إلى المَنَار
ينظر الحارسُ الواقفُ على الصخرة في البحر مَلِيًّا، ويقرأ ابنه الكتابَ الذي كان قد طالعه أبوه في ليالٍ قضاها في بُرْجه.
وتمرُّ أربعة أعوام على الزمن الذي أُطْفِئ المنارُ فيه ويَظَلُّ الحارس قَيِّمًا عليه في البُداءة، ويصعد في السُّلَّم الحَلَزُونيِّ كلَّ صباحٍ راجيًا أن يبصر أُولَى السفنِ الحربية الصديقة — لا أولَ الطيور — آتيةً، عن معجزةٍ، نحو سواحل طولون.
وتلك سِنُونَ شِدادٌ، وتعيش الأُسْرَة بدخلها من المطبخ والفُنْدُقِ الصغير الضامنيْن لها ما هو ضروريٌّ، وتحافظ زوج الحارس على جُهْدِها المألوف، ويتعود الحارس بِطالتَه الجديدة، وتَكْبُر ابنتُه، ويصبح الغلامُ صَيَّادًا ماهرًا كما كان أبوه فيما مضى.
وينطفئُ السُّرُور والأمل مع المنار، ويتتبع المَلَّاحُ الشائبُ ما يقع من الحوادث، ويستطيع أن يَسْمَع مِذْياعَه الكبيرَ في بدءِ الأمر، ثم يكتفي مُضْطرًّا بلاقطةٍ صغيرة مكتومةٍ في المَفْرَخ.
وتُدْهَمُ فرنسة، ويحتلُّ العدوُّ أكثر من نصفها … ويفرُّ الألوف لاجئين إلى هذا الشاطئ ناجين بأنفسهم، ويصلُ بعض اللاجئين إلى جزائر إِيِرْس راكبين سفينَةً، ويبلغها اثنان منهم سَبْحًا … ويَفْتَح هؤلاء الوِكِيْنغُ الجُدُد ملاذَ القديم، يفتحون البحر المتوسط … وتُقْطَع العلاقةُ مع الحليف الإنكليزيِّ الذي ظَلَّ سيدَ هذا البحر زمنًا طويلًا … ويَدْعُو الشُّجَاعُ دُوغُول إلى الاتحاد … ويُسْفِرُ التصدع عن قطع فرنسة جزأين … ويظهر زعماءُ آخرون ويتكرر التصدع ويقع اتحاد آخر … ويُهْزَم الأسطول … وتُنْسَف الباخرة التي كان قد خَدَم فيها وتَغْرَق بين الأسماك السابحة الباحثة عن طعام … ويصبح الطلاينة، الذين كان يَحْتَقِر محاربيهم الأنذالَ، سادةَ الجُزُرِ والشواطئ التي كانت فرنسة تسيطر عليها … ثم يُزْحَفُ إلى مصر، ويُخْشَى وقوع معركة أمام الإسكندرية …
ويتحسن الوضع بغتةً، فتزحف ألفُ دَبَّابَةٍ من الشرق إلى الغرب على طول الشاطئ الأفريقيِّ، وتَشُقَّ لها الطريقَ ألفُ طائرة، فها هم أولاء الإنكليزُ الذين يُنْقِذون شاطئَ البحر المتوسط الجَنوبيَّ، ولكن لا أحد يَعْلَم ماذا يقع على سواحل الإمبراطورية الفرنسية.
وها هو ذا المِذْياعُ يُكَرِّرُ صُرَاخَه: يَصِلُ المنقذون! لقد قطعوا ألفَ ميلٍ من خِلال البحر المحيط، من أَمريكة إلى أفريقية؛ إنقاذًا لأوروبة، وتبدأ القصيدة الحماسية الكُبْرَى، ويعود البحر المتوسط مركزًا للعالَم، ويملأ خيالَ الناس.
والآن يأتي دور العدوِّ فيتقدم نحو الجَنوب ولم يُوَفَّق الأسطول لمغادرة مينائه، ولا يحتاج الحارس إلى المذياع ليَعْلَم هذه الحوادث، فقد أبصر بالمِنْظار، ذات صباحٍ من نوفمبر، كيف تنتحر المراكب تِبَاعَا لكيلا تُغْنَم، ويُبْصِر انهيارَ زَهْوِه بحريًّا وفرنسيًّا في ربع ساعة.
وأخيرًا ينزل الألمان إلى جُزُر إِيِرْس من سفنهم ذاتِ المحَرِّكات والمسلحة بالرَّشَّاشات، ويَعْرِفُ رُبَّانُ هذه السفن الحارسَ الذي كان قد لاقاه حين سفره البحريِّ الطويل إلى الصين والهند، وكان الحارسُ المحرومُ منارَه قد جاوز السِّنَّ العسكرية فلم يَكُ خَطِرًا، ولم يُقْبَض عليه أسيرًا، وإنما أُلْزِم بتسليم المنار إلى الحامية الألمانية، مع بقائه في بيته الأبيض الصغير هو ودَجاجُه وزيتونُه وعِنَبُه بجانب زوجِه وأولاده.
ولكن الكآبة تعْلُو مَعْنَوِيَّةَ الألمان الحارسين للمنار في الساعة الراهنة، فقد جاء في الإذاعة نبأُ دَحْرِ رُومِل، ويقترن هذا بانتعاشِ أمل الحارس في بيته الصغير، ويلوح نزولُ المنقذين إلى أوروبة أمرًا آتيًا لا ريب فيه، ومن أين يَصِلون؟ أَمِنْ صِقِلِّية أم مِنْ طولون؟
وتسقط سَرَقُوسة وتُحْتَلُّ صِقِلِّية وتُهَاجَم نابل، ويساور المَلَّاحَ صَحْوٌ مع شُكْرٍ فيَسْأل: متى يأتون إلينا؟ ومتى يُضَاء منارُه مُجَدَّدًا؟ وهل يضيءُ المصباحَ في البُرْج ذلك الألمانيُّ ليكون إشارةً لغَوَّاصاته، أو يَدَعُه مُطْفَأً خشيةَ مساعدة الإنكليز؟
ويقضي الحارس نصف لياليه مثيرًا هذه الأسئلة.
وهكذا قد يُقَدَّر للمَلَّاح الشائب أن يُمَثِّل دوره في تاريخ البحر المتوسط الذي قرأ كثيرًا من أخباره، ولكن ما الذي يهمُّه من الماضي الطويل وهو يُوَجِّه الآن نظره إلى المستقبل؟
وإنه لكذلك؛ إذ يأمر ابنَه صارخًا بأن يَدَع كتابه جانبًا وأن يذهب ليصطاد سمكًا، ومَنْ يَعْلَمُ أنه يستطيع صُنع ذلك غدًا؟ ومَن يَعْلَمُ أن الغدَ سيأتيه بالمَنِيَّة أو الحرية؟
وإن حارس المنار ليُفَكِّر في الأمور هكذا؛ إذ تُسْفِر الشمسُ عن نهارٍ صافٍ في منتصف سبتمبر سنة ١٩٤٣.