمتها العظيمة تجاه الأعمال الحربية في أفريقية.
ومن حيفا تَسَرَّب نفوذ الإنكليز في آسية الغربية تسرُّبًا عميقًا، وما يَصِل القدسَ بالمدينة من خطٍّ حديديٍّ، وما يُرَى في عَمَّانَ الأُردنيَّةِ من حاميةٍ قوية، وما بين بغدادَ وإيرانَ من خطوط جوية، وما شاهَد من أنابيب نِفْطِ المَوْصِل ومن تقدُّم ميناء العقبة ومن وجود جزيرتين بعيدتين في البحر الأحمر، أمورٌ يتألَّف منها حصنٌ جَبَّارٌ ضامنٌ للاتصال بالهند صالحٌ لحماية طريقها، حتى إنه رُئِي إنشاءُ قناةٍ جديدةٍ بين البحر المتوسط والبحر الأحمر مارَّةٍ في أرضٍ بريطانية بفلسطين، مارَّةٍ من عكا إلى العقبة، ومع ذلك فإن تحقيق هذا المشروع يُكَلِّف أغلى مما كَلفته قناة السويس عشرين مرة لِمَا يجب من حفر أرضٍ معظمُها صخريٌّ، ويتطلب إنجازُ هذا المشروع سنين كثيرة.
وقد تكون النفقات أقلَّ تخويفًا للإنكليز من أن يَرَوْا عَدُوًّا عارضًا يُوَجِّه ضِدَّهم ما يُنْجِزُونه من أعمال، وخوفٌ مثل هذا كان قد حَمَلَ أحد الفراعنة على وَقْفِ إنشاءِ قناةٍ في وادي النيل.
١١
كانت شواطئ البحر المتوسط مُدَجَّجَةً بالسلاح في صيف سنة ١٩٣٩ المشئوم، وهذا لم يَحُلْ دون دوام النقل والتجارة والسَّفر، وكانت البواخرُ في البحر مَوَاخِرَ، وكان أهل السواحل والغُرَباء يطوفون في البحر المتوسط ويطيرون فوقه.
وكانت سُفُن خطِّ الهادئ والمحيط تجلُب منتجات الهند والصين مارَّةً من قناة السويس بعد سَفَرٍ طويل، وكانت هذه المُنْتَجَاتُ تمرُّ من الكاب منذ قرون مَضَتْ، وكانت قبل ذلك تمُرُّ من الطُّرق البَرِّية بين بلاد فارس وآسية الصغرى لتَصِلَ إلى موانئ العصور القديمة. وكان من المسافرات نساءٌ لابساتٌ ثيابًا بِيضًا وأحذية ذاتَ كِعَابٍ عالية فيَسْتَرِحْنَ على ظهر بواخر «لُويْد تِرْيَسْتِينُو» مُتَذَوِّقاتٍ شرابَهنَّ الليمونيَّ المُجَمَّد. وكان على البواخر التجارية الأخفَّ حِملًا علماءُ راغبون في دراسة آثارِ ما قبل التاريخ على سَفْح سترُونْبولِي الغربيِّ، ودراسةِ أنواع النَّخْل في تطوان، ودراسةِ قصورِ رُودسَ الغريبةِ، ودراسةِ النقود القديمة في الإسكندرية، ودِراسةِ المغارِس الحديثة في ضواحي تل أبيب.
وكان يقطع البحرَ المتوسط جَوًّا صِحافيون وتجارٌ لاستقصاء أنباءٍ في الشرق، وكانت مَحَطَّات الإذاعة في جميع السواحل تنشر أخبارَها محاولةً استرعاءَ آذان المستمعين في الشواطئ البعيدة. وقد جَمَع المؤلِّفُ ما يستند إليه في وضع هذا الكتاب، فسافر بالطائرة من قورسقة إلى تونس في يومٍ من أغسطس تامِّ الزُّرْقة راسمًا خطوطَ «تاريخ البحر المتوسط» على ارتفاع ميلين فوق هذا البحر نفسه.
وبينما كانت التجارةُ العالميةُ تنتعش نشاطًا، وبينما كان ١٢٠ مليون إنسانٍ يعيشون على هذه الشواطئ متمتعين بالحياة أو جادِّين في تحسين أحوالهم؛ إذ يُسْمَع أزيزُ طائراتٍ فوق الرءوس، فكان يمكن أن يُمَازَ بالمنظار أو بأُذُنٍ مُرْهَفَة صدورُ ذلك عن طائراتٍ حربية، وقد صار من الممكن أن يُرَى في صباح الغد وفي جميع الأيام القادمة مراكبُ صغيرةٌ وكبيرة تَزْلَقُ على طول الأُفُق كحيتانٍ رمادية عظيمةٍ بارزةٍ فوق سطح البحر، وقد أخذ أهل السواحل يَرَوْن بعد اليوم سفنًا حربيةً متزايدةً عندما يُنعمون النظر فيما ألِفُوه من فُرَض.
ويقضي البحر المتوسط دَوْرَ ارتيابٍ واستعداد في هذه الأسابيع الصيفية خلافًا لِمَا مضى، ولم يَحْدُث أن استولى ذهولٌ على جميع مُدُن هذا البحر وجميع سواحله وجميع أُممه كما استولى في هذه المرة. أَجَلْ، وقعت المعركة البحرية الأخيرة في أثناء الحرب العالمية الأولى في الدردنيل؛ أي في أقصى شمال هذا البحر الشرقيِّ، غير أن المعارك الثلاث أو الأربع التي وقعت في القرن التاسعَ عشرَ في البحر الأدرياتيِّ ونافارين والإسكندرية أصبحت من القِصص، وكان يُمْكِن أساطيلَ الأمم غيرِ المحاربة أن تَظَلَّ هادئةً في موانئها. وكان فاتحو الأجانب، إذا ما أَتَوا البحر المتوسط واستولَوْا على جزيرةٍ أو شاطئٍ، تتلقى أمم الشواطئ الأخرى نبأَهم كما لو كان الأمر خاصًّا ببحرٍ بعيد، وما قام به البندقيون من حَمَلاتٍ ضدَّ القسطنطينية، والصليبيون ضدَّ الترك والنورمانُ ضدَّ جُزُر اليونان، وما وقع في البحر المتوسط من منازعات، كان مقصورًا على أقسامٍ من هذا البحر.
ومع ذلك فإن سُفُنَ جميع أمم البحر المتوسط وطائراتِه ومرافئه ومصانعه كانت تهتزُّ في شهر أغسطس سنة ١٩٣٩، فكان يُمْكِن الشعورُ بأن حربًا تُعَدُّ في الشمال وبأن إيطالية تُجَرُّ إليها وبأنها ستجعل جميع أهل البحر المتوسط خائفين يَتَرقبون. والواقعُ أن مصير بحرٍ بأسره كان يتوقف على حُكْمِ رجلٍ واحدٍ، وما كانت أيةُ دولةٍ أخرى من دول البحر المتوسط لتقضيَ بإخلال سَلْمِه، وهو إذا ما سار للحرب مع أسطوله تَحَرَّكت جميع الأساطيل لدَحْرِه أو مهاجمته.
وفي هذه الأيام من شهر أغسطس يبلغ التوتر في البحر المتوسط غايتَه تحت سماءٍ زرقاءَ، وينتظر جميع أهل الساحل عن هَلَعٍ إطلاقَ قَذِيفة المِدْفعِ الأولى.
ولا جدال في العامل الأول ما تبنى الإنكليز قضية اليهود وما مثلوا مأساة أندلسية في عرب فلسطين، وذلك أن الإنكليز رأوا أن تحويل فلسطين إلى وطن يهودي بدحر أصحابها العرب يضمن البقاء لهم في ضفة قناة السويس الشرقية على الأقل.
وأما العامل الثاني القائم على مبدأ عودة اليهود إلى فلسطين على أنها بلد أجدادهم فأمر لا يستند إلى أساس تاريخي. والواقع أن العبريين شعب طرأ على فلسطين غازيًا واستقر بها حينًا من الزمن ثم أُجلي عنها منذ نحو ألفي سنة كما قرَّره المؤلف في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، وبذلك تكون قد انقطعت كل صلة لليهود بفلسطين منذ قرون. ولا مراء في أنه لم يكن لليهود فنون ولا علوم ولا صناعة ولا أي شيء تقوم به حضارة، وأن اليهود لم يستحقوا بأي وجه أن يُعدوا من الأمم المتمدنة، وأن فلسطين لم تكن غير بيئة مختلفة لليهود، كما قرره الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في كتاب «اليهود في تاريخ الحضارات الأولى» الذي وضعه سنة ١٨٨٩؛ أي قبل ظهور الصهيونية، فنقلناه إلى العربية سنة ١٩٥٠، وليس مَن ظهرَ مِن نوابغ اليهود في بعض البلدان إلا أبناء لهذه البلدان تابعين لثقافتها وحضارتها، وقد كتبوا ما ألَّفوه بلغة أهلها إجمالًا على أنهم منها، وهم إذن لا يمُتُّون إلى تاريخ اليهود بصلة.
ومن غير الصحيح زعم المؤلف أن العرب أكرموا أول رعيل وصل من اليهود إلى فلسطين، فما فتئ العرب يُبدون أشد المقت للسياسة الإنكليزية الصهيونية التي تهدف إلى إبادتهم ويقاومونها منذ نُشر كتاب بلفور كما هو معلوم، والصهيونية مما كانوا يناهضونه حتى قبل الاحتلال الإنكليزي أيضًا.
وأما كتاب الملك فيصل الذي أشار المؤلف إليه فقد وُضع في سنة ١٩١٨ باللغة الإنكليزية التي كان فيصل لا يعرفها، وذلك من قِبَل الماكر لورانس الذي كان يتظاهر بالعطف على قضية العرب فيثق به فيصل كثيرًا غير عالِم أنه صهيوني النزعة باطنًا وفق سياسة قومه الإنكليز، فحمل فيصلًا على توقيعه مخادعًا مبديًا له اشتماله على مقاصد نافعة للعرب، مخفيًا عنه ما احتواه من أهداف صهيونية، ومع ذلك فإن فيصلًا كان غير ممثل لجميع العرب، ولا يملك حق إبداء مثل ذلك العطف نيابةً عن العرب. (المترجم)