إلى المَنَار
يُطْبِقُ الحارسُ الكتابَ متئدًا، وتظلُّ يدُه اليسرى مستويةً على الغلاف، ويَنْظُر أَمامَه، ويتنفس تَنَفُّسًا عميقًا كما لو كان بجُهْدٍ، وقد شَغَلته القصة ليلتين، وذلك لِمَا وجده فيها من أمورٍ جديدةٍ يصعب عليه أن يُدْركها، ولا يزال الليلُ مُرْسلًا سُدُولَه، ولا تزال فأسُ المَنَارِ الدَّوَّارةُ تَقْطَع السماءَ بوميضها المتعاقب ثلاث مرات، ويأخذ الحارسُ في التأمل.
«… ويقول في نفسه إنه كان يَمُرُّ على بحرنا من الأمور ما يَمُرُّ الآن، وكانت تتنازع المقامَ الأولَ فيه أممٌ قليلةٌ، واللهُ يعلم سببَ رغبتهم عن السَّلْم! وهل من المهمِّ كثيرًا أن يكون السلطانُ في صِقِلِّية للأغارقة أو القرطاجيين؟ وما الفرق بين سيطرة هنيبال وسيطرة سِبيُون على شواطئنا؟ ومهما يكن من أمرٍ فقد جارَ كلا القومين على أجدادنا، ومهما يكن من أمرٍ فقد استقرَّ كلا القومين بجزيرتنا كما لو كانا في وطنهما، ومع ذلك فإنني قد أكون سليل هؤلاء الفاتحين، والآن! متى اكتشف الغوليون البحرَ المحيط وأصبحوا فرنسيين؟ … وما أكثر المفاجآتِ في كتابٍ ضخمٍ كهذا!
وقد تكون السفينةُ التي نَقَلت المِسلَّةَ مشتملةً على ١٢٠٠ طُنٍّ، ومن الضروريِّ أن كانت المِسَلَّةُ ضخمةً كالتي تقوم في ميدان الكُونْكُورْد عندنا، ويا لَأُولئك القراصينُ! ولا يزال القراصينُ موجودين، ولا يزال القراصينُ مُتَعادِين، ويمكن أن تَعُودَ هذه المنازعاتُ غدًا! ومن ذا الذي يَعْرِف الوقت القريب الذي تنطفئ فيه علامتي الساطعة، ومن المحتمل أننا قرطاجيُّو العصر الحاضر، ولكن الرجل الذي يحكم اليومَ في رومة ليس قيصرَ! وماذا يَعْرِف عن البحر وإن كان يتكلم عنه بحماسة؟ وهو إذا ما انتقل إلى دائرة العمل رأى أن الغوليين لم يتغيروا!
وأما الإسكندرية، هنالك كان يعمل جُونِي السَّمِينُ عادةً، رَبَّاه! ما أَشَدَّ وَلَعَه بالقِنِّينة! وكان يَعْرِفُ مع ذلك أن يَبْقَى ثابتًا على ساقَيْه، وأن يبدأ بالخدمة باكرًا، وكان مطلعًا على جميع تاريخ مناره عن ظهر القلب، فإذا ما تَكَلَّم عنه قِيلَ إنه أوضح للإِسكندر الأكبر استعمالَ اللاسلكيِّ، والذي وَدَدْتُ أن أَعْرِفه، وليس في الكتاب إشارةٌ إلى ذلك، هو مقدارُ ما كان الحارس يناله في العهد الرومانِيِّ القديم …»
ويَصْعَد الحارسُ في الدَّرَج رويدًا رويدًا، والدَّرَجُ أربعٌ وثمانون، وما أكثر ما عَدَّها! وهو إذا ما نظر إلى الشرق من فوق الرُّواق الأعلى أبصر من ناحية سان رَفَائِيل وميضَ الفجر الأولَ الأخضرَ والأزرق، أَجَلْ، لم يَبْدُ بَعْدُ، غير أن فتحَ النهارِ سريعٌ في شهر أغسطس على الخصوص، ومَنْ يَعْرِفْ مُقَدَّمًا آخرَ هذا السِّرِّ المنيرَ يُمْكِنْه أن ينتظر انتشارَه، وإن الأمر لكذلك إذ يَتَّسِع خيطُ النورِ الضيِّقُ فوق الطريق كالمِرْوَحة التي تَتَفَتَّح فتضِئ كلَّ شيء عند ظهور نور الشمس الناشئة. وقد حَسَبَ المَلَّاحُ الشائب، الذي أبصر عند الصباح ارتفاعَ ذلك من البحر مئاتِ المرات، تَقَدُّمَ الغالبِ الأعظم بتقهقر الليل المغلوب، وقد رأى النجومَ تَصْفَرُّ فتَأَمَّلَها بضعَ دقائقَ بذلك الشعور الدينيِّ الذي يُحَرِّك المَلَّاحين دومًا.
حَضَر زميلُه ليقوم مقامه، وهنالك يُمْسِك الحارسُ، الذي لَبِس ثيابَه البلدية، خُوَيْذتَهُ، ويوَدِّعُ مُسْرِعًا وينطلق إلى منزله الصغير الأبيض، وتُغَنِّي طيور النهار الأولى متفرقةً على استحياءٍ مع تكرار لحنها اللطيف، وذلك كما يُسْمَع عند توافق آلات أَحَد الأَجواق، ثُمَّ تشتدُّ ثم تُغَرِّد صادِحةً، ويَصِلُ الحارس إلى بيته مغتبطًا بذلك الضجيج البهيج، ومع ذلك يرى الناسَ نيامًا، ولا تصحو زوجه إلا لصرير الباب غيرِ المدهون جيدًا.
ويَقِفُ الحارس بضعَ دقائقَ قريبًا من سُرُر الأولاد، ويتحرك أحد هؤلاء الصغار كما لو كان يَشْعُر بوجود شخصٍ آخرَ بجانبه، ويُحِسُّ الحارسُ سعادةً كبيرة، مدةَ دقيقةٍ، لكون ابنه صغيرًا بَعْدُ، فقد تنتهي الحرُب قبل أن يأتيَ دَوْرُه، ويَدْفَع هذا الخاطرَ بشدَّة، ولا يَلْبَث أن ينام.
«… أدينٌ جديد؟» ويتَعَلَّقُ فكره بالكلمات التي ينتهي بها كتابه، والمسيحُ … الذي يأتي بُعَيْدَ قيصر، يقرأ هذه القصة في هذا المساء …