غارة البَرَابرَة
١
يقوم البلد الذي أنجب بالمسيح على تلال منخفضة حَجِيرًا متصدعًا صَلْدًا جديبًا، وهو يمتدُّ عبوسًا باردًا حاقدًا عاطلًا من الشجر، بعيدًا من الأودية الخصيبة التي لا يَصِلُ إليها البصر، وتقوم في وَسَط صُقْعٍ أدجنَ مدينةٌ فخورٌ مبنيةٌ من حجارةٍ سُمْرٍ وصُفْر، ويمتدُّ في الشمال، وعلى مكانٍ غير بعيد، وعلى مَهْلٍ، بلدٌ أخضرُ غنيٌّ بالينابيع مستورٌ بأشجارٍ لطيفٌ ناعمٌ، وهذا هو الجليل. ومن يلاحظْ في هذه الأيام ذينك المنظرين القريبَ أحدُهما من الآخر يُدْرِكْ من فوره الفرق بين الدِّيانتين اللتين ظهرتا في ذلك البلد، فهنالك المعتقدُ اليهوديُّ الرُّجُولِيُّ القويُّ الولُوعُ بالحياة والصِّراع، وهنا النصرانيةُ النِّسْوِيةُ المنثنيةُ عن الحياة المتواضعةُ الراغبةُ في سَلْمٍ رِعَائِيٍّ، وما بين منظرَي البحر المتوسط هذيْن من تضادٍّ ينمُّ على خلافٍ بين النهجين، وما لمؤسسيْهما من عِيَانٍ أصليٍّ كثيرُ البُعْد جاعلٌ للقَدَر والتاريخ منهما.
وتَعَلَّم العِبْرِيُّون الزراعة في كنعانَ، تَعَلَّمتْها هذه القبيلة المؤلفةُ من بدويين ومن رعاةٍ كانوا يعيشون كما يعيش بدويُّو اليوم في النيل الأوسط، وقد وجدوا أمامهم تجارًا كانوا يستفيدون من طريقٍ للقوافل قبل عصر أوميرس بزمنٍ طويل. وكان العِبْريون قبل الفنيقيين، ثم مع الفنيقيين، يستوردون من اليمن، ومن الهند أيضًا، توابلَ ولُبانًا وما يرغب فيه الملوك على ضِفاف الفرات والنيل، وكانت تلك القبائلُ السامِيَّة تَمْلِك قِطَاعًا وتَزْرَع كرمةً وزيتونًا، ومع ذلك لم يكن البلدُ الفقيرُ فلسطين «بلدَ لبنٍ وعَسَلٍ» إلَّا عند قياسه بالبادية؛ ولذا قضت الضرورة على سكانه بتعاطي التجارة، وفي فلسطين اغْتَنَوْا كما اغتنى جيرانُهم الفنيقيون، وفي سِفْر القضاة نصٌّ على أن جِمَالَهم كانت ذاتَ قلائدَ من ذهب، ويَمْضِي زمن، وينقضي دور النَّفْيِ الأولِ، فيزاول أبناؤهم التجارةَ أكثر من قبلُ وسيلةً للعيش، ولَمَّا تَكَرَّر هذا الحادثُ أجيالًا كثيرةً أسفر هذا التكرار عن زوال بعض القابليات ونموِّ بعض الصفات.
وكانت ثَوْرات الماضي تَقَع على شكل هجرةٍ، وهذا هو سِرُّ انتقال أمم كثيرة من بلدٍ إلى آخر بين سنة ١٠٠٠ قبل الميلاد وسنة ٦٠٠ بعد الميلاد، وهذا هو سِرُّ حدوث ثورات قليلة داخلَ حدود البلاد. وكان البدويون الذين لا يتصرفون في غير مراعٍ هزيلة يبحثون عن مراعٍ خصيبة بحكم الضرورة في البِقاع التي تَقْرَب السهوبُ والصحارى فيها من الأنهار. وكان الهِكْسُوس، الذين هم من بَدَوِيِّي كنعانَ على ما يُحتمل، قد هاجروا إلى مصر، وقد انقضَّ المصريون على فلسطين، وقد طرد الحيثيون المصريين فطرد الآشوريون الحيثيين. وقد غزا العبريون البدويون فلسطين فطردوا الفلسطينيين الذين كانوا يُوصِدُون طريق البحر المتوسط دونهم، وكان شَمْشُونُ وداودُ رئيسيْ عِصاباتٍ فتمَّ لهما النصر على الفلسطينيين، واستولى داودُ على مدينة أُورَشَليمَ المنيعةِ فصار بذلك رقيبًا على التجارة نحو مصر، فَدُعِيَ هذا الدورُ فيما بعد عصرَ داودَ الذهبيَّ، ومن شأن مشاريع هذا الملك أن تؤدِّيَ إلى الاتفاق مع الفنيقيين؛ وذلك لأن العبريين كانوا يَجْهَلون المِلاحة، وهم لم يصيروا قَطُّ أمةً بحريةً كما لم يَصرْ حَفَدتُهم اليهود في ثلاثة الآلاف سنة التي أتت بعدئذٍ.
وما كان من صعوبة ملاءمة البحر، والزراعةِ من بعض الوجوه، للعِبْريين يُفَسِّرُ نشوءَ المنطق والثَّقافة الذهنية لدى هؤلاء القوم، كما يفسر الحوادثَ التي توالت بعدئذٍ بعضَ التفسير، يُفَسِّر خُسْرانَهم لبلدهم ثلاثَ مراتٍ متعاقبات، ونبصر مُجَدَّدًا أن قوة الشعب متصلةٌ اتصالًا وثيقًا بضعفه، وأن الخيال المتوسط، الذي يَبْدُو عند عدم الاستعداد الفنيِّ، قد يكون أساسًا للفكر الجَلِيِّ.
وما بين الأغنياء والفقراء من تضادٍّ كبير، لا يؤدي إلى ظهور طبقة متوسطة، بَلَغَ من إضعاف فَلَّاحي فلسطين ما أنبأ إشَعْيَاءُ معه بانحلال الشعب وما دعا النبيُّ عاموس معه الأمةَ إِلى الثورة ضدَّ القادة كزعيمٍ اشتراكيٍّ. ولم يُعتِّم هذا الانحلالُ الذي كان يَسْهُل تَبَيُّنُه أن تحقق، وذلك أن الآشوريين، الذين كانوا قد أَضْنَوْا فلسطينَ منذ قرونٍ، والذين ما انفكُّوا منذ سنة ٨٠٠ قبل الميلاد يتكلمون عن بني إسرائيل كمُلْزَمين بدفع جزيةٍ إليهم، أَسَرُوا رؤساء السامرة ومديرياتٍ أخرى ثم خواصَّها، وهم حين وزَّعوا أَسْرَى بني إسرائيلَ بين الساخطين من شعبهم الخاص أثبتوا نبوغَهم السياسيَّ، وهكذا كانت خاتمةُ بني إسرائيل الذين كانوا عشرةَ أسباطٍ، واليهوديةُ وحدها، مع عاصمتها أُورَشَلِيم، هي التي ظلت باقيةً. ثم أتى نَبُوخَذْ نُصَّر ودخل هيكلَ داود وخَرَّب الصحن الذهبيَّ وحَرَّق البناءَ وأَخذ جميع رجال اليهودية ونساءَها أُسارى، وقد وقعت هذه الحوادث حَوالَي سنة ٦٠٠ قبل الميلاد؛ أي قبل الإمبراطور تِيطُس والفتح الرومانيِّ بستة قرون.
وكان لليهود أعظمُ فائدة من إسارة بابلَ هذه كما كانت تُدْعَى، وذلك أن ذكرى الوطن الأصليِّ كانت قد ضعفت في نفوس الأَسرى كما ضعفت في نفوس الأمريكيين المعاصرين، وأن اليهود كانوا من الحظِّ ما حَرَّرهم معه فاتحُ بابلَ كُوْرشُ، بعد خمسين سنة، فعادوا إلى بلدهم مُحْيِين في نفوسهم رغائبَ الماضي وذِكْريَاتهِ، وأن اليهود قد اضْطُرُّوا في الأسر إلى تعاطي التجارة ما حُرِّم عليهم أن يكونوا جنودًا أو مزارعين كما وقع لهم في أوروبة بعد زمن، فاتفقت لهم بذلك معرفةٌ تجارية عالية في بابلَ، ووجد اليهودُ البحرَ المحيط مُغْلَقًا دونهم منذ عودتهم وقبل أن يقهرهم الفُرْس والأغارقة، وكان الأغارقةُ قد استولَوْا على مرافئهم في مصابِّ النيل؛ فلذلك وبما أن المصريين والرومان الأَوَّلين كانوا محتاجين إلى تجار فقد هاجر كثير من اليهود قبل أن يُكْرَهوا على الهجرة بِعِدَّة قرون.
وإذا نُظِرَ إلى الأمر من الناحية الروحية عُلِمَ ما كان من فائدةٍ للثَّقافة البابلية، فقد انتحل الكهنةُ، والسلطةُ المركزية في المَنْفَى قبضتُهم، أقاصيصَ بابلَ، كقِصص التكوين والجَنَّة والخطيئة الأصلية وبرجِ بابل والطوفانِ، وحُرْمة السبت الذي لم يكن ليُرَاعَى من قَبْلُ كما يلوح.
وعلى العكس كانت صِلَة هذا الشعب الغامضةُ بالرَّبِّ، والتي تَمِيزُه من غيره، والتي ذاع صيتُه بسببها في العالَم بأسره، موجودةً قبل نَفْيِه، وفي أيامنا يَرُدُّ المؤرخون موسى، الذي عُدَّ رجلًا أُسطوريًّا زمنًا طويلًا، إلى دورٍ أقدمَ من النَّفْي ألفَ سنة. ويُفْتَرَض أن موسى كان أولَ مَن أنبأَ بإله واحد وأن يسوعَ أولُ من نادى بحبِّ القريب، ولا يقوم واحد من هذه الافتراضات على أساسٍ تاريخيٍّ حقيقيٍّ.
وارْجِع البصر إلى زمن الدولة القديمة تَجِدْ كهنةَ مصرَ يقولون بنظرية الربِّ الواحد وإن كان ذلك في مذهبهم الخفيِّ، حتى إن أَمِنُوفِيسَ الرابعَ حَمَلَ الكُهَّانَ على الجَهْر أمام الشعب بأن الإله الشمسَ هو الربُّ الوحيد، ونرى أن موسى عَرَف هذا المذهب في مصرَ ولو عاش قبل أَمِنُوفيسَ مع الشكِّ في هذا. وكان توحيد البابليين في ذلك الدور قد انتشر في فلسطين مع اللغة البابلية، فكان الإلهُ القمرُ مَرْدُوخ يُعْبَدُ كإلهٍ واحد، ثم إن يَهْوَه لم يُعَدَّ إله العبريين الوحيدَ المُسَلَّمَ به في قرون كثيرة، ولم يَظَلَّ بعلٌ وعَشْتارْتا، اللذان كانت أعيادُهما تُخْلَط بأعياد الربِّ الواحد في كنعانَ، بلا منافسين كما تُثْبِت ذلك طقوس الرقص حَوْلَ العجل الذهبيِّ، وكما تدلُّ عليه الحجارة المقدسة والكهوفُ التي تقيم بها الآلهة والترافِيم؛ أي الأصنامُ التي سَرَقَها يعقوب من صهره، ولم تُحَرَّق الآلهةُ الأجنبية إلَّا حوالي سنة ٦٠٠ قبل الميلاد، أَي في عهد يُوشِيَّا، ولم يُنَادِ الكهنةُ بالإله الواحد إلا بعد العَوْد من الإسارة، وذلك لِمَا بين دين العبريين ودين جميع جيرانهم وأعدائهم من تباين.
ولم يكن التوحيدُ لدى العبريين ثمرةَ تحليلٍ فلسفيٍّ كما عند أفلاطون، بل هو نتيجةُ تركيبٍ بعدَ استبعادِ كلِّ إلهٍ غيرِ الإله الواحد، وكان لهذا الإله الواحد أصولٌ دنيويةٌ ووطنيةٌ أكثر منها تصوفية. وكان إلهُ العبريين في الغالب، إلهًا عسكريًّا وإلهًا قوميًّا معًا؛ أي رمزًا لقبائلَ اتَّحَدَتْ للقتال، وكان سيفُ يَهْوَه هو الذي يسوق داودَ واليهودَ إلى المعركة.
وقد أَظْلَمت فكرة الإله الواحد العظيمةُ بالمشاعر القومية التي لم يَخْلُ موسى منها. ولما عاد اليهودُ من بابلَ فُرِض عليهم واجبُ إعادة بناء هيكل يَهْوَه في أُورَشَلِيم دون سواها عن وَجْدٍ، وقد بَلَغ هذا الشعور من الرسوخ في روح القوم ما وَطَّدَ الكهنةُ معه يَهْوَه في هذا المكان مخبرين إسْرَائيلَ بأنه الشعب المختار لإعلان إنجيله، وقد قال إشَعْياء صارخًا: «وأما أنتَ يا إسرائيلُ عَبْدِي يا يعقوبُ الذي اخترْتُه نَسْلَ إبراهيم.»
ومن يُعَانِ الضغطَ يبالِغْ في تقدير نفسه، ومن ذلك أن اليهود عَنَّتْ لهم فكرةُ كونهم شعبَ الرَّبِّ المختار أيام كانوا تحت النِّير الأجنبيِّ، وكان مثلُ هذا الزعم، الذي رَأَوْا به حيازتَهم وحدَهم للحقيقة في عالَم القرون القديمة، يُوغِرُ صدورَ الأمم المجاورة التي كانت تعبد آلهةً أخرى، والتي كانت قويةً فترى الوضع المُحَال الذي يَفْرِض به الشعب اليهوديُّ الصغيرُ إِلهَه الواحدَ على الشعوب الأخرى، وهذا هو مصدر اللاسامية التي ظَلَّت باقيةً من خلال التاريخ حتى أيامنا.
ومع ذلك كان هذا المعتَقَدُ، الذي يَحُوزُه الشعب اليهوديُّ في رسالته، غيرَ صادرٍ عن غَطْرسَةٍ أو عن اضطرابٍ باطنيٍّ، فقد جعل الكهان، الراغبون في التوفيق بين الحكمة العامة الثَّقافية الواسعة النطاق ومشاعرِ شعب صغير من الرعاة والتجار، من يَهْوَه إلهًا واحدًا ليفسروا لبني إسرائيلَ أن ما أُصيبوا به من أسْرٍ هو نتيجةُ غَضَبٍ إلهي، وكان الخلاصُ من هذه الخطايا يستلزم مسيحًا، يستلزم رجلًا مرسلًا من الله، يستلزم مَلِكًا مُعَدًّا ليقيم مملكةً في الأرض.
وما في الكُتب المقدسة، التي ذاعَ بها صيتُ اليهود قبل أفلاطون بقرنٍ، من لهجةٍ نبوية أمرٌ مُحَيِّر. وكان الأغارقةُ يَشْعُرون بأن هذا الشعب الغريب المقيمَ بشاطئ بعيد من شواطئ البحر المتوسط يَضَعُ قوانينَ، كما أنهم؛ أي الأغارقةَ، يَتَمَثَّلُون أفكارًا أو يؤلِّفُون صورًا، وكان لمبدأ الرسالة المنتظرة وللهجة الأنبياء دَوِيٌّ جديد في عالَم القرون القديمة. وبينما كان الأغارقة يَقْضُون يومَهم مع آلهتهم الكثيرة كان يوجد بين اليهود صفوةٌ من الرجال لا يتصلون بالرَّبِّ الواحد إلَّا في ساعاتٍ من الوَجْد. وقد عَلِم الفلاسفة، مع اهتمامٍ، ومن سُيَّاحٍ، أن اليهودَ بدءوا يتخذون طِرَازًا دينيًّا في الكلام والتفكير يقوم مقام المنطق اليوناني.
ومع ذلك لم يُدْهِش الناسَ شيءٌ كعدم وجود صورة ليَهْوَه العجيب، وكيف يمكن الإغريقيَّ الذي هو شخصٌ بَصَرِيٌّ شهوانيٌّ أن يتمثل آلهةً يَحْرُم عرضُها بصورةٍ فضلًا عن عَدِّها غيرَ منظورة؟ وما قالت به أساطير المصريين واليونان من أصنامٍ للآلهة والعفاريت في أمكنةٍ معينة جُعِلَ موجودًا في كلِّ مكان لِمَا كان من نشره في جميع المحالِّ، وعكسُ ذلك أمرُ بعض القبائل البدوية التي كانت تكتفي برمزٍ لعدم استطاعتها أن تأخذ معها تماثيلَ في مهاجراتها، ويصبح العبريون حَضَريين، ولا يَغْدُون قومًا من المتفننين، ويريد سليمانُ أن يقيم هيكله فيطلب من ملكٍ أجنبيٍّ أن يرسل إليه ما يحتاج إليه من خشب ونَجَّارين وبَنَّائين، ويُقَدِّم سليمان بُرًّا وزيتًا بدلًا من ذلك.
ويمضي زمنٌ فيجد كهنةُ اليهود مصدرَ زهوٍ في عَرْضِ الآلهة الأجنبية بصُوَرٍ، ويصير التجريدُ فضيلةً وعادةً ومبدأً، ويُسَهِّل عدم الأصنام مبدأَ الإله الواحد ويُعَمِّق سِرَّه لدى شعبِ إسرائيلَ نفسِه مع إثارة حَيْرَة الأجانب، ويا لَلشَّعْبِ الذي لا يَمْنَحُ أدبُه المُجَرَّدُ امرأةً لإلهه الوحيد! …
ومع ذلك كان الحبُّ مَجْرًى أَوَّلِيًّا يصدر عنه الأصل في أساطير المصريين والأممِ الآسيوية والأغارقة، وكان الحبُّ يَجْلُبُ الأغارقة إلى الشانْزِلِيزِه، مع أن الحُبَّ في التوراة هو الذي أَدَّى إلى طرد الإنسان من الجنة، وما كان أَشيلُ وأُوليسُ وآثارُ أُوميرُس إلَّا من المستحيل لولا قِصصُ غرام الآلهة التي كانت تَجْلِس على العروش في السُّحُب والتي كانت تنفع نماذجَ للعاشقين من الناس.
ذلك مطلبٌ لاهوتيٌّ. وكان يَهْوَه لا يمتدح الزُّهْد، وكان يَهْوَه يدعو رجالَ الدين والدنيا إلى التكاثر، وما كان يمكنه أن يَفْرِض قوانينَه الأدبية على المؤمنين به، مَوْلًى وقاضيًا، إلَّا إذا رَغب عن العلاقة الجنسية، وهنا ترى إلهًا يطالب المؤمنين بأقلَّ مما يَطْلُب من نفسه مع أن الآلهةَ الأُلنبيةَ كانوا على النَّقيض.
ولا يُعْلَم مقدارُ ما يُرَدُّ من ذلك إلى موسى؛ وذلك لأن عشرة قرون تفْصِله عن التوراة؛ أي عن الأسفار الخمسة التي تُعْزَى إليه على العموم، والذي لا ريب فيه هو أن الأنبياء نَشَرُوا شريعةً خُلُقية قبل أفلاطون بمائة سنة. ومن تعاليمهم أمام العالَم القديم الذي كان يُرْخِي العِنَانَ لأهوائه أنه لا يجوز قتل العدوِّ بل يجب إطعامُه وسَقْيُه، وأن مَنْ يَحْقِد يكون بجانب مَنْ يَسْفِكُ الدَّمَ، وهم قد أباحوا للغرباء أن ينتفعوا بشرائعهم وعاداتهم لِمَا كان من تَذَكُّرِهم حياةَ المَنْفَى. وأَدْعَى الأمور إلى حيرة الأغارقة هو إعلانُ اليهود كونَ العملِ بَرَكَةً لا ذُلًّا، وكان أرسطو يقول بتعذُّر إلغاء الرِّقِّ قبل أن يَعُمَّ استعمال الآلات، وَذلك هو شعبٌ فقيرٌ مضطهَد يَمْنَح العبدَ حقوقًا مساوية لحقوقه تقريبًا، ويَهَبُ له راحةً في السبت ويدعوه إلى مائدته وأعياده.
وفي تلك الشريعة أنَّ مَنْ يكْسِر سِنَّ حُرٍّ تُكْسَر سِنُّه، فالسِّنُّ بالسِّنِّ، ولكنَّ على مَن يكسر سِنَّ عبدٍ أن يُعْتِقه. وقد بُلِغَ الحَدُّ الأقصى لذلك في الوصايا العَشْر التي لم يُصَغْ أدبُها بأكثرَ مما انطوت عليه من جِدٍّ مُتُوَعِّد وإقدامٍ بالغ وحَزْمٍ منطقيٍّ. وهكذا تنْشُر قبيلةٌ صغيرةٌ مؤلفة من بدويين ورُعاةٍ وتجارٍ شريعةً تامَّةَ الجِدَّة في عالم القرون القديمة، وستبقى هذه الصفحةُ الكبيرة مَبْسُوطةً على رُكْبَتِي التاريخ إلى الأبد.
٢
وإلى تلك الصفحة القانونية التي كتبها اليهود يضيف يسوع صفحةً جديدةً ثمينةً مهمةً كالأولى، وذلك لعَرْضها الأدبَ اليهوديَّ على العالَم، ولِمَ كان ذلك حادثًا وحيدًا في البحر المتوسط، ولِمَ كان يجتذب ذلك أبصارَ الأعقاب ولو لم يَنْشُرْ أحدٌ مذهبَه؟ ولِمَ عُهِدَ إلى هذا النبيِّ اليهوديِّ أن ينقل أفكارَ أجداده إلى العالَم القديم ومن ثَمَّ إلى العالم الحديث؟
وترى وراء اليهود تاريخًا زاخرًا بالمعارف فقيرًا في الانتصارات بُطُولِيًّا رُجُولِيًّا، ولكن من غير زيادةٍ في قوتهم. وكان اليهودُ شهودًا من شواطئهم على نهوض كثير من أمم البحر المتوسط وسقوطها، وبما أنهم كانوا لا يشتركون في منازعات هذا العالَم، وبما أنهم كانوا راغبين عن التوسع إلى مثل جزيرة قُبْرُس القريبة من بلدهم أو أنطاكيةَ أو رُودُس، وبما أنهم كانوا يَهْدِفون إلى التجارة في الخارج وإلى إقامة دولةٍ رَبَّانية في الداخل، كان خيالُهم القاسي يلين رويدًا رويدًا.
وكان البحر المتوسط مشبعًا من فلسفةٍ انتحلت مناحيَ اليهود الخُلْقية وأَثْنَتْ على نصرانية ما وراء ذلك. وكان علمُ اللاهوت اليونانيُّ يبتعد عن مبدأ جَنَّةٍ مملوءةٍ بالمَلَاذِّ ويَبْحَثُ عن حقلٍ روحيٍّ منذ قال فيثاغورس وأفلاطون إن حياة الروح هي الحياة الحقيقية وإن الإيمان بمصير الإنسان قد تغلغل رويدًا رويدًا. وكان أَبِيذِقْلِيس قد قال هو وتلاميذه، مع خِلَافٍ طفيف، إن الروح تُجَازَى في مقابل جَوْلَاتِها الدنيوية إما بعدم الوجود بعد الموت وإما بالعَوْدِ إلى الجوهر الإلهي. وقد وصف أفلاطون شدائدَ روح الجنديِّ المذبذبة بين السماء وجهنم، وذلك قبل رُؤْيا مَتَّى حول النار الأبدية وقبل وَحْيِ مار يُوحَنَّا بأربعة قرون.
ونشأ عن مثل ذلك المذهب في زمن الرومان مزيجٌ غريبٌ من المشاعر المؤلفة من خشية الموت والشوق إلى الموت، وقد كانت هذه المشاعر غريبة عن عالَم أَومِيرُس، وهذا يُفَسِّر ما يَبْغِيه مذهبُ ما وراء هنالك القائلُ إن حياة الدنيا ليست غيرَ إِعْداد، وكان هذا المذهب يتضمن رغبةً في نجاة الروح. ويقترب سِنيكا، الذي عاش في الدور الواقع بين موت عيسى وكتابة الإنجيل، من تعاليم النصرانية في مذهبه عن الموت، ومن قوله: «إن الجسمَ حِمْلٌ وعِقَابٌ للروح التي يُثْقِلُها ويُقَيِّدُها، والروحُ تكافح هذا اللحم الثقيل، والروحُ تودُّ أن تعود إلى مصدرها، وتنتظرها الراحة الأبدية حيث كانت قد شاهدت الحقيقة والنُّور.» ويقول فِيلُون في ذلك الزمن: «إن الروح مدفونة في الجسم كما في قبرٍ.» وما أكثر اقترابَ هذين الفيلسوفين، اللذين كان أحدهما وثنيًّا والآخرُ يهوديًّا، واللذين كان أحدُهما يقيم برومة والآخرُ بالإسكندرية، من نبيِّ الناصرة!
وأَخذتْ عبادةُ آلهة أوُمِيرُس في الأُفول منذ القرن السابق، وكان قد مَرَّ زمنٌ طويلٌ على تصريح أَشيل في الهادِس متذمرًا بأن فَلَّاحًا حَيًّا أسعدُ من أميرٍ ميت. وقد مَرَّ زمن طويل على ظهور الآلهةِ رفيقةً للناس في منازعاتهم وأعمالهم اليومية، ويمضي زمنٌ فلا تَبْدُو الآلهة إلَّا نادرًا، ولا تظهر إلَّا ظهورًا مُعْجِزًا، وذلك لسُمُوِّها، أو لطَرْدِها، فوق الأرض الزاهرة ودخولها عالَمًا مُجَرَّدًا بالتدريج؛ وذلك لأنها أصبحت من الحُضور والقضاة بعد أن كانت رفيقةً في المعارك.
ومن السهل أن يُكْتَشف وجودُ انتقالاتٍ بين مبدأي الألوهية. فلما أتى القديس بولس إلى أنطاكية حَضَر احتفالَ أدونيسَ الربيعيَّ الكبيرَ حيث تُدْفَن صورة الإله المَيِّت بين عويل النساء لتظهر ثانيةً بين هُتافات الشعب المبتهج. وكان يمكن سَلَفًا، أو تلميذًا، ليسوعَ أن يلاقيَ في أثناء سياحاته مصريين يُحَدِّثونه عن أُوزِيرسَ الذي حَمَلَتْه عذراء، وذلك كولادة الثورِ المقدسِ أَبيسَ من بقرةٍ بَتُول، وكلاهما كان قد لُقِّحَ بشعاع الشمس أو بشعاع القمر كما عند بعضهم. وقد دَرَسَ فلاسفةٌ في جميع الإمبراطورية الرومانية عبادةَ مِتْرَا الفارسية وبَشَّرَ بها جنودٌ كانوا يُسَرُّون بهذه الفنون السحرية من غير نُسْكٍ أو استغفار، ونَجِدُ تناولَ القُرْبان بين طقوس مِتْرَا، وهو خُبْزٌ مُقَدَّسٌ وكأسٌ مملوءةٌ ماءً وخَمرًا، ولم يكن جميع هذا مناقضًا لأدب العالَم اليونانيِّ، بل كان منسجمًا معه، وهكذا زار أَبولُّونُ أُمَّ أفلاطونَ، وهكذا اكتشف فِيثَاغُورْس روحَ أناسٍ من آدَمِيِّي الماضي في الحيوانات فحادَثَ دُبًّا ولاطف نَسْرًا.
ومع ذلك لم يَحْتَجْ يَسُوعُ إلى البحث عن جميع هذا في مكان بعيد، فقد وَجَدَه حَوْلَه، فالشريعةُ الأدبية التي ترعرع تحت ظلِّها، وذلك من الحجر الذي نُقِشَتْ عليه الوصايا العشر إلى الأسفار الخمسة التي صُحِّحَت مائةَ مرةٍ، جَهَّزَته بما هو ضروريٌّ من العقائد والأساطير لِعَرْض أحلامه الخيالية على قومه، وهو لم يكن قَطُّ معارِضًا لليهودية، وهو لم يَعْطِف قَط على مذهبٍ مُعَادٍ للشعب اليهوديِّ، وهو لم يعارِض الأنبياءَ السابقين بخيالٍ إنسانيٍّ جديد مثلًا بل جاء مُتِمًّا لهم. وفي مار يُوحَنَّا ويسوعَ بُعِثَ إرْميَاءُ وإشَعْيَاءُ بعد خمسِمائة سنة، وكلُّ ما كافحه يسوعُ هو ما يمارسه الكهنة من طقوسٍ لا معنى لها وما كان إرْمياء قد كافحه بنصوص متشابهة، وما كان من نبوءة هدم الهيكل أحاط النبيَّ الجديد بسياجٍ من حقد الكهنة كالذي أثاره سَلَفُه، وكلاهما اضْطُهِدَ عدوًّا للوطن.
ووَجَدَ يسوعُ قائمًا ما كان صالحًا لوضع أساس معتَقَده، وذلك كالتكوين والعناية الرَّبَّانية ويومِ الحساب وطاعةِ الله ومحبةِ الضعفاء (وفي مزامير سليمانَ التي كُتِبَت حوالَي سنة ٧٠ قبل الميلاد والأناجيلِ التي كُتِبَت حوالي سنة ٧٠ بعد الميلاد دلالةٌ على الآمال المَسِيَّاوية)، ووَجَدَ يسوعُ أيضًا تعبيرًا للأدب الذي كان يُعَلِّمه ويخاطب هِلِّلُ السابقُ أحدَ المُرْتابين حوالَي سنة ٣٠ قبل الميلاد مُعَبِّرًا بالكلمة الآتية عن روح الأدب اليهوديِّ: «لا تعامل غيرَك بما لا تحب أن يعاملك به.» وإذا كان اليهود قد عَبَّرُوا، كالوثنيين، عن الأساطير والأقاصيص والوصايا والتاريخ وسَجَّلُوا هذه الأمور، وإذا كانوا قد قَيَّدُوا كلَّ ما يشتمل على جوهر الأناجيل، فما هي مزيةُ يسوعَ الخاصَّةُ إذَنْ؟
مَزِيَّتُه في كونه انتهى إلى نتائجَ عظيمة؛ أي في هدمه أبوابَ الحِصْن الذي كان يَعْزِل اليهودَ، وفي مَدِّه ذراعيه إلى العالَم، وفي أنه جعل دينًا عالميًّا من دينٍ احتفظ به شعبٌ صغيرٌ حاسدًا، فبحث هذا الشعبُ المضطهَد عن ملجأٍ له في إيمانه برسالته كشعبٍ مختار، وفي أنه ملأ الهُوَّةَ بين الإيمان والشعور القوميِّ الذي كان قد هَزَّ قلوبَ الأنبياء الشِّيبِ؛ وذلك لأنه كان يبالي بنجاةِ البَشَر أكثر مما بصَدَارَة الأمم، ويَرَى ابنُ مَيْمُون الذي هو من أعاظم اليهود أن عيسى والعربَ قد أَعَدُّوا السبيلَ للمسيح المنتظر.
وأنقذ يسوعُ العناصرَ الغاليةَ من العقائد التي احتفظ بها الكهنةُ العُنُدُ المحافظون عن حَسَدٍ؛ أي أنقذها من أدبٍ لم يَسْطِعْ أن يسيطر على العالَم في ألف سنة لادِّعاءِ شعبٍ صغيرٍ حيازتَه له وحدَه كتراثٍ قوميٍّ، وبما أن دعوته جاوزت حدودَ بلده فقد أَسَّسَ جمعيةً بين الأمم وأوجَدَ شعورًا جديدًا يفوق الشعورَ حَوْل الدولة، وهو حين دَعَا الأممَ إلى تأليف حِلْفٍ بشريٍّ شاملٍ للعبيد والبرابرة أيضًا، لا إلى تأليف حِلْفٍ قوميٍّ، يكون قد جاوز شواطئ البحر المتوسط، ومع أن يَسُوعَ لم يجاوز حدودَ بلده الصغير غَدَا فاتحًا أعظمَ من الإسكندر.
وهو، إذ يأتي بالرحمةِ والعدلِ والنجاةِ والمسيحِ من أَسوار أُورَشَلِيمَ الحجريةِ إلى بساتين الجليل، يكون قد حَوَّل الإلهَ الشديدَ العنيفَ، يكون قد حَوَّل إلهَ الحرب والانتقام، إلى إلهٍ حليم كريم، إلى حَمَلٍ كما كان شخصه، وهو يدعو نفسه ابنًا للربِّ وأخًا للناس بلا وَجْدٍ، ولكن مع كلِّ خُشُوعٍ، وهو لم يُقَدِّم حياتَه مختارًا عن حُبٍّ للحقيقة، غير أن موته كان من القسوة والظلم ما يبدو يسوعُ معه ضحيَّةً مُوَكِّدَةً مُتَوِّجةً لرسالته، وهنالك عنصران بشريان، هنالك موتُه ووجهُ أُمه (التي هي أولُ إلهةٍ بين اليهود)، قد أَضفيا عليه من الشُّعاع ما لم يتفق لأحدٍ من بني وطنه سابقًا، ويُعْرِض اليهود عنه فَيَتَقَبَّله العالَم، وكان الناس يأمُلُون أَن يجدوا السَّلام به.
٣
ولا يقع الذنبُ عليه إذا لم يَجِد العالَم غيرَ السيف، ولا يكون الأنبياء والفلاسفة ما هم عليه لو لم يُنْكَرُوا أو يُسَفَّهُوا من قِبَل أناسٍ أنانِيِّين حاسدين. وقد ظهر طالبُ الرَّبِّ يسوعُ في زمانٍ ومكانٍ يُشَوَّه فيهما خيالُه النبيل بحكم الضرورة، وقد أُبْرِزَ مِثْلَ ثَوْرِيٍّ يسوعُ الذي كان يسمو فوق الدولة والذي كانت روحه تسير في الأثير بجانب أبيه العَلِيِّ. ولم يكن يسوعُ أولَ مَنْ حَوَّلَه مذهبُه، حَوْلَ حياةٍ أُخرى أطيبَ من الحياة الدنيا، إلى ثائرٍ شعبيٍّ على الرغم منه. ويجب على مَن يُعْلِنُ أن الصحة والقوةَ والعملَ المُنْتِج والتمتعَ والسعادة من الشرور، ويجب على مَنْ لا يحاول بلوغَ هذه الأمور، أن يكون جاذبًا جَذْبًا طبيعيًّا لجميع مَنْ هم عاطلون منها، وخَضَع الفقراء للقَدَر دَوْمًا، ويُسَمِّي الفقراءُ أمرًا مَقْضِيًّا كلَّ ما يَعِدُهم بعالَم أحسنَ من العالَم الراهن، ويُفَضِّلُ الآخَرُون من ذوي الطبائع الخصيبة المسيطرة والأمزجة المُبْدِعة أن يكونوا مَدِينين لأنفسهم بفوزهم فتراهم يأبَوْن الاعترافَ بعمل القَدَر.
وجَعَلَت تعاليمُ يسوعَ المثاليةُ منه شيوعيًّا في الحياة الاجتماعية وأَدْنَتْه من مذهبٍ كان يؤدي إلى حياة هادئة في فلسطين منذ أكثرَ من قرنٍ ونصف قرنٍ. ولم يكن الإيسيُّون ثوريين، بل كانوا مثاليِّين طليقي الوجه، وقد أَلَّفُوا مُنَظَّمَةً من أربعة آلاف عضو حوالَي ذلك الدور فكانوا يعيشون في القُرَى والمُدُن معًا من غير تَمَلُّكٍ خاصٍّ، وكانوا يوزِّعون أغذيتهم وثيابهم ويَحْظُرون حملَ السلاح ولا يتاجرون فيما بينهم، وكانوا يَتَحَلَّوْن بالحِلم والوَرَع ويُسَلِّمون كلَّ مالٍ مُنَالٍ إلى لَجْنةٍ مُفَوَّضٍ إليها أمرُ توزيعه. ولم يكن هؤلاء الناس من الزُّهَّاد في الدنيا ولم يكونوا ممن يعيش من الصدقة كالنُّسَّاك أو ذيُوجَانِس، وإنما كانوا يَعْمَلون كفلَّاحين وعمالٍ، وهم، وإن لم يُحَرِّموا الزواج، كانوا يَحْذَرُونه، وهم، وإن أباحوا التناسل، كانوا يرون من الإثم أن يَهْدِف النكاح إلى الاستمتاع، وإذ عَدَوْتَ هذا المبدأَ الطُّهْرِيَّ وَجَدْت كلَّ شيء عندهم مثيرًا للعاطفة.
ولم يَثْبُت، بما يُقْنَعُ به، أن يسوع كان من تلك المُنَظَّمة، وإنما كانت روحه تشابه روحَ أعضائها، ولا أحدَ يشكُّ في انتساب الرُّسُل إلى هذه المُنَظمة، وقد كانوا يعيشون كالشيوعيين، وما كانوا يُوَجِّهُونه إلى الأغنياء من التُّهَم آلَ في القرن الرابع إلى آباء الكنيسة الذين مَنَعُوا كلَّ مالٍ خاصٍّ في الجمعيات الدينية. ومما وَعَظَ به جان كرِيزُوسْتُوم أن كلَّ شيء سيُعَدَّل بجعله مشتركًا كما عند النصارى الأولين، حتى إن يسوعَ قال مُكَرِّرًا في إنجيل لوقا: «بِعْ كُلَّ ما لَكَ ووَزِّعْ على الفقراء فيكونَ لك كنزٌ في السماءِ وتعالَ اتَّبِعْنِي.»
وما يُحَاوَل من فَصلٍ غريب ليسوعَ عن الشيوعية التي تُجَدَّد في أيامنا شَغَل بالَ مَتَّى كما شَغَلَ بالَ غيرِه من علماء اللاهوت الذين ظهروا بعده، حتى إن مارْتَن لُوثر حاول كَتْم هذه المبادئ عن خوفٍ ألمانيٍّ من السلطات. والحقُّ أنه لا صلةَ بين شيوعية النصارى الأولين والشيوعية السياسية الحديثة ما اقتصرت على الانتفاع بالأموال انتفاعًا مشتركًا، ولم يكن الإنتاج الزِّراعيُّ ليُسَلَّم إلى المجتمع تسليمًا شافيًا، وأما الصِّناعة، وقد كانت تافهةً في ذلك العصر، فقد كان إمكانُ جعلِها حكوميةً أقلَّ احتمالًا.
ومع ذلك كان يسوعُ أكثرَ ثوريةً مما يلوح أولَ وهلةٍ، وكان يرمي بمشاعره إلى ما هو أبعدُ من ازدراءٍ للمال. وقد حاولنا في كتابنا «ابن الإنسان» الذي ألَّفناه سنة ١٩٢٩ أن نَجِدَ في الأناجيل إيضاحًا لروايةِ عامَيْهِ الأخيرين الباطنية ولتحول طَبْعِه الحليم الناعم إلى طبعٍ قاتمٍ متعاظم. وإذا نظرتَ إلى الفصل الأخير من نشاطه وجدتَ قوةَ أنبياءِ اليهود الثقيلةَ فيه أحيانًا، وهنالك مثالٌ ليسوعَ البِزَنْطِيِّ الذي نراه جالسًا على العرش الفُسَيْفِسَائِيِّ كسيدٍ للعالَم.
ولكن يسوعَ الأخيرَ هذا لم يُعْرَف في زمنه، وهو، على العكس، قد اسْتُهْزِئ به أو أُشْفِق منه.
وكان الرجال الثلاثة الذين هم أقوى رجال القرون القديمة أصدقاءَ لليهود، فقد اجتذب الإسكندرُ عددًا كبيرًا منهم إلى مدينته الجديدة فسَكَنُوا حَيَّيْن من أحيائها الخمسة، وقد حَمَاهم قيصرُ من طقوس اليونان والرومان، وقد أعفاهم أغسطس من بعض قوانين الإمبراطورية، وبما أن اليهود كانوا لا يستطيعون حضور بعض الولائم العامة بسبب يوم السبت فإنه كان يأمر بتوزيع هداياه بعدئذٍ في حَيِّهم وراء نهر التِّيبِر.
وتجد سببَ وَضْع هؤلاء الأقطاب في محافظة اليهود وغِنَاهم وروح إبداعهم. ومن أحكام قانون المواريث الرومانيِّ أن كانت تُوَزَّع جميع أموال الميت، ومن نتائج ذلك أن كانت الأمم الزراعية تُحَدِّدُ عدد أولادها، وإذا ما أُضيف إلى ذلك استغلالُ العبيد والمزارعين وُجِدَ أنه كان يؤدي إلى خُلُوِّ إيطالية من السكان، وعلى العكس كان يمكن اليهودَ الذين هم تجارٌ، لا فَلَّاحون، أن يُوَزِّعوا أموالهم بين أولادهم الكثيرين. واليهودُ كانوا يُوَجِّهُون إليهم أنظار الأقوياء بسبب إلههم الواحد، والعالَمُ التَّعِبُ من آلهته القديمة كان يُقْبِلُ علَى عاداتٍ فارسيةٍ ويهودية عن تَعَبٍ، حتى إنه وُجِدَ في عصر يسوعَ من المؤرخين مَنْ كانوا ينتظرون من اليهود نوعًا من التجديد العالَميِّ. وبينما كانت روح البحث العلميِّ تضمحلُّ على شواطئ البحر المتوسط، كان الشوقُ إلى الخوارق وسرعةُ التصديق يَزِيدَان وكان يُتَمَسَّكُ بكلِّ ما يختلف عن الآلهة القديمة.
وكان من البِدَع في زمن يسوعَ وبعدَه قليلًا انتحالُ اليهودية في المجتمع الرومانيِّ، ومن المعلوم أن اثنين من ملوك الشرق قد خُتِنَا ليستطيعا الزواجَ بأُخْتَيِ الملك اليهوديِّ أغريبا، وقد خانت الزوجتان زوجيهما … وكانت زوج نِيرُون وأزواجُ كثيرٍ من أعيان الرومان من اليهوديات، أو كُنَّ حامياتٍ لليهود، وصار المثقَّفون يَخْجَلون من تَعَدُّد آلهتهم، واعتنق مؤلفو اليونان ما جاء في أسفار موسى من مبدأ الإله الواحد ومن مبادئ الأخلاق، وهم لم يُغْضُوا عن غير الطقوس المُقَيِّدَة كالسبت والخِتَان وقواعد الطعام، وهم قد ابتدعوا يهوديَّةً مُنَوَّرَةً يمكن قياسُها بيهودية القرن التاسعَ عشرَ.
وأثار اليهودُ في الوقت نفسه عواملَ الحقد بثَرَائهم ومعارفهم وعاداتهم الغريبة، واليهودُ لم يعترفوا بأية ديانةٍ أخرى على خلاف اليونان والرومان، واليهودُ زَعَمُوا أنهم يَهَبُون إلى العالم إلههَم الواحد، وفي ذلك العصر كان يَطُوف مُبَشِّرون منهم في جميع بلاد البحر المتوسط.
ومن قيصرَ استمدَّ هيرودسُ سلطانَه في عهده الذي دام أربعين عامًا والذي يُفَسَّرُ به ذلك الدور، وقليلٌ من اليهود مَنْ عَرَف أنه مدينٌ بوجوده لذلك الرومانيِّ الكبير. وكان بونْبي قد قَهَر، بعد معاركَ طويلةٍ، دولةَ اليهود الصغيرةَ التي زعزعتها الفِتَنُ المتصلة فجعل منها مَحْمِيَّةً رومانيةً تشابه حكومتُها الإلهيةُ حكومةَ الفاتِيكَان بعد سنة ١٨٧٠، وتَلُوح لقيصرَ فرصةُ دعوة مَحْمِيِّه إلى مساعدته في مصر، وكان هذا في وقتٍ حَرِج، وتلوح لنِصْفِ اليهوديِّ العتيق أَنْتِيبا الذي كان قد ساعد قيصرَ على الفِرار، فرصةُ اختبار صفته النادرة، صفةِ عرفان الجميل لدى أحد الطغاة، فمَنَحَه قيصرُ، كما منح ابنه هِيرُودتس، أنسبَ شرطٍ تمتعت به مَحْمِيَّةٌ رومانية؛ أي أعفاه من الجزية ومن الجندية وأَذِنَ له في إعادة بناء حِصْنِ أورَشَليم، وسار أغسطس على سُنَّة قيصرَ فأضاف إلى ذلك حتى لقب مَلِك.
وعَرَف هِيرُودُس، الذي كان رومانيًّا أكثر من أن يكون يهوديًّا، أن يَتَمَلَّقَ الدولةَ الحامية بلباقةٍ، ويُعَدُّ هِيرُودُس مثال المَلِك الغنيِّ الذي يُوَسِّع بلده ويُفْسِده معًا. وكان هِيرُودُس يَرُوقُ الرومانَ الذين كان يَتَرَدَّد إلى معابدهم ومسارحهم وألعابهم، ولكنه كان يُغْضِبُ اليهود، فلم يُعَتِّم أن عُدَّ خائنًا من الفريقين، وهو يُحْسَبُ آيةً طريفة على الانحطاط كالذي يُشاهَد قبل الانقلابات الذهنية على العموم. أَجَلْ، كان هيرودسُ مُرَائيًا في كلِّ واحدة من حركاته، غير أنه كان فاتنًا حتى بكَلْبِيَّتِه. وكان هيرودسُ حائزًا خليلاتٍ مصرياتٍ وجنودًا من العرب وحَرَسًا من الجِرمان وخِصْيانًا وقاصِّين وغِلْمانًا وجواسيسَ، وقد تَزَوَّج هيرودسُ عشرَ مرات، فكان عنده من الولد الكثير ما يَعُدُّ نفسه معه أبا الوطن.
ومع ذلك لم يُوَفَّقْ هيرودس لاستمالة اليهود حتى حينما أقام هيكلَه الرُّخاميَّ، وذلك لِمَا في النَّسْر الرومانيِّ الذهبيِّ الذي يَعْلُو المدخلَ من تدنيسٍ للعيون، ولم يَسْطِع الصَّدَأ ولا المطرُ إزالةَ أثر النَّسْر في زمن طويل حتى بعد نَزْعه. ومع كلِّ ذلك كان أولياءُ الأمر من الرومان يَشْعُرون باحترام عميقٍ لهذا الشعب الصغير الشَّرِس، ومن ذلك أن هيرودس لما مات فَحَوَّل أغسطسُ بلادَ اليهودية إلى ولاية رومانية نهائيًّا لم يَضْرِب من النقود هنالك ما يَحْمِل صورتَه مراعاةً لعواطف السكان، ومن ذلك أن حُظِرَ دخولُ الهيكل اليهوديِّ على كلِّ جنديٍّ رومانيٍّ وإلَّا عُوقِب بالقتل.
ويحاوِل الإمبراطور كاليغولا بعد زمنٍ أن يقيم تمثالَه في الهيكل فتَسْمُو دولةُ اليهود الدينية إلى درجةٍ فاجعةٍ من العظمة، فقد قامت بإضرابٍ قوميٍّ، وعاد لا يَزْرَع حقلَه أحدٌ، وأعلن الشعبُ بأجمعه أنه يُفَضِّلُ الهلاك على رؤية صورة الإمبراطور في الهيكل، ولم يَلْبَث هذا أن صار ثورةً شاملة، وبما أن الأمر روحانيٌّ فقد ظهر أناسٌ من المجاذيب كان بعضُهم حسنَ النية وكان الباقون من المشعوذين، وقد أظهروا أنفسَهم من المُسَحاء الذين ينقذون بلادَ اليهودية، ويَمْضي وقتٌ كبير فيَعُود حَفَدَةُ مَنْ طُرِدوا إلى أُورَشَلِيمَ ليبكوا أمام جدار قديم من هيكل الملك سليمان.
٤
صار أغسطس وارثًا، وعلى ما بذلناه من جُهدٍ في جعل وجهه الكريه يَدْنُو من الكمال مستعينين بتماثيلَ كثيرةٍ وبقطعٍ من النقود، يَنمُّ هذا الوجه على رجلٍ متثاقلٍ محتالٍ مُرَاءٍ مُقَرَّنِ الأعضاء كبيرِ الفم طويلِ الذَّقَن والأنف، وله من الملامح ما يدلُّ على غلامٍ ناضبٍ قبل الوصول إلى سِنِّ الرجل، ومع ذلك كان من حيث العلائقُ الجنسيةُ منتَظَمًا، وداعرًا أيضًا، ويعيش ستًّا وسبعين سنة، وتُعْرَفُ سجيتُه بأحسنَ من ذلك من دراسة صورة امرأته لِيفْية الفاترةِ الوَلُوعِ معًا والتي تُعَدُّ من أجمل صُوَر نساء التاريخ، ولنا باختيار أغسطس إياها زوجًا له ما يُثْبِت إدراكَه لأمور الغرام.
وكان عارفًا بالرجال أيضًا، ويا لكمالِ دهائه في خَدْع مجلس السِّنَات! وكان يُمَثِّل دور صديق الشعب على الدوام، فيعتزل ليُضْرَعَ إليه أن يعودَ إلى السلطان، وكان يواجه الهَجَماتِ فلا يغادر القاعةَ إلَّا عند احتدامها، وكان يكتم ثروتَه، وهو لم يَبْنِ قصرًا إلَّا في مَشِيبه، وقد انْتُخِب قنصلًا ثلاثَ عشرةَ مرة، وقد انْتُخِب ليكونَ إمبراطورًا وحَبْرًا مَدَى الحياة، وقد أَدخل الإمبراطورية إلى التاريخ الرومانيَّ بالحيلة ومن غيرِ انقلابٍ، وهو لم يَلْبَث أن وُجِد في مَنْصِبه.
ويا للذي يُبْدَى من الحَذَر والاحتراس والمراعاة تجاه ذوي الحرص والطموح! ويا للحكمة في الأعمال الكثيرة التي لا تجد فيها ما هو عظيمٌ بالحقيقة! ويُعَدُّ أغسطس أحسنَ مثالٍ للسياسيِّ الماهر الذي يُمْكِن طُولَ عهده أن يقوم مقام العبقرية فيبدو للأعقاب رجلًا عظيمًا.
وهو لم يقتبس سلطانَه من عبقرية قيصرَ فقط، بل استفاد من الدرس الذي تَجَلَّى في موت هذا الأخير أيضًا، ولولا أواسطُ مارسَ ما صار أغسطسُ، وتُثْبِت صورتُه وأخلاقُه أنه لا يَحْمِل قطرةً من دم خاله، ومع ذلك كان دمُ قيصرَ المسفوكُ بخِنْجر القَتَلَة على الكابيتول ضَرْبًا من الأوثان لخَلَفه. والواقعُ أن أغسطس اعتصم بمثل غاية قيصرَ باستدعائه نفسيًّا، وكانت هذه الغايةُ ملائمةً لعظمة أخلاق قيصرَ الذي استطاع أعضاءُ السِّنات أن يحتملوا سلطانَه لا روحَه، وما كانت حكمةُ أغسطسَ الناعمةُ لتُثِيرَ أحدًا، وكانت مجاملتهُ المصنوعة تُبْدِيه أعلى مُوَظَّفٍ في الدولة مع أنه كان الإمبراطورَ الأول في الحقيقة، وكان عملُه الفنيُّ ملائمًا لمواهبه، ولم يكن عالِمًا بفنِّ الحرب، وكان يعتمد على جيشه اعتمادًا تامًّا، ولم يَخِبْ أمله في قُوَّاده، وقد خاض جميعَ معاركه بواسطة هؤلاء القُوَّاد مع أن الإسكندر وقيصرَ فاقا جميعَ معاصريهما بعلمهما الحربيِّ، ولم يكن للرجل، الذي ألَّف جيشًا دائميًّا، وكان له حرسٌ يَحْمِيه في حياته الطويلة، نبوغُ الجنديِّ وقلبُه.
ومع ذلك عَرَفَ أن يَجِدَ مَنْ يحتاج إليهم من الرجال، فقد كان أَغْريبا صديقَه ثم صار صهرَه، وقد كان هذا من أروع الرومان، فينظر إلى بعيدٍ بعينيه البعيدتيِ الغَوْر، ولو ظهر في أيامنا لبدا مثالَ الطَّيَّار الكامل، أو مثلَ رائد القطب، ولو قابلنا بين التمثال النصفيِّ لكلٍّ منهما لوجدنا أغريبا يختلف عن أغسطس اختلافَ رجل العمل عن الرجل المتأمِّل. ومما يُرَى أيضًا أخلاقُه الواقعية المُنْتِجَة وأخلاقُ الآخرِ القائمةُ على الأَثَرَة والحساب، ويبدو أَغْرِيبا لنا مِثْلَ ملك ويبدو لنا أغسطسُ مثلَ حامل الخَتْم.
وما ظَهَرَ من رَوْعَة عهده الذي نال به اسمَ أغسطس؛ أي الجليل، يجعلنا نَنْسى أن هذا الإمبراطور قضى جميعَ شبابه؛ أي ما بين التاسعةَ عشرةَ والثانيةِ والثلاثين من سِنِيه، في قِتَال خصومه السياسيين، وكان عليه أن يدفع ثمنًا غاليًا لينال تراثَه، ثم كَسَب أَغْرِيبا معركةَ أكسيوم البحريةَ على الشاطئ الشرقيِّ من البحر الأدرياتيِّ.
وقد نال أغسطس إمبراطوريته بهزيمةِ امرأةٍ، ومما يستحقُّ الذِّكرَ أنه مَدِينٌ بعرشه للحقد لا للحُبِّ.
وتُعَدُّ كليوباترة أجملَ امرأةٍ أنجب بها البحر المتوسط، وهي قد جاءت بعد ازدهار جنسها الأَسْمَى، ولكن قبل انحطاطه، شأنَ أطيب عِنَب البحر المتوسط الذي يَنْضَج قبل آخر قَطْفٍ، ومن اليونان قد وَرِثت روحَ الحرية لدى أَسْبازْية، ومن الرومان قد وَرِثت فَنَّ الحكم. أَجَلْ، كان الأجملُ أن تَظْهرَ في عصر النهضة، غير أن من اليُمْنِ أَلَّا تكون قد وُلِدَت بعد خمسةَ عشرَ قرنًا؛ وذلك لأنها كانت تَلْقَى بُورْجيَا، لا قيصرَ، ولو لم تَنَلْ كليوباترة البالغةُ من العمر خمسًا وعشرين سنة غيرَ غرام قيصرَ الذي كانت سِنُّه تزيد على سِنِّها ثلاثين سنة لكفى هذا في إِغنائها الإنسانيةَ بأروع قِصَصها.
وبعد قيصرَ لم تُحِبَّ كليوباترة غيرَ أنطونيوس، وكان العاشقان يلتقيان بسفنهما في الخليج الذي وقعت في جواره المعاركُ الثلاثُ التي هي أعظم ما حدث في البحر المتوسط، وإن خليج أَنْبرَاسِي الذي يُعْرَف اليوم بخليج أَرْتا هو فُرْضةٌ بالغةٌ من الطول نحو ثلاثين مِيلًا مع مدخلٍ لا يزيد على نصف ميلٍ إلَّا قليلًا، وهو لا يُقَدَّر بثمنٍ لِمَنْ يبحثون عن ملجأ، ولكنه خَطِرٌ في زمن الحرب لإمكان حِصَار ما فيه بأسهلَ مما في الدردنيل، والتَقَى جيشا أنطونيوس وأُكْتافْيُوس (أغسطس القادم) الرومانيان لتعيين مجرى التاريخ هنالك، بالقرب من رأس أكسيوم، وفي وسط الإمبراطورية الرومانية.
وكان جيش أُكتافيوس مرابطًا في شمال الفُرْضة حيث يَرْصُد كالكلب الحارسِ من غير أن يُحَوِّل عينيه عن المدخل.
وكان جميع أسطول أنطونيوس في الفُرْضَة متصلًا بجيشه المنتشر في البَرِّ إلى أبعد مَدى، وقد حاصرت سُفُنُه المدخلَ الضَّيِّق ولكن مع وضعٍ دفاعيٍّ، وكانت مراكب أُكْتافيوس في الخارج، وعلى مَدى البصر، مستعدةً للحملة على أسطول أنطونيوس عند ظهوره، ويعمل أنطونيوس برأي كليوباترة التي كانت معه في مركبه، وذلك مع شعوره بأن تَقَدُّمَ أكتافيوسَ الحَذِرِ أكثرُ ملاءمةً لهذا الأخير، فيُقَرِّر خوض المعركة في البحر مهملًا كتائبَه البَرِّيةَ الأحسنَ استعدادًا.
وكان غيرَ معتمدٍ على سفنه تجاه أسطول أكتافيوس الرائع، وكان بعض القواد قد انحاز إلى جيشِ أُكتافيوس البعيدِ بضعة كيلومترات فقط، والسهلِ بلوغُه. وكان أنطونيوس يَبْدُو مستخفًّا بالأنباء السَّيِّئة، فلما انضمَّ صديقه إِنُوبَارْب إلى العدوِّ اشتاط غيظًا ودخلَ خيمةَ الملكة لينقل غضبَه إليها.
وهنالك، في تلك الخيمة المصنوعة من الحرير، حيث يُشَمُّ العِطْرُ، مَثَّلَ العاشقان دورًا من الغضب والحقد والألم، فقد أخذ أصدقاء أنطونيوس يَنْفَضُّون مِنْ حَوْله.
وكانت كليوباترة قد قَرَّرت إخراجَ مراكبها الخاصة من الخليج وأن تَدَع أنطونيوسَ يخوض غمار المعركة وحدَه، وذلك تفاديًا من مشاطرة مصير أختها والظهورِ في مركبة نصر الفاتح الرومانيِّ بين عُوَاءِ الرَّعَاع.
وتُصْدِر الأوامرَ، وفي صباح الغد تَتْبَع سفنُها السِّتُون، بعيدةً من الشاطئ، المركبَ القائدَ «أنطونياس»، ويُفْتَحُ بابُ المرور وتبدأ المعركة، وتنقضُّ سفنُ أغريبا الخفيفةُ الرائعةُ على سفن أنطونيوس الثقيلة في الخليج.
ولكن أُكْتافيوس أمر بألَّا تُمَسَّ واحدةٌ من السفن المصرية، وتَمُرُّ مراكبُ الملكة ذاتُ صفوف المجاذيف الثلاثة من بين مقاتِلةِ الرومان كالإوَزِّ السحريِّ، وتَتَوَجَّه نحو البحر تاركةً وراءها دمَ المعركة ونارَها وضوضاءَها، ويُبْصِرُ أنطونيوس إشارةَ انصراف الأسطول المصريِّ، وما كان يَحْمِله نحو كليوباترة من مَيْلٍ مُقَدَّر حَمَلَه على ترك الرجال الذين يحاربون باسمه، ويبتعد في مركبٍ من فَوْره محاولًا اتباع مركب الملكة، ويَتَعَقَّبه بعضُ سفن الأعداء، ولكنه يَطْرُدها ويداوم على اتجاهه نحو الجَنوب.
ويظلُّ أنطونيوس ثلاثة أيام جالسًا في مُقَدَّم سفينة الملكة صامتًا مُخْفِيًا رأسَه بين يديه عدةَ ساعات، ويكون أنطونيوسُ قد خَتَم حياتَه العسكرية بتركه مراكبَه وجيشَه بلا رئيس.
وتُمَزَّق قُوَى أنطونيوس، ويُصْبح أُكتافيوسُ سيدَ البحر المتوسط، ويتتبع كليوباترةَ وعاشقَها في مصر، ويَحْمِلُهما على الانتحار، ويقتل ابنَ قيصرَ وكليوباترة، قَيْصرونَ؛ أي المنافسَ الوحيد الذي تركه قيصرُ وراءه.
ويبدو عاملُ المركب في معركة أَكْسيُوم حاسمًا مرة أخرى، وذلك لابتكار طرازٍ جديد للمركب اسمُه «لِيبُورْنا» وهو مركبٌ متحركٌ ذو مقعد اخترعه أَغْرِيبا لمرافقة ذواتِ الظهور العالية والبروج الصغيرة من مراكبه، وهو مثلُ مُعَاكِسة النَّسَّافات التي تلازم الطَّرَّاد في زماننا.
ولم يكن فِرَارُ أنطونيوسَ المغلوبِ مع مراكب كليوباترة الستين خاتمةَ روايةٍ غرامية فقط، بل كان نتيجةً منطقيةً للتَّخَلِّي عن التقاليد الرومانية من قِبَل رومانيٍّ شهوانيٍّ فاترِ الإحساس أمام رجلٍ أشدَّ شبابًا وأعظمَ طموحًا مع تَقَيُّدٍ تامٍّ بتلك التقاليد، ولم تُقَرِّر هذه المعركةُ مَنْ يكون سيدَ العالم من شعبين مُعَيَّنين، بل كانت خاتمةَ حربٍ أهلية بتعيينها أيُّ الرُّومانييْن يكون صاحبَ السلطان.
ولم يُحِبَّ الرومانُ منه أكثرَ من ذلك، ولكن من هو الذي كانوا يُحبُّون؟ ومهما يكن من أمرٍ فقد احتملوه زمنًا طويلًا بلا فتنةٍ لِما كان من حَذَره البالغِ في أعماله، ومهما يكن من أمرٍ فقد كان من غِبْطَة الجُمهور التَّعِب من الفِتَنِ الداخلية أن يرى رجلًا مُمْسِكًا دَفَّةً الدولة بيدٍ متينة، ومهما يكن من أمرٍ فقد كان يُؤْمَلُ دوامُ نظامٍ مَلَكِيٍّ معتدل قد يقبض على زمامه خلفاءُ أكثرُ اقتدارًا، وكان الشعبُ يسأل في نفسه: أليس هذا خيرًا من أعضاء السِّنَات المُرْتَشين؟ وهل كان هؤلاء يستحقُّون أكثر من حقِّ ضرب النقود النحاسية على حين كان القيصر يحتفظ بالذهب والفِضة؟ ولم تُنَظِّم حكومةٌ سابقةٌ ألعابًا حربيةً يُمثِّل فيها ثلاثةُ آلاف أَثَنِيٍّ وفارسيٍّ معركةَ سلَامين في ثلاثين سفينةً على بحيرةٍ مصنوعة، ولم يظهر رجلٌ مثلُه تَمَلَّق الجماهيرَ بتنظيمه في الميدان مناظرَ يُذْبَح فيها المجرمون تقليدًا لمن قُتِل من مشاهير الرومان!
وكانت رومة مدينةً قديمةً مصنوعةً من الآجُرِّ، فصارت في عهد أغسطس مِصْرًا مبنيًّا من الرخام في الأماكن التي يجتمع الجُمهور فيها على الأقل، ويَبْدُو في وَسط رومة، ذاتَ نهارٍ، قيامُ البانْتِيُون الذي هو أروعُ المباني الرومانية حتى قبل إكماله، فتُعْبَدُ آلهةُ رومة السبعةُ فيه بعدئذٍ، ويمكن أبناءَ العبيد وحَفَدةَ العبيد، ثم كلَّ عبدٍ عتيق، أن يصبح رومانيًّا، وتزيد الولايات انتفاخًا، وإذا ما ظهرت فضائحُ في آل الإمبراطور أذاعها مُرْجِفُو الرومان مُكَبَّرَةً.
ومن دواعي الدَّهَش أن أُغْلِقَتْ أبواب معبد جانوس، وتمضي خمسَ عشرةَ سنةً على قتل قيصرَ فيُتمُّ وارثُه تحويلَ آخرِ بلدٍ مستقلٍّ في مِنطقة البحر المتوسط إِلى ولاية رومانية، ثم يستنبط درسًا من مشاريع قيصرَ الفارسيةِ فيَعْزِم على حِفْظ السَّلْم، وتُقْفَلُ أبوابُ البرونزِ الكبرى ذاتَ يومٍ رسميٍّ من سنة ٢٩ قبل الميلاد، فكان هذا دليلًا على نهاية دَوْرٍ، فكان هذا نذيرَ ختام الحروب التي دامت مائتي عام. حقًّا لقد أخبر العالَمَ بالسَّلْم شابٌّ في الثلاثين من عمره ووُفِّق لحفظها في داخل إمبراطوريته العالَمية على الأقل لمدة ثلاث وأربعين سنة، حَقًّا لقد تَحَقَّق طموح أغسطس، وساد «السِّلْم الرومانيُّ».
وقد وَسَّع أغسطس إمبراطوريتَه بالوعيد، لا بالحرب، فَحَصَلَ على ما يُدْعى اليومَ بالتِّيروُل وعلى القسم الغربيِّ من سويسرة وعلى سِتيرْية وشمالِ إسبانية، ثم ساد السِّلْمُ والأَمْنُ في فواصلَ نادرةٍ، وتحت سلطانٍ واحد، فيما بين بريطانية والنيل، وفيما بين جبال دَرَن وبادية الشام، وكان الخطرُ الوحيد يأتي من الشمال ومن الشرق حيث كان البرابرة يَشُنُّون غاراتٍ في بعض الأحيان، ووُحِّدَ البحر المتوسط، الذي هو بحيرةٌ هادئة، مع شواطئه وجزائره وموانئه أكثرَ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ، وظلَّ مُوَحَّدًا ثلاثمائة سنة، ونُقِشَت على النقود كلمة «السِّلْم الشامل» التي كانت شعارَ أغسطس، ولاح طلوعُ الجيل الذهبيِّ في الأفق.
وقد جاءت السَّلْم مع النظام الإمبراطوريِّ إذَنْ، وقد وَرِث هذا النظامُ ما نالته الجُمهورية في المعارك الضارية من السلطان، وقد عَقَبَ هذا النظامُ النظامَ الأول كالصيف الذي يَعْقُب الربيعَ الزاخرَ بالزوابع، ولكن البذور كانت في فصل الربيع مع كلِّ ذلك.
وإذا نظرنا إلى دوام كلِّ نظام في رومة ثلاثةَ قرون وَجَدْنا، من بعيدٍ، أن الجُمهورية كانت أكثرَ إنتاجًا من النظام الإمبراطوريِّ، ومع ذلك، ومع ما في الإمبراطورية الرومانية من غُلُوٍّ وضَعْفٍ، أَطْلَعَتْ هذه الإمبراطوريةُ بني الإنسانِ على إمكان دولةٍ عالميةٍ قامت تحت نظامٍ ديمقراطيٍّ أن تدوم تحت نظامٍ مَلَكِيٍّ مطلق وأن تَشْمَل ملايين الآدميين بحمايتها، ولم تُبْدِع الإمبراطوريةُ الرومانيةُ حضارةً أصلية، وكلُّ ما فيه عظمةُ الرومان كان قد أُنْتِج في العهد الجُمهوريِّ، وذلك من طُرُقٍ ومبانٍ وقانونٍ وعظماءِ رجالٍ.
وقد أسفرت دِعايةُ الإمبراطور عن اختراع دور الفنِّ الأُغسطسيِّ. أَجَلْ، كان الإمبراطور يَوَدُّ تقليدَ برِكلِس، ولكنه كان يُعْوزُه، للوصول إلى ذلك، سُوفُوكلُ وأُورِيبيد وفِيدْياس وإخْتِين وسُقراط وهيرُودُوتْس، وعظمة بركلْس قبل كلِّ شيء، ولم يُتِمَّ عهدُه شيئًا من الفَنِّ التمثيليِّ تقريبًا، ولا يُمَثِّلُ تيتْ-ليف وبولْيُون وستْرابُون وكابيتُو غيرَ العِلم، ويمكنك أن تَعُدَّ أربعةً من فُحُول الشعراء أيضًا.
وكان أُغسطسُ حاميًا حقيقيًّا لفِرْجيل، وأراد أغسطُس أن يعارض الأُوذِيسِّة بحماسية قومية فعَهِد إلى فِرْجيلَ في وضع الإنييد، وصار يسأل عن مبلغ ما يَعْمَل منها في بعض الأحيان، ومع ذلك ظَلَّ هذا الأثرُ الشعريُّ عَمَل تقليدٍ، فإذا عَدَوْت إيطالية لم تَجِدْ له صَدًى، وإذا عَدَوْت دانْتِي لم تَجِدْ له قارئًا موهوبًا. وكان وفاءُ فِرْجِيلَ لأُغسطس، الذي أغناه، أمرًا مفيدًا لكلٍّ من هذين الرجلين، ومن المؤَثِّر أن يُعْلَم أن الشاعرَ أوصى بربع ثروته لإمبراطوره، ومن المحتمل أن كاد وَداعُ الشاعر المُحْتَضَر، عائدًا إلى منزله، لحاميه أروعَ منظرٍ في حياة أغسطس الفاتر العاطل من العواطف.
وكان الشعراء الكُبَرَاء الثلاثةُ الآخرون، أُوفِيد وهُوراس وكاتُول معارضين للنظام الإمبراطوريِّ، وما كان من غَزَل أُوفِيد أظْرَفُ للدولة التي ثَبَتَت أصولُها حديثًا، وقد اتُّهِم بمجاراة فضيحةٍ وَقَعت في البَلاط، ومن المحتمل أن كان سحرُ شِعْرِه هو الذي لَوَى رأسَ حفيدة الإمبراطور. والحقُّ أن أُوفِيدَ كان يَعْرِف، ككلِّ شاعرٍ حقيقيٍّ، أن يُغَذِّيَ أَهْواءَ قُرَّائه، وقد مَنَعَ أغسطس كُتُبَه مع أنه كان يطالعها قريرَ العين، وقد نُفِيَ الشاعر ومات بعد حياةٍ طويلة قاتمةٍ على شاطئ البحر الأسود حيث أُبْعِد.
وكان كاتُولُ شاعرًا غِنَائيًّا أكثرَ من أُوفِيد، وقد تَغَنَّى بالبحر وبالحياة البَرِّيَّة، وقد مات ابنًا للثالثة والثلاثين من سِنِيه على بحيرة غارْد تاركًا للأعقاب قصائدَ غرامٍ من أروع ما في اللغة اللاتينية.
وكان ابنُ العبد العتيقِ، والشرقيُّ الدَّمِ على ما يُحتمل، هُورَاسُ، قد حارب في شبابه أغسطسَ جنديًّا في الجيش الجُمهُوريِّ، وقد ترك البلدَ مع برُوتوس بعد فليب فاقدًا مُلْكَه الأُسْرِيَّ الصغيرَ بذلك، وما كان من مغامرته السياسية الأولى، التي يُمْكن أن تؤديَ إلى هلاكه، أخرجه من المجتمع حينًا من الزمن، ويلوح أنه لم يَسْطِع، بعد حين أيضًا، أن يتغلَّب على بعض الخوف من الحياة العامة؛ وذلك لأنه لم يعاشر في سنينَ كثيرةٍ برومةَ وما حَوْلَها غيرَ الممثِّلين والمُرَابين والحَلَّاقين، وأضف إلى هذا خجلَه واضطرابَه عندما يَظْهَر أمام الجُمهور، وهو، وإن كان ذا مَوْهبة فطرية في الهَجْوِ الاجتماعيِّ، حافظ دَوْمًا على ضَرْبٍ من خِفَّة اللهجة لا يُسيءُ معه إلى أحد.
وقد يكون العالَمُ مدينًا بهذه اللهجة الصافية في شعر هُورَاس لِمَا مُنِيَ به هذا الشاعر من حبوطٍ في الميدان السياسيِّ، فهو بعد أن دفعته الحوادث السياسية بجفاءٍ لم يَجِدْ له ملجأً غيرَ الشِّعْرِ الرِّعائيِّ، وما كان يصدر عنه في الحين بعد الحين من شَرَرٍ تَهَكُّمِيٍّ خبيث كان يَسْطَع كالنَّدَى على بِساط شِعْرِه الزاهر، ومما يُدْرَك أيضًا ما في وضعه من تقلُّب، فلما هُوجِمَ لعدم الأخلاق في أشعاره اتَّخَذ لهجةً خُلُقيَّةً من فَوْره، وما أكثرَ سعادتَه في عدم خروج برُوتُوس ظافرًا من فليبي! ولولا هذا لغدا هُورَاسُ وزيرَه ولم يَعِشْ إلَّا لفَرْض المكوس على العُطُور الواردة من أنطاكية أو لتحديد الضريبة على البيوت المُغْلَقة في الضِّفة اليسرى من نهر التِّيبِر، ولو فَتَحَ ولايةً جديدة أو صار إِمبراطورًا أو قَهَرَ الفُرْسَ لخَسِرَ العالَمُ مُوسِيقَى أشعارِه التي ظَلَّت خالدةً بعد جميع قُوَّاد عصره الذين نذكر منهم أَغْرِيبا الكبير أيضًا، فما كان جمال اللغة اللاتينية ورِقةُ العاشق لِيَجِدَا ما هو أروعُ من شعره:
ولكن بما أن هوراس بَقِيَ شاعرًا فقد اكتشفه فِرْجيلُ وقَدَّمه إلى مِيسِين، وقد وَهَبَ هذا الأخيرُ له عَقارًا صغيرًا مع ثمانية عبيد فنال في مقابل هذا اسمًا خالدًا أكثرَ شَعْبِيَّةً من اسم الشاعرِ نفسه، ومن ذا الذي لا يَعْرف اسمَ مِيسِين؟! لقد شَكرَ له هوراسُ ما صنع بأبياتٍ رقيقةٍ، ولم يَعِشْ بعده إلَّا قليلًا.
وفي بيت مِيسِين لَقِيَ هُوراسُ الإمبراطورَ.
عَرَفَ أغسطسُ العبقريةَ فيه، وحاول أن يَجْعَل منه شاعرًا مُتَمَلِّقًا، عارضًا عليه مَنْصِبَ سكرتيرٍ في البَلاط؛ أي مقامًا ذا نفوذ وفاتحةً للثراء، ويَرْفِض هوراسُ ذلك، ومع ذلك يوافق على كتابةِ نشيدٍ عن معركة أَكسيُوم التي لم تكن في الحقيقة غيرَ قتال بين خلفاء قيصرَ المختلفين، ويتغنَّى هوراسُ بعد حينٍ بما ناله أبناء الإمبراطور من انتصاراتٍ ويضع نشيدًا للدور كلِّه، فيمكن أن يُقال مع التوكيد إِنه صنع ذلك بأمر أُغسطس، ويُمْكِن أن تُحْذَفَ هذه الأناشيدُ من أَثَره، وذلك كنشيدَي النصر لبِتْهُوفِن وفاغْنر. ولَمَّا وَضع قصيدةً في نهاية الأمر مُلَاشِيًا بقلمه كليوباترة التي هي عدوةُ الإمبراطور العظيمةُ صارت هذه القصيدةُ نشيدًا سِرِّيًّا، وذلك لِتَرَجُّحِ واضعه بين الإعجاب بالبَطَلَة والمناحي التي أُوحِيَ له بها، وكان على أغسطس أن يَتَبَسَّم من ذلك لو كان يستطيع ذلك.
والحقُّ أن أخلاق أغسطس كانت تجعله عاجزًا عن نيل السعادة، وذلك على الرغم من انتصاراته الواسعة الكثيرة التي لم تتفق لأحدٍ من أسلافه في مِنْطقة البحر المتوسط. وقد كان هذا ثمنًا للحياة الثُّنَائية التي كان يَقْضِيها، وقد كان هذا لتمثيله دورَ الخُلُقِيِّ ولتفويضه إلى خَدَمه اختبارَ جمال النساء اللائي كُنَّ يَرُقْنَه واستبارَ صحتهنَّ، ولا ريب في أن الرجل الذي نَفَى الداعرَ أُوفِيد كان فاجرًا، ومن الطبيعي أن كان يجد في آله ما يُخْفِيه من العيوب، وقد اضْطُرَّ إِلى رفض ابنته التي كانت تقضي حياة فجور. وقد نشأت أحقادٌ وتَبَنِّيَاتٌ وَمَآسٍ عن دعوة الإمبراطور إلى خلافته واحدًا بعد الآخر من الأبناء والأصهار والحَفَدَة، ومع ما كان من محاولة الإمبراطور أن يُوَطِّدَ أَمْرَ ذُرِّيَّته كَسَرَ، كنابليون، قلبَ أقربائه ومَنْ هم أعزُّ الناس عليه، وقد مَلَأ الخوفُ والقلقُ نَفْسَ العاهل حتى موته حَوَالَي الخامسة والسبعين من سِنِيه.
ولم تَنْجُم تلك المشاعر عن مصاعب خلافته وحدَها، بل كان أغسطس المُحْتَضَر ينظر إلى جبال الأَلب، فمن الجِرْمان كان يأتي الخطر، وفي زمن يسوعَ كان البحرُ المتوسط مُهَدِّدًا من الشمال للمرة الثالثة.
٥
لم يكن معظم الأمم التي اجتذبها البحر المتوسط من المَلَّاحين، ويظهر أن الغوليين كانوا قبل ظهور الرومان قد وَصَلوا إلى شواطئ الجُزُر البريطانية بقواربَ ذاتِ أَشْرعةٍ من جلد، ولكن الغوليين لم يغامروا في البحر المحيط، وأما الجِرمان فكانوا بَرِّيين. وهذه الشعوب لم تُجْذَب إلى عُرْضِ البحر إذَنْ، وهي كانت تكتفي بالمِلاحة على طول السواحل، وما كانت أمم الشمال الغالبةُ لتَتَعَوَّدَ البحر حتى عصرِ النورمان، وهي لم تَبْقَ في الجَنوب زمنًا طويلًا، وما الذي كان يجتذبُها إذَنْ؟ لقد كان عندها من الأَرَضِين ما يكفي، وإن كانت تزعجها القبائلُ الآتية من الشرق.
والذي كانت تبحث عنه هو أن تصبح صاحبةً لأَرَضين أحسنَ من تلك، وقد وصلت إلى جِرمانيةَ أسطورةُ الشواطئ الأكثرِ شمسًا وخِصْبًا والمملوءَةِ حرارةً تحت سماءٍ زرقاءَ، وَصَلَت إلى غابات البَلُّوط والشجرِ المقطوع العقيم. وفي بلدهم؛ أي في البِقاع الواقعة بين البحر البلطيِّ وهنغارية الحاضرة؛ أي بين الفِسْتُولا والإلْبَهْ، لم يُرَ بُرٌّ ولا ثِمَارٌ ولا كَرْمَة، وقد زارها بوزيدُونْيُوس حَوالَي سنة ٩٠ قبل الميلاد فأضاف شَرْحًا إلى وَصْفه البلدَ قائلًا: كان يجب على أوميرس أن يذهب إلى هنالك ليَصِفَ الجحيم، وكانت شمس البحر المتوسط تُلْقِي لونًا ذهبيًّا جميلًا على رُخام معابد أثينة في ذلك العصر ومنذ ثلاثة قرون.
وكذلك كانت قد مَرَّت ثلاثةُ قرونٍ بين هجومِ برِينُّوس على رومة الصغيرة الناشئة وغارةِ الجرمان التي وقعت سنة ١١٣ قبل الميلاد، وفي ذلك الحِين تَغْدُو رومةُ قاعدةً فيستحوذ الذعرُ عليها، كما بعد ثلاثة قرون، لِمَا ذاع من نبأٍ أتى من الشمال قائلٍ إن جَحْفَلًا هائلًا مؤلفًا من البرابرة جاوز جبالَ الأَلْب التي هي حِصنٌ طبيعيٌّ، ولم يكن ذلك جيشًا، بل أمةٌ، بل أممٌ بأسْرِها، جَلَبَت معها نساءَها وأولادَها كما جَلَبَت أدواتٍ منزليةً وخِيامًا على عَرَباتها، وكان الرومان يُسَمُّون هؤلاء القوم ﺑ «رجالٍ لهم شُعُورُ الشِّيب»، وكان هذا هو تأثيرَ شُعُورِهم الشُّقْر، وكان لهذا التأثير في مجموعه مثلُ تأثير الطوفان والزِّلْزَال والطاعون.
وكان طرازُ قتال هؤلاء الغرباء فاسدًا ابتدائيًّا كطعامهم من اللحم الذي يأكلونه نِيئًا، وكان هذا الطرازُ وحشيًّا كأصوات نسائهم المعتصمات وراءَ العَرَبات عندما يُحَرِّضْن الرجال على النِّزال. وكان الرجال يَحْمِلون تُرُوسًا عاليةً عُلُوِّ الرَّجُل ويَتَقَلَّدُون دبابيسَ وسيوفًا طويلة فيتقدمون إلى المعركة مربوطًا بعضُهم ببعضٍ بحِبَال، وكانوا يَنْقَضُّون إلى الأمام ومن خلال البلاد والمعارك فيُكْتَبُ النصرُ لهم على الدوام، وكانوا يَذْبَحُون أَسْراهم ويُضَحُّون بمَنْ هم أكثرُ شبابًا قرابينَ لآلهتهم، وكانت العجائزُ يَجْمَعْن دَمَ هذه القرابين البشرية ويُخْبِرْن عن المستقبل بفحص أحشائها. وكان جميعُ هذا أمرًا جديدًا لدى الرومان وإن كانوا قد قاتلوا برابرةَ الشرق زمنًا طويلًا واقترفوا ضروب المظالم.
وكانت هذه الشعوب الجِرمانية من سِنْبِريين وتُوتُون (وهؤلاء التُوتُون هم أصلُ كلمة «الزعيم التوتوني» الحاضرة) قد تغافَلَت عن الزحف إلى رومة في أثناء غَزْوِها الذي دام عشر سنين. وعلى العكس كان أولئك الأقوامُ يشاهَدون مع الدَّهَش في بلاد الغول وعلى طول نهر الرُّون ونهر السِّين وإلى ضِفاف نهر الإيبر، وكانوا يستولون على الكروم فيُحَوِّطونها بعِظَام أسراهم مُحْدِثين منظرًا أوحشَ من السِّياج الخشبيِّ، وكانوا يُرْسِلون بعد كل انتصار رسالاتِ نَصْرٍ إلى القنصل ضارعين إليه بكلام مؤثِّرٍ أن يَمْنَحهم أَرَضين قليلةً، وكانوا، إذا ما بُدِئ بالمفاوضة، يَهْجُمون على جيش العدوِّ بغتةً. وقد ذكر إسترابون ومؤرخون آخرون صدورَ هذه الحيلة وهذه الخيانة عن الجِرمان. ولما غلبهم مارْيُوس بعد قتالٍ دام ثمانيةَ أعوام، أبصر كثيرًا من النساء يَقْذِفن أولادَهن تحت العَجَل ويَقْتُلْن أنفسهنَّ فِرارًا من السَّبْي.
وذكرى هذا «الهَوْلِ السِّنْبريِّ» التي تحولت إلى أُسطورةِ نَفْرَةٍ في رومة، كانت إحدى العلل التي حَفَزَت قيصرَ إلى احتلال بلاد الغُول، وإذا استعملنا اللغةَ الحديثة وجدنا أن هذا يعني فتحَ إيطالية لفرنسة حتى تَحْمِيَ نفسها من ألمانية. وقد هَدَّد الجِرمان فرنسة في القرن الأول قبل الميلاد لمِثْلِ الأسباب التي ظهرت بعد ألفي سنة؛ أي لكون فرنسة أغنى من ألمانية وأخصبَ منها. وكان الغوليون يَجْلُبون منذ قرونٍ ما يحتاجون إليه من الخمر والزيت من المستعمرات اليونانية في الرِّيفْيِرَا، وقد تَعَلَّمُوا من الرومان زراعةَ القمح وتربيةَ الضأن. وقد ذهب قيصر إلى ما وراء الرين ثلاث مرات، ولكن لبضعة أسابيعَ فقط. وفي ذلك الحين زالت قبائل السِّلْت التي كانت بين الرومان والجِرمان، ولم تُنْشَأْ حُصونُ اللِّيم، التي هي ضربٌ من «خط ماجِينُو»، بين الأمتين إلَّا بعد ذلك بقرنٍ واحد.
ومع ذلك فقد أفرط أغسطس في مراعاة الجِرمان، وقد استخدمهم متطوعين في حرسه الخاص. ومما حدث في ليلةٍ عاصفةٍ أن سَمِعُوا على بركان الإتْنَة، وحينما كانوا مادِّين تروسَهم فوق الإمبراطور النائم، هديرًا صادرًا عن هذا الجبل، فسادَ أبناءَ الشمال هؤلاء هَوْلٌ قاتل، والمنظرُ رمزيٌّ، وهو يُعَبِّرُ عن أخلاق الجِرمان الغرباء عن البحر المتوسط منذ الأَزَل، وها هم أولاء يَسْهَرون على الإمبراطور الرومانيِّ النائم في إحدى جُزُر البحر المتوسط، وتزمجر قوى العناصر الطبيعية حَوْلَهم. وهكذا تتقهقر الدِّبَبَةُ الشَّابَّةُ، التي لم تُخِفْها أيةُ زوبعةٍ في غابتها المنيعة، أمام ذلك الذي لم يَتَعَوَّدوه والذي كانوا يَوَدُّون حيازتَه. ومن المحتمل أن وُجِد بينهم في تلك الليلة من أبناء رؤساء الجِرمان مَرَبُوتُ وأَرْمِينْيُوسُ اللذان كانا يتجسَّسان بين حَرس الإمبراطور لتَسْهُلَ إبادةُ كتائبه في الغابة الألمانية بعدئذٍ!
والحقُّ أن هذا هو الذي جعلَ سِنِي أغسطس الأخيرة قاتمةً، وأغسطسُ كان يرجو أن يُتِمَّ عملَ قيصر من جميع الوجوه، أو أن يُقَلِّدَ الرجل الذي وَرِث اسمَه وسلطانه ومجدَه، وأغسطسُ قد حاول في مشيبه أن يفتح جِرمانية حتى يجعل من نهر الإلبة ونهر الدانوب حدودًا لرومة. وقد أراد أغسطس أن يُقَوِّيَ جميع المِنطقة الواقعة فيما بين البحر الأسود وبحيرة جِنيف، فأرسل أسطولًا إلى البحر البلطيِّ لإنزال كتائبه إلى البرِّ، وهكذا يقضي ١٥٠ ألف رجلٍ فصلَ الشتاء في الغابات الوحشية للمرة الأولى، ويخادع أَرْمِينْيُوسُ الرومانَ في مُعَسْكر فاروسَ فيَتَنَطَّسُ أدقَّ الأمور. وما انتهى إلينا من التقارير عن معركة تُوتوبُرْجِرفالْد، التي وقعت في السنة التاسعة قبل الميلاد، قليلٌ إلى الغاية؛ وذلك لأن الغالبين كانوا لا يَعْرِفون الكتابة، ولأن المغلوبين لم يَوَدُّوا تدوين ذلك. والواقعُ أنه لم يَنْجُ من الرومان غيرُ القليل، ويَضِلُّ الجيشُ الرومانيُّ الكبيرُ في «ركنٍ خامس» من أركان القرون القديمة، ويُسَاقُ إلى بُقعةٍ مُسْتَنْقَعةٍ بطُرُقٍ ضَيِّقة ضالة، وينتحر فارُوس، ويَصل رأسُه المفصول عن جسده بلَيٍّ عجيبٍ إلى رومة بعد مروره من بُوهيمْية كما صار يُسَارُ بالغنائم المماثلة بين بِزَنْطَة وباريسَ فيما بعد.
ويَهُدُّ خبرُ هذه الهزيمةِ الهائلةِ أغسطسَ، فلم يَسْطِع أن يعيش من الزمن ما ينتقم فيه.
ولم يسيطرْ أحدٌ، ولا إمبراطورٌ، ولا بابا، على رومة زمنًا طويلًا كما سيطر أغسطس، ومع ذلك ساقه ضعفُ طبعه إلى اختيارٍ سيِّئٍ قصيرِ الأجل بين خلفائه ولمحاولته تأليفَ أول أُسْرةٍ مالكة. ولم يَنْجُم عن الأباطرة الأربعة الذين خَلَفوه في اﻟ ٥٥ سنة التي عَقَبَتْ موتَه غيرُ الإضرار بتراث أغسطس الكبير من غير أن يقضوا عليه. وقد جعلت زوجاتُ هؤلاء المنحطين، أو ذوي الأخلاق المنْحَلَّة، هؤلاء الأزواجَ مشهورين، ومنهم ثلاثةٌ هَلَكُوا قتلًا أو انتحارًا، وهذا مع هلاك رابعِهم وأمتعِهم، طيبريوس، بالسَّوْداء في العُزْلَة، وقد ظلَّ صِيتُ إحْدَى أولئك الزوجات، مِسَّالِين، باقيًا على الدهر، وما أكثر ما تقهقر النظامُ الجُمهوريُّ منذ زمنٍ طويلٍ فلم يكن له السلطانُ بعد موت قيصر لنصف قرن! ويموت كاليغولا فيبحث مجلس السنات طويلًا في اختيار خلفه فلم يَصْبِر الحَرَسُ الإمبراطوريُّ على ذلك فأخرج من العُزلة عالِمًا مُسِنًّا مُرْتجفًا مناديًا به إمبراطورًا باسم كلُود.
وكان نِيرُونُ ذا مواهبَ كثيرةٍ، وكان مع جرائمه الكثيرة أكثرَ جاذبيةً من وزيره سِنِيكا الذي كان يستند في مزاعمه إلى بعض المبادئ الخُلُقية. وكان هذا الفيلسوفُ، الذي يَشِي بالبخل والذي تَرَكَ ثروةً تَعْدِل عشرين مليونَ دولار، أنذلَ من مولاه، ومولاه هذا كان ذا مناحٍ إنشائية على الأقل فبدأ حتى بحفر قناه كُورِنْث.
وما يكتنف خاتمةَ نيرونَ من أحوالٍ يَنِمُّ على صفتين للخُلُق الرومانيِّ الشعبيِّ، فتَجِدُ إحداهما بين الطبقات العليا، وتَجِد الأخرى بين الطبقات الدنيا. أَجَلْ، صَفَح مجلسُ السِّنَاتِ المحافظُ عن سفكه الدماء وعن جرائمه وحرائقه، غير أن عَرْض نفسه مُغَنِّيًا ومُمَثِّلًا في الاحتفالات العامة كان ذا وقْع شديد على كرامة ذلك المجلس الذي يَعْلَمُ عدمَ عَطَلِ هذا الإمبراطور المُهَرِّج من المواهب، وفي أثينة بُرِّئَ المتَّهَم سُوفوكل، بتلاوته أثرَه الجديد إِدِيب المَلِك، وقد أبدت فِيرْنِه فُتُونَها للقضاة فأُطْلِقَت. وعلى العكس كانت السلطات الرومانيةُ تُعَاقِب على ما يُقَدِّره الأغارقة كثيرًا، تُعَاقِب على الفنِّ والقريحة والجمال، ولم يَلْبَث الشعب الرومانيُّ الذي كان يستمسك بالمحسن إليه وقت الأَزْمة، أن تَرَكَ هذا المُحْسِن عندما أبصر مركبًا مشحونًا بالرمل لميدان المصارعة بدلًا من أن يَجْلِب بُرًّا من مصر.
ولم يَنَل الفلَافِيُّون الذين خَلَفُوا نِيرُونَ غيرَ نصرٍ واحد من الوِجهة الإمبراطورية، وكان هذا فوزًا فاجعًا، فقد سقطت أُورَشَليم في أيديهم، ومع ذلك لم يأتوا بما يُوَجِّه النظر، وكلُّ ما يستحقُّ الذِّكر هو أن التاج زَيَّنَ رأسَ أحد العوامِّ للمرة الأولى في التاريخ. وكان الصَّيْرَفيُّ السَّمِينُ، فِسْبازْيان، الذي امتاز ضابطًا، يَتَلَهَّى بالفكرة القائلة إنه سيُمَجَّدُ ذات يومٍ مِثْلَ إله، وكان مَكَّارًا كفَلَّاحٍ سمينًا ثقيلًا، فيشابه ستالِينَ من بعض الوجوه، ويظلُّ دونه لعدم ثَقَافته. وقد حَظَر كلَّ فلسفةٍ؛ لأن زعيمَ المعارضة في مجلس السِّنات كان زِنونيًّا، وقد كشف، أيضًا، عن خُلُقه بلَفْتةٍ عاطفية نحو الشعب، وذلك عندما عَرَض عليه مُخْتَرِعٌ، ذاتَ يوم، آلةً تُسَهِّل شَحْنَ الموادِّ الضرورية للمباني، فهو، وإن كافأَ المخترع، طَرَحَ الاختراع جانبًا مُصَرِّحًا بأنه لا يريد نَزْعَ الخُبْز من الشعب.
ولم يكن خلفُه تِيطُس خيرًا منه قَطُّ، ويمتاز أخو تِيطُس، دُوميسْيان، باتخاذه تدبيرًا مُهِمًّا، بتضييقه نِطاقَ زراعة الكرمة في إيطالية وتوسيعه نِطاق زراعة القمح، وقد ظلَّ هذا القانون نافذًا مائتي عام.
ومَنْ يقرأ أخبار عُصَاة اليهود الحُمْس ضدَّ الرومَان في عشرين سنةً يُدْرِك مَدَى ما مُنِيَ به فِسْبازيان وتيطس من نوازلَ في المعارك التي وقعت بين الفريقين، وكان اللَّهِيبُ القويُّ يُحَوِّل الجُمهوريةَ الدينيةَ الصغيرةَ إلى جيش يزعزع سلطانَ الإمبراطورية العالمية، ولَمَّا حاولت السلطةُ الحامية أن تصادر باسم الضرائب أموالَ المعابد لم يكن عجيبًا اتحادُ الشعب المقهور لطرد الغالبين. وكانت فلسطين في ذلك الحين تشتمل على يَهُودَ أكثرَ مما في كلِّ زمن آخر، كانت تحتوي ثلاثةَ ملايين. وتتعاقب الفِتَنُ في فلسطينَ والإسكندرية إلى أن صار من الضروريِّ بذلُ رومةَ مجهودًا كبيرًا، ويَهْلِك في أثناء حِصار أُورَشَليم أربعون ألفَ يهوديٍّ ويُؤْسَرُ من اليهود رجلان فقط، ويَغْدُو هذا الرَّقْم المُحَيِّر محتملَ الوقوع ما دام مصدرَه أحدُ الأسيريْن، ما دام مصدرَه يوسفُ الذي كان حاكمًا يهوديًّا وصديقًا لأباطرة الرومان، والذي كَتَبَ قصةَ تلك المعركة بعد زمنٍ.
ومع ذلك يَطْلُعُ يومٌ على البحر المتوسط بالغٌ من الأهمية في التاريخ ككلِّ معركةٍ حاسمة، وما أسفر عنه من تخريبٍ يصبح خصيبًا إلى الغاية بعد حين، وذلك أن بركان فِيزُوف دَمَّر مدينتي بونْبي وهِرْكُولَانُم في ٢٤ من أغسطس سنة ٧٩ قبل الميلاد، ولم يَهْلِك ضحايا هذه الكارثة نتيجةَ طُمُوحِ بعض الملوك، بل نتيجةَ هيجان العناصر، وإن شئت فقل إنهم هَلَكوا بيد الله، وقد فاضت أرواح الجميع في بضعِ دقائقَ كضحايا قنابل العدوِّ التي أُلْقِيَت على لُنْدن. ولما قام العِلْمُ المحبُّ للاطِّلاع بالحَفْرِ بعد قرونٍ كثيرة اكتشف مدينةً متحجرةً من مُدُن القرون القديمة مع بيوتها المملوءة بالأواني والتماثيل والصُّوَر الجدارية، ومما رُئِيَ فيها كلبٌ بُوغِتَ بالنازلة حينما كان يلتفت ليَحُكَّ نَفْسَه، وفي أثناء هذه القارعة هَلَكَ العالِمُ الطبيعيُّ بليني حينما كان يَدْنُو من بركان فِيزُوف لدراسة فَوَرَانه.
حَقًّا كانت تلك الكارثةُ هائلةً، وإذا ما فَكَّرْنا مع ذلك في أمر ملايين الآدميين الذين قُتِلُوا عَمْدًا، ومن غير غاية، منذ ذلك الحين لاح لنا أن الطبيعة ضَحَّت بأهل بونْبي عن قصدٍ مُعَيَّن، وكلُّ ما استطاع عصرُنا أن يُميطَ عنه اللِّثام لم يَعْدُ حَدَّ الأطلال، وفي بونْبيِ وحدَها تَدَفقت الحُمَمُ بغتةً فحافظت على مظهرٍ كامل من الحياةِ بَاسِمٍ حافلٍ بالأسرار.
٦
كانت النجوم تَسْطَع فوق أثينة عند اجتماع الحكماءِ الشِّيبِ على تلِّ آرِس بالقرب من الأَكْرُوبول، وكانوا يجتمعون لتأليف محكمةٍ روحيةٍ تقضي في أمرِ أجنبيٍّ يُزْعج الجُمهور في السُّوق منذ زمن. وفي القصة أن مجمع الحكماء هذا كان يتألف منه ضَرْبٌ من الشَّرَف الذهنيِّ منذ القديم، واليومَ، في العهد الرومانيِّ، يتمتع هذا المجمع باعتراف الدولة، وقد حدث هذا سنة ٥١ بعد الميلاد، وكان سُقْراط قد حُوكم منذ أربعمائة سنة فَحُكِمَ عليه في تلك المدينة من قِبَل محكمةٍ أخرى.
وليس الرجلُ الذي تسألُه المحكمةُ الآن متهمًا بجرم، وكان كلُّ ما يطلبه الأغارقة من هذا الأجنبيِّ يوضع في قالبِ محاضرةٍ من الاستعلام الممزوج بالمجاملة؛ ولذلك ليُرَى هل يؤذن له في مخاطبة الجُمهور. وكان الأجنبيُّ يَعْرِف أنه لا يُحْكَمُ عليه بشرب السمِّ، وإن كاد يُرْجَم ذاتَ مرة، وكان هذا الأجنبيُّ دَرِبًا بالسجون والأغلال، فيَشُكُّ في أن ينال جزاءً آخر، وكلُّ ما كان يُعَلِّمه في الحقيقة هو مذهبُ الناصريِّ الأكبرِ منه سنًّا ببضع سنين فقط.
ويمضي على صَلْب يَسُوعَ عشرون عامًا فلم تؤدِّ تعاليمه إلى حماسةٍ عامَّة، وإنما كانت توجب ضجيجًا ومعارضة، وكان المؤمنون يُجْمَعُون في بيوت الفقراء واحدًا بعد الآخر، ومن هو، إذَنْ، ذلك الرجلُ البالغُ من العمر خمسين سنةً والأشيبُ اللحيةِ واللابسُ حُلَّةً فيَمُدُّ ذراعَه اليمنى مُتَّخِذًا وَضْعَ خطيبٍ رومانيٍّ؟ كان ذلك الرجلُ بالغًا من الجُرْأَة ما يتكلم به عن إله الروح الجديد في وَسَط أثينة حيث السُّخْرِيةُ والغَطْرسةُ وحيث كان الرُّواقِيُّون والإبِيقُورِيُّون المتخاصمون يَرَوْن أنهم أعلى من كلِّ مَنْ يَجْرُؤُ على إنكار أمرهم. وعلى الرجل الذي يودُّ أن يأتيَ بمذهب جديدٍ أمام مجلس الحكماء أن يكون ذا عِرْفانٍ وإقدامٍ وإيمانٍ وعزمٍ، وأن يكون جامعًا في شخصه لليهوديِّ من الوِجهة الدينيةِ وللإِغريقيِّ من الوجهة الثَّقافية وللرومانيِّ من الوجهة العالمية.
كان ذلك هو الرسولَ بُولُسَ الذي هاجم في تلك الليلة أهل أثينة المرتابين، وفي الرسول بولس كان يجتمع — كما في قليلٍ من رجال عصره — ثلاثُ صفاتٍ ذكرناها، وكان في دور حياته الصاعد بالأثر الذي يُحْدِثه وبالتراث الذي يَنْقُله، وكان يَسْيرُ ليصيرَ من أقوى رجال القرون القديمة، وهو قد ترك في التاريخ من الطابع الدائم ما يَعْدِل أثرَ برِكْلِس أو الإسكندر أو قيصر. وهو الرجل الذي أخذ يُحَوِّلُ النصرانية التي هي مذهبٌ يهوديٌّ إلى دِيانة عالمية. وهو الذي كان بأصوله وعملِه يجمع في شخصه أقوى اندفاعات اليهود واليونان والرومان، فيَطْرَح قواعدَ النظام المسيطر على مُعْظَم شواطئ البحر المتوسط منذ ألفي عام، وهنالك شخصٌ واحدٌ فقط كان يمكنه أن يستفيد من المصائب التي جاوزها، وهذا النشاطُ الباهرُ هو الذي يَمِيزُ أخلاقَ بُولُس من أخلاق جميع الرُّسلُ الآخرين. ولو كان هذا الرومانيُّ الصاحبُ لنفسٍ دنيوية ابنًا لوثنيٍّ لصار عضوًا في مجلس السِّنات أو نائبَ قنصلٍ في إحدى الولايات، ولكنه كان ذا رسالةٍ أعظمَ من ذلك يقوم بها. وقد وُلِدَ في طَرَسُوس بآسية الصغرى؛ أي في هذه المدينة التي كانت مع الإسكندرية وأثينة مركزًا للحضارة اليونانية، وقد نَشَأَ في بَلَده وفي أُورَشليمَ جامعًا للحكمة اليونانية واليهودية، وقد كان ابنًا لحائكِ بُسُطٍ فزاول صنعةَ أبيه، ولما بَلَغ الثلاثين من عمره عاد إلى أُورَشليم. وفي أُورَشَليمَ ناهض بما أوتي من قوةِ فِرِّيسِيٍّ ذلك المذهبَ الناشئَ الصغيرَ الذي هو مذهب هؤلاء اليهود النصارى الذين كانوا يَعُدُّون مِثْلَ المسيح نبيًّا مُتَهوِّسًا ويُلقون الشُّبُهاتِ حول شريعة إسرائيل القاسية، ولَمَّا قبض الجُمهورُ على أحدهم (أَسْطفان) لدعوته إلى مثل هذه المذاهب اتبع بُولُسُ الجُمهورَ وأشار عليه برَجْم أَسْطفان. وهكذا يبدأ تاريخ رسولَي يسوعَ بإنكار المُعَلِّم، بخيانة بطرسَ إياه وقتلِ بولسَ تلميذَه، ويلتقي الرسولان بعد حينٍ ويعترف كلٌّ منهما للآخر بأقتمِ ساعةٍ في حياته، وهنالك لم يَبْقَ لهما غيرُ الانتحار أو الإخلاصِ التامِّ للمذهب الذي كانا قد أنكراه، وقد اختارا الأمرَ الثانيَ فكَفَّرَا عن كُفْرِهما الأول بعد إخلاصِ ثلاثين سنةً أو تزيد.
وكان بُولُسُ أعظمَ الاثنين بمراحل، وكان بطرس قد خان معلمه فبدا مُجَدَّدًا أضعفَ الاثنين في كفاحه المشهور المشترك مع بولس، وهو قد أذعن وأَذِنَ للوثنيين في الأكل حول مائدةٍ واحدة مع اليهود، وهو لم يَسْطِعْ أن ينال مكانه في الأُسطورة مع مفاتيح الجَنَّة إلَّا بسبب القول المشهور المأثور عن يَسُوَعَ الذي كان كثيرَ الثِّقة به، وما صَدَرَ عنه من إنكارٍ ليسوعَ قُبَيْل موته كان ذَنْبًا عظيمًا، مع أنه يُدْرَك أمرُ تَعَصُّبِ بُولُسَ الذي لم يَرَ يَسُوعَ قَطُّ، ولم يكن لدى بطرسَ ذلك الاطلاعُ الواسعُ على العالَم الذي يُعَدُّ بولسُ مدينًا له بكلِّ شيء، ولا يُعْرَف كبير شيء عن العمل الذي قام به بطرس في الإمبراطورية الرومانية، ويَشُكُّ أكابر علماء اللاهوت حتى في ذهابه إلى رومة وصَلْبِه. وفي الحقيقة كان يجب أن تُدْعَى كنيسةُ القديس بطرس كنيسةَ القديس بولس، كما كان يجب أن يَحْمِلَ التمثالُ الذي يُقَبِّلُ الحجاجُ قَدَمه البرونزية كتابًا وسيفًا بدلًا من مفاتيح بطرس.
ولكن بُولس كان رومانيًّا أيضًا، وهذا ما أنقذ حياتَه في أمرين خَطِرَيْن على الخصوص، وقد كان له بهذه الصفة ملجأٌ رُجُولِيٌّ ووَقارٌ طبيعيٌّ ألقى بهما حَيْرَةً في نفوس أكابر موظفي الإمبراطورية بعد زمن، وهَدَى بهما إلى كنيسته ألوفَ الرومان الذين ما كانوا ليوافقوا على بِدَعٍ دينيةٍ كثيرةٍ كتلك أَتَى بها غيرُ رومانيٍّ؛ أي ابنٌ من شعبٍ في المرتبة الدنيا، ولو كان لُوقَا الإنجيليُّ قد عَرَضَه باسمه التامِّ، كايُوس جُولْيُوس بُولُس أَوْ سُولُوس، لأدرك الأعقابُ أمرَه جيدًا. وما فتئت رومة تجتذب بُولسَ مَدَى حياته؛ لأنه كان رومانيًّا، وهو لَمَّا بلغ عاصمة العالَم هذه بعد جهاد عشر سنين وَجَدَ فيها أوسعَ مجالٍ لنشاطه. وهو لا يُعَدُّ مؤسسًا للكنيسة الرومانية؛ لأن رأسه قُطِع في رومة، بل لنشاطه فيها سنين كثيرة، وجهادُه مَدَى حياتهِ، لا شهادتُه، هو الذي جعل منه أبًا للكنيسة الرومانية، وما كانت هذه الكنيسة لتقوم بغير رجلٍ يَرَى العالَم وطنًا له، وما الوجهُ الذي اعتنق به النصرانيةَ إلَّا من صفات الخُلُق الرومانيِّ، فبعد رَجْمِ أسطفانَ بزمنٍ قليلٍ ذَهَب بُولُس إلى دمشقَ راكبًا فرسًا لِرَجْمِ أتباعِ يسوعَ الآخرين، وإنه لفي الطريق إذْ يرى يسوعَ في منامه ذي الصِّبْغَة الرومانية، وكان بولسُ وأصحابُه رُكْبانًا، وفي قَصَصِه، وفي مختلفِ الصُّوَرِ التي تُمَثِّلُ هذا المنظر، يُعْرَضُ فارسٌ يسقط، مع ضوضاء، من ظهر حصانه السائر ذات اليمين وذات الشمال، ويطرحه على الأرض سهمٌ ملتهبٌ، وذلك كما في الأساطير اليونانية القديمة حين أَبْدَت زُوسَ للآدميين، ولم ينشأ ذُعْرُه عن أحد الأرواح، بل عن قدرةٍ علوية، وهو قد أذعن لعجزه عن قهر هذه القدرة بالسلاح.
وعلى ما كان من دفع بُولسَ إلى الزواج بطبيعته المُذَكَّرَة والتقاليد الرَّبَّانية ظَلَّ عَزَبًا مع أن بطرسَ قد تَزَوَّج، ولم يَنْفَكَّ بُولُس يُحاط بالأصدقاء، ولكن مع مشاجرتهم في الغالب، وهو، إذا لم يُنْكِر أصدقاءه الثلاثة الذين هم خيرُ أصدقائه، فإنه أقصاهم على الأقل. وقد كان جميعُ هذا، وقد كانت صداقاتُه وتعصُّبه الحاقدُ في فتائه وإرادتُه المرهوبة دومًا، مظاهرَ لخُلُق قويٍّ أُعِدَّ ليُسَيْطر، وهذا هو السِّرُّ في كون بُولُسَ قد بَقِيَ غريبًا عن الطبيعة التي كان يَسُوعُ قريبًا منها، وبولُسُ كان حَضَريًّا حقيقيًّا، وبُولُسُ قد وُلِدَ في طَرَسُوس وكان سعيدًا في أنطاكية وأَفَسُوس وكُورِنث ثم في عاصمة العالَم.
أَجَلْ، لم تقع مغامراتُه ضدَّ العناصر الهائجة والحيواناتِ الضارية، ولكن وراء جُدُرِ الحصون حيث كان يَنْزِل في زنبيل، أو في ساحة المعابد وفي المجالس حيث كان يَعْرِفُ اجتنابَ الضَّرَباتِ والحجارةِ كمناضلٍ ماهر. وكان يَعِيشُ، في جميع نشاطه، من كَدِّ يَدِه عندما أصبح هذا أمرًا ضروريًّا، حتى إنه في أواخر عمره كان يَكْسِب عيشه حائكًا للبُسُط والخيام، وهذا إلى أنه لم يُبْدِ من الزهو ما يُبْدِيه مَن هم أَقَلُّ منه ثَقافةً.
تتهمونني بأنني رسولُ آلهةٍ أجنبية، وبأنني أريد إدخالَها إليكم! أفلا تَعْلَمون الأمرَ الذي عَجِبْتُ منه أكثر من غيره في أثناء بِطالاتي بمدينتكم؟ وجدتُ مَذْبحًا مكتوبًا عليه: هديةٌ إلى إلهٍ مجهول. إذَنْ، أنتم تُقَدِّسُون لِما لا تَعْرِفون؟ وكيف! أَوَعَلَيَّ أن أُثبت لأهل المِصْرِ الذي أنجب بأفلاطون وجودَ هذا الإله العَلِيِّ الذي هو أعلى من الآلهة الأُلَنْبيَّة الهزيلة؟! أنتم تَحْبِسون أصنامَكم في حُجَيْراتِ معابدكم، ولا صُوَرَ للإله الحقيقيِّ، ثم إنه ليس إلهًا لأمَّةٍ واحدة كزُوس وأتِينة اللذين يزدريان كلَّ مَنْ هو غير يونانيٍّ، يزدريان كلَّ البرابرة. إن جميع الأمم من أصلٍ واحد، وقد وضع الربُّ شرارةَ نُورٍ في جميع الأمم لتستطيع أن تبحث عنه، وانظروا إلى ذوي البصائر منكم، انظروا إلى أوميرس وفيثاغُورس وبنْدار، وانظروا إلى أصحاب الآثار الجميلة من متفننيكم، تَجِدُوهم قد بحثوا عن الرَّبِّ.
ومع ذلك لم تَكْفِ مهارتُه لإنقاذ النصرانيِّ في بلدٍ إغريقيٍّ، ويعتريه وَجْدٌ في نهاية الأمر، فيَلُوم هؤلاء الحكماء على جهلهم وعدم تأمُّلهم وعلى ضلالهم ويُهَدِّدهم بيوم الحساب الذي دنا وقته، ويقول: «وإني، أنا الماثلُ أمامَكم، قد رأيت بعينيَّ ذلك الرجل الذي عَيَّنَه الربُّ، وقد اضطهده قومه، وقَضَوْا بقتله كما فَعَلُ أجدادُكم بسقراطَ النبيلِ، بَيْدَ أن الرَّبَّ أَيَّدَه كما أَيَّدَه رسالته فبعثه بعد موته!»
وهذا يجاوزُ الحَدَّ، ويَضْحَكُ القضاةُ ويغادرون مقاعدَهم، ويَسُرُّ الأجنبيَّ أن يَصِلَ في ذلك المساء إلى مسكنه الهزيل في حَيِّ الخَزَّافين من غير عائق وأن يَصِل في الليلة القادمة إلى كُورِنث، ويَغْدُو المنظرُ الذي وصفناه من أساطير البحر المتوسط الكبيرة، منظرُ رسولِ يسوعَ أمام مُفَكِّري أثينة!
ومع ذلك لم يكن الأغارقةُ هم الذين اضطهدوا هذا اليهوديَّ في أثينة أو كورنث؛ أي في المُدُن الرومانية، وإنما اليهودُ أنفسُهم هم الذين كافحوا ذلك المذهب الخَطِر كما كافحه بولُس فيما مضى. وقد أُريدت معالجةُ الفوضى في الكنيسة الجديدة فكان في المجلسين المجتمعين في أُورَشليم مَثَلٌ للمجامع الدينية القادمة بما وقع فيهما من خصامٍ أزليٍّ حول الأشكال، ثم عُهِدَ إلى بولس، بين نِقَاشٍ عاصف، في حَمْلِ رسالته إلى شواطئ البحر المتوسط، فصار سفيرًا لحكومة غير موجودة، وذلك كما يحدث في أيامنا، ويقضي السنين اﻟ ١٥ الأخيرة من حياته مِثْلَ سفِيرٍ حُرٍّ، ويُسْجَن في مَشِيبِه بأورشليم سنتين مُكَبَّلًا، ويُسَلِّمُه اليهود إلى الرومان كما فعلوا بيَسُوعَ نَفْسِه، وما كان من تشابهٍ بين وضْعِه ووضع معلِّمه يَظْهَر أنه وَكَّدَ عزم هذا التلميذ المتعصب. ويُزْعم أن الحَبْرَ قيافا، الذي كان رئيسًا للمحكمة التي حكمت على يسوع، قد لاح مُجدَّدًا لهذه المحكمة فأُرْسِلَ بولسُ إلى السجن الرومانيِّ في قيصرية.
وأَثْبَت بُولُسُ الرومانيُّ في حاليْن مقدارَ جَذْب رومة له على الرغم من شعوره بأنه سيموت فيها، ولما سَوَّغ أمرَ نفسِه أمام اليهوديِّ المُثَقَّف أغريبا قال هذا الأخيرُ ساخرًا: «كان يمكننا أن نُطلِق هذا الرجل لو لم يَرْفع دعواه إلى قيصرَ برومة.» ويُبَرَّأ بُولُس فيَجْتَذِبه مَلَكٌ أو عِفْرِيتٌ إلى العاصمة حيث يَحْكُمُ عليه بالموت قاضٍ تَعِبٌ من جميع تلك المنازعات على أن يُقْتَل بالسيف؛ أي كما يُعْدَم الرُّومان.
ويلوح أن بُولُسَ كان خبيرًا بالمِلَاحة، والواقعُ أن الإِصحاح السابعَ والعشرين من «أعمال الرُّسُل» يبديه منقذًا سفينةً من زَوْبعة هائلة حين اقترابها من مالطة، وقد كان راكبًا هذه السفينةَ مع مسجونين آخرين ليُنْقَلُوا إلى رومة، ويُعَدُّ الوجه الذي احتُرِم به هذا الرجلُ المُكَبَّلُ واستُشِيرَ به رَمْزًا إلى توادع المعتقدات اليونانية والمعتقدات النصرانية للعمل معًا على تسكين العناصر الهائجة، وعندما صار الإلهُ الخفِيُّ مَرئيًّا بين البُرُوق والعواصف رَكَعَ الجميعُ على عَجَلٍ وصاروا يَدْعُونه من أَجْل حياتهم.
٧
قُدِّرت محاسنُ النظامِ المَلَكيِّ من قِبَل الديمقراطيات دومًا، وقُدِّرت مساوئُه من قِبل المَلَكِيَّاتِ دومًا، ويُنزَعُ في كلِّ وقتٍ إلى لَوْم شكل الحكومة القائمة، ويُبَالَغ في تقدير الحكومة الجارة التي لا تُرَى معايبُها من بعيد، ولو نَظَرْتَ إلى الأمر منذ عهد الفراعنة حتى عهد آل هابِسْبُرْغ لوجدتَ كلَّ بيتٍ مالكٍ قد أَنعم على شعبه بالدَّيْمُومة وقد أساء إلى شعبه بما أنتجه من الوارثين العاجزين الذين تعاقبوا السلطانَ مع آخرين مقتدرين أَنْجَبَ بهم. وأحسنُ حَلٍّ للمسألة هو أن يَخْتَار العاهلُ مَنْ يَخْلُفه، وإذا حدث أن تَبَنَّاه، وإذا حدث أن دعاه ابنًا له، فإن الأمر يكون قد تَقَدَّم خُطوة إلى الأمام، بَيْدَ أن تفضيلَ غريبٍ قديرٍ على ابنٍ عاجزٍ أمرٌ يتطلب قوةَ نَفْسٍ بحكم الطبيعة.
وتُؤَثِّر أفكارٌ ودسائسُ تأثيرًا مزعجًا في خِيَار أغسطس الذي تَوَقَّفَت وراثةُ عرشه على بضع عشرة ضباطٍ نادَوْا بإمبراطورٍ جديدٍ في معسكرٍ وبثلاثة أباطرةٍ مختلفين في ثلاثة معسكَراتٍ أحيانًا. ثم نُودِيَ بعُضْوِ السِّنَاتِ، نرفا، إمبراطورًا فسَهُلَ عليه أن يَتَبَنَّى خَلَفًا لعَطَلِه من ابن، ويتعاقبُ السلطانَ بعد ذلك أربعةُ أباطرةٍ عن تَبَنٍّ، ويبدو هؤلاء أباطرةً ممتازين لا ترى مثلهم في سلسلةِ المُلْكِ المتصلة الوِراثية. وقد قبض على زمام الدولة الرومانية كلُّ واحد من هؤلاء الأباطرة الأربعة بعد الآخر في ثلاثة أجيالٍ؛ أي من ترَاجَان إلى مارْك أُورِيل؛ أي من سنة ٩٨ إلى سنة ١٨٠، فظهر من الخَيْر سابقُ تَدَرُّجهم إلى السلطان، وقد انقطعت منازعات الأحزاب والجيوش الشخصية التي كانت تؤدي إلى سنواتِ فِتَنٍ، فصرتَ لا تُبْصِر تَمَرُّدًا ولا اغتيالًا.
وكان تَراجَانُ عارِفًا بالبحر، وتَتَجَلَّى سجيته الإنشائية الجِدِّية في الأشغال التي كان يأمر بها، ومنها مرافئُ على البحر الأدرياتي وعلى نهر التِّيبر، وإصلاحُ القناة في السويس، وجسرُ نهر تاجُه المشهورُ المعدودُ من الأوابد والقائمُ على ست قناطر تَبْلُغ كلُّ واحدة منها ٨٥ قدمًا. ومما يُوَكِّدُ طبيعةَ تراجانَ العسكريةَ ما وقع من غَزَواتٍ ضدَّ الفرطانيين، فقد سار على أثر الإسكندر وبَلَغ المحيطَ الهنديَّ، ولكن مع علمه كيف يعود في الوقت الملائم، وفي عهده يكون قد مضى على قيام الإمبراطورية الرومانية مائةُ سنة فبلغتْ أَوْجَ عظمتها. وكان هذا الرومانيُّ، المولودُ في إسبانية والذي هو أول إمبراطورٍ من الولايات، وَلُوعًا بالمطالعة، فيُذَكِّرنا ما كان بينه وبين بلِينِي الشابِّ من رسائلَ بأعاظم ملوك القرن الثامنَ عشرَ، وقد شَمِلَ تاسيتَ وبلوتاركَ وبليني وجُوفينالَ بعين رعايته فوضعوا آثارهم في عهده، على الخصوص، كما وضع يوحنا الإنجيليُّ. أَجَلْ، لم يَبْلُغْ عهدُه من الأُبَّهَة ما بَلَغه عهدُ أغسطس، غير أنه يَنمُّ على العصر الذهبيِّ الحقيقيِّ الذي امتزج فيه السلطانُ مع السِّلْم فبلغا ذُروتَهما.
وكان تراجانُ جنديًّا حقيقيًّا، وكان ذا وجدان وحَذَر فتردَّد كثيرًا قبل أن يَتَبَنَّى خلفًا له، قبل أن يتبنَّى أدريانَ الذي كان على النقيض منه بطبعه المتوقد وأَلْمَعِيَّته. وكان أَدِرْيانُ أولَ من شَجَّع على الالتحاء تقليدًا لفلاسفة اليونان ودلالةً على مَيْلهِ إلى الحضارة اليونانية، وكان أدريانُ إسبانيًّا أيضًا، وهو، على ما فيه من مِزَاجِ جنديٍّ، انتحل سياسةً دفاعية وأنشأ حصونًا ضدَّ الجِرمان والبرِيتان الذين كان لا يرى عَمَلَ شيءٍ تجاههم. وهو قد كان عالَميًّا في آرائه وفي فهمِه أمرَ مختلف العروق، فاتخذ من التدابير ما يلائم العبيد. وهو قد استطاع أن يحفظ الأَمْنَ مع غرابته في بعض الأحيان، وهو قد جَهَّز الجيشَ بإلهةٍ جديدة، جَهَّزَه بالنظام. وهو قد قضى نصف عهده في الأسفار، فكانت أثينة محلَّ إقامته المفضَّلَ؛ حيث تُوحي بقايا معبده عند سفح الأكروبول في أيامنا بمنظرٍ ذي طابعٍ يونانيٍّ، وهو قد نقش على ناحيةٍ من باب منزله الجديد بتلك المدينة قولَه: «هنا أثينة، مدينةُ تِيزِه القديمة»، كما نقش على الناحية الأخرى: «هنا مدينةُ أَدِريْان، لا مدينةُ تِيزِه.» وهو قد وَسَّع نطاقَ التَّبَني مشترطًا على خلفه أن يَتَبَنَّى بدَوْرِه ابنَ أخٍ نابغة له.
وكان ابنُ الأخ هذا غلامًا وسيمًا حنونًا جِدِّيًّا مغامرًا بالغًا من العمر سبعَ عشرة سنة، وكان اسمُه مارْك أوريل، ويَجْعل أَنْتونَن التقيُّ ابنَ أخيه الغلامَ الطالبَ قريبًا منه، ويُسْفِر ذلك عن تعاونٍ بين الإمبراطور ووارثه يَنْدُر وقوعه في الأُسَرِ المالكة التي تَهُزُّها الدسائس، ولم تُمَسَّ تلك الصلاتُ العجيبة بأيِّ كَدَرٍ مدةَ ثلاثٍ وعشرين سنة حتى بزواج الفَتى بابنة عمه. وقد حافظ صاحبا ذينك الطَّبْعَيْن الكريمين، في الخارج، على السَّلْم التي تَجْمَع بينهما؛ ولذا كان من الإصابة قولُ أحد الخطباء: «ليست الإمبراطورية غيرَ بلد واحد.» ولما أُصيب أَنْتُونَن بالحُمَّى قريبًا من العاصمة، واضطجع على سرير موته، لم يكن حارسُ الليل ليَعْرِفه فسأله عن كلمة السِّرِّ، فكان جوابه؛ أي آخر كلمةٍ نَطَق بها الإمبراطور: «الإنصاف».
وكان مارك أُورِيل في الأربعين من عمره حينما صار إمبراطورًا، ولكنه كان له في ثماني سنين أخٌ بالتَّبَنِّي فاسدٌ فاحتمله صابرًا، ومع أنه كان فيلسوفًا طبيعةً وتربيةً وبيئةً فإنه كان نشيطًا بمزاجه وأكثرَ استعدادًا لتَحَمُّلِ المسئولية وللجلوس على العرش من مُعْظَم أمراء القرون القديمة. والواقعُ أن المذهب الذي يدعو إلى صفاء الروح قد اعْتُنِق من قِبَلِ صاحب نفسٍ صافيةٍ مُصَادَفةً، ومن قَوْلِ رينان عدمُ اشتقاق دِيانته من عِرْقٍ أو عقيدةٍ، وإنما كانت مظهرًا لخُلُقٍ عميق، وقد وضع مارك أورِيل السؤالَ الآتي: أَوَيُمكن التوفيق بين الحكمة والحقيقة؟
ومن المحتمل أن تَعَلَّم الاعتدال والاتِّزان من تربيته الطويلة كأميرٍ فعُرِف قَدْرُه بما قام به من أعمالٍ في أثنائها، ولم يكن فنُّ الحكم غريبًا عنه، والمسئوليةُ وحدَها هي التي كانت جديدةً عليه. وكان مارك أُورِيل قد دَرَس، في زمنٍ طويلٍ وبنشاطٍ، مبادئَ الأخلاق والنُّظُمَ ورومة وولاياتِها وأمراء الإمبراطورية، التابعين وأعداءَها ومطاليبَ الجماهير والطبقات المُوسِرَة والدولة والرجالَ على العموم، فاستطاع إِذَنْ، أن يبدأَ عهدَه سيدًا من فوره، وإلَّا صَعُب إيضاحُ ما بين الأفكار والأعمال، وبين العزم والتأمل، من توازنٍ يَدُلُّ عليه عهدُه الذي دام عشرين عامًا.
ولا ننسى أن جميع هؤلاء الأباطرة كانوا طغاةً جبابرةً من الطراز القديم فيكترثون لنيل الحُظْوَة لدى الشعب والجيش أكثر مما لمنافقي السِّنَات والقناصل، وأكثرُ من ذلك ميْلُهم إلى الحكم المطلق وسيرُهم مع الأهواء وولعُهم بالنساء وحبُّهم للزهو والانتقام.
ولا يَنِمُّ تمثال مارْك أُوريل النصفيُّ حين شبابه على زاهدٍ أو حكيم، بل يدلُّ على خياليٍّ، ويَعْرِضه تمثالُ الكابيتول رجلًا ملتحيًا مُتَّزنًا حازمًا. ومن ينظر إلى الوجه الذي كان يرى به الواجب، فتَلَقَّاه من حفيدٍ لبلُوتارْك، وإلى صفائه وعزمه وحذره، يَجِدْ كلَّ ذلك مبادئَ باديةً في كتاباته، وقد سَيَّرته هذه المبادئ قائدًا كما سَيَّرَته قطبًا سياسيًّا مع تذكيرها إياه بأنه فيلسوف.
ومَنْ يَوَدُّ إدراكَ اتحاد الفكر والعمل في مارْك أُوريل فليتمثَّلْ ذوي المناحي الفلسفية من الأمراء، فليَتَمَثَّل فردريكَ الكبيرَ مثلًا، ليرى أن هذا العاهل كان يُفَرِّق بين عالَم الفيلسوف وعالَم رئيس الدولة، فيخصص ساعةَ فراغٍ لدراسة الحكمة كما يخصص ساعةً للموسيقى من غير أن يَدَعَ هذا يَنْفُذ في غرفة عملِ المَلِك. وعلى العكس، كان الرومانيُّ كالبروتستانيِّ راغبًا كلَّ يوم في نيل عَفْوٍ من السماء عن كلِّ عمل يأتيه، وهو لم يكن تَعِبًا أو فاقدَ الصبر قَطُّ، ومن المحتمل أنه لم يكن ملتهبًا غيظًا قَطُّ. ويلوح أن القَدَر كان يريد ابتلاءَه؛ وذلك لأن عهدَه فُتِحَ بالحرائق والطاعون والفيضانات والزلازل والاغتيالات؛ ولأن عهده دام مع الحروب الطويلة، ومن ذلك أن قبائل جِرْمانيَّةً أتت من منابع نهر الدانوب وتَقَدَّمت مرةً أخرى فاضْطُرَّ الإمبراطور إلى القتال عِدَّةَ سنين في كارِنْسية والتيرول وصِرْبية، ومن ذلك ما كان عليه أن يكافحه من فِتَن اليهود والمصريين والفرطانيين ثم الغوليين، وقد نُصِرَ في مُعْظَم معاركه.
وكلُّ شيء يصبح مصدرَ تأمُّلٍ له، ولم يقتصد في أمرٍ اقتصادَه في وقته، فكان، إذا ما اضْطُرَّ إلى حضور الألعاب في الميدان الإمبراطوريِّ، يَجْعَلُ مَنْ يقرأُ له بصوت خافت أو يُقَيِّدُ أمورًا بنفسه. وليس لدينا من الوثائق ما يُرْكَن إليه عن حياته الزوجية مع فُوسْتِين التي كانت دونَه سِنًّا بدرجات، ومن الصعب تفريقُ ما بين لَغْط البَلَاط والأحاديث الصحيحة تاريخًا، ويَظْهَر أن الزوجة كانت على نقيضِ زوجها، الذي أنجبت له بأحَد عشرَ ولدًا، بوجهها المختالِ الطريفِ العصريِّ، ومن المحتمل أن كانت مغامراتُها الغرامية نتيجةَ اختلافاتٍ كاذبة، وأما زوجُها الإمبراطورُ فلم تُعْرَف له مغامرة.
وظهر مارْك أُورِيل خصمًا للنصرانية لأسباب كثيرة، وأهمُّها شعوره بأنه رومانيٌّ تمامًا، وكان رومانيًّا أكثر من جميع الأباطرة بعد قيصرَ على ما يُحتمل. وكان يجهل الانتقام كقيصر، ومن ذلك أن أحد القواد رفع راية العصيان ونادى بنفسه إمبراطورًا معارضًا مارْك أوريل بذلك، فلما مات التمس من مجلس السِّنات أن يُلَاطِف زوجه وأولاده، ولما أُحْضِرَت إليه رسائل القائد المغلوب ألقاها في النار من غير أن يقرأها.
ومع ذلك فقد مات مارْك أُورِيل ابنًا للثامنة والخمسين من سنيه، وذلك في المعركة بفينة على ما يُحتمل، وذلك بعدما أبدى ضعفًا غريبًا، وذلك أنه رَجَعَ إلى مبادئ العرش الوِراثيِّ مع أنه أبصر وقوعَ التَّبَنِّي الحُرِّ مرتين. وعلى الرغم من كونه فيلسوفًا ورجلَ واجبٍ مُغْضِيًا عن أخلاق ابنه كُومُود، وتُقْطَع بهذا الأخير تلك السلسلةُ التي أَحكم صُنعَها عظماءُ الأباطرة.
ولم يكن أُفول الأباطرة غيرَ رَمْزٍ للوضع العام، ومن يَدْرُس مِنْطَقةَ البحر المتوسط؛ أي الإمبراطوريةَ الرومانية، في ذلك الزمن الذي كانت تبدو فيه علاماتُ العيش البالغِ الغِنَى؛ أي الانحطاطِ، يَقْضِ العَجَبَ من تعاقب الجبابرة الذين عانت الإمبراطورية خُنْزُوانتَهم أقلَّ مما يقضيه من اختيار أربعة أباطرةٍ لقيمتهم في القرن الثاني؛ أي في أثناء تلك الفَتْرَة، وأدعى من ذلك إلى العجب قوةُ سَجِيَّةِ مارْك أُورِيل، وذلك عند النظر إلى ما كان يُقَدِّمه المجتمع الرومانيُّ من المُغْرِياتِ في ذلك العصر.
٨
يمكن تشبيه الإمبراطورية الرومانية في ذلك الدَّوْر بتلك الكنائس المَبْنِية على طرازٍ غريب غيرِ منتظم حيث يؤدي الجلالُ الفاتر والخارجُ الزاهر إلى إعجاب الزائر بما حققه الإنسان أكثرَ من إعمالِ بالِه بالله. وكان هذا البناءُ العظيمُ الذي أقامه أكابر مهندسي الدولة، وإن شئت فقل مهندسي المجتمع البشريِّ، مركزًا ساطعًا يمكن ألوفَ الناس أن يجتمعوا تحت قُبَّتِه، كما تحت قبة كنيسة القديس بطرس، وأن يتمتعوا بالحماية المعروضة الناشئة عن تنفيذ تصميم المهندس الرائع. وكان مَنْ يَوَدُّ العيشَ في الإمبراطورية الرومانية يَجِدُ فيها كلَّ شيء، يَجِدُ السَّلامَ والنظامَ والأَمْن والكرامةَ، وذلك من دون الرَّبِّ الذي كان يتوارى، كما في كنيسة القديس بطرس، تحت الكُتَل القَوِيَّة التي رُفِعَت تمجيدًا له، والربُّ قد ترك الأفئدة ومناظرَ الروح الهادئة وتَحَجَّرَ في الذَّهَب والرُّخام، ولم يبقَ منه شيء سوى طبعٍ مُتَجَبِّر وصورةِ عَدْلٍ.
وكانت الإمبراطورية الرومانية بناءً باردًا ثقيلًا، وكان يعيش ضمن حدودها ستون مليونًا، وقيل ثمانون مليونًا، من الآدميين، فيَسُودُها نظامٌ جليل، ويَشْعُر كل واحدٍ فيها بأنه مستعمِرٌ ثم وطنيٌّ رومانيٌّ، وكنتَ في كل مكانٍ تَجِدُ أبناءَ رومة، تجدهم على الرين والدانوب وعلى شواطئ الدردنيل. وكان عددُ سكان كلٍّ من أَفَسُوس وإزمير وفَرْغامُس يزيد على مائة ألف شخص، وكان يسكن الإسكندريةَ مليونُ إنسان، وكان يسكن رومة مليونا إنسان. وكان أكثرُ البقاع كثافةَ سكانٍ هو القسم الساحليُّ الذي مالَ إلى الانحطاط منذ زمن طويل، هو شمال أفريقية، وهنالك، بين تركية والأطلنطيِّ، بلغ عدد الرومان عشرين مليونًا.
وقد نُظِّمَ البريد الرومانيُّ على مثال البريد الفارسيِّ فأصبح نظامًا نَمُوذجيًّا في نهاية الأمر، وكان كلُّ شيء لدى الأغارقة يسير سريعًا غيرَ مُنَظَّمٍ كما لدى فِرَنْسِيِّ زماننا، ويَذْكُر هِيرُودُوتْس بُرُدًا بالغةَ السُّرْعة، ولكنك لا تَجِدُ أحدًا يذكر انتظام وسائل النقل. وقيصرُ هو أول مَن أدخل نظام منازل الجند ومرابطِ الخيل على مسافات منتظمة، ولم تَلْبَثْ أن صرتَ تُبْصِرُ مرورَ عرباتٍ ذاتِ أربعِ عَجَلٍ في أيام معينة، وصارت الخيل تُغَيَّر في كلِّ خمسة وعشرين كيلومترًا، وأصبح من الواجب على الفَلَّاحين أن يُعِيرُوا خيلَهم في دَوْر الحَصاد ليُمْكِنَ البريدَ السريعَ ورسائلَ الإمبراطور دِيُوكْلِيسْيانَ أن يُنْقَلا إلى الولايات الرومانية، ومن العبيد مَنْ كان يجب عليهم أن يَقْطَعُوا في اليوم الواحد أربعين ميلًا، أو ستين ميلًا عقوبةً، فيَنْجُم عن هذا وَهْنُهم أو موتُهم في الطَّريق فلا تَصِلُ الرسائلُ إلى مَحَالِّها.
وكانت الرسائلُ السِّرِّية تُخَبَّأُ في هيكل أرنبٍ مَبْقُور، ومما كان يَحْدُث أن يُكْتَب شيءٌ على رأس عَبْدٍ بعد أن يُحَلَّقَ، ثم ينْبُتُ الشعر، فما على المرْسَل إليه إلَّا أن يُحَلِّقَه ثانيةً، وكانت هذه وسيلةً أمينة ولكنها بطيئة.
وما كانت تنطوي عليه تلك الإمبراطورية العالَمية من حركةٍ دائمة باديةٍ للمتأمل أَعرب عنه العالِم الكَنَسِيُّ تِرْتُوليان في عباراتٍ تستحقُّ أن تُكتب سنة ١٩٣٩ بعد الميلاد، لا سنة ٢٠٠ بعد الميلاد، فقد قال: «يصبح العالم أكثر ثَرَاءً وثَقافةً يومًا بعد يوم، وتُفْتَح الطُّرُق للتجارة، وتغدو الصحارى خصيبةً، وتُحَوَّل الغابات إلى حقولِ بَذْر، وتُجَفَّف المناقع، ولا تخشى المواشي ضواريَ الحيوان، ولا توحي جزيرةٌ ولا صخرةٌ بالهَول، ففي كلِّ مكان ترى بيوتًا وشعوبًا، وفي كلِّ مكان ترى حياةً.»
ولم يمكن قيامُ النظام الذي امتُدِح في تلك الجُمَل إلَّا بفضل أداةٍ حكومية تَصْلُحَ نَموذجًا لغيرها فتَئُول إلينا كما آل القانون الرومانيُّ إلى قوانيننا. وكان كلُّ شيء قد نُظِّم ورُقِّمَ ووُضِع ضمن مِنْهاج، حتى إن المذهبَ الرُّواقيَّ الذي هو من الفلسفة اليونانية قد تَحَوَّل إلى مذهب رومانيٍّ، وقد وُحِّدَت النقود والأوزان والمقاييس والدراهم في جميع الإمبراطورية، وقد وُزِّعت الحنطةُ والموادُّ الأولية بإنصاف. وإذا نُظِرَ إلى أن البحر المتوسط كان يَعْنِي الإمبراطوريةَ الرومانية في ذلك الزمن وأن هذه الإمبراطورية كانت تُمَثِّل جميعَ العالم الغربيِّ تقريبًا، أمكننا أن نُبْصِر إمكانَ تحقيق وَحدة أوروبة كما نَتَمَنَّاه في هذه الأيام.
ولا بُدَّ من أن يؤدي ذلك إلى زيادة سلطان الولايات، وكان الأباطرةُ يُتِيحُون لها إمكانَ الازدهار ضمن «السِّلْم الرومانيِّ». وقد خَلَف تراجانَ، وهو الإمبراطورُ الأولُ الذي كان من الولايات فدَخَلَ رومة الحائرة، أباطرةٌ آخرون من أمم كانت معادية فيما مضى، وبما أن الأباطرة كانوا لا يبالون بالوجه الذي يُطَاعون به فإنهم كانوا يُضَحُّون بالعُنْجُهِيَّة الرومانية في سبيل سلامتهم الخاصة ومقتضيات خزينتهم. ولَمَّا مَنَحَ كالِيغُولا جميعَ رعاياه صفةَ الرومانيِّ، مثلًا، صنع ذلك فَرْضًا لضريبٍة إمبراطوريةٍ خاصة؛ ولذا يكون الشِّعار القائل: «إن جميع الناس إخوةٌ» قد دَوَّى لأول مرةٍ وصولًا إلى إصلاح ميزانية الدولة. وكان الأباطرة محتاجين إلى مال كثير من أجل جنودهم، وهم قد تَحَوَّل حُبُّهم عن الجماهير إلى المرتزقة من الجنود بعد أن صاروا يُنْتَخَبُون به من قِبَل الجيش لا من قِبَل الشعب.
وكانت الإمبراطورية الرومانية مؤلفةً من اثنتين وعشرين ولاية منذ عهد أغسطس فتمتدُّ، مع الدول التابعةِ، من اسْكُتْلَنْدَة إلى جبال دَرَن، ومن القفقاس إلى أُسوان، ومع ذلك لم تكن هذه الولاياتُ لتقضيَ ما تحتاج إليه رومة المُتْرَفة التي لا يُرْوَى لها غليل. وقد أحصى بلينِي الملايين التي أسرفها القوم ثمنًا لِمَا كانوا يُدْخلونه من حرير الصين وحُلِيِّ الهند وأبازير العرب، ومع ذلك كان مُعْظَمُ الثروة القومية يبقى داخل الإمبراطورية، ولا سيما بعد أن فتح أغسطسُ مصرَ التي كانت من أغنى بلاد البحر المتوسط، ولم يكن الرومان ليُدْخِلوا القمح فقط، بل كانوا أيضًا يستوردون المصنوعات الزُّجاجيةَ والنسائجَ والغرانيت والرُّخامَ الأبيض والبَزَلْتَ والأدواتِ البرونزية والآلات الموسيقية، وذلك إلى ما كان من إرسال ولاية آسية، المشتملة على آسية الصغرى تقريبًا، بُرًّا وصُوفًا ومحاصيلَ صِناعيةً ما دام يسكن هذا البلدَ التجاريَّ الكبيرَ حَفَدَةُ الفنيقيين والأغارقة الماهرون على الدوام. ومما حَدَث أن رجلًا من أرباب الصِّناعة في أفْرُوجْيَة جَعَلَ مَن ينقش على حَجَر قبره أنه دار حَوْلَ رأس مَتَابان اثنتين وسبعين مرةً، وذلك ليذهب إلى إيطالية، وذلك كتُجَّار أوروبة الذين يَتَوَجَّهُون إلى ما وراء الأطلنطيِّ مراهنين على أيُّهم قد قام بأسفار طويلة في البحر غالبًا.
وكانت المدينةُ الكبيرة الزاهية، أنطاكية، الواقعةُ في مكانٍ ممتاز حول إسكندرونة، تُرْسِل أنواعَ السِّلَع الثمينة إلى رومة، وكانت تغتني مقدارًا فمقدارًا فتجتذب إليها حتى نَقْدَ الدولة وتَغْدُو أَلْمَع مدينةٍ في الإمبراطورية حينًا من الزمن. وكانت أَرْوِقة شارعها الرئيسِ تمتدُّ ثلاثة فراسخَ حفظًا للمُتَنَزِّهين من الشمس والمطر، وكانت تشتمل من الحمامات الرُّخامية الساخنة ما يَضْمَن ضروبَ المُتَع. وكانت حدائقُها العامة تحتوي من المياه الفَوَّارة مِثْلَ ما في فِرْسَاي، وكانت شوارعها المهمةُ تُنَارُ ليلًا مثل رومة، وما كان فيها من تشخيصٍ مضحك ورقصٍ إيمائيٍّ وخليلاتٍ سورياتٍ كُنَّ يُسَمَّيْن عازفاتِ المِزْهر يَجْعَل منها بُخَارِسْتَ القرونِ القديمة. ثم يؤدي طَيِشُها إلى خرابها، وذلك أن ملك الفُرْس وَصَل إليها في القرن السادس ليفاوض أهلَها فَيَتَسَوَّر هؤلاء المتاريسَ ويَسْخَرُون منه، ويَغْضَب الملكُ ويحاصِر المِصْرَ ويستولي عليه ويبيع جميعَ سكانه عبيدًا، ويَجْمُدُ المَقْطَعُ الأخيرُ من الأُغْنِيَة التي سَخِرُوا بها من الملك على شفاههم.
وكانت أنطاكية قد أشرفت على شفا الخطر من جميع الوجوه، وذلك لسوء مينائها ولكون مهندسيها أقلَّ صلاحًا من المشخصين فيها.
ولم يكن العرفان أمرًا جديدًا على التجار الأغنياء، وكانت تلك المدينة تُعَيِّن أعضاء مجمعها العلميِّ، وذلك لعلمها أن الفلكيين ينقلون اكتشافاتِهم إلى المَلَّاحين، وهكذا نال رَبابِنَةُ الإسكندرية شهرةً عالمية ووُفِّق المهندسون لتنظيم فروع النيل تنظيمًا جديدًا. وقد أدت تجارِب المجمع الفنية إلى نماذجَ جديدةٍ للسُّفُن، ومن ذلك أَنْ كان لأعظم سُفُن القرون القديمة؛ أي لسفينة «إيزِس» ذاتِ الصَّواري الثلاث، من الطول ستةٌ وخمسون مترًا ومن العَرْض اثنا عشر مترًا، وإذا عَدوْت باريسَ، على ما يُحتمل، لم تَجِدْ مدينةً اتَّفَق لها في أَوْج ازدهارها من اجتماع الروح والغِنَى والفنِّ والصنعة معًا في مستوًى عالٍ كما اتَّفَق للإسكندرية.
وتَجِدُ سببَ ذلك في كون الإسكندرية أكثرَ يونانيةً من جميع المُدُن الأخرى وفي بقائها كذلك زمنًا طويلًا، أَجَلْ، كان خلفاء الإسكندر الأولون يَوَدُّون تمثيل دور الفراعنة، غير أن دستور الدولة ولسانَها لم يكونا مصرييْن ولا لاتينييْن، بل كانا يونانييْن، وكان أولُ البطالمة مؤسسًا لهذا المركز الثَّقافيِّ، ولا ريب في أنه أدام فيه من التقاليد ما كان أرسطو قد سَنَّه في البَلاط المقدونيِّ من أجل الإسكندر.
وكانت بلاد اليونان أكثرَ ما يُطْلَب نَيْلُ الحُظْوَة منه من بين جميع الولايات الرومانية، وكانت جميعُ طبقات المجتمع الرومانيِّ تُبَجِّلُ أُمَّ حضارتها في كلِّ دَوْر. وكان الأباطرةُ يتسابقون في بذل الجهود لجعل الأغارقة يَنْسَوْن ما يَشْعُرون به من أَلَمٍ بسبب تخريب كُورِنْث، ورأَى يوليوس قيصر أن يُكَفِّرَ عن جرم أجداده بإقامته قبل موته بزمنٍ قليل كُورِنْثًا جديدةً لتكون عاصمةً، وقبض أغسطس على ناصية بلاد اليونان بعد حربٍ دامت ستين سنة ومع وضعٍ بالغ الخُطُورة فحَوَّلها إلى ولاية أَكَايِي، وفي هذه البلاد بدأ بالطريق التي زَحَفَت منها جيوش الرومان إلى بِزَنطة بعد زمن. والطُّرُقُ الرومانية هي الطُّرق الصالحة الوحيدة التي عرفتها بلاد اليونان في ألفي سنة، وبهذه الطُّرُق كان يُعْرَب عن شكر رومة الوضيع تجاه صنيع أثينة الذي لا حدَّ لخيره وفضله، ورومة هي التي لم تعْرِف غيرَ التفكير في تعبيد الطرق وسنِّ القوانين.
ومع ذلك كان الأغارقة قد نَسُوا ما هي الحرية في عهد نيرُون الذي كان يظنُّ نفسَه شاعرًا؛ أي سليلَ الأغارقة الروحيَّ، فحاول أن يفوق أغسطس بأن يُعِيدَ إلى ولاية أَكَايِي استقلالهَا، واضْطُرَّ فِسْبازْيان إلى إِعادة تمثال هذا البلد التابع، ثم وَحَّد أَدِرْيانُ جميعَ الأغارقة مُحْدِثًا بذلك وَحْدةً لم يستطيعوا نَيْلَها حتى في زمن عظمتهم.
وذلك يَحْمِل على التفكير في أمر ابن السبعين سنةً الذي يتزوج مؤخرًا خليلتَه المملوءةَ فَتَاءً، والواقعُ أن أثينة ظَلَّت فقيرةً على ما بُذِل لها من تكريم، ويا للرَّمْز في قيام دخل الأغارقة على إصدار الرُّخام والأُرجوان؛ أي على إنتاج ما هو نفيس! وكان يُسْتَعْطَى في البيرة أكثر مما في أيامنا! وكانت البلاد تَرْجِع القَهْقَرَى من كلِّ ناحية، حتى من حيثُ عددُ السكان، وقد قَصَّ جَدُّ بلُوتَارْك على حفيده هذا كيف ألزمه أنطونيوس مع أبناء وطنه بِحَمل آخر وَسْقٍ من القمح على ظهورهم لعدم الخيل والعبيد، وذلك إلى الميناء وحتى مراكبِ الجنود، وعلى العكس حَمَل قيصرُ على توزيع الحبوب في أثناء تلك الحروب بين الأغارقة الجيَاع، ويَنِمُّ ذانك الأمران على ما بين الطَّبْعَيْن من تفاوت.
واستولت قبائلُ جرمانيةٌ وحشيةٌ على بلاد اليونان في القرن الثالث، وكان هذا سنة ٢٦٩، وكانت سنةَ هَوْلٍ، وقد ظَلَّتَ هذه السنة قائمةً في ذاكرة الإنسانية كما ستظلُّ سنة ١٩٤٠ ماثلةً في ذاكرة الأجيال القادمة. نَعَمْ، سطع نجم المجمع العلميِّ بأثينة مرةً أخرى في القرن الرابع، غير أن أثينة نفسَها لم تكن حُرَّةً، وقد دام سلطان رومة عليها بين سنة ٣٠٠ قبل الميلاد وسنة ٣٠٠ بعد الميلاد، ثم سيطرت عليها بِزَنْطةُ خمسةَ عشرَ قرنًا، فبذلك تراها عُبِّدَت من قِبَل دُوَلٍ وأممٍ دُونَها مرتبةً مدة ألفي سنة. ولكنك إذا نظرت إلى كلِّ ما هو غريب عن أرض اليونان لم تَجِدْ نفعًا في غير اثنين، في البرتقال الذي جاءها من آسية في القرن الحادي عشرَ، وفي العِنَب الذي أُدْخِل إليها من إزمير في القرن السادسَ عشرَ.
٩
المالُ والقوةُ المسلحةُ هما العاملان اللذان كانت تعتمد عليهما الإمبراطورية الرومانية، وقد تُضاف المِلاحةُ إليهما أيضًا، غير أن هذا العامل كان يتوقف على المال تمامًا. وكان لا يُسَافَرُ بين نوفمبر ومارس بحرًا؛ أي بعد انقضاء فصل القرصنة الكبير، وعلى العكس كانت الأسفارُ سريعةً في الصيف فيُقْطَع بين نابل وكُورِنْث في خمسة أيام عند ملاءَمة الوقت، وكان يُقْطَع ما بين رُودُس والإسكندرية في ثلاثة أيام، ويُقْطَع ما بين مَسِّينة والإسكندرية في ستة أيام. ويَرْوِي دِيُودُورس خَبَرَ سُيَّاحٍ في عصرِ يسوعَ كانوا يَقْطَعون ما بين بحر آزُوف ومصرَ، أي ما بين أبرد مِنْطقة وأَحَرَّ مِنْطقة في أربعة وعشرين يومًا. والشَّرَر الكَهْرَبيُّ، لا البخارُ، هو الذي حَوَّلْ الوَزْنَ العالميَّ، وبما أنه كان لا يوجد سفنُ رُكَّابٍ، وبما أنه كان لا يوجد غيرُ قليلٍ من المراكب التجارية المُعَدَّة لقبول السُّيَّاح، فقد كانت هذه السفنُ غاصَّة في الغالب، فمما قَصَّه الرسول بُولُس مثلًا أنه سافر إلى الإسكندرية مع ٢٧٦ راكبًا.
وتتجلى درجة انحطاط الرومان في أمرين قاطعين كما في كلِّ مكان، تتجلَّى في الرشوة والرِّقِّ.
ومن المحتمل أن كان من الإصابة قول كاتون صارخًا: «ماذا يَحْدُث لرومة إذا لم يَبْقَ من الدول ما تخافه؟» حتى إن الرِّبا أخذ يظهر في زمنه، ومن ذلك أن بعضهم نال من الفوائد ٤٨ في المائة في سنين كثيرة فاستطاع أن يَشْرِيَ لقب فارس في رومة، ومن ذلك أن شركةً مُغْفَلَةً في عهد سِيلَّا أقرضت الجُمهوريةَ الرومانية ثلاثين مليون دولار فطالبتها بأن تدفع ١٥٠ مليونًا بعد عشر سنين، ومن ذلك أن أقرض الشريفُ برُوتوس مدينةَ سَلَامِين بفائدة ٤٨ في المائة، وبلغ هذا التعاملُ في عهد الأباطرة، كما في الأزمنة الحديثة، مبلغًا يُنْزَع معه مُلْكُ الزُّرَّاع المدينين وتُنْهَب معه مستعمراتٌ وتُشَنُّ معه غارات تجارية وتُقَامُ معه أسواق نخاسة، إلَّا أن المال الزائد كان لا يُوَظَّفُ ثانيةً وإنما كان يُسْرَف في النفائس فيصبح البِرْطِيلُ السياسيُّ أمرًا لا مَفَرَّ منه لقضاء حياةٍ زاهية.
وكان يمكن أغنى الناس أن يبتاع الجُمهورية منذ زمن قيصرَ أيضًا، وكانت الحكومة الثلاثية تصادر أموالَ خصومها، ومَثَّلَ المرابي كراسُوس في تلك الأعمال دورًا كبيرًا، وبلغ ما وهبه قيصر لكلِّ واحد من العوامِّ خمسةً وعشرين دولارًا فضلًا عن القمح والزيت؛ أي ما يعدل في الوقت الحاضر هدية ألف دولار تُقَدِّمُها الحكومةُ إلى كلِّ واحدٍ من أبناء الوطن. وكانت النقود الفضية تُعَدُّ للشَّعْب، وكانت النقود الذهبية تُعَدُّ للكتائب، وكانت وفود الولايات التي تأتي إلى رومة للمفاوضة في مقدار الجِزْية السنوية تُبَرْطِل أعضاء مجلس السِّنات، فلمَّا دَفَع سِبيون «حُلْوانَه» إلى الخزينة الحربية عُدَّ رجلًا غريبَ الأطوار. وفي الغالب كان يُسْتدعَى وكلاءُ القناصل الذين يقومون في ولاياتهم بأحكام القانون قيامًا وثيقًا؛ وذلك لأنه كان من العادة أن يستوفيَ القنصل من الولاية؛ أي من الوكيل في السنة الثانية، نفقاتِ انتخابه لمنصِب القنصلية الرفيع الشأن، فيُكْرِي، في سبيل هذا الغَرَض، بعضَ الملتزمين حقَّ جباية ضرائبَ من الولاية فيَجْمَع هؤلاء الملتزمون تلك الضرائب ضعفين لحسابه الخاصِّ.
وقديمًا كان لا يُضْطَر إلى عُمَّالٍ إلَّا لصيانة البيت والحديقة، وأما في هذا الدَّوْر فقد أخذت المعاهد الرومانية الكُبْرى تستخدم عُمَّالًا بأجور ضئيلة لمزاحمة العبيد، شأنَ «فقراءِ البِيضِ» في جَنوب الولايات المتحدة، وكان يمكن تسريحُ هؤلاء العمال في فصل الشتاء على حين كان يَجِبُ إطعامُ العبيد وتشغيلُهم في صُنع النُّسُج الصوفية والأواني الخزفية. ومن فائدة رأس المال إيقادُ نارِ حروبٍ جديدة يتسع بها نطاق الدُّيُون ويَهبِط بها ثمنُ العبيد، ومن الواقع أن من نتائج الفُتُوح المُوَفَّقَة إِمكانَ اشتراءِ العبد بمبلغٍ كان يترجَّح بين أربعة دولارات وثمانية دولارات بدلًا من الثمن المعتاد الذي كان يترجح بين ٢٥ دولارًا ومائة دولار، وذلك على حين كان يُدْفَع مائة دولار ثمنًا للجواد. ومع الثمن هبطت حُرْمَةُ الحياة البشرية والكرامة الإنسانية أيضًا، فكان يُدْعَى العبيدُ ﺑ «الآلات الناطقة» في مقابل الآلات الصامتة، وكان أكثر مَنْ يُرْغَب فيهم من الناس على الرغم من رِقِّهم هم الحِسَانُ الشَّرْقيات البارعات في أمور الغرام والعبيدُ الماهرون في إعداد السُّموم أو العارفون برسم الصور الداعرة على جُدُر رِدَاه طعام الأغنياء.
ولم تُطْفَأ فتنةُ العبيد التي قادها سبارْتاكُوس إلا بعد عامين. وكان أحسن الأغنياء في حال نفسية من العَدَمية فيبحثون عن عقائدَ جديدةٍ ولو جلبت ضُرًّا إلى ثروتهم، وفي الغالب تقع حوادثُ مماثلةٌ أيامَ الانقلابات الذهنية، وأحدثُ الأمثلة ما نراه من وضع بعض الأغنياء الملائم للبُلْشِفِيَّة. وهكذا لاحت النصرانية في شَفَق الآلهة، لا كمفاجأةٍ، بل كإِكمالٍ لأمرٍ شُعِرَ به منذ زمنٍ طويل وشَغَلَ بالَ الأذكياء كما شَغَلَ الأفئدةَ المملوءةَ وَجْدًا.
وبدت النصرانيةُ قوةً غَضَّةً في عالَمٍ تَعِبٍ وصاحبةَ مبدأٍ حديثِ الصَّوْغ على الأقل إن لم يكن جديدًا، مُثْبِتَةً للناظرين الحائرين كيف يمكن فلسفةً قديمةً أن تتحول إلى دِيانة جديدة، وتحاول أحدثُ السلطتين، الكنيسةِ والدولةِ، أن تُحالف أقدمَهما، وعلى العكس تتخذ أقدمُهما وضعًا سلبيًّا، وذلك لتقرير ما يُتَّخذُ من التدابير على الأرجح، وما الذي يمكن أن يخيف الأباطرة؟ نرى أنه كان على الأباطرة أن يُرَحِّبُوا بذلك الميْل فَرِحين لاستبعاد خشيتهم من حِلْفٍ دَوْلِيٍّ، وهو الفَزَعُ الذي يجعل كثيرًا من رجالنا السياسيين لا إكْليرُوكيين، وهنالك لم يكن غيرُ إمبراطورية واحدة، وهنالك أصبح اتحادُ أممها الكثيرةِ شُغْلَ رومة الحقيقيَّ.
ولهذا السبب نُظِر في البُداءة إلى النصارى بأحسنَ مما نُظِرَ إلى اليهود الذين كانوا يَعُدُّون أنفسهم شعبًا مختارًا ذا دينٍ قوميٍّ بالغٍ من الزَّهْو ما يَزْعُم معه أنه وحدَه هو الدين الصحيح. بَيْدَ أن ما كان من قدرة اليهود على ملاءمة غيرهم ومن شُكْرانِ قيصر وتقاليدِه ومن حكمة اليهود في عدم إعلان عقيدة الشعب المختار أينما كانوا أمورٌ أدت إلى تسكين الأباطرة. والواقعُ أن اليهود كانوا ذوي نفوذ غريب، وقد جعل تفرُّقُهم انتشارَ النصرانيةِ السريعَ بفعل النصارى الأولين أمرًا ممكنًا، ودليلُ ذلك ما ينطوي عليه تصريحُ عالِم الكنيسة تِرْتُولْيان من معنًى يُعَدُّ بعد سبعةَ عشرَ قرنًا جديدًا في أيامنا، قال تِرْتُولْيان: «لقد انتشرت النصرانية تحت ظِلِّ الدِّين اليهوديِّ.»
وكانت المعاهد الفلسفية، التي تُذَكِّر في ذلك العصر بعالَم أفلاطون أكثَر مما تُذَكِّر في الوقت الحاضر، تُسَهِّلُ دخول النصرانية في ذلك العالَم الحديث.
ويوجد في برلين نقشٌ خشبيٌّ يَرْجِع إلى القرن الرابع فتُبْصِرُ الرسولَ فيه جالسًا بالقرب من يسوعَ مشابهًا لسُقْراط، وترى بين فسيفساء رافِين مسيحًا أَمْرَدَ له ملامحُ شابٍّ رومانيٍّ شريفٍ. ولم يَجِدِ الأباطرةُ الأربعةُ العِظَامُ الذين نالوا تربيةً فلسفيةً ما يعترضون به على النصرانية من هذه الناحية، وإذا كان مارْك أُورِيل قد بدا عَدُوًّا للنصارى فإنه فعل ذلك قطبًا سياسيًّا رومانيًّا، ومهما يكن من أمرٍ فإن وضعه تِجاه النصارى كان وضعَ مُتَمَلِّص تقريبًا.
وقد استقرَّ الأساقفة الأولون بكُبْريَات المُدن مع الحَذَر، استقروا بأنطاكية وقَرْطاجة وكُورِنْث، للاستفادة من النُّظُم التي كانت موجودة. وقد اضْطُهِد النصارى في أَفَسُوس، فكان ما أُبْدِيَ نحوهم من عِداءٍ صادرًا عن الصُّوَّاغ الغِضَاب كما في الروايات الهزلية، وذلك لِمَا طرأ على بيوع التماثيل والأَشْعِرة من نقصٍ منذ ظهور النصرانية.
وأُضيفَ إلى العناصر الثلاثة (الإخلاصِ والفلسفةِ والدِّراية) عنصرٌ رابع؛ ضمانًا لفوز النصرانية الناشئة، والعنصرُ الرابع هذا هو الإيمان الذي يَبْذُره الدين الجديد في نفوس البائسين، هو الأملُ الذي يَمُنُّ به على المضطهدين، هو السُّلْوَان الذي يُلْقيه في قلوب الفقراء … وليس مجهولًا أن كانت الإمبراطورية الرومانية تشتمل على كتائبَ من البائسين أكثَر من اشتمالها على كتائبَ من الجنود؛ ولذا تَجَمَّع تلاميذُ يسوعَ وأنصارُه الأولون في جميع الإمبراطورية الرومانية، لا في بلاد الجليل وحدَها، وذلك من السائلين والعُمَّال والفَلَّاحين والعجائز والفقراء والأميين الذين كانت الأناجيل تَرِنُّ في آذانهم كالموسيقى الخالصة في أثناء التبشير. وفي البُداءة كان المُوسِرُون من أبناء الوطن يَسْخَرُون من مذهب الفقراء الجديد هذا الذي يُعْنَى بالمَرْضى والبُرْصِ. وبما أن النصارى الأولين كانوا من الصعاليك، لا من المُثَقَّفين، فإن المصادر التاريخية عن بدء النصرانية قليلةٌ إلى الغاية، والحقُّ أن النصارى الأولين كانوا يَعْرِفون أحيانًا صَوْغَ الكلام دون الكتابة، ولم يعتنق النصرانيةَ في قرونها الأولى غيرُ قليل من الأغنياء والشُّرفاء.
وعندما كان الأغنياءُ يَقْرَءُون هذه النصوص ويُعْرِبون عن ذُعْرِهم، كان الأساقفةُ الماكرون يحمِلون إنجيل مَتَّى الذي يَعْرِف إظهارَ جميع ذلك بِليَاقَةٍ واحتشام. وكان أغنياء ذلك العصر يَوَدُّون أن ينالوا ضَمانًا من كلِّ ناحية فيُنِيطُون قرارهم بأغرب الطوالع، ومن ذلك أن تسابقَ حِصانُ رومانيٍّ وَثَنيٍّ وحصانُ النصرانيِّ مارْناس فسبقه حصانُ هذا النصرانيِّ فَرَضِيَ كثيرٌ من الحُضُور أن يَتَعَمَّدوا.
وبَلَغَ العالَمُ الوثنيُّ من الخُرَافِيَّة ما فَتَن معه المبدأُ القائل بالآخرة، والذي بُشِّرَ به بحرارةٍ، كثيرًا من الناس. وما كان النصارى الأولون ليَبْدُوا في وقتٍ أكثرَ من ذلك ملاءمةً لأنفسهم وللقرون القديمة، وما كان من عُمُومِيَّةِ مناحيهم أنقذ الحياةَ المشتركة حول البحر المتوسط في عصرٍ كادت تنحلُّ فيه. ولو وَجَد الجِرمان، الذين أغاروا على الإمبراطورية مرةً أخرى في القرن الرابع، رومةَ وثنيةً ما لاقَوْا أقلَّ مقاومةٍ لِتَدَاعِي حضارةِ القرون القديمة.
لقد هَرِمَتْ رومة القويةُ العظمى، ومع أنها كانت تَمْطُلُ سُبْحَةَ مستعمراتها الساحلية في كلِّ قرنٍ صِرْت ترى اليومَ تناقصَ هذه المستعمراتِ مقدارًا فمقدارًا، ولا صورةَ أكثرَ تأثيرًا في النفس، حَوْلَ مَيْلِ سلطانِ رومة إلى الزوال، من تَقَدُّمِ الصحراء المستمرِّ على طول سواحل آسية الصغرى وشمال أفريقية منذ القرن الرابع لِمَا يَنطوي عليه هذا من تهديد العالَم.
ومع ذلك كان الوضعُ التاريخيُّ يُكَرَّر وَفْقَ مَنْطِقٍ باهر، ومما حدث منذ خمسة قرون أن أُجِيرَت حضارةُ اليونان الآفلةُ من قِبَل دولة رومة الفَتِيَّة الباغية، واليومَ تَلْقَفُ النصرانيةُ الصاعدةُ هذه الحضارةَ اليونانيةَ من أيدي رومة التَّعِبَة، ولم يَقُم الرومانُ ولا النصارى بعملٍ في عالَم البحر المتوسط القديم أعظمَ من إنقاذ حضارة اليونان.
١٠
أخذت غابات شواطئ البحر المتوسط تزول، ولهذه الظاهرة الألفية أسبابٌ كثيرة، ولم تكن النصرانية غيرَ واحدٍ من هذه الأسباب. وكانت القرون القديمة قد حافظت على هذه الغِيَاض المقدسة، وكان الكُهَّان يُنَظِّمون ذلك ولكن مع الاستناد إلى عواملَ صحيةٍ أيضًا، وكانت الحِكمةُ والفنُّ أكثرَ صفاءً في الأزمنة الأولى وأقربَ إلى الآلهة والعناصر. وكان الناس يَعْرِفون أن الغاباتِ في الجبال تجعل الهواءَ أعظمَ رطوبةً وتَزِيدُ المطرَ نزولًا، وعلى العكس كان شعور اليهود والنصارى نحو الطبيعة يختلط بعبادة الربِّ الخَفِيِّ فلا يُدَارُون الغابَ.
وكان من المحظور في سورية في قرونٍ كثيرة أن تُجَاوَزَ غابةُ أَرْزٍ وأن تُقْطَع أشجارُها. وكانت توجد في إيطالية، الأقلِّ خُضْرَةً في زمن الرومان مما في زمن الإتْرُورِيين، أجزاءٌ كثيرةُ الغابِ أيام المسيح، وعن صِقِلِّية كتب دِيُودُرْس قولَه الجميل: «إن بِسَاط الأزهار في الغابة كان من الكثافة والرائحةِ العطرة ما كانت الكلابُ السَّلُوقِيَّة تُضِيع معه أثَرَ الطريدة.» وكان حِسُّ الطبيعة في الأمة يظلُّ حَيًّا على الرغم من كلِّ شيء، فحُفِظَت غاباتٌ مقدسة حتى القرونِ الوسطى، واليومَ أيضًا يمكن أن تُرَى على جبل أَتُوس شجرةُ سَرْوٍ غَرَسها رهبانٌ بِزنطيون سنة ٨٥٩، وحَفِظ نابليونُ بالقرب من سُومَا في لُنْبارْدِية شجرةَ سروٍ قديمةٍ أخرى تَثْنِي طريقَ سِينْبلُون؛ لأن سَلَفه قيصرَ كان قد شاهدها على ما يُحتمل.
وقد نَسِيَت أثينة أمرَ مستقبلها عندما جَرَّدَت غاباتها كما نَسِيَت أمريكةُ بعد زمن طويل، ومن الرَّمْزِ قَطْعُ الأَثَنِيين لغاب جُزُرِهم حتى يُنْشِئُوا أسطولًا ضد سَرَقُوسَة ما دام زَهْوُهم القوميُّ يقودهم إلى دَمَارِهم، والواقعُ أنه قُضِيَ على أمل الأغارقة في سيادة العالم في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد بسبب قطع الغاب ذلك على ما يُحتمل. واليوم لا تزال غابةُ سِيلَا في قِلَّوْرِية من الشواذِّ والرموز؛ وذلك لأن الغاباتِ القديمةَ هنالك، بجوار كُوزِنْزَه، وعلى بُعد ١٢٠٠ ميلٍ من المدن الكثيرة الأشغال، وحيث لا يستطيع أحدٌ أخذَ شجر، تظلُّ سليمةً دومًا فيحفظ بعضُها بعضًا مُنْعِمَةً على التراب بالخِصْب، وما فتئ الطلاينة يَجْلُبُون خشبَهم من الدانوب ومقدونية وبُنْطُش حتى زمنٍ متأخر.
وكلُّ نظامٍ للرِّيِّ في بلاد البحر المتوسط ذو صِلَةٍ وثيقة بقطع الغاب ذلك مع اختلافٍ بين بلد وآخر. وتشتمل إيطالية على غابٍ قليل وحجر كثير، ومن ثَمَّ كان قيام القُرَى في إيطالية بالقرب من المحاجر، وذلك مع تفضيل السَّفْح على السَّهْل؛ وذلك لأن أمر الملايين من الناس يتوقف على ماء المطر الذي يُجْمَع في صهاريجَ أو على السُّطُوح. وفَنُّ إنشاء الأحواض أساسيٌّ في إسبانية، ويَهْدِف هذا الفنُّ إلى توزيع الماء توزيعًا متساويًا كما يهْدِف إِلى طريقة جديدة في رصْف التراب، وقد انتشر هذا الفنُّ في شواطئَ كثيرةٍ من شواطئ البحر المتوسط، وقد أُنْقِذَت إيطالية الحجرية الجافَّة بفضله في زمنٍ زادت فيه كثافة السكان، وقد أعطت الأرضُ التي بُلِّلَت بَلًّا مصنوعًا بالقرب من مُلْشيا ٣٧ حَبَّةً في مقابل الحَبَّةِ المُلْقاة فيها، وقد أعطت حديقةُ البرتقال البالغةُ من المِسَاحة هكتارًا والمَرْوِيَّة رَيًّا مصنوعًا بالقرب من بَلَنْسِيَة عشرةَ آلاف دولار. ومَنْ يسافِرْ من خلال لُنْباردية، من هذا البلد الذي زرعه قيصر بالأَرُزِّ، يُدْرِكْ بسهولةٍ كيف أن الناس يَتَصَوَّرون إصلاحًا جديدًا في الأرض الفقيرة فقرًا طبيعيًّا فيزيد فقرُها هذا بسبب نقص السكان.
ومن الأمم من انتهت إلى الكمال في علم الرِّيِّ حين مكافحتها العناصر وعند مقاومتها أهواءَها الخاصة. ومن ذوي الطبائع الفردية مَن هم مفعمون بالمتناقضات فاستنبطوا من ضعفهم وسائلَ دفاعٍ وبلغوا من إنماء هذه الوسائل ما يُتَّخَذُون معه نماذجَ لذوي الطبائع الأكثرِ موهبةً.
وبما أن زيادة قَطْع الغاب من سواحل البحر المتوسط قد حَمَلت السكان على تَمَثُّلِ علمٍ للمياه مختلفٍ عن النُّظُم القديمة التي يُنْتَفع بها في وادي النيل، فإن من الممكن، عند آخر تحليلٍ، أن يُرَدَّ فنُّ الرِّيِّ إلى قطع الغاب ذلك.
١١
تمَّ حادثٌ مهمٌّ حاسم، اتَّسَع نِطاق استيلاء البرابرة على شواطئ البحر المتوسط في ثلاثة قرون، ومن المُتَعَذِّر أن يُنَاط ذلك ببضع معارك وببعض التواريخ، كما يتعذر عَزْوُ ما يُسَمَّى سقوطَ الإمبراطورية الرومانية إلى مثل هذه العِلل. والحقُّ أن الإمبراطوريات لا تَبِيدُ إلا نادرًا وأن الأمم لا تَفْنَى أبدًا وإنما تختلط بأمم أخرى، والحقُّ أن الرومان واليهودَ، والهنودَ أيضًا، لم يَزُولُوا، وإنما امتزجت الأمم الغالبة بالأمم المغلوبة مستغرقةً آدميين وتقاليدَ مجاوزةً دورَ انتقالٍ تدريجيٍّ حيث يُسَجِّل المؤرخ بدءَ العهد الجديد راسمًا خطًّا أفقيًّا، وليس في غير الحياة الروحية ما ترى للمبدأ الجديد تأثيرًا مُبْتَكِرًا من فوره. أَجَلْ، يمكن دماغَ عالِمٍ وحدَه، يمكن دماغَ شاعرٍ وحدَه، أن يُبْرِز سقوط جيلٍ وقيام جيلٍ آخر، ولكنك لا ترى فاتحًا، أو رحيلَ شعبٍ، يستطيعُ صُنع ذلك.
وأولُ المُدَّعين بالإمبراطورية الرومانية كان أخطرَ الطامعين، وكانت قبائل القوط قد وَصَلت من إسكندينافية كما وَصَل النورمان بعد زمن، وكان القوط من المَلَّاحين في بدءِ الأمر، ثم صاروا يسافرون على طول الأنهار في جَنوب روسية فأصبحوا مَلَّاحين على البحر الأسود، ويَرْجِع تقسيمهم إلى فِيزِيغُوت وأُسْترُوغُوت (أي قوط الغرب وقوط الشرق)، تقسيمًا كُرِّرَ بعدئذٍ في إيطالية وإسبانية، إلى دَوْرِ هجرة الروس التي قَسَّمَ نهرُ الدِّنْيِبر في أثنائها هذه القبائلَ البدويةَ. وكان إمبراطوُر رومة من أصلٍ عربيٍّ للمرة الأولى حين وصولهم إلى مصابِّ الدانوب حوالي سنة ٢٥٠ وظهورِهم جيرانًا للرومان، وكان اسمُه فليب العربيَّ. وقد بدأت غَزَواتِ العرقيْن الكبرى التي كَدَّرت سِلْم البحر المتوسط نَحْوَ ألف سنة بصراعٍ رمزيٍّ.
وكان يوجد قُبَيْلَ ذلك الدَّوْر ستةُ أباطرةٍ للرومان في سنة واحدة، وقد ادَّعَى في القرن الثالث أكثرُ من خمسين رجلًا، ومعظمُهم من الجنود، بحقِّ السيطرة على الإمبراطورية الرومانية، وإذا عَدَوْتَ اثنين منهم وجدتَهم قد ماتوا موتًا فاجعًا.
ويَنِمُّ اثنان من النقوش البارزة التي تعود إلى ذلك العصر تقريبًا على درجة ارتجاج الإمبراطورية بفعل اندفاع غزاةٍ من البرابرة، وقد صُوِّرَ البرابرة على ناوُوسٍ بأنهم مُلْتَحُون غيرُ مُسَلَّحين لابسون دراريعَ مُعْتَمِرون بمثل قلانس اليعاقبة، وبجانبهم يُبْدِي وجوهًا حائرةً شُبَّانٌ من الرومان حَسَنُو المنظر لابسون بِزَّاتٍ أنيقةً وخُوَذًا، وتبدو على هؤلاء الشبان ملامحُ رجال «ديوان الخارجية» الأماجد في الوقت الحاضر فيَظْهرون ضالِّين بين عُمَّال. وأما النقش الآخر فمنقورٌ على صخرةٍ فارسية، وهو يَعْرِض إمبراطورًا رومانيًّا أسيرًا عبدًا لمَلِك الفُرْس. وقد غدا الارتباكُ الذي نَجَمَ عن انتخاب الأباطرة من قِبَل الكتائب الرومانية في البلاد البعيدة من الشِّدَّة ذاتَ يومٍ ما فَوَّض معه الجنودُ الحَيَارَى أمرَ اختيار الإمبراطور الجديد إلى مجلس سِنَاتِ رومة القديم الذي لم يكن له من الوجود غيرُ طيفٍ منذ ثلاثة قرون.
وقد تعاقب العرشَ حتى أواخر القرن الثالث رجلان قَوِيَّان؛ أي ضابطان إيلِّيرِيَّان من أصلٍ وضيعٍ، وقد مَثَّلَ أحدُهما، أُورِيليان، دورَ المَلِك الشمسِ لاتخاذه الشمسَ إلهَ الإمبراطورية وانتحالِه على النقود لقبَ «الإلهِ والسيدِ مَوْلِدًا»، وقد حَوَّل رومة إلى قلعة فلم يَسْبِقه إلى ذلك أيُّ رومانيٍّ كان، وما رفعه في ذلك الحين من سُورٍ يمكن أن يُرَى تحت أشجار السرو عند باب سان باوْلُو مشابهًا نقشًا قديمًا. وإذا نُظِرَ إلى أُورِيلْيانَ كقائدٍ وُجِدَ محافظًا فأطفأ في الولايات فِتنًا كثيرة، وإذا نُظِرَ إليه كإمبراطور وُجِد مُبْدِعًا، فهو إذ رَغِبَ في اتخاذ مظهرٍ فَخْمٍ كمظهر الفراعنة وملوك الفُرْس فقد لَبِسَ تاجًا شرقيًّا وثوبًا زاهيًا مُطَرَّزًا بالذهب، وكان أولَ مَنْ صنع ذلك.
وقد أَتَمَّ الشعائرَ الشرقية خَلَفُه دِيوكْلِيسْيانُ فجاب رومة في عربةِ نصرٍ تَجُرُّها أربعةُ أفيال، وقد رُفِعَ إلى العرش بعد أن شَغَلَ منصِب ضابطٍ في الحرس الإمبراطوريِّ، وكان منافسُه في العرش محكومًا عليه بالسجن مع الشُّغل سابقًا فلَقَّب نفسه في بُولُونِي ﺑ «أمير بحرية رومة»، ثم صار مدافعًا عن شاطئ المانش ونادى بنفسه «إمبراطورًا لبريطانية العظمى»، وما انفكت النقود تَحْمِل صورتَه إمبراطورًا سبعَ سنين إلى أن مات مقتولًا. وإذا عَدَوْت هذا الحادث أبصرتَ ديُوكْلِيسْيان قد سيطر عشرين عامًا من غير أن يلاقيَ ما يُكَدِّر صَفْوَه، هو طاغيةٌ بالمعنى القديم، هو جدير بهذه الكلمة، هو قد ألغى دُستورَ أغسطس شِبْهَ الجُمهوريِّ والبالغَ من القِدَم ثلاثة قرون، هو قد اختار بنفسه إمبراطورًا شريكًا (أغسطس) فكان لكلٍّ من الإمبراطورين مساعد في الحكومة، هو قد دَعَا جميع هذه الزُّمرةِ بالأُسرة الإلهية جاعلًا جُوبيترَ وهِرْكُولَ وآلهةً أخرى آباءً لها، هو قد أبدع في الوقت نفسه إدارةً مع العناية بتقسيمها إلى أربع مديريات، وهكذا جَدَّد نظامَ التَّبَنِّي، أَيْ نظامًا كان قد أسفر عن الأباطرة الأربعة الذين هم أحسنُ مَنْ عَرَفت رومة.
وكان ديُوكْلِيسْيانُ أولَ اشتراكيٍّ حكوميٍّ، وكان ابنًا لعبد، وبما أنه كان طاغيةً في الوقت نفسه فإنه يُذَكِّرنا ببعض سادة العالم في الوقت الحاضر، وهو كهؤلاء قد حَرَم رعاياه نعمةَ الحرية ضامنًا لهم في مقابل ذلك، وبواسطة الدولة، سلامةَ السَّكنِ والطعام. وكان على الابن أن يداوم على عمل أبيه في المصالح الضرورية كالجيش والنقل والغِذاء، وكان كلُّ مالكِ أرض مسئولًا عن ضرائب رجاله، وعادت الطبقةُ الوسطى والتربيةُ الكَهَنُوتية غيرَ موجودتين. وكانت قائمةُ السِّلَع المُسَعَّرَة، وهي الأولى في التاريخ، ناظمةً للأجور ولأثمان المنتجات، وكان هذا التَّسْعير يَشْمَل ما بين الذهب والصَّبْغ الأُرجوانيِّ حتى بَيْضِ الدَّجاج، وكان هذا التَّعسيرُ يُفَرِّق بين لحم خِنزير مَرْسِيلْية ولحم خِنزير بلجيكة، وكان هذا التَّسعير يَتَدَرج من أجورِ العمال المُيَاوِمين حتى أتعابِ المحامين كما يتدرَّج من أجور جَزَّازِي صوفِ الغَنَم حتى أجور كاسحي البلاليع، وكان يُعاقَب بالموت كلُّ مَن يخالف تلك الحسابات؛ ولذا كانت الدولة الشُّرْطِيَّة والدولةُ الإصلاحية مع العاصمة رومة أمرًا كاملًا منذ سنة ٣٠٠.
ولا عَجَبَ إذا ما أخضع ديوكليسيانُ الأديانَ لنظام وثيق وإذا ما هَدَّمَ كنائسَ وهَدَّدَ مجالسَ عامةً وصادر أملاكَ الكنائس، وقد داوم، فضلًا عن ذلك، على إبعاده من الوظائف العامة كلَّ مَنْ كانوا يقولون إنهم نصارى وعلى جعلهم خارَج حماية القانون، كما هي حال اليهود في الساعة الراهنة، ويُقَدِّر جِبُّنُ عددَ مَن قُتِلَ من النصارى في ذلك الحين بألفين، مضيفًا إلى ذلك قولَه إن من قُتِلَ من النصارى بأيدي النصارى في القرن السادسَ عشرَ أكثرُ من أولئك بدرجات، ويذِيع صِيتُ بعضِ الشهداء منذ ذلك الزمن، ومن هؤلاء نصرانيٌّ طَعَن في مراسيم الإمبراطور العامة وأبادها فشُوِي على نارٍ قليلة فصار شهيدَ نِيقُودِيمية المجهولَ، وعلى العكس أصدر نائبُ ملكٍ وهو على فراش موته مرسومًا سَمَح فيه «لهؤلاء البائسين بأن يمارسوا دينهم وبأن يجتمعوا على أن يحترموا القانون، ونَأْمُل مع ذلك أن يجد النصارى في رحمتنا ما يَحُثُّهم على الدعاء إلى رَبِّهم أن يَمُنُّ بالسلامة علينا وعليهم وعلى الدولة.»
ولم يكن ديُوكْلِيسيان سَفَّاكًا فاسقًا خليعًا مُبَذِّرًا، بل كان عاهلًا فاضلًا عادلًا، وذلك إلى أنه قام بعمل نادر في التاريخ حين تَنَزَّل مختارًا عن السلطان كما صنع بعده شارل الخامس وإدوارد الثامن مع الفارق القائل إن هذين الأخيرين تنزَّلا عن السلطة نتيجةَ ضغطِ قُوًى معاديةٍ. والواقعُ أن ديُوكْلِيسيان كان ذا مبدأٍ جِدِّيٍّ حولَ السلطة ضمنَ المعنى الذي نظر إليها به مارْك أُورِيل فتنزَّل عنها ابنًا للخامسة والخمسين من سِنِيه مُلْزِمًا نائبَه الضعيف بأن يسير على غِراره فَسْحًا في المجال لمساعدَي الإمبراطور حتى يقوما بأمور الحكومة، ولا ترى بين الأربعة صلةَ قرابةٍ، شأنَ المُمَوِّل الفرنسيِّ الذي يَشْرِي رَحًا مع كَرْمٍ ليصطاد بالصِّنَّارة وليلعب بالكُرَات مع الجيران وقتَ المساء. وقد بَنَى ابنُ العبد ديُوكْليسيان في بلده الدَّلْماسِيِّ قصرًا يقضي فيه حياة الخَلِيِّ كأميرٍ إقطاعيٍّ، واليوم ترى نصف مدينة إسبالَاتُو تُغَطِّي أنقاضَ قصر دِيُوكْليسيان.
ولم يُطِق زميلُه تلك الحياة، فلم يَلْبَث أن أخذ يناضل في سبيل العرش، وهو لم يجِدْ سَلْمًا، فقد تنافر هو وابنُه وقام بكفاحٍ جديد وعانى هزائمَ ليموتَ موتًا غامضًا في نهاية الأمر. أَجَلْ، حاول أن يُخْرِج ديُوكْليسيانَ من عُزْلته الرِّعَائية، ولكن على غير جَدْوى، لرَفْضِ ديوكليسيانَ ذلك مثبتًا للعالَم بأَسْرِه أن من الممكن أن يُفَضِّلَ العاهلُ، المعبودُ كإلهٍ، في مساء حياته صفاءَ النَّفْسِ على شهوة السلطان.
١٢
إن مَن يُسْعِدُه الحظُّ بأن يُنْعِم النظر في استانبول بمُنْطادٍ يسير سيرًا مُتَرَجِّحًا وئيدًا، لا بطائرةٍ سريعة، يُبْصِرُ مدينةً لا مثيل لموقعها في العالَم، فكأنها راكبةُ حِصانٍ على بحرين يربط بينهما شَرِيطٌ مُلْتَوٍ لنهرٍ عريضٍ. نَعَمْ، إن الخُرْطومَ ولِيُونَ قائمتان على مُنْحَنٍ للنيل والرُّون فلهما مثلُ موقع استانبول، غير أنهما لا تسيطران على بحرين بمثل ذلك الجلال والمنظر الرِّوائيِّ. ويمكن نظرَنا حين يتطور فوق استانبول أن يمتدَّ بعيدًا نحو الشمال ونحو الجَنوب، ومن شأن هذا المنظر أن يُقَوِّيَ الانطباعَ الذي ينشأُ عن اتساع الشَّريط المُصَغَّر الواصل بين البحرين، وإذا ما نُظِرَ بعد الظُّهْر إلى الضِّفة الآسيوية أمكن أن يُمَيَّزَ عن اليمين قُتُومُ سطح البحر الأسود وزُرْقتُه الضاربةُ إلى سواد، وأن يُمَيَّزَ عن الشمال بحرُ مرمرة الوديعُ الذي له انعكاسٌ أبيضُ كالمرآة، وهنالك تُعْتَقَدُ رؤيةُ رَمْزَي العنصرين: الوحشيِّ والصَّفِيِّ، مع الطريق الملتويةِ كجسر بين الخير والشَّرِّ.
وتنتشر الحياة على البُسْفُور، وضِمْن حدودٍ مُعَيَّنَة، بين عنصرين غَضُوبَيْن، وتَشُقُّ المياهَ سُفُنٌ، وتنتفخ مراكبُ شِرَاعِيَّةٌ، ويَجْري أسعدُ تلك الجَوَارِي نحو البحر الأبيض ويسير أكثرُها مغامرةً نحو البحر الأدجن، وتَبْرُزُ بُقَعٌ واضحةٌ من تلالٍ غَمِقَة وتَظْهَر فُرَضٌ وراء صخور، وتَتَّجِهُ نحو الفلكِ المحترقِ قِبَابٌ بفعل غروب الشمس، وترتفع أشجارُ سروٍ وقصورٌ بين أخلاطٍ من البيوت البِيض، وتَعْلُو مآذنُ مُذَرَّبةٌ نحو السماء، وَتُسْمَع دعوةُ المؤذن إلى صلاة المَغْرِب من بعيدٍ. وكان يعيش في القصر الرُّخَاميِّ القائمِ على الشاطئ خليفةٌ شائب، وأخيرًا مات فيه سَيِّدُ تُرْكية الفتاة. وهذه استانبولُ تَهْنَأُ كإمبراطورةٍ بين بحريْن، ويمتدُّ البحرُ الأبيض أمامَ استانبولَ ساكنًا خَوَّانًا كالهِرِّ الأَنْقَرَوِيِّ ذي الأرجل المَشْرِقية. ولم يَسْطِع الرجلُ الذي أنشأ هذه المدينة أن يتمتع بعمله أكثر من تمتع البستانيِّ بالأشجار التي غرسها، ومع ذلك فإن اسمه ظلَّ باقيًا كاسم الإسكندر، وهو معروفٌ لدى الأعقاب أكثر من أسماء مُعْظَم أباطرة الرومان.
وبِقُسْطنطين يَبْرُز مثالٌ جديدٌ لعاهل، وقد اضْطُرَّ كأغسطس أن ينال العرشَ ثمنًا لسنينَ كثيرةٍ قضاها في مكافحة مختلف الأحزاب، وقد كان عهدُه طويلًا مُنْتِجًا. وقد كان ابنًا غيرَ شرعِيٍّ لضابطٍ وابنةِ خَمَّارٍ، وقد وُلِدَ في صِرْبية، ويُرَبَّى تربيةً صالحة، ويصبح صهرًا لإمبراطورٍ، ويغدو وليًّا للعهد كأغسطسَ من بعض الوجوه، ويُعْنَى مثلَه بالإصلاحات الداخلية عنايةً تامة، وما اضْطُرَّ إليه من حروبٍ أفاد في حماية حدود الدولة تِجاه غارة البرابرة فقط.
وكان قسطنطينُ يشابه أغسطسَ بطول الجُمْجُمة وبما تنمُّ عليه الملامحُ من اتزانٍ وملاحظة، ولكنه كان لا يُقَاسِم أغسطسَ سِرَّ الطَّبْع والرِّئاءَ الديمقراطيَّ والنفاقَ. وكان أغسطسُ يجعل من قواعد الأخلاق حَكَمًا، وذلك مع قضاء أدبٍ في حياته الخاصة مشكوكٍ فيه إلى الغاية، وذلك بين أُسْرَةٍ ذات أخلاق مُنْحَلَّة. وقد قام قسطنطين بشئون الحُكم بُعَيْدَ اضطهاد النصارى، وقد جعل من النصرانية رُكْنَ الإمبراطورية مع عدم إبدائه أيَّ اعتقادٍ باطنيٍّ كان ومع سَيْره وَفْقَ مصلحة الدولة فقط، وهو لم يُعَمَّد إلَّا في آخر حياته، وهو لم يفعل هذا إلَّا ليكون مَثَلًا، وكان يَصْدُر عنه من قُوَى العُزْلَة أكثرَ مما عن أغسطس الذي لم يَنْفَكَّ يَرْقُب مقدارَ تأثيره في مَنْ حوله، وكان قسطنطينُ لا رَيْبَ أشجعَ العاهليْن القوييْن اللذين حَكَما في العاصمتين.
ومع ذلك تُبْصر في حياة هذا الرجل العظيم أُوَيْقاتٍ أَظلمت بالانتقام والوِشاية، وعلى العكس ترى أن نائب الإمبراطور قسطنطينَ (وهو صِهْرُه القادم) قد تَمَرَّد عليه فَغُلِب وسُجِنَ من قِبَل ابن الإمبراطور فعفا عنه الإمبراطور، ولا نظيرَ لمثل هذا العفو تقريبًا، وهو الوحيدُ في القرون القديمة الكلاسِيَّة على كلِّ حال. وقد اضْطُهِدَ ابنُ قسطنطين نفسُه وسُمَّ من قِبَل حَمَاتِه، ولما اكتُشِف بعد حينٍ بهتانُ تُهَم الإمبراطورة صُبَّ عليها ماءٌ غالٍ في حَمَّامها، وقد مات إخوتُها وأبناء إِخوتها معها في أثناء عملية تطهيرٍ دامية. وقد انتحل قسطنطين مبدأَ الأُسْرة المالكة كما صنع أُغسطس من قَبْل فَعُرِّض هذا المبدأ للخطر بتنازع أبناء الإمبراطور ووارثيه.
لقد اجتذبت الإمبراطورَ إلى تروادةَ بعضُ المناحي الروائية، وقد بدأ في الحقيقة بإقامة عاصمته في ذلك المكان الواقع في شمال آسية الغربيِّ، وقد دفعته عواملُ أخرى إلى مَسْقط رأسه نِيش ثم إلى صُوفْية ثم إلى تروادة مُجَدَّدًا، وهو لم ينطلق إلى مكان بِزَنْطة القادم، الذي اكتشف به موقعَ هذه المدينة وإِمكانَ سَدِّه به كلَّ مرورٍ إلى آسية، إلَّا بعد مكافحته منافسَه، قال نابليون: «مَنْ يَمْلِك القسطنطينية يَمْلِك العالَمَ.»
وفي الأسطورة أن الإمبراطور بحث عن أحسن مكان يقيم عليه المدينة فبدأ بوضع أُسسها في أُسْكُدارَ على الساحل الآسيويِّ، غير أن النُّسُور نَزَعت خُيُوطَ القياس وحملتها إِلى ما وراء بحر مرمرة وأسقطتها على الشاطئ الأوروبيِّ.
وتكشف هذه الأسطورة عن أخلاق قسطنطين الحائرة ما اشتملت الأساطيرُ على أساسٍ من الحقيقة دومًا، وما أتته الطيورُ من إِشارةٍ حَفَزَ الحائرَ على العَزْم، والطيورُ قد بَدَت للإسكندر عندما شادَ مدينته، ولكن الإسكندر اجتذبها ببَسْطِه الدقيقَ على مِنْضَدة، وهو لم يُوَجِّهْ نفسَه بها، وذلك إلى أن قسطنطين قد سأل هاتفَ دِلْف، كما سأل مُنَجِّمِيه، قبل أن يَتَّخِذ قرارَه، وهو قد انتظر دخولَ الشمس في بُرْج القَوْس حتى يَضَعَ أُسُسَ السُّور المستدير الكبير الذي يحيط بتلك المدينة.
وإذ لم يكن لدى النصرانية الفتاة فنٌّ خاصٌّ بَعْدُ فقد انتحلت الفنَّ اليونانيَّ كانتحال أمريكةَ الفتاةِ للفنِّ الأوروبيِّ مُؤَخَّرًا، ويُرَى في تلك الدولة النصرانية الجديدة قيامُ معابدَ جديدةٍ تكريمًا لكاسْتُورَ وبولُّكْس. ولَمَّا صَعِد أعضاءُ السِّنات، للمرة الأولى، في السُّلَّم المؤدي إلى رَدْهةِ الاجتماع الجديدة وجدوا تمثالَ بلَّاس لِنْدُوس أمام الباب كتمثال زُوس دُودُون وعمودِ أفاعي دِلْف في مكانٍ آخر. وكان يُرَى في ميدان قسطنطين الواسع، في ميدان حامي النصارى هذا، هذا الإمبراطوُر على شكلِ أَبولُّون، وذلك فوق عَمُودٍ من الرُّخام السُّمَّاقيِّ، وما كان هذا الكِيَانُ الوثنيُّ سَنَدًا خفيًّا ولا حاميًا خارجيًّا للكنيسة النصرانية الحديثة، ويبدو هذا الكيان قائمًا جانبًا منفصلًا عنها انفصالًا يكاد يكون تامًّا.
وبدأ قسطنطينُ عهدَه بمرسوم تسامحٍ، بعقدٍ سياسيٍّ مَحْضٍ، أَجَلْ، إنه أمرَ بعد ذلك بأن يُنْقَش على قَوْسِ نصره برومة أنه نال النصر بإلهامٍ من الله، غير أن كلمة «الله» ظَلَّت مبهمةً في وثائق ذلك الزمن الرسمية. وقسطنطينُ هذا حافظ في حربه الأهلية الأولى على أعضاء السِّنات الوثنيين وعلى أريستوقراطي رومة دون النصارى، وقسطنطينُ هذا كان له بَصَرُ السياسيِّ الحقيقيِّ فيطَّلع على رغائب الجماهير وآمالها. وكانت النصرانية في عهد مولاه الخاصِّ وسَلَفِه: ديُوكْلِيسْيان قد صارت ثابتةَ الأساس كثيرًا نتيجةً للاضطهادات، كما تَغْدُو الآن وطيدةً في ألمانية، ويُدْرِكُ قسطنطينُ ضرورةَ مَنْح هذه الجماعةِ كِيانًا قانونيًّا فيأمر بتصوير رموزٍ نصرانية على تُرُوسِه وأَعْلامِه مع عَرْضِ نفسِه على صورة أَبولُّون.
والواقعُ أن قسطنطين الذي عُدَّ أولَ إمبراطورٍ نصرانيٍّ كان غيرَ صادق الإيمان كما تدلُّ عليه أخلاقُه وأخلاقُ مستشاريه، وقد أنجز نظامَ سلفَيْه الحكوميَّ كطاغيةٍ مُطْلَق، وقد عَبَّدَ الفلاحينَ فحَرَّم عليهم تركَ أَرَضِيهم لتناقص عدد العبيد، وقد جلس على العرش مثلَ الآلهة فوق الأساقفة في مجمع نيقية الذي قال بالثالوث الأقدس، فيا للغرابة في رِئاسة الإمبراطور غيرِ المُعَمَّد لهذا المجمع الرُّوحانيِّ الحكوميِّ! وكان ذلك أولَ مجمعٍ أوروبيٍّ ذي مَنْزَعٍ أُمَمِيٍّ، وذلك كالمؤتمر الاشتراكيِّ الأول الذي عُقِدَ بعد ١٥٠٠ سنة.
واتخذ في هذا المجمع للمرة الأولى، كما في المجامع الثلاثة الأخرى التي عَقَبَتْه في فواصلَ قصيرةٍ، تلك اللهجة الاستبدادية التي انتحلها البابواتُ بعدئذٍ، وهو، بجلوسه على عَرْشٍ من ذهب، وتوجيهه أمراءَ الكنيسة الأوَّلين بدا إمبراطورًا وبابا معًا ممثلًا لأول مرةٍ ما يُسَمَّى «القيصرية البابوية»، وما كان أحدٌ في ذلك العصر ليشكَّ في أهمية اتحاد السلطة الروحية والسلطة الزمنية وما يؤدي إليه هذا الاتحاد من صِرَاع. وقد استند مبدأ الحكومة الإلهيةِ الأساسيُّ، الذي عُدَّت به الكنيسة في القرون الوسطى وارثةً للإمبراطورية الرومانية، إلى ذلك الوضع الاستبداديِّ الذي ينطوي على حماية سلطان وليِّ أمرٍ رفيعِ الشأن من قِبَل مذهبٍ واسع الانتشار. ولما أبصر قسطنطينُ الأساقفةَ في نِيقْية، سنة ٣٢٥، جالسين تحته متنازعين فيما بينهم وأدرك معنى كلامهم من حركاتهم ونَبَرَات أصواتهم عَدَّ ذلك المجمعَ كمجلسِ سِنَاتٍ جديدٍ يجب أن يَجِدَ فيه أصدقاءَ له.
وقد انتَظر هذا الطاغيةُ الكاملُ، الذي كان يداري زهوَه بعاداتٍ وأزياءٍ شرقية مع تقوية عاصمتِه بحصونٍ جديدة، حتى الساعةِ الأخيرةِ ليَرْكَع أمام الصليب الذي اختاره شعارًا لأَعْلامه، وقد مَرِضَ في بدءِ حملةٍ ضدَّ الفُرْس فأمر بتعميده على عجلٍ، وقد جَعَلَ النصارى منه قِدِّيسًا، وقد جعل الوثنيون منه إلهًا رومانيًّا.
ولُقِّب قسطنطينُ ﺑ «الأكبر»؛ لأنه اعترف بالرِّسالة النصرانية، والحقُّ أن النصرانية مدينةٌ له أكثر مما لأيِّ رجل آخر منذ القِدِّيس بُولُس، ومع ذلك يجب أن يُسْأَل: هل حَقَّق هذا الإمبراطورُ مبدأً عظيمًا في الحقيقة أو ساعد الإكليروسَ النشيطَ على بلوغ السلطان؟ ومهما يكن من أمرٍ فإن أُسْقُف رومة فكَّرَ في ممارسة هذا السلطان بنفسه كإمبراطور، وما يبدو اليومَ لنا غريبًا كان ممكنًا في القرن الرابع، فقد كان يمكن أُسْقُفًا جريئًا أن يَحْمِل لقب إمبراطور. وقد غدت «جمعيةُ المؤمنين المُكْرَمين الرُّوحَانِيةُ»، التي لم يَلْبَث أُوغْسْتن أن وصفها مع الإصابة ﺑ «مدينة الربِّ»، حِلْفًا دَوْليًّا تعلوه الكنيسة. وكان يمكن الصراعَ، من أجل سيادة العالَم، الذي سَيهُزُّ الإنسانيةَ مدة ألف سنة أن ينتهيَ بانتصار الكنيسة لولا انقسامُها.
وقد زاد غُزَاةُ البرابرةِ هذه المسألةَ الجديدةَ تعقيدًا، وقد جَهِل قسطنطين الخطرَ الجِرمانيَّ مع أنه نبيهًا بصيرًا على العموم. وقد كان أولَ مَنْ قَبِلَ في بَلَاطه ضباطًا وموظفين من الجِرمان ومَنَحَهم مراكزَ مهمةً، حتى إنه دعا قبائلَ جِرْمانيةً لتَعْبُر نهرَ الرِّينِ وتجازِي الغُولِييِّن، حتى إنه نظر بعين التسامح، ومع التشجيع، إلى الفَرَنج الذين يأتون من نهر الرين الأدنى، وإلى قبائل الألمان التي تتوجَّه من مجرى الرِّين الأعلى إلى الغرب والجَنوب، وإلى الوَنْدال الذين يستولون على هُنْغارْية بعد عبور نهر الدانوب، وهذا إلى أن المَوْج المُخَرِّب الذي سار متدافعًا إلى أوروبة مدةَ خمسة قرون مما كان يتعذر وقفه على الرغم من صاحب عَزْمٍ؛ وهذا لأن ذلك التَّيَّار مما لا يُقَاوَم.
ولم يتمالك خليفةُ قسطنطين أن أعاد النظر في سياسته تجاه النصارى، ولَمَّا قُتِلَ ابنُ قسطنطينَ فأَمَر بقتلِ نصف أُسرته استطاع غلامٌ أن يتفلت من الذبح ابنًا للخامسة من سِنِيه، فرَبَّاه أُسقفٌ وخَصِيٌّ تَطَلُّعًا إلى القُسُوسة، ولَمَّا مات قسطنطينُ وأخذ اثنان من أقربائه يَحْكُمان معًا كان الغلام المُنْزَوي عازمًا على تَعَلُّم البيان في القُسطنطينية ثم يُعَلِّمُه فيلسوفٌ يونانيٌّ حكمةَ الأفلاطونية الجديدة. وكان قد رأى في البَلَاط كثيرًا من الكبائر النصرانية كما سَمِع حديثًا عن الدم المسفوك بين آله الذين كانوا يزعمون أنهم نصارى؛ ولذلك صار ذا ارتيابٍ حِيال النصرانية مُبْدِيًا تَقَبُّلَه لمعتقدات القرون القديمة التي تَلَقَّاها في منابعها كما تَلَقَّاها في أثينة بعد ذلك.
وإنه ليقضي حياةً سعيدةً ابنًا للخامسة والعشرين؛ إذ ينتزعه من الدِّراسات الأفلاطونية إمبراطورٌ معتزلٌ، فيرسله إلى مقاتلة البرابرة مع أنه كان على النقيض من روح الجنديِّ، ويصبح صهرًا للإِمبراطور ومساعدًا له، ثم يُعَيَّن قائدًا عسكريًّا لجيش الرِّين، هذا النهر الذي عَبَرَه الأَلمانُ لغَزْوِ بلاد الغول ونَهْبِ كل شيءٍ يجدونه في طريقهم وإحراقه.
وليس عن قليلٍ أن كان الأميرُ رومانيًّا سليلًا لأُسْرَةِ جنديٍّ، فقد دَلَّت حركاتُه العسكرية الأولى على عبقريةٍ حقيقيةٍ فيه أسفرت عن نصرٍ، وقد انكشف ضَبَابُ غابِ البرابرة الابتدائية عن باريسَ وسترَاسْبُرغ للمرة الأولى. وقد كَسَبَ أُولَى معاركِه الكبرى في ستراسبرغ، وقد جعل مَقَرَّه في باريس كما يصنع ذلك جميع مَنْ يأتي بعده من القُوَّاد ورجال الثَّقافة تقريبًا.
وكان اسمُ هذا الأمير جُولْيان، وكان قائدًا وفيلسوفًا معًا لا ريب، وكان أولَ باريسيٍّ من ناحيةٍ، وذلك لاشتهار اسمه منذ أيام هذا المِصْرِ الأولى. وكان حاكمًا صالحًا على الرغم من فَتَائه، ولا يخلو من مُتْعَةٍ أن نَتَمَثَّلَ جنديًّا رومانيًّا، ثَوْريًّا سِرًّا، نائبًا لإمبراطور بِزَنْطة، عائشًا في باريسِ القرنِ الرابع! …
وقد بَنَى جوليانُ لنفسه قصرًا في لُوتِس (وهي مدينةُ الباريسيين كما كان يسميها الرومان)، وهذه المدينةُ القديمةُ القائمة على ضِفَاف السِّين، وإن كانت معروفةً عند قيصرَ، كانت مجهولةً لدى الأباطرة تقريبًا، ويَبْلُغ جُولْيان من الحُظْوَة لدى الجنود ما يُثِير معه حَسَدَ الإمبراطور، فيأمرُه الإمبراطورُ بأن يذهب إلى فارسَ التي كان من العادة أن يُرسَلَ إليها المنافِسون غيرُ المرغوب فيهم. وكان جوليانُ يُطِيعُ، ولكن الكتائبَ أبدت معارضتها لهذا التغيير فصارت في حفلة الوَدَاع، وقد دخلت منزلَ قائدها ليلًا فخَيَّرته بين الأمرين: أن يُنادَى به إمبراطورًا وأن يُقْتَل فورًا، وينتهي هذا المنظر الروائيُّ الهزليُّ الذي تؤيده جميعُ المصادر إلى قبول جوليانَ أن يُنادَى به إمبراطورًا. وبذلك يكون بعض الضباط، السُّكارَى على ما يُحتمل، قد أوجبوا دَوْرًا في تاريخ البشرية الروحيِّ، وما كان من رفع الجنود الرومان لمولاهم الجديدِ فوق تروسهم وَفْقَ عادة البرابرة حدث للمرة الأولى، وكانت عادةُ التُّرْس الرَّمزيةُ هذه أولَ هدية من الأمم الجِرْمانية المحاربة في بلاد البحر المتوسط.
وقد جمع إمبراطورُ بِزَنْطة جيشًا ضِدَّ المُتَمرِّد الذي كان يتقدم مع كتائبه، غير أن موتَه بغتةً حال دون اشتعال حربٍ أهلية في الإمبراطورية.
وهو لم يَمْنَع من النصرانية أكثر مما قَوَّض، وهو قد اكتفى بإبعاد النصارى من جداول الارتقاء في الإدارة وبإغلاق المدارس العامة دونهم، وهو في الوقت نفسه قد رَسَم، كسياسيٍّ موهوب، نظامًا شافيًا إلى الغاية صالحًا لكُهَّان الوثنية مُقْتَبَسًا من الإكليروس النصرانيِّ، وهو قد وَلَّى فريقًا من المفكرين الأفاضل مناصبَ عالية، وهو مع ذلك ليس سوى نصف إغريقيٍّ لدرسه بحماسةٍ مذهبَ مِتْرا (الإلهِ الشمس)، وهو قد مارس كلا الدِّيانتين من بعض الوجوه، وهو، قَبْلَ كل شيءٍ، لم يكن لديه من الوقت ما يُظْهِر معه قُدْرَته، وتمضي ثلاثة أعوام على ارتقائه إلى العرش فيُقْتَلُ في فارسَ بيد جنديٍّ نصرانيٍّ منتقم على ما يُحتمل.
ولم يَبْقَ شيء من سَعْيِه المؤثِّر القصير في إحياء القرون القديمة، كسعي أمِنُوفيسَ المصريِّ، غيرُ صورةِ ثَوْرِيٍّ مُثَقَّف، غيرُ الوصفِ الدَّاوِي الذي طُبِّقَ منذ ذلك الحين على كثير من عُصَاة الدين، وهو المُرْتَدُّ!
١٣
حَدَثَ اجتياحُ الجِرْمانِ الأولُ لبلاد البحر المتوسط على نطاقٍ واسع حوالي سنة ٤٠٠، وقد اتَّخَذَت هجرةُ الأقوام، التي بدأت بالحقيقة في عهد مارْك أوريل قبل قرنين، شكلَ جليدٍ متدافع من الجبال في هذا الحين فيُخَرِّبُ كلَّ شيء في طريقه، وقد جابت عشائرُ مُغُولِيَّة آتيةٌ من الشرقِ آسيةَ راكبةً خيلًا طاردةً أمامها حتى جَنوب روسية قبائلَ وافدةً من الشمال، وقد تقدمت هذه القبائل، بِدَوْرِها، إلى الأمام، حتى سواحل البحر المتوسط، عن فُضُولٍ وعن ضرورةٍ معًا، ولم تَجِئ القبائلُ الجِرْمانيةُ بشيء، بل خَرَّبت كلَّ شيء تقريبًا، فكانت على النقيض من الأمم السابقة التي جَلَبت كلَّ شيءِ معها وحَرَثَت الأرض. ثم توارت القبائل الجرمانية في بضعة قرون غيرَ تاركةٍ أثرًا، وما وُجِدَ على ضِفَاف النيل من نُبَذِ تَوْراةٍ قوطيةٍ هو أهمُّ كَنْزٍ يمكن اكتشافه في قَبْر هذه الشعوب التي كانت عاطلةً من كلِّ عرفانٍ وإيمانٍ يَغْتَني بهما مَنْ قَهَرَتهم.
ويتقدم الفِزيغُوتُ نحو الجَنوب ويُرْسِلُون إلى إمبراطور بِزَنطة رُسُلًا ليَرْجُوا منه خاشعين أن يُعْطِيَهم أرَضِين على طول المجرى الأدنى من نهر الدانوب، ولم يَكَد الإمبراطورُ فالِنْس يَمْنَحهم قسمًا من تَرَاكية الخاليةِ من السكان تقريبًا حتى أخذ هؤلاء المولودون جنودًا ينازعون موظفي الإمبراطور مُخرِّبين البلد الذي ظُنَّ أنهم يزرعونه قاهرين كتائبَ الإمبراطور في معركة أَدِرْنة العظيمة (٣٧٨)، ويُجْرَح الإمبراطورُ بسهمٍ ويُنْقَل إلى منزلٍ، ويَجْهَل أولئك الرُّحَّلُ الغالبون ذلك فيُحَرِّقُون جَذِلين ذلك المنزلَ مع جميع المنازل الأخرى حارمين أنفسهم غنيمةً ثمينةً جدًّا. ولم يَبْقَ للأباطرة المنهوكين إزاء ذلك غيرُ قبول هؤلاء الجيران الجُدُدِ في جيشهم، حتى إن ثِيُودُوز الذي لا يُعَدُّ من ضِعافِ الأباطرة رَضِيَ أن يكون له حلفاءُ من القبائل الجِرمانية، وقد كان آخرَ إمبراطورٍ أَمْسَكَ الإمبراطورية الرومانية مُوَحَّدَةً من إسكتلندة حتى الفرات، ولكن لوقتٍ قصير، فلما احْتُضِرَ جعل شبهَ وحشيٍّ وصيًّا على بَنِيه الصِّغار، وهكذا يكون تقسيمُ الإمبراطوريةِ إلى قسمين من قِبَل حَفَدَة ثِيُودُوزَ قد أَعَدَّه ثِيُودُوزُ نفسُه.
وشِبْهُ الهمجيِّ ذلك هو سِتيلِيكُون، هو وَنْداليٌّ غيرُ معروف، وقد كان جنديًّا بسيطًا فارتقى في ميادين القتال، وقد قُدِّرَ عليه أن يَزُجَّ بكلٍّ من نِصْفَيِ الإمبراطورية في صراعٍ طويل ضدَّ الآخر ناقلًا الحربَ بذلك من رومة إلى القسطنطينية. وهكذا يعاني ستِيلِيكونُ نصيبَ كثيرٍ من ذوي الطبائع الصارمة المُوَلَّدين الذين يُرَوْن لدى اليهود في الغالب، ومهما يكن أمرُ هؤلاء الناس فإنهم يُعَيَّرُون من قِبَل كلٍّ من العِرْقين اللذين يَنْحدرون منهما، ومع ذلك فإن ستِيلِيكون يَبْذُلُ وُسْعَه مُخْلِصًا في مقاتلة رئيس الفِزِيغُوت أَلَارِيكَ الذي حاصر القسطنطينية حوالَي سنة ٤٠٠، ويَطْرُدُ أَلَارِيكَ القُوطِيَّ فيصبح منقذًا لإيطالية.
ويَغْدُو ذانك الجِرْمانيَّان سَيِّديْن حقيقيين في ذلك الدَّوْر، يغدوان فوق إمبراطوري القسطنطينية ورومة اللُّعْبَتيْن، وهذا إلى اتخاذ هذا الأخير رافِينَ مَقَرًّا له.
ولم يَلْبَث ذانك الأَفَّاقان أن اتفقا على محاربة قبيلة ثالثة من الجِرْمان النَّهَّابين، على محاربة الأُسْترُوغوت، ويَطْلُب أَلَارِيكُ مليونَ دولارٍ ذهبيٍّ من مجلس السِّناتِ القائم رسميًّا برومة، ويوافق ستيليكون على طلب الفِدْية هذا، وهنالك تبدو مقاومةٌ للمرة الأولى. أَجَلْ، كان أعضاء السِّنَات قد أَغْضَوْا عن إحراق كُتُب السِّيبِلِّين التي هي من أوابد الرومان، غير أن هؤلاء السادة الذين ظَلُّوا رُقُودًا قرنين بَدَوْا أيقاظًا عندما بُحِث في مسألة دفع النقود، ويأمر وارثُ ثِيُودُوز، هُونُورْيُوسُ الفاجرُ، بقتل قائدِه ووزيرِه الجِرْمانيِّ، ستِيلِيكُونَ، المدينِ له بعظمته، وتَعْقُب ذلك مَذْبَحةٌ؛ أي ثورةُ الروح الرومانية ضِدِّ الجِرْمان مرةً أخرى، ويَلُوح أن ثلاثةَ آلافِ جرْمانيٍّ التجئوا إلى أَلَارِيك.
وبجُولْيَانَ يُذكِّرنا الأميرُ أَلَارِيكُ، الذي يصعب تَبَيُّنُ وجهه على خاتَمه، وذلك بعينيه اللتين تشابهان عَيْنَ الصبيِّ باتساعهما، وبسذاجة ملامحه وفمه الصغير، بَيْدَ أن الذكاء لا يُنِير أساريرَ وجهه كما يلوح (ومن أين يأتيه ذلك مع ذلك؟!) وقد تعلَّمَ جوليانُ الإغريقيُّ قواعدَ الحِكْمة في أثينة حين فَتَائه، وقد جعل أَلَارِيكُ، الذي هو من البرابرة والذي كان لا يعرف حتى كتابةَ اسمه على ما يُحتمل، من بلاد الإغريق مسرحًا لتخريباته، ويَزْعُم أنه ينال رضاءَ ربِّ النصارى بتخريبه آثارَ الوثنيين وإتلافِه الأُلِنْب وإلُوزيسَ ثم كُورِنْث والأَرْكادية صانعًا مثلَ ذلك صنعًا منتظمًا دقيقًا في كلِّ مكان مُحَطِّمًا في طريقه مئاتٍ من التماثيل القديمة.
وما صانه ألاريكُ كَسَرَه باسمه رهبانٌ متعصبون، وقد خُرِّب معبدُ أَفَسُوسَ المشهورُ في ذلك الحين، ولم يَجِدْ أَلَارِيكُ على الأَكْرُوبول تمثالَ أتِينة الذي نحته فِيدْياس لنَقْلِ رجالِ بِزَنطة إياه منذ بضع سنين. وهكذا عادت بلادُ الإغريق غيرَ موجودةٍ بصنعِ ذلك الجِرْمانيِّ، وأَثِينَة وحدَها هي التي أُنْقِذَت مصادفةً، وما اتفق لأثينة من ازدهارٍ روحيٍّ بعد نصف قرنٍ مَدِينٌ لابنةِ أحدِ الأساتذة في أثينة، ثِيُودُورا، التي صارت إمبراطورةً بعد حياةٍ ذاتِ صُرُوف.
وانتهبَ قومُ الأَرِيكَ الرُّحَّلُ مدينةَ رومة في صيف سنة ٤١٠، وكان هذا أولَ سلبٍ أُصيبت به رومة، فسيَعْقُبُ هذا السلبَ انتهابٌ ثانٍ حوالَي سنة ١٥٠٠ من قِبَل قومٍ من الجِرْمان (الذين لم تَكْفِ عشرةُ قرون لإصلاحهم قَطُّ). وهكذا يُوَفَّقُ الجِرْمانيُّ الصغير حيث أَخْفَق القَرْطاجيُّ العظيمُ هنيبالُ، ولكن أَلَارِيكَ مات فجأَةً حينما كاد ينطلق إلى أفريقية، ويُشابه موتُ هذا الرجل الشابِّ موتَ كثيرٍ من رؤساء العِصَابات الذين كانوا يعيشون بلا هَدَف ولا خِطَّةٍ معينة، ويُدْفَنُ بَدَنُه من قِبَل جيشه في مجرى نهرٍ جافٍّ حتى يَرْقُد في طَرَاء السَّيْل بعدئذٍ، أو لكي يَتَفَلَّت رُفاتُه من انتقام أعدائه، فمن شأن الروح الجرمانية أن تُؤْويَ أقسى الاندفاعات وأكثرها غموضًا مع ارتباكٍ ضَيِّق.
وتَزَوَّج خَلَفُ أَلَارِيكَ، أَدُولْفُ، بابنةٍ من بيت رومة الإمبراطوريِّ، غير أنه لم يُعَتِّم أن خان أنسباءَه الجُدُد مع الإمبراطور المنافس، وقد اشتُهر بأنه من أعظم المخَرِّبين في عصره، وقد مات مقتولًا في أثناءِ حَمَلَاتِ انتهابٍ ظافرة. وقد انطلق الوَندال إلى الغَزْوِ على أَثَرِ الفِزِيغُوت فنالوا ضربًا من الخلود، وذلك أن أوحش التخريبات وأكثرَها بُعْدًا من نطاق الخيال صارت تُدْعَى بالأعمال الوَنْدالية. ومن الواقع أن اسم الأندلس قد حُفِظَ لنا أيضًا، ومن حُسن الحظ أن السائح لا يَجِدُ أثرًا لتلك القبيلة النَّهَّابة في أثناء مروره من هذه البُقعة التي هي من أروع بقاع البحر المتوسط الساحلية.
ومن شواطئ البحر البلطيِّ أتى الوَنْدال وعَبَرُوا نهرَ الرِّين ووصلوا إلى جبال البرانس مارِّين من بلاد الغول، وقد سارُوا منحرفين نحو الجَنوب اجتنابًا للقُوط فبلغوا سواحلَ أفْريقية، ولم يكن عندهم مَثَلٌ قوميٌّ عالٍ، ولم يكن لديهم ما يُنْعِمُون به على الرومان المغلوبين أو على البَرْبَر الأهلين، فكانوا يُثيرون حقدَ عالَم البحر المتوسط بالجرائم التي يُكَلَّلُ بها اسمُهم، ومع ذلك ظَلُّوا ظافرين بفضل عِلمهم بالمِلاحة الذي اكتسبوه في بلادهم الشمالية.
ودام سلطان جِنْسِريكَ نحوَ نصف قرنٍ فكان أولَ ملوك الوَندال وآخِرَ ملوكهم في الحقيقة، وهذا إلى أنه كان من ملوك البرابرة الوحيدُ الذي بَقِيَ قابضًا على زمام السلطة إلى سِنٍّ متقدمة، وقد وصفه أحد معاصريه بأنه «معتدلُ القامة، أَعْرَجُ نتيجةً لسقوطه من فوق حِصانٍ، صَمُوتٌ، عنيفٌ، كاسرٌ، مُزْدَرٍ لكلِّ فُجُور، ماهرٌ في إيقاد الفِتَن وإلقاء بذور الحقد والفساد»، وقد انتحل لقبَ ملكِ البَرِّ والبحر وأرهب جميعَ البحر المتوسط بأسطوله. وكان الوَندالُ يَصِلُون في مغازي النهب حتى مصرَ، حتى بلادِ اليونان، وكان الوَندالُ قراصينَ الشمال الأَوَّلين في الجَنوب، وكانت الجُزُر الثلاثةُ الكبرى مع جزائر البَلِيَار جزءًا من إمبراطوريتهم، وما هو غيرُ ذلك كان ميدانًا لمغامراتهم.
وقد دُعِيَ الوَندال إلى مساعدة رومة من قِبل أرملةِ أحد الأباطرة، فكان جِنْسِريك أولَ أجنبيٍّ نزل إلى أُوسْتِي، ويَجِدُ هنالك قُوَّتين متنافستين؛ وذلك لأن الأباطرة كانوا يقيمون برافِينَ عادةً فأقاموا فيها بَلَاطًا ثانيًا في ذلك العصر. وقد استقبل البابا ليونُ الأول رئيسَ الوَندال عند أبواب رومة فعَرَف كيف يعامله بمهارة فحَرَّم جِنْسِريكُ على كتائبه إحراقَ رومة، وهنالك وَجَّه جنودُ الوَندال هَمَّهم، وذلك بعد نهب رومة من قِبَل أَلَاريك بنصف قرنٍ، إلى آجُرِّ مَعْبدِ جوبيتِرَ الذهبيةِ وإلى آنية اليهود الذهبية التي كان تِيطُس قد سَرَقها من هيكلِ سليمانَ منذ أربعة قرون. إذَنْ، نُقِلَت هذه الشماعدُ والذخائرُ من رومة إلى قرطاجة حتى جَلَبَها فاتحٌ إلى بِزَنطة بعد حين، ثم عادت إلى أُورَشَلِيم كما يلوح، وذلك لِمَا كان يصيب حائزَها غيرَ الشرعيِّ من لعنة.
وكان أربعةُ شعوبٍ كبيرة من الشمال في طريق الفتح في ذلك الدور؛ أي حوالَي سنة ٤٥٠، فأوغل التِّشِكُّ الذين هم من الصقالبة في بوهيمية ومُورَافية، وانتقل الإنكليزُ والسكسونُ والجُوتُ إلى الجزائر البريطانية، وفَرَّ البرِيتُون السِّلِتيُّون إلى بريتَانية عند دُنُوِّ أولئك، وأقام الوَندال والأَلِين ممالكَ في صِقِلِّية وأفريقية، وتقدَّم الهياطلةُ نحو الجَنوب.
ومن جميع البرابرة تُبْصِرُ أمرَ الهياطلةِ أطرفَ الأمور، وذلك لوضوح غزوهم وبُعده من طِلاء النصرانية، وإِذا ما وُصِف الهياطلةُ وُجِدُوا قومًا من الوحوش، ومن البدويين الفرسان، ومن العِرْق التركيِّ المُغُولِيِّ، ومن ذوي العيون المزمومة والقامات القصيرة السريعة كالريح، وقد كانوا فاتحين لقسمٍ من الصين في زمن المسيح. وقد ظَلُّوا قرونًا كثيرة وَفْق ما يحاول أصحاب نظرية العروق إحداثَه اليومَ من الأمم المختارة المصنوعة، وقد تركوا الضِّعَاف في السُّهب الواسع وراءهم، وذلك على حين يتقدم فرسانُهم الأقوياء إلى الأمام أسبوعًا بعد أسبوع مُخرِّبين البلاد بأكثرَ مما يَفْعَل الفاتِحون، وذلك كالنَّسْنَاس. ومن قول زعيمهم المشهور: «يتألف منا — نحن الغُزاة نحن الفرسان — أمةٌ تُلْقي الفَزَع في قلوب جميع الأجانب، حتى إننا إذا مِتْنَا بَقِيَ جاهُنا بعدنا وظلَّ أبناؤنا وأبناءُ أبنائنا على رأس كثيرٍ من البلدان.»
وكانت لهم في القرن الخامس إمبراطورية بدوية غيرُ متينةٍ ممتدةٌ من سِيبِرْية إلى دانِيمارْكة، وكانت الريحُ تَحْمِل صيتَهم من سُهُوب روسية إلى البحر المتوسط. وكان اسمُ الهياطلة مقرونًا بالفوز في أثناء الحروب الأهلية التي لا حَدَّ لها بين القسطنطينية ورومة، وبين المذاهب النصرانية، وبين القبائل الجرمانية. ومن قول قِسِّيسٍ في مَرْسِيلْية: «ينضمُّ أبناءُ وطننا، حتى الأشرافُ إلى العدوِّ، فبما أن أبناء وطننا عادوا لا يُطيقون بَرْبَرِيَّةَ الرومان فإنهم يأمُلُون أن يَجِدُوا مشاعرَ إنسانيةً لدى البرابرة.» وقال يونانيٌّ في معسكر مَلِك الهياطلة: «هنا يَسُودُ العدلُ، مع أن الفقراء في الإمبراطورية الرومانية وحدَهم هم الذين يُلَاقون ضروب العِقاب.» وكان لأَتِّيلا؛ أي «للأب الصغير»، قصرٌ من خشبٍ على صِفَّة الدانواب، وكان ينام على فراشٍ خَشِنٍ ويَزْهَدُ في الطعام، وكان بين فرسانه في الهواء الطَّلْق دومًا، حتى حين يَعْقِد مجلسًا. وكانت فرائصُ إمبراطورِ بِزَنْطةَ ترتعد فَرَقًا أمام هذا الجار الضارِي، فَعَيَّنَه مَرِيشالًا وأعطاه جزيةً سنوية. وبينما كان الرجال الذين يَسْكنُون القصور الرُّخامية على شواطئ البُسْفُور يَعُدُّون أَتِّيلَا حيوانًا وحشيًّا يجب تسكينه، كان أتِّيلا يَبْدُو رئيسًا شاعرًا بتَبِعاته أكثر من شعور أباطرة عصره، ومن ذلك ما رواه سفيرٌ عن جلوس أَتِّيلا حَوْلَ مائدةٍ من خشب في أثناء وليمة مستمعًا إلى إشادة الشعراء بمآثره كما في قصائد أُومِيرس، فلما أتمُّوا الأُغْنِيَةَ الأولى التي كانت مؤثرةً إلى الغاية أنشدوا قصيدةً مضحكة تَدَرَّجت إلى أمرٍ وحشيٍّ كلما زاد شُكْرُهم، فَظلَّ أَتِّيلا وحدَه مُتَّزِنًا على حَسَب عادته.
وحاول سفراءُ من بِزَنطة أن يقتلوا أَتِّيلَا، فتركهم أَتِّيلَا ينصرفون بعد اكتشافه ائتمارَهم به، حتى إنه أعطاهم هدايا وخَيْلًا، ولكن مع إرساله كتابًا إلى الإمبراطور ثِيُودُوزَ، الذي كان يلوح أنه المُحَرِّضُ على ذلك الائتمار، يلومه فيه على سلوكه الشائن، وتُعَدُّ هذه الوثيقةُ رائعةً لِمَا تنطوي من بساطة الشعر الشعبيِّ، وما كان مارك أوريل نفسه ليستطيع كتابةَ مثلها، ولا تأليفَ ما هو أكملُ منها، وتكفِي هذه الوثيقةُ وحدَها لرَفْع أَتِّيلا فوق ملوك عصره المتمدنين على الرغم من جميع أعماله الوحشية.
١٤
كان غربُ البحر المتوسط وجَنوبُه بحيرةً جِرمانيةً ونصرانيةً حوالَي سنة ٥٠٠، وكان الزعيم الجرمانيُّ، أُدْواكْر، على رأسِ جيشٍ مختلط فَصَفَّى الإمبراطورية الرومانية بالعنف في سنة ٤٧٦. وكان من عادة الكتائب أن تأخذ ثلث البلاد التي تزعم أنها مُحَرِّرةٌ لها، فطالبت هذه الكتائب بثلث إيطالية التي لم تَزَلْ تُعَدُّ ولايةً، وكان المغامر الحاملُ لاسم أُورِيستِي اليونانيِّ قد نادى بابنه القاصر إمبراطورًا، فلما أَيَّد مزاعمه تجاه الجِرْمان قَتَلَه جنودُه، وهنالك اختَصَّ الجِرْمانيُّ بالبلد الذي كان قبضتَه واستعدَّ لقتل آخر وارثٍ للتاج. وكان هذا الوارث يَرْمُز باسمه رومُولُوس أُوغُسْتُول إلى اسْمَي أول الرومان وأقواهم، وما كان عليه من مَلَاحةٍ صبيانيَّة أَثَّرَ في الهمجيِّ فأبقى له هذا الهمجيُّ حياتَه، وبذلك يكون ذلك الوجهُ الغريبُ قد ختَم سلسلة أباطرة الرومان، وتَغْدُو إيطالية مستعمرةً جِرْمانية.
ومع ذلك لم يكن الفاتحُ، بل عدوُّه المقهور في رافِن، تِيُودُورِيكُ الأُسْتروُغوتي، هو الذي أصبح مؤسسًا لدولة البحر المتوسط الجرمانية التي كان يَحْلُم بها جميع الغُزَاة من البرابرة، التي كان يَحْلُم بها جِنْسِرِيكُ بأفريقية وألاريكُ بإيطالية وأَتِّيلا بفرنسة، وتِيُودُورِيكُ هذا وحدَه هو الذي وُفِّقَ لوقتٍ قصير أن يَحْمِل الجِرْمانَ الآخرين على الاعتراف بمملكته، وقد عَرَف في الوقت نفسه، وبفضل أسطوله، أن يَحُول دون عَمَل بِزَنطة. وقد حافظ هذا الجِرْمانيُّ، الذي دام سلطانه أكثرَ من ثلاثين سنة، مع شيء من الغموض، على سيادته في إيطالية وإسبانية وجَنوب فرنسة وفي رِتْيَة ودَلْماسْية، وقد كان مدينًا لثَقافته الرومانية بنجاحه حيث أَخْفَق أسلافُه في القرن الرابع والقرن الخامس. والواقعُ أن هذا المقاتِل الجِرْمانيَّ تَعَلَّم كثيرًا حينما كان رَهِينًا في القسطنطينية، ويَجْمَع آثارَ الفنِّ اللاتينيِّ ويُعْنَى بالأدب اللاتينيِّ، وما أقامه من كنائسَ وما شاده من ضريحٍ له في رافِن يَنِمُّ على روح رجلٍ من الشمال صار «رومانيًّا»، ويعترف بإمبراطور القسطنطينية مَوْلًى له رسميًّا ويُفَوِّض إدارة شئونه إلى رومانيٍّ حقيقيٍّ.
ويبدو الرجلُ الذي عَقَبه كأقوى ملكٍ للبحر المتوسط، لا كملكٍ للقوط، بِزنطيًّا فينتصب ضِدَّ الجرمان مرةً أخرى، ويعْرِف أن يُلَطِّف ضغطهم في أثناء عهده الساطع الذي دام نحو أربعين عامًا، ويبدو ابنًا حقيقيًّا للبحر المتوسط، ويردع بحزمٍ مهاجري ممالك الأسْترُوغوت واللُّنْبار، ومع ذلك فإنه لم يكن لاتينيًّا ولا إغريقيًّا، وإنما كان إيلِّيرِيًّا ترَاكِيًّا؛ أي ألبانيًّا وَفْقَ تسميةِ الوقت الحاضر، ويُخْتَارُ جُوسْتِينيانُ (٥٢٧–٥٦٥) من قِبَل دانْتِي رمزًا للإمبراطورية الرومانية أكثر من اختياره قيصرَ أو أغسطس. ويُحتمل أن هذا كان؛ لأنه جَمَع بين الإمبراطورية والكنيسة، أو لأنه سَمَّى القانونَ «سلطانًا مُنَزَّهًا عن الخطأ» فوَضَع نفسه تحت سلطانه، أو لأنه كان آخِرَ مَنْ أَمسكَ المجموعَ ملتحمًا. أَجَلْ، إنه عَرَف بعد قرنين من قسطنطين أن يُمْسِكَ البحر المتوسط مُوَحَّدًا ضِمْنَ الإيمان النصرانيِّ، الذي ثَبَتت أصوله في هذه الفاصلة، بأسهلَ مما عَرَف قسطنطينُ هذا، غير أنه كان مثلَ سَلَفه وَلُوعًا بالسلطان قبل كلِّ شيء. أَجَلْ، كان يَعُدُّ نفسه حَبْرًا إمبراطوريًّا ومُبَشِّرًا عَمَّدَ أمراءَ الهياطلة وأُممًا وثنيةً أخرى في القسطنطينية، غير أنه كان يَتَصَرَّف في الأمور تَصَرُّفَ طاغيةٍ رومانيٍّ، لا كنصرانيٍّ مؤمن، وهو لم يرغب أن يكون سلطانُه على قلوب رعاياه، بل على شواطئ البحر المتوسط. وكان الجيش والأسطول غايتَه، وكان الإنجيلُ واسطتَه، وكان القانونُ قوةً بين الحَدَّيْن، وبالقانون كان يسعى أن يجمع بين رِسالَتَيْه.
وكان ابنًا لوالديْن من فَلَّاحي إيلِّيرْية، ولكنه كان ابنًا لأخ ضابطٍ كبيرٍ بِزَنطيٍّ فيُرَبَّى في الجيش ويحافظ في جميع حياته على صفات الجنديِّ والفَلَّاح. وكان يريد أن يصنع كلَّ شيء بنفسه، كأنْ يضع تصميمًا لبرجٍ جديد، وكأن يَدْعَك بيديه نسيجًا جديدًا ليقابل بينه وبين نسيجٍ حريريٍّ من الصين، وكأن يُجَرِّب مركبًا حربيًّا خفيفًا أو مركبًا حربيًّا يَجْرِي بالمجاديف أو سَرْجًا من طِرَازٍ حديث. وكان الأغارقةُ يُلَقِّبونه ﺑ «العاهل الذي لا ينام أبدًا». وكان مستبدًّا بفطرته، فنَظَّمَ بمراسيمه جميعَ أعمال رعاياه من العِمادِ حتى التوبةِ النَّصُوح، وإلَّا عَرَّض أبناءُ الوطن حقوقَهم وأموالهم للضَّيَاع. وقد أعاد للإمبراطورية فَخَامَتَها مُفْرِطًا على الطريقة الشرقية مع محافظته على بساطة زاهدٍ شخصيًّا، وقد كان سَمْحًا أنيسًا، وقد كان في الوقت نفسه مُعْجَبًا بصفاته، وقد كان عازمًا عَزْمًا قاطعًا على أن يكون خيرَ الناس؛ أي عادلًا.
وما كان عليه جُوسْتِينيان من كَلَفٍ بالعدلِ يُعَدُّ من حِيَل الطبيعة لتسكين نشاط هذا الطاغية الذهنيِّ، ولما أصبح نابليون قنصلَ فرنسة الأول سَنَّ قانونَه المدنيَّ من فَوْره، وقُلْ مثل هذا عن جُوسْتِينيان الذي نشر قانونه مُعَبِّرًا عن سلطانه، ولم يبقَ من عهده الطويل غيرُ قانون جُوستينيان الذي تَمَّ وضعُه بعد جلوسه على العرش بعامين، فَزِيدَ بعد ذلك. ولم يكن نظامُه الاستبداديُّ محتاجًا إلى قانونٍ ليُمارَس؛ ولذا أبصرَ عن ضرورةٍ داخليةٍ عميقة تأليفَ لجنةٍ يُعْهَدُ إليها في وضع مُدَوَّنةِ جُوسْتينيان؛ أي متنِ قانونه، وقد أُنْجِزَت هذه المجموعة الأولى بأسرع مما أُنْجِزَ به قانون نابوليون؛ أي في أربعةَ عشرَ شهرًا، واليومَ يقضي التلميذ المُجِدُّ وقتًا كبيرًا ليتعلم ما تحويه من مبادئ أساسيةٍ ويُتَّخَذُ هذا القانونُ الذي هو مَتْنٌ أساسًا للقانون الغربيِّ حتى أيامِنا.
والحقُّ أن جُوسْتينيان قد انتفع بميراث رائع، انتفع بتراثِ عشرة قرون، والحقُّ أن مبادئ القانون الرومانيِّ تَرْجِع إلى ألواح المملكة الأولى الاثني عشر، وكلُّ شيءٍ في قانون جُوسْتينيان منطقيٌّ وعمليٌّ معًا، على حينِ ترى القانونَ الجِرْمانيَّ قد فَسَّحَ فيما بعد مجالًا للمشاعر الشخصية والعوامل الفردية أكثر مما لغيرهما فصَعُبَ على الأمم الأجنبية أن تنتحله لهذا السبب، ويُعَدُّ كِلا المِنْهاجين القانونيين مرآةً لوضوح الروح اللاتينية وغموض الروح الجِرْمانية. وكان ترِيبُونْيانُ المشهورُ الذي عَيَّنَه جُوسْتينيان رئيسًا للَجْنة وضع قانونه فيلسوفًا، ولكنه كان أيضًا رجلًا مُتَحَرِّزًا غيرَ غافلٍ عن مصلحته الخاصة، وما كان عليه من بَرَاعةٍ في التنظيم يَنِمُّ عليه رأيُه في النشر القادم لمجموعة الأحكام والفتاوى المعروفة ﺑ «الدِّيجِسْت» وﺑ «البانْدِكت»، يَنِمُّ عليه حسابُه، كوكيل النشر الأمريكيِّ، في تكثيف ألفي كتابٍ في خمسين كتابًا وفي تكثيف ثلاثة ملايين سطرٍ في مائةٍ وخمسين ألف سطر، وإذا ما أُريد إبرازُ أخلاق هذا الإمبراطور بالبحث في قوانينه وُجِد في إِعلانه مساواة الغنيِّ والفقير أمام القانون مساواةً تامَّة مع أنه كان يوجد فرقٌ بَيِّنٌ بَيْنَ فريقَي أبناء الوطن هذين، ومن الممكن إظهارُ حِلْمِه البعيد من الخُلُق الرومانيِّ بتسامحه الإنسانيِّ وبما قَيَّدَ به حقوقَ الأب فكان على النقيض من مبادئ الشريعة اليهودية.
ويظلُّ قطبُ الدولة المشترعُ يَقِظًا في شخص جُوسْتِينْيَان على الدوام، ومن ذلك أَنْ كان يوجدُ شَغَبٌ بين فريق «الزُّرْق» وفريق «الخُضْرِ» في ميدان السِّباق، فهو، مع فرضه عقوبةً عن حبٍّ للعدل، قد حال دون اتحاد هذين الحزبين ضده، واتحادٌ مثل هذا كان موجودًا في السنة الأولى من عهده مع ذلك. وقد اعتقد الإمبراطورُ ضَيَاعَه، وذلك أن سار الحزبان المتحدان إلى قصره الذي خَرَّبوه مع الهُتَاف: «كُنْ غالبًا!» ويا للعظمة في هذا النداء الثَّوْرِيِّ! وهو لم يَسْبِق أن صُرِخَ به في وجه مليكٍ من قِبَل الجماهير، والواقع أنه لم يكن هنالك حَرْبٌ، وليس هذا الصُّرَاخ غيرَ ترديدٍ لاستفزازِ جنود الرومان الاستهزائيِّ في وجه يَسُوعَ حين كانوا يدعونه وهو على الصليب إلى إنقاذ نفسه إذا كان ابنًا للرَّبِّ حقًّا.
وكان جُوسْتِينْيَان مدينًا بسلامته في ذلك اليوم لامرأته تِيُودُورَا التي لم يَعْرِفها إلَّا في الأربعين، وهي التي نراها في فُسَيْفِساء رافِن جالسةً على العرشِ كمَلِكَةٍ عُلْوِيَّة، وقد كانت ابنةَ مَلْعَب، وقد كانت ابنةً لعارِض دِبَبَة ولعاهِرَةٍ، وتدخلُ فِرْقَةَ رقصٍ إيمائيٍّ قبل الأوان، ثم تَقِفُ نظر الإمبراطور في ملعبٍ، وتعود إلى هذا الملعب بعد سنينَ كثيرةٍ لابسةً تاجًا من ذهبٍ مَلِكَةً لإمبراطورية عالَمية. ومن الشعب خرجت بناتٌ كثيرٌ قبلها وبعدها متخذاتٌ مثلَ حِرْفتها في القسطنطينية، ولكن تيُودورا كانت على العكس من النساء اللائي هُنَّ من طرازها فمثَّلَتهنَّ مِسَّالين؛ وذلك لأن تِيُودُورا عَرَفت أن تستفيد من نصيبها.
وتوصي تِيُودُورا زوجَها بأن يكون رابطَ الجَأْش في ساعة الذُّعر وحين محاصرة الجُمهور للقصر، ويكونُ لها وقتٌ بذلك فتنقذ العرش بأمرها قائدها الخاصَّ أن ينحاز إلى حزب «الزُّرق» ضدَّ حزب «الخُضْر»، وأهمُّ من قائمةِ عُشَّاق تِيُودورا ما كان من حُبِّ جُوسْتِينْيَانَ العظيمِ لها وتكريمهِ إياها ما دامت حَيَّةً؛ أي مدةَ عشرين سنة، فلما ماتت حَدَّ من أجلها حتى وفاته.
وتَخِيبُ الثورةُ فيُقْضَى على جميع حقوق الشعب، وما فُطِرَ عليه البِزَنطيون من طبعٍ حادٍّ، أثبتوا به أنهم وارثو الأَثنِيين في معارضتهم المتأصلة، تَجَلَّى فيما قاموا به من فِتَنٍ مستمرة في غُضُون القرون القادمة. ولم يقع في عهد جُوسْتينيانَ من الفِتَن بعد ذلك ما يَقْمَعُه، فلَمَّا وَطَدَ نظامُه الاستبداديُّ صار من الممكن أن يبدأ بحروبه ليُوَحِّد الإمبراطورية، أن يبدأ بتلك الحروب التي دامت عشرين عامًا. وكان الأسطولُ سلاحَه الرئيسَ، وهو إذ لم يكن جنرالًا ولا أميرالًا فقد فَوَّض أمرَ أسطوله إلى رجلٍ قَوَّامٍ به كما كان أغسطس قد صنع، وكان قائدُه بِلْزِيِر من سرعة الحركة مثل أَغْرِيبا منذ ستمائة سنة فقَهَر ملكَ أفْرِيقية، وقد أراد أن يكون تناسقٌ بين سُفُن الأسطول فأمر بصَبْغ جميع الأشرعة باللون الأحمر، ويَدْخُل قَرْطاجة فتزول إمبراطوريةٌ جِرْمانيةٌ قديمةٌ من البحر المتوسط كما يزول آخِرُ ملك وَنْدالِيٍّ، ويكون هذا إنقاذًا حقيقيًّا.
وأصعبُ من ذلك بدرجاتٍ أن يَغْلِبَ القُوطَ في إيطالية وإسبانية، ولم يَتِمَّ نصره إلَّا بعد حروب دامت عشرين عامًا وبفضل تَفَوُّقِه في المِلَاحة، وتغدو رومةُ مَسْرَحًا لاعتراك القوط والبِزَنطيين في تلك الحروب الطويلة، وتُحَاصَرُ رومة ثم تُحَرَّر ثم يُعاد فتحها إلى أن دخل أحدُ قُوَّاد العاصمةِ الجديدة، نَرْسِيسُ، تلك العاصمةَ القديمةَ التي عَرَف كيف يحترمها.
وتَحِيقُ كارثةٌ كبيرة بالرومان الذين كانوا مع أشرافهم وأعضاء سِنَاتهم يُحِبُّون أن يَرْسمُوا سلسلة نسبهم إلى رُومُولُوس، فقد جُعِلَتْ من إيطالية ولايةٌ بِزَنطية وجُعِلَتْ من رومة عاصمةٌ لهذه الولاية، فتكون بذلك تابعةً للإغريق، وبذلك يكون العالَم اليونانيُّ قد انتقم من اللاتين انتقامًا عظيمًا، وذلك بعد خمسة قرون من الزمن الذي حَوَّل أغسطسُ فيه بلادَ اليونان إلى ولاية.
ولم يَمْضِ زمنٌ قصيرٌ حتى قُضِيَ على آخر أثر جِرْمانيٍّ في البحر المتوسط، وكانت الإمبراطورية الرومانية تنهض ثانيةً حين سقوط عاصمتها القديمة، ومع ذلك فإن رمزَها الذي كان دائرةً مركزُها رومة حتى ذلك الحين يتحول إلى شكلٍ إهْلِيلجيٍّ ذي مُحْتَرقين.
ويلوح أن البحر المتوسط، الذي كان مقسومًا إلى نصفٍ غربيٍّ ونصفٍ شرقيٍّ فاتَّحد مدةَ خمسة قرون، قد قُسِّمَ مُجَدَّدًا، ويظهر أن الدردنيلَ وجبلَ طارقٍ؛ أي المَضِيقَيْن اللذين حَرَّراه من الحواجز جاعليْن منه بحرًا داخليًّا، يغدُوان تابعيْن لشعبيْن مختلفيْن وحضارتيْن متباينتيْن. وما وُفِّق له جوستينيان في الغرب بدا متعذرًا في الشرق تقريبًا، فهو قد عاد غيرَ قويٍّ في الشرق لمقاتلته ملوكَ الجِرْمان المُحْتَلِّين للقسم الغربيِّ من البحر المتوسط، وصار لا مناص له من الإذعان منتصرًا على فريقٍ من البرابرة متسامحًا تِجاه فريقٍ آخر منهم، ويُدْفَعُ وَفْقَ المعنى الحرفيِّ؛ أي يُضْطَرُّ جوستينيان إلى إعطاء الفُرْس جزيةً، ويَدْنُو الخطر من القسطنطينية كلما قضت الضرورة بأن يُبْعِد جوستينيان منها كتائبَه، ويُهَدِّد الهياطلةُ والصقالبة عاصمتَه حَوالَي سنة ٥٥٩ على حين يَزْحَف شعبُ البُلْغار الفَتِيُّ متوجهًا إلى كُورنث، ويَبْرُز الصربُ والكرْواتُ على مسرح التاريخ للمرة الأولى مُتَدَفِّقِين على طول حدود الإمبراطورية من الشمال، وتُكَلِّف هذه الحرب التي دامت عشرين سنة ثمنًا غاليًا من الأرواح والأموال، ويُنْفِق الإمبراطور فيها ملايين الذهب التي كان قد وَرِثها.
ويُنْشِئ جُوسْتِينْيَانُ في كلِّ مكان طُرُقًا وقَنَواتٍ وحَمَّاماتٍ عامةً وأديارًا ومكتباتٍ، ويُشْعَرُ بأنه أنجز هذه المشاريعَ عن عِلْمٍ وحماسةٍ أكثر مما أبداه في حروبه، وتَصِفُه التواريخ منهمكًا في تربية دُود الخَزِّ بما تُحَرَّرُ به أُبَّهةُ بِزَنطة من الصين للمرة الأولى، ويجد حارس العدل هذا أن من الطبيعيِّ أن يَسْرِق بِزْرَ حريرٍ من الصين بواسطة راهبَيْن فيُؤتَى به في عِصِيٍّ مُجَوَّفة، وإن شئت فقُل إنه كان يُقَدِّر أن من الجائز أن يخادع قِسِّيسٌ خادمٌ للقوة والمال قِسِّيسًا آخر.
«لقد فُقْتُ سليمانَ!» هذا ما قاله جُوسْتينيان صارخًا عندما فَرَغَ من بناءِ كنيسة أيا صوفية وقصره الخاص، وقد ضاعف جُهْدَه نتيجةً لاحتراق المباني في أثناء الثورة، وقد مضت خمسُ سنين فقامت الكنيسةُ الجديدة، التي شِيدَت بموادَّ غيرِ قابلةٍ للاحتراق أُتِيَ بها من كلِّ مكان، أعظمَ اتساعًا وأكثرَ جمالًا من الكنيسة القديمة، ووجب على أعمدة معبد أَفَسُوس أن تَحْمِل القُبَّة التي رُفِعَت تمجيدًا ليسوع، وأَمر بتحويل كُرَةِ الرُّخام الكبيرة الخاصَّة بأَفْرُوديت فَرْغَامُسَ إلى جُرْنِ ماءٍ مُقَدَّس. ومن الجَلِيِّ أن هذا الوَلَع بالبناء، الذي حَفَزَ كثيرًا من الطُّغاة في جميع الأدوار، ضَرْبٌ من وسائل الصِّيت مصدرُه شعورُهم بأن الدول تنهار بأسهلَ من انهيار القصور.
ومن ينظر إلى هذا العمل من بُعْدٍ يَجِدْه همجيًّا كانتهاب رومة من قِبَل القوط، ويصعب تسويغه ما استندت الكنيسة في ذلك الحين إلى أرسطو الذي صار في القرون الوسطى قِدِّيسَ علم اللَّاهوت، وعن تَبَنِّي أرسطو هذا يقول أُغُسْتَن كلمته الرائعة: «علينا أن نَصْنَع كما فعل العِبْريون حين خروجهم من مصر حيث تركوا أصنامًا، ولكن مع جلبهم فضةً وذهبًا، وذلك بأن نستخرج كنوزًا من كُتب الوثنيين.» وعن اعترافات القديس أُغُسْتَن؛ أي عن كتابه الذي هو أشهرُ كُتب القرون الوسطى، كان النصارى يقولون: «كان يبدو كما لو كتبه سقراط.» وفي الغالب يظهر الأساقفةُ والبابواتُ، حين يُدْخلون الإصلاحاتِ شيئًا فشيئًا، يَظْهَرون أكثرَ حكمةً من إمبراطورٍ مثلِ جُوسْتِينيَان الذي زعم تأسيسَه دينًا للدولة بمرسومٍ بسيط، وهو لم يُوَفَّق في ذلك كعدم توفيق كلِّ ملكٍ في مثل ذلك، وما كان يمكن تحقيقُ قيامِ دينٍ للدولة مثلِ ذلك الدين في الإمبراطورية الرومانية، ففي القرن الخامس كانت تمارِسُ الوثنيةَ بلادٌ بأَسْرِها في شمال أفريقية، وقُلْ مثلَ ذلك ما كان بإسبانية ولا كُونْيَة في القرن التاسع، وهكذا كان يتعذر تداخلُ العالَمَيْن بغير الإدغام، وهذا لم يكن بغير قَسْرٍ وجَوْر، ومما يُرْوَى أن أُسقفًا بأفريقية قد أكره سبعين ألف شخص على المعمودية في بضعة أشهر، ومن جهة أخرى استعار النصارى أنفسُهم بعضَ العادات من الوثنيين كالإيواء وكالقبول في صفِّ الإكليروس وكذخائر القديسين وإدراج طوباويٍّ في عِدَادهم، أَوَلَمْ يُؤَلَّهْ قيصرُ من قِبَل فِرْجِيل فيُسَمَّى «سُوتِر»؛ أي «المُنْقِذ»؟ أولم يَجْعَل أدريانُ في بضع سنين أَنْتِينُوسَ الذي غَرِق في النيل إلهًا معترفًا به في الإمبراطورية؛ لأنه كان وسيمًا عزيزًا على الإمبراطور؟ وقد أُعْلِن أن قسطنطينَ قِدِّيسٌ، وكان يمكن جُوسْتينيانَ أن يأمُل مثلَ ذلك.
ولم يصدر الخطرُ الذي كان يَهُزُّ النصرانيةَ منذ القرن الرابع بلا انقطاع عن الوثنية مع آلهتها القديمة التي كان يَرْجُو خيالِيٌّ مثلُ جوليانَ إحياءَها ذات حين، بل كان صادرًا عن تعدد المذاهب وعن حَسَدها المشترك للإمبراطور.
وكان الكرسيُّ الأسقفيُّ يَرْمُز إلى ارتباط أَساقفة رومة بقيصر وإلى أنهم نالوا سلطانهم منه كما نالوه من الرُّسل، وكَرَاسٍ رُخاميةٌ مثلُ ذلك، كما لا يَزَال يُرَى مثلُها في سان غرِيغُورْيُو، كانت تُصَوَّرُ عَرْشًا زمنيًّا مُوَزِّعًا لحقِّ السلطة، لا للحُبِّ والخضوع.
أَوَلم يكن أحد الأساقفة جابيَ ضرائبَ ومُوَزِّعَ وظائفَ معًا؟ وكانت مطاليبُه تَهَب له سلطانًا، وقد صِيغَ هذا السلطانُ بانتقال الملوك وبقاءِ يسوع، وقد زَعَم أُسقفُ رومة أنه ممثل الروح والإيمان وأنه فوق الأمم، وكانت رومة حيث وُجِدَ القياصرة والرُّسُل، وهكذا كانت رومة العاصمةُ لولاية ضعيفة، والمُعَبَّدَةُ أيضًا، تَصْبُو إلى السُّمُوِّ فوقَ المدينة الإمبراطورية بِزَنْطَة، ولما أراد سان أَنْبوازُ المِيلَانِيُّ معاقبةَ الإمبراطور ثِيُودوز لمَذْبحةٍ أَمَرَ بها ورَضِيَ الإمبراطورُ بهذا العِقَاب بَدَأت صفحةُ تاريخٍ جديدة.
ولكن القانون الذي وضع أُسَسَه يَبْقَى فوق كلِّ شيء، وما كان من ضعفٍ غريب في الرجل قائمٍ على توزيع جاهٍ بين القُوَّاد أكثرَ من توزيعه بين محسني البشرية وُجِدَ في كلِّ نشاط اجتماعيٍّ له خلا نشاطَ المشترع فيه، ويلوح أن المعنى القانونيَّ متأصلٌ في الرجل بأعمقَ من تأَصُّلِ الثَّقافة والدِّيانة؛ وذلك لوجود كثير من الفلاسفة والأديان؛ ولأنه لا يوجد سوى عدلٍ واحد يُجْمِع على مبادئه جميع الأمم تقريبًا … وقد أقام جُوسْتينيان مبادئه بأثبتَ وأنمى وأوسعَ مما صَنَع سولون ولِيكُوْرغ ونابليون، وما أوجبه قانون جُوسْتينيان من السَّلَام والسعادة بين الآدميين مدةَ خمسةَ عشرَ قرنًا أكثرُ مما جاء به أي دين كان؛ وذلك لأنك لا تجد مَنْ ناهَضَ ذلك القانون حتى سنة ١٩٣٣؛ ولذا يُعَدُّ جُوسْتِينْيَان من عظماء الإنسانية ضمن هذا المعنى.
١٥
تُشْرِف نوافذ القصر الجديد، الذي شاده جُوسْتِينْيَان على القرن الذهبيِّ، على قبةٍ ذاتِ بياض لامع فتَسْطَع أمام عيني الإمبراطور كما تَسْطَع أمام عيون خلفائه فيما بعد، وجُوسْتينيانُ هو الذي بنى هذه الكنيسة، وجُوسْتينيانُ هو الذي أهداها إلى الحكمة، إلى صوفية كما في اليونانية، ولا ريب في أن المنظر قد أُفسِد بكثيرٍ من المباني التي أُقيمت حولها، وذلك لعدم قيام أيا صوفية على مكانٍ مرتفع أو طليق ككنيسة كولونية، وَتَسْتُر أسوارٌ عالية خارجية وطائفةٌ من القِبَاب المنخفضة الناشبةِ بها كالطفيليات نصفَ الميدان المَرْئيِّ، ولم تكن المآذن الأربعُ الرائعة التي نُعْجَب بها اليوم موجودةً في ذلك الحين.
ويَسْطَع جمال الكنيسة من الداخل، وتبدو القبةُ رَصَفَةً عظيمةً مسيطرةً على جميع من ضُغِطُوا بتقسيماتِ أروعِ الكَتِدْرَائيات، ومن العَبَث أن يُبْحَث في مكانٍ آخرَ عن أثرٍ له ما لتلك الكنيسة من ارتفاع واتساع مع سقف خفيف، ولا يزال عدم الصُّوَر، كما كان شائعًا بين نصارى ذلك الزمن إلى حَدٍّ ما، يُلْقي في الرُّوع طابعَ الوحدة في القبة، ويَبْلُغ الصَّحْنُ البيضيُّ الواسعُ الطويلُ مائةً وعشرين قدمًا والعريضُ مائةَ قدمٍ، من الارتفاع مائةً وثمانين قدمًا إلى ذُروةِ القُبة، حتى إن كنيسةَ القديس بطرس في رومة البالغةَ من العرض والارتفاع والعلوِّ ضِعفي ذلك لا تشتمل على صحنٍ له مثلُ ذلك الاتساع، ويَقِفُ النظرَ فيها صَفَّان أو أربعةُ صفوفٍ من أنصافِ الجُدُر كما في جميع الكنائس الأخرى، وليست أيا صوفية أثرًا فَنِّيًّا فريدًا بمئات الأعمدة المصنوعة من الرُّخام الأخضر ولا بفَيْضِ الأقواس وتيجان الأعمدة الرُّخامية ولا بالرِّتاج ذي الأبواب التسعة، ولا بالطِّيقان المزدوجة، ولا بالرُّوَاق الرائع الخاصِّ بالنساء، ولا بالفُسَيْفِساء الرُّخامية والصَّدَفية والذهبية، فجميع هذه الأشياء موجودةٌ في الغرب أيضًا، وإنما تستحقُّ هذه الكنيسة اسمَ «الحكمة العليا» بقُبَّتها الطليقة وحدَها، ويدخلها النور من أربعين نافذةً، فإذا ما ارتفع البصر إلى ضياء تلك النقطة من الفضاء الواسع الذي لا يُقَاس وَجَدَ في الوسط شمسًا. وتَرَى من الحمَام مائةً تجوب الفضاء طائرةً إِلى جهة العَرْض، ولا ريب في أن جُوسْتينيان هو الذي أطلق أجدادَها، ويَجِدُّ بعضها في أَثَر بعضٍ ساجعًا تحت تلك الشمس، وتَرْخُم في نواحٍ خفية، وتموت وتَكْثُر من غير أن يُطْعِمَها أو يُعْنَى بها أحدٌ، ويتألف من تصفيق أجنحتها في ذلك المكان ضربٌ من الموسقى التي ترتفع صامتةً.
وكان جُوسْتينيانُ أولَ مَن جعل من القسطنطينية عاصمةً للبحر المتوسط؛ أي للعالَم الغربيِّ، وقد ظلَّت هذه المدينةُ تابعةً قبل الميلاد بثلاثة قرون وبعده بثلاثة قرون، أَجَلْ، إنها كَبُرت بعد تأسيسها الثاني، غير أنها ما انْفَكَّت تُكْسَف من قِبَل رومة وأنطاكية والإسكندرية، وثِيُودُوزُ الثاني هو الذي بَنَىَ سورَها المستدير العظيم المشتملَ على مائة برج، واليوم نستريح تحت أشجار السَّرْوِ بين أطلاله كما لو كنا في حديقة خَرِبة. وإذا عَدَوْت الحروبَ الصليبية لم تَجِدْ باغيًا استطاع أن يقتحم تلك الأبراجَ المرتفعة على صفوفٍ بسيطة من ناحية البحر وعلى صفوفٍ ثُلَاثِيَّة من ناحية البرِّ، وقد حاول الفُرْس والهياطلة والبلغار أخذَها عَنْوَةً فلم يُوَفَّقُوا، وهكذا استطاعت القسطنطينية أن تظلَّ باقيةً أحدَ عشرَ قرنًا؛ أي من سنة ٣٠٠ حتى سنة ١٤٥٣؛ أي إلى حين وصول التُّرْك؛ أي مدةً أطولَ مما اتفق لأية دولةٍ من دول البحر المتوسط خلا مصرَ البَرِّيَّةَ. وتُذَكِّرُ بِزَنطةُ، التي كانت تسيطر على إيطالية وإسبانية وأفْرِيقية الشمالية وفلسطين وآسية الصغرى والبلقان حتى نهرِ الدانوب، بإمبراطورية الإسكندر أكثرَ من أن تُذَكِّرَ بإمبراطورية قيصر، والواقع أن الإمبراطورية البزنطية كانت إمبراطوريةً إغريقية، وأن بعض علمائها عُرِف ضمن نبوءة هيرودوتس المشهورة لا ريب، ومع ذلك فإن قسطنطين الذي هو أحد عاهليْها العظيميْن كان لا يتكلم اللغة اليونانيةَ وإن العاهل العظيم الآخر جُوسْتينيانَ كان لا يتكلمها إلَّا بلهجة رديئة، ويمكن قياس هذه النقيصة بما نَجِدُه أحيانًا لدى الفاتحين الذين حَقَّقُوا خيالهم، وتبدو هذه النقيصة هَزْليةً كلهجة نابليون الفرنسية السَّيِّئَة.
وإذا ما نظرت إلى إمبراطورية بزنطة من حيث طبيعتُها الخاصة لم تُبْصِرْ ما هو مشتركٌ بينها وبين إمبراطورية الإسكندر وإمبراطوريةِ قيصر، وهي قد ظَلَّت وحيدةً في التاريخ لتَقَمُّصِها الطقوسَ في شكلها الأعلى، وليس تاريخُ بِزَنطة من الأساس سوى تاريخِ طقوسٍ ورموزٍ شُعِرَ بها شعورًا عميقًا فتُعَبِّرُ عن القوة والإيمان في نفس الإنسان وأمام الأُمة أيضًا، والفراعنةُ وحدَهم هم الذين أَلَّهُوا الطقوسَ بهذا المقدار، ولكن الفراعنة كانوا أبسطَ طويةً فينادون بأنفسهم آلهةً ويَتَلَهَّوْن أحيانًا ببساطة قلوب الشعب لا ريب، وعلى العكس كان أباطرةُ بِزَنطة يَعُدُّون أنفسهم ممثلين ليسوعَ دومًا.
وكتب شاهدُ عِيَانٍ يقول عن مَجْمَع نيقية الدينيِّ: «كان يمكن المرءَ أن يرى أمامه صورةً عن مملكة يسوعَ الإلهية، ولم يَبْدُ هذا حقيقةً، بل كان حُلُمًا رائعًا.» وبهذا يُفَسَّرُ سببُ كون الأبدان في الفَنِّ البِزَنطيِّ مستورةً تمامًا على بعض الفسيفساء، حتى إن أرجل الأباطرة وأزواجِهم كانت مغطاةً بالديباج فلا تُرَى، وكانت تُغَطِّي رءوسَهم بَرَانسُ كبيرةٌ بدلًا من التيجان المكشوفة، وكان لا يبدو من تلك الوجوه المتكرشة غيرُ قسمٍ قليل، وكانوا من الدُّنُوِّ من يسوعَ الجالس على العرش فوقهم ما تكاد قدماه تَمَسَّان معه صدورَهم، وهكذا تُبْصَرُ الحركةُ والعُرْية والجانِبِيَّة مجهولةً في الفنِّ البِزَنطيِّ، ويوجد على تصاويرَ صغيرةٍ وزراءُ جالسون على نوعٍ من العَرْش لابسون ديباجًا رائعًا مزخرفًا برءوسِ أُسودٍ، وينظر هؤلاء إلى كتاب القُدَّاس الذي يُقَدِّمه إليهم صبيٌّ من الجَوْقَة مملوئين عُنْجُهِيَّةً. وفي ذلك العهد، وفي الشمال، تبصر الإمبراطورَ الآخر، تبصر هنري الثاني الألمانيَّ، قد صُوِّرَ هو وزوجُه على رافدةٍ وراءَ مذبحٍ في بالَ فيبدوان من التَّحَدُّب والصِّغَر ما تظهر رِجْلُ يسوعَ معه أكبرَ من كلٍّ من الوجهين، ويَلْبَس كلٌّ منهما تاجًا على رأسه مع ذلك.
وكان يُعْرَب عن زَعْمِ الإمبراطورية النصرانية الأولى بالعِزَّة التي لا تكون إلَّا بقوة التقاليد المتأصلة، وكان الإمبراطورُ الرَّصين، حينما يقوم بصلوات المساء، يَتَنَوَّر بروحه صورةَ ألوف الجنود على الدانوب والنيل والفرات وهم يُعَلِّقون شُمُوعًا على رءوس حِرَابهم قبل المعركة ويُشْعِلُونها منشدين عَيْنَ النشيدِ النمطيِّ الذي يُنْشِده في رُوَاق قصره في الوقت نفسه، وتزيد عبادة الشكل شيئًا فشيئًا، وتبلغ شهرة هذا البَلاطِ الفَخْم ما وراء البحر، ويَقَع ما لا يُصَدَّق، يَحْدُث خضوعُ قبيلةٍ روسية للبزنطيين؛ لأن الإمبراطور أكرم سفراءَ هذه القبيلة بأن أقام لهم قُدَّاسًا احتفاليًّا ذا تلحين في أيا صوفية، وكان كتاب الطقوس ينصُّ على قتل كلِّ مَنْ يُسْقِطُ طبقًا في وليمةٍ بالبَلاط، وعلى ذهاب بَصَرِ مَنْ يكون شاهدَ هذه الحماقة.
وكان منظرُ عظمة العاهل يتطلب حُضَّارًا، وكان أحسنُ الفُرَصِ لذلك يَتَجَلَّى في حَفَلات التتويج ومواكب النصر، وكانت هذه المظاهر تدوم عِدَّةَ أسابيعَ فيُرْسِلُ مُفَوَّضو البلدان الأجنبية تقاريرَ إعجابٍ إلى أوطانهم، ولم يكن الثراءُ والأُبَّهَةُ وحدَهما هما اللذان يثيران العجب، بل كان يثيره وَقار الأطوار أيضًا، أي هذا الأمرُ الذي لم يَبْلُغ من العظمة عند أمةٍ بلوغَه عند هؤلاء القوم. وفي بِزَنطة استُبْدِل شُخُوصُ الإمبراطور بما كان يقع من تأليهٍ في طيبةَ القديمة، حيث كان الفراعنةُ يجوبون الشوارع حاملين سِمَاتِ الإلهيْن: النيل والشمس، وبحماقاتِ سُكارَى الانتقام والشَّهَواتِ من القياصرة، ولا شيء في الغرب كان يمكن قياسه بتلك الطقوس خلا ما كان من الرسميات في البَلَاط الإسبانيِّ ومن حَفَلاتِ تتويج الرؤساء في البندقية على ما يُحتمل.
وهل يمكن ملوكًا من الناس أن يحافظوا على صَحْوهم بين مثل ذلك الشَّطَط؟ لقد وَجَدَت بِزَنْطة توازنًا بإقامتها، مع الطقوس الاحتفالية، ملاعبَ يستطيع الشعبُ بها أن يداريَ أهواءه وينهمكَ في ألعابه وأن يشتغل في السياسة ويَتَلَهَّى بالمهازئ كما في آغورا أثينة أو في الملعب الأكبر برومة، وكان الشعب يُعَبِّر عن رغائبه في الولائم والمباريات بالأغاني والهُتَافات، وكان الإمبراطور يَسْمَعُ فيَعْرِفُ بذلك مخادعةَ الوزراء إياه، وكان يُطْلَب إليه، مثلًا، أن يأمر بزيادة المياه في الحَمَّامات العامة وبتنظيف الشوارع من الوَحَل، وكان لفريقٍ من الممثلين والراقصين والفتيات والسَّحَرَة فتنةٌ في قلوب الجمهور، وكان الجُمهور مؤلفًا من عِدَّة عروق؛ وذلك لأن فريقًا من الأَسْرَى كان قد استقرَّ ببِزَنْطة للتجارة فيقع تبادلٌ في اللغات والعادات والسِّلَع بين شَغَب كبير، وللجُمهور أيضًا أن يَتَرَنَّم بأغانٍ حَوْل الإمبراطورة ومغامراتها الغرامية السابقة.
وقد عانت بزَنْطة خمسًا وستين ثورةً في أحدَ عشرَ قرنًا؛ أي فيما بين سنة ٣٠٠ وسنة ١٤٠٠ تقريبًا، وقد قُتِلَ ثلثا الأباطرة اﻟ ١٠٧، ولم تَدُمْ سلطة مُعْظَم البطاركة أكثرَ من سنة، ومع ذلك لم يَثُر الشعب ضدَّ النظام قَطُّ، بل ضدَّ الأفراد، وإِذا عَدَوْت مصرَ وألمانية لم تَجِدْ مملكةً ألفيةً لم تُغَيِّر نظامها، ولم يفكِّر أكثرُ مُحَطِّمي الأصنام تعصبًا في القرن الثامن والعاشر في قلب النظام، ويجب أن يُبْحَثَ عن سِرِّ هذا الاستقرار في ثالوث الطقوس والشعب والجنود الثابت. وإذا استثنيت الأباطرة الأخيرين لم تَرَ من الأباطرة مَنْ أهمل الجيش والبحرية كما كان الفُرْس والقرطاجيون والرومان يصنعون في دور الثَّرَاء وعدم الاكتراث الذي عَقَب الأيام الكبرى، ولم يقع الانحطاط إلا متأخرًا، وقد أنشأ أباطرة بِزَنطة وصانوا في حلبَ (؟) وأَفَسُوس وإزمير أصلحَ مرافئ البحر المتوسط، وما فُتِحَ من أسواقٍ كبيرة في هذه الموانئ كما فُتِحَ في سلانيك كان يتردَّدُ إليه المصريون والهندوس والصينيون والإسكندينافيون والروس كثيرًا.
وقد قام البِزَنطيون بدور الشُّرْطيِّ البحري ضدَّ القراصين في الوقت نفسه، وقد عَدَّ البِزَنطيون في مائة سنة أن أَهَمَّ عملٍ يقومون به هو أن يَنْزِعوا أَقْرِيطش من نَهَّابي البحر هؤلاء. وكان القراصين في القرن التاسع والقرن العاشر يخرجون من حصونهم وموانئهم ومخابئهم في أَقْريطش، وكانت أشرعة سفنهم سُودًا، وكان يُسَيِّر كلَّ واحدة من هذه السفن مئتا أسيرٍ أفريقيٍّ طويل، وفي سنة ٩٦٠ فقط استعدَّ أسطولٌ مؤلف من ألفي سفينة للانطلاق من القرن الذهبيِّ حاملًا تَجْرِيدَةً وآلاتٍ حربيةً ونارًا يونانيةً اخْتُرِعت حديثًا. وكان يوجد على ظهر هذه المراكب أناسٌ من النورمان والروس والأرمن والدانيماركيين، وكان لأشرعة مركب أمير البحر ألوانُ قوْسِ قُزَح، وكانت هذه الأشرعة تنتفخ بفعل الريح، وكانت أعلامٌ من الحرير تَتَمَوَّج مع صور القديسيين وراء المُقَدَّم المُذْهَب.
ويُكْتَبُ الفَوْز لتلك الحملة، وتَنْجَح بِزَنْطة حيث أَخفق الآخرون، وتَسْقُط أَقْريطش التي كانت مأوى القراصين وتزول الأشرعةُ السُّودُ من البحر المتوسط.
١٦
لاح شراعٌ جديد منذ زمن طويل، وجاء هذا الشراع من جزيرة العرب التي لا تَلْمِسُ البحرَ المتوسط، والتي كانت لا تستطيع الوصولَ إليه بالقناة المَرْمُولَةِ في ذلك الحين، فقد خرجت قبائلُ بدويةٌ، لم تجاوز شواطئَ المحيطِ الهنديِّ والبحرِ الأحمر، من الظَّلَام بغتةً لتدخل مسرحَ التاريخ. والعربُ، على خلاف جيرانهم الفنيقيين الذين لم يكونوا غيرَ مَلَّاحين، وعلى خلاف اليهود الذين لم يكونوا مَلَّاحين قَطُّ، بلغوا البحر المتوسط بما تَمَّ لهم من فتوح في البَرِّ، والعربُ قد فتحوا بلادًا ساحلية كبيرة في زمنٍ بالغٍ من القِصَر ما لا يُصَدَّق، ولم تكن الفَتْرة بين ظهور العرب في سورية وفتحهم الإسكندرية غيرَ بضعِ سنين.
ومع ذلك فإن هذا الغزوَ الأجنبيَّ الجديد، الذي يُشْعَرُ بنتائجه في ألف سنة تقريبًا، قد بدأ بمقاصدَ ووسائلَ تختلف عن مقاصد الجرْمان ووسائلهم اختلافًا تامًّا، ويُتَرَدَّدُ في وصف العَرَب بالبرابرة لمساعدتهم على قيام الحضارة في البحر المتوسط مساعدةً مُثْمِرة، وكذلك ليس من المناسب إطلاق كلمة «الكافرين» عليهم ما استعملوا هذا الوصفَ نفسَه تجاه النصارى، وعالَمُ الذهن هو الذي كان يفصل بين الأُمتين، بين العِرقين: غُزَاةِ الشمال وغُزاةِ الجَنوب.
كان كلا الشعبين بدويًّا، غيرَ ذي كلامٍ مكتوبٍ تقريبًا، غريبًا عن تَمَدُّن البحر المتوسط الذي كان يجتذبه، ومع ذلك كان يَظْهرَ من العرب دومًا شعراءُ ورجالُ قَرِيضٍ حماسيون حتى قبل أن يستطيعوا تسجيل شعرهم. وكان العرب يَفِدُون ليقتبسوا طبائعَ جديدةً وليتعلموا أمورَ الذهن، وكان البرابرة، على النقيض، يزدرون هذه وتلك، وفتحَ العرب بلادًا وشادوا ممالكَ، وجَلَب العرب معهم لسانَهم ودينَهم إلى بلاد مجهولة حيث اختلطوا بأهلها، فظهر في التاريخ عنصرٌ منتجٌ إِذَنْ.
ولم يستطع الجِرمانُ غيرَ نشر توحشهم، ولم يَسْطِع الجِرمانُ نشرَ لغتِهم، وقد زالت ممالكُهم بسرعةٍ كالتي أقاموها بها؛ وذلك لأنهم لم يأتوا بشيء جديد من الثَّقافة ولم ينتحلوا شيئًا مفيدًا، وبهذا يُفَسَّر أمرُ ما لا نزال نراه من الآثار العربية التي لا يحصيها عَدٌّ على شواطئ البحر المتوسط الشرقية والجَنوبية والغربية على حين لا ترى أثرًا من أصلٍ جِرْمانيٍّ.
ويولَد محمدٌ بُعَيْدَ موت جُوسْتِينْيَان، وهو يشابه جوستينيانَ أكثر من مشابهته أَلَاريك وجِنْسِرِيك، وكان كجوستينيانَ مفكرًا وجنديًّا وفيلسوفًا وقطبًا سياسيًّا، وكان ذا نفس وَجْدِيةٍ مع ما عليه من حكمةٍ شاملة، ويشابه جُوسْتينيانَ أيضًا في كونه جامعًا لمبادئه الخُلُقية أكثر من أن يكون مُبْدِعًا لها، وتُضِيف تعاليمُه، غيرُ المُنْجَزَة، قليلَ شيء إلى ما استعاره من النصارى واليهود، ويُوَكِّد صلتَه الوثيقة بإبراهيم وموسى وعيسى الذين رأى أن يُدِيم عملَهم، وكانت أفكارُه الجديدة أقلَّ مما لدى عيسى، ولا تَجِدُ في مواعظه ما هو حديثٌ جوهرًا، ولا تتألف نِحْلةٌ من تعاليمه بل أساسٌ لقواعدَ حكيمةٍ حول الحياة العملية.
وإذا ما أَغْضَيْنا عن الشكل مقابلين بين التعاليم الخُلُقية، وجدنا، مع الدَّهَش، أن كلتا الديانتين، الإسلام والنصرانية، متحدةٌ كيانًا تقريبًا؛ ولذا يصعب علينا أن نُدْرِك أمرَ ما كان من حماسة الصليبيين ومن تلاعن الخلفاء والبابوات ومن تنازعهم حتى الموتِ نصرًا لمبادئهم المتماثلة جوهرًا حَوْلَ الألوهية، وما المبادئ الأساسية — «اللهُ واحدٌ، أَحِبَّ قريبَك، ساعِدِ الضعفاء، احتقر الغِنَى، ستُحَاكَم وتُجَازَى في الآخرة» — إلَّا واحدةٌ في كلا الدِّينيْن، حتى إن محبةَ العدوِّ قال بها النبيُّ المجاهدُ كما قال بها النبيُّ المُسَالِم. والواقعُ أن محمدًا ذهب إلى أن أعظم الفضائل في زيارة الرجلِ مَن هَمَزَه، وصَفْحِه عمن سَبَّه، وإلى أن المؤمنين إخوة، وإلى أن العبد مساوٍ للخليفة في الجنة.
حتى إنك تجد في الرواية الإسلامية أبويةً تكاد تكون كاملة، أفلا يشابه عرشُ الخليفة الخَزَفيُّ رمزَ الخُشُوع في النصرانية؟ وهل عيسى أو محمد هو الذي قال: «إذا رَفَعَ الرجلُ بناءً فوق سبعة أَذْرُع نُودِيَ: يا فاسق إلى أين تذهب؟»
أَوَتُوجد كلمةٌ أجدرَ بموسى وعيسى من هذه: «إنما الأعمال بالنِّيَّات»؟
ويمضي ألفا عام على موسى وألفُ عامٍ على أفلاطون وستُّمائة عام على عيسى فلا يأتي محمدٌ بجديد كهذه الصيغة جزالةً، وأقلُّ من ذلك ما أتاه عن الرَّبِّ مبدأً جديدًا.
وفيما ترى أصلَ الثلاثة الآخرين من بلاد البحر المتوسط جاء محمدٌ من البادية، وقد عرف موسى وعيسى الباديةَ أيضًا ما دامت الباديةُ قريبةً من وادي النيل والأردن، وفي البادية تاه موسى زمنًا طويلًا، تاه نحو أربعين عامًا، ومحمدٌ وحدَه هو الذي لم يغادر الباديةَ ولم يَرَ البحر، ومحمدٌ قد عاش في مكةَ خمسين سنة، وبين مكة والمدينة اثنتي عشرةَ سنة تحت شُعاع الصحراء المحرقة، وقد جعله شَفِيفُ الأَمْسِيَةِ الأحمرُ والأصفرُ وجفافُ ذلك الهواء الخالي من الملح أكثرَ منطقًا واعتدالًا من الأنبياء الثلاثة الآخرين.
ويوضحُ ذلك قلَّةَ حسِّ الطبيعة لدى موسى ومحمد وفيضَ الأخيلة التي كان يوحي بها البحرُ إلى أفلاطون وعيسى، وتجد موسى ومحمدًا متماثليْن مزاجًا كرئيسيْن بَدَوِيَّيْن، وذلك من حيث كونُهما عمليين، صائلين، حاكميْن مطلقيْن، زعيميْن، نبييْن، يَحْفِزْهما الغضب والانتقام، وعلى العكس كان أفلاطونُ وعيسى المُخَاطِران بالنفس يُحِبَّان التحذير والإقناع، فكانا أدنى إلى الفلسفة مما إلى النُّبُوَّة.
وتلك الصفاتُ هي رموزُ الأخلاق القومية، والواقعُ أن جواب اليهود والمسلمين عن الحياة كان إيجابيًّا على الدوام، منكرين النُّسْك بشدةٍ إنكارًا واضحًا مادحين الخِصْبَ، وكان كلا النَّبِيَّيْن يعرف النساء، حتى إن موسى عاش مع أجنبية، وكان لمحمد ما طاب من الأزواج، وعلى العكس كان النصارى الأولون والأغارقة المتأخرون يقولون بالزُّهد، فسار نَبِيَّاهم وَفْقَ مذاهبهم، فمن جهةٍ تبصر بحثًا عن الدنيا ومن جهةٍ أخرى تبصر زهدًا في الدنيا، ويجد المؤمنون هنا جنةً معمورةً بالنساء الجميلات، ويجد المؤمنون هنالك جنةً مملوءةً بالأجواق الفخمة.
ويُمَيَّز اليهود والمسلمون من النصارى الأولين والأغارقة المتأخرين، الذين ابتعدوا كثيرًا عن العالم حتى يختصموا، باعتقاد الربَّانيين وسَفْسَطَتِهم مع علماء العرب الذين هم في خصامٍ مستمر حول تفسير الأسفار، ولما قَرَّب الحقد والحبُّ بعضَ أولئك من بعض أَثَّرَ كلٌّ من النصارى والعرب في بعضهما بعضًا مقدارًا فمقدارًا.
ويرجع القرآن إلى التوراة والإنجيل باستمرار على أنهما أثرُ وحيٍ سابقٍ من الله، وليس مما يخالف العقائدَ الإسلاميةَ إذَنْ أن يُقْتَبَس العِرْفانُ من المصادر الأجنبية، ولم يصنع اليهود والنصارى الذين اعتنقوا الإسلام في أوائل القرون الوسطى عن قناعةٍ أو عن منفعةٍ ولم يصنع ألوف العرب الذين صاروا يهودَ أو نصارى، غيرَ تقليد ما فعله الرومان واليونان من تبادلٍ خصيب، وأولئك المسلمون المهتدون هم الذين وَفَّقُوا بين دينهم الصحراويِّ المنفرد وحضاراتِ البحر المتوسط، ومع ذلك فإِن بعض أتباع الأديان الوثيقةِ القُرْبَى قد انقضَّ على بعضٍ في حروب دامية فأدى هذا إلى قتل ملايين من الآدميين باسم الرمز حين كانت القرون الوسطى تُمثِّل حضارةً مُوَحَّدَةً في الغرب.
وقد أثار حادثٌ فاجعٌ هزليٌّ، كُرِّرَ في التاريخ كثيرًا، حقدَ التلميذ النشيط على أستاذه، وذلك أن الراعيَ الفتي محمدًا كان يألَف العَرَّافين وشعراءَ العرب مع الحجارة الساحرة وعبادة الشجر والنار، وأنه استنبط معارفه من أحاديث اليهود المنتشرة في بلاد العرب الغربية أكثر من تعاليم عيسى وزرادشت، من أحاديث اليهود الذين كانت توجد جماعةٌ منهم في المدينة، وأن المبدأ اليهوديَّ القديم قد أوحى إلى ذلك التاجر المكيِّ الذي كان غنيًّا في الأربعين من عمره والذي كان سعيدًا في حياته المنزلية، فكان الإله اليهوديُّ الذي هو قاضي الدنيا ذلك الربَّ الواحدَ الذي قام عنده مقام الأصنام البدوية، ويا للسهولة التي يُحَوَّل بها مثلُ هذا الإلهام إلى وَحْيٍ في الحسِّ النبويِّ الذي اختِير صاحبُه ليَنْقُل إلى العالَم ما تَلَقَّى من رسالة!
وكان ذلك الوحيُ يجعل حديثَ الهداية، المحاطَ بحَلْقةٍ صغيرةٍ من المستمعين، متصلًا اتصالًا وثيقًا باليهود، والحقُّ أن الهجرة لم تكن فِرارًا، بل كانت مُعَدَّةً في سنتين ومُعَجَّلَةً عن تهديدٍ، وهي قد أتت بمحمدٍ إلى يهودِ المدينة الذين سألوه أن يكون حَكَمَهم في خصام مع مَلَاحِدَة، وما كان من ادعاءِ محمدٍ أنه خليفةٌ لموسى أثار سخرية اليهود، لا ريب، كما أوجب حقدًا على الغريب.
ولو رضي يهود المدينة بهذا الرجل المجهول تقريبًا؛ أي بمحمدٍ الذي دَعَوْه إِلى المدينة، رئيسًا سياسيًّا ما عَرَفه التاريخ غيرَ مُنَظِّمٍ نَقَل العرب من الإشراك إِلى اليهودية في القرن السابع، ولكن بما أن اليهود سَخِروا منه ونَبَذُوه فإِنه، وهو تلميذٌ لليهودية، تَحَوَّل إلى أعظمِ لَاسامِيٍّ في التاريخ، ويَسْلُكُ مثلَ سبيل زعماء الشعوب المعاصرين فيُكَدِّرُ المنبعَ الذي كان قد شَرِب منه، ويَصِفُ كلَّ ما لا يروقه في اليهودية بالمُزَوَّر. ومن عادته في البُداءة أن كان يستشهد بالتوراة والإنجيل لِمَا فيهما ما يؤيد تعاليمَه، ثم زاد رغبةً في السلطان، واغْتَمَّ من الوضع العُنْجُهيِّ الذي اتخذه اليهود برفضهم الاعترافَ به كما اغْتمَّ من اعتزال النصارى، وهو إذ كان يَرَى أن الفوز يكون حليف النبيِّ بحكم الضرورة فقد صَرَّح بأن صَلْب عيسى من اختلاق اليهود.
ويصبح النبيُّ فاتحًا في السنوات العشر الحاسمة الأخيرة من حياته، ويصبح رسولُ اللهِ الواحدِ سياسيًّا عاملًا بين الزُّمَر، وهو في ذلك كرؤساء أحزابنا المعاصرين الذين لا يترددون في تغيير مراسيمهم عند الضرورة، ومع أن الإسلام كان في بدءِ الأمر معادلًا «للتسليم إلى مشيئة الله» عَرَّفه محمدٌ بعد حين «بالتسليم إلى مشيئة الله ورسوله». وقد صار محمدٌ قائدًا وحاكمًا ودِبْلُميًّا وزعيمَ حزبٍ وغنِيًّا مع نعيم في الغَزَوَات التي وجَّهها إلى الأعراب واليهود وفي مُنَظَّمَات أتباعه الذين كانوا يزيدون عددًا وفي أثناء مفاوضات السِّلْم التي تتابعت في سِنِي نصره العَشْر سريعًا، وهو؛ لأنه عميق الحِسِّيَّة، كان يُطِيلُ الفكر في مسائل الطعام والشراب وغيرها من الاحتياجات البدنية، وهو قد سَنَّ دساتيرَ ومحظوراتٍ بالغةَ الحكمة ملائمةً لمبادئنا في التناسل وعلم الصحة. والواقعُ أن القرآن كتابٌ عمليٌّ للحياة يَطْفَح حيويةً وتَنَوُّعًا فيُنَظِّمُ الحياة اليومية في جميع جزئياتها المترجِّحة بين وضع الشَّعْر واستعمال السِّواك. وتَنِمُّ أحكامه حَوْلَ الأُسْرَة والميراث، في بعض الأحيان، على عدل البدويِّ الطبيعيِّ المِغْيار، ويُعْنَى كثيرًا في مسألة المرأة كنبيٍّ ومجاهد، ولكن من غير أن يصنع أكثر مما صنعت النصرانية في سبيل حلِّها.
وكان ابنُ الصحراء محمدٌ يُحِبُّ الأُسرةَ والقبيلة، فيرى أن «رِيح الولد من رِيح الجنة»، وأن اثنتين من صلوات المتزوج خير من سبعين من صلوات العَزَب. وبينا ترى النصرانيةَ الأولى قائلةً بالزهد سائرةً إلى تسويةٍ مكتفيةً بطُهْر القُسوس في نهاية الأمر، تُبْصِرُ محمدًا مرتابًا في أمره حَوْلَ الوفاء الزوجيِّ، وقد أُثْبِتَ هذا الشكُّ في كثير من الأحاديث، كقوله: «اطلعتُ على النار فإذا أكثرُ أهلها النساء»، و«مَثَلُ المرأة الصالحة في النساء كمَثَلِ الغُرَاب الأغصم من مائة غُراب.»
وإن هذا الإدراكَ المَرِنَ للطبيعة البشرية، وإن أخلاق الأعراب، وإن الحرية والهَوَى والكرمَ، أمورٌ أدت إلى ذلك التسامح الذي لم يَقِلَّ إلَّا مؤخرًا نتيجةً لاعتداءات النصارى.
والإسلامُ هو أكثرُ أديانِ التوحيدِ الثلاثة تسامحًا، والإسلامُ هو الدين الوحيد الذي سمح لأتباع الأديان الأخرى بأن يَحْفَظوا معابدَهم الخاصة في غضون الأجيال وفي مختلف البلدان، والإسلامُ هو الدين الوحيد الذي عامل الأممَ المغلوبة معاملةً إنسانية، والإسلامُ لم يمنح الفاتحين حقًّا آخر غيرَ انتحالهم وَضْعَ الهُدَاةِ غيرِ الخاضعين للضرائب، وما كان من رغبةٍ في نيل الغنائم ومن ميلٍ إلى الانتقام لم يَتَحَوَّل إلى جَوْرٍ واسعٍ إلا نادرًا، وما كان الهُتاف «القتلُ أو الإسلام» إلَّا في بدءِ الفتح وفي جزيرة العرب وحدَها، ثم لم يُرِد فاتحو العرب غيرَ السيطرة السياسية دون سواها، أَجَلْ، فُرِضَت الجزيةُ مع الطاعة على المغلوبين، ولكن من دونِ فَرْضِ ديانةٍ جديدةٍ عليهم، ومع ذلك فقد اعترف القرآنُ بأديانٍ أخرى، وقد سُمِحَ ببغدادَ والقاهرةِ بالأعياد النصرانية والاحتفالات المأتمية على الدوام، وكان يوجد في كلِّ مكان موظفون مسيحيون من الدرجة العالية حتى الحروب الصليبية.
وإذا سألتَ عن سبب ذلك السُّمُوِّ وجدتَه في ذلك الاطمئنان النفسيِّ الذي مارس به أولئك المُوَحِّدون إيمانَهم الكامل ضِمْنَ الطبيعيةِ البشرية كما فعل مشركو اليونان.
١٧
لاح أُسلوبٌ على شواطئ البحر المتوسط في القرن السابع.
وكانت معابدُ اليونان قد خُرِّبت أو انهارت أو تَحَوَّلت، وكان البارتنون قد حُوِّل إلى كنيسة في القرن الخامس، وفي هذا المكان كانت تماثيلُ زوسَ وأتِينة تنتَصب نحو السماء وإزاءَ أعمدةٍ من رُخام، وذلك حيث كان يُحْتَفَلُ بالجسم العاري لجماله الخاصِّ، وذلك حيث كانت أسرار الآلهة القديمة قد تَحَوَّلت إلى رموز منقوشة على الرُّخام أو قد عُبِّرَ عنها بصفوفٍ من القرابين، وكان يُصَلِّي قِسِّيسُون لابسون بَرَانِسَ راكعين أمامَ الصليب في هذا المكان، وكانت زاويةُ البناء الواسع التي يستترون فيها تُنَارُ بنورِ الشموع الشَّفَقِيِّ إنارةً خفيفة، وليست شمس بلاد الإغريق، ولا الرُّخامُ البنْتِلِيكيُّ، بل الكنيسةُ المُغْلَقة والصُّوَرُ الفسيفسائيةُ الساكنةُ هما اللتان كانتا تُتَّخَذان رموزًا لدينِ الأَلم والنُّسْك. وكان مضيقُ البنَاتِينِه الرُّخاميُّ مع جِيَاده وفِتْيَتِه مُبَرْقَعًا عن عَفَافٍ من قِبَل مَنْ كانوا يريدون إنكار الغُلْمَة، ولكنهم كانوا يَوَدُّون إخفاءَ أشخاصِهم وأرواحِهم ما صار ذلك غريبًا عنهم تمامًا.
وبَدَت القِبَاب بعد الأعمدة، وكانت القِبَاب تنعكس على البحر أمام المَلَّاح حين دُنُوِّه من ساحل بِزَنطة حيث ترتفع الكنيسةُ الجديدة، وكان كلٌّ من هيكل سليمانَ الأرزيِّ وأعمدة البارتنون الرُّخامية وقبة بزنطة الحجرية يُمَثِّل الزُّهدَ والجمال والإيمان المطمئنَّ بالتتابع؛ أي كانت هذه الآثارُ تُمَثِّلُ الصفاتِ البارزةَ للأديان الثلاثة. وكان جميع المؤمنين الذين يُصَلُّون هنالك متحدين في رغبتهم العامة أن يقهروا الموت في حياةٍ أُخرى، وكان هذا مصدرًا شاملًا للسَّمَاحةِ والرحمة، وكانت تَضْرَعُ ألواحٌ مكتوبة بالعبرية أو باليونانية أو باللاتينية إلى الرَّب الواحد أو إلى أحد الآلهة الوثنية أن يَبْدُوَ في الآخرة رحيمًا تجاه المحسنين، ثم أتت المآذن، ووَطَدَ الميلُ الأزليُّ إلى الدُّنُوِّ من الرَّبِّ في الدين الجديد بأسلوبٍ ذي طَلَاوَةٍ طَرِيفة بعد أن ثَقُلَت وطأةُ المعابد والكنائس على الأرض، والآن تناطحُ أبراجُ العربِ الهِيفُ السماءَ فتلوح صائلةً في الهواء كأسهمٍ نارِيةٍ ثابتةٍ، وكذلك تبصر مبانيَ عاليةً رشيقةً منفصلةً عن المسجد قائمةً على أُسسٍ ثابتة كأنها تَنْطَح السماء أيضًا.
ويظهر مسلمٌ لابسٌ جُبَّةً بيضاءَ وعِمامةً في الأعلى وعلى الذُّروة تقريبًا وفي رُواقٍ ذي منافذَ للنور، فيُوَجِّهُ وجهه نحو السماء معلنًا جلالَ الله ونبيِّه محمدٍ ثلاثَ مرات، ويُلْقِي ذلك البرج وحيًا في قلوب المسلمين الذين زاد عددهم بأسرعَ مما زاد به عدد أتباع أيِّ دين آخر حول البحر المتوسط.
وقد وُجِدَت وَحْدَةُ الإغريق بسرعة كبيرة كما عُرِّضت للخطر؛ وذلك لأن الفلسفة لا تنطوي على «نداءِ حربٍ» للجُمهور، وقد عاش الرومان زمنًا طويلًا بفضل قانونهم المشترك وبفضل دولتهم القوية التنظيم، وقد وَحَّدَ الإسلامُ، الذي فُرِض بغتةً بدستورٍ كفريق جديد، عروقًا وشعوبًا كثيرة بما هو أبقى مما صنعته النصرانية، ومع ذلك فقد انقسم الإسلام كما انقسمت النصرانية، وكانت الحَبَّةُ التي يجب أن تَنْبُتَ وتُنْشِئَ إمبراطوريةً من بَذْرِ مُفَكِّرٍ، وقد تَمَثَّل هذا المفكِّرُ الفكرة ثم حققها بالفتح. وقد ترك محمدٌ وراءَه جزيرةَ العرب مُوَحَّدَةً، ولما اقتسم قُوَّاده، بعد زمنٍ، وفيما بينهم، فارسَ ومصرَ وبلدانًا أخرى سُيْطِرَ عليها حديثًا عقبَ فتوحٍ سريعة كان يُمْسِكُ دينٌ جديدٌ هذه الأقطارَ مُوَحَّدَةً، ولم يكن هذا الدين رمزيًّا ولا مبهمًا كدِين الأغارقة، وإنما كان مِنْهاجًا ناظمًا للحياة ودستورًا للأخلاق والصحة. ومع أن النصرانية ساعدت على بقاء الإمبراطورية الرومانية المُسِنَّة ثلاثةَ قرون أخرى، لم يَنْمُ الإسلام نُمُوًّا تامًّا إلَّا بإقامة ممالكَ عربيةٍ يرتبط بعضها في بعض بدِيانةٍ واحدةٍ ولغةٍ مشتركة. وقد انتشرت النصرانية ببطوءٍ وهدوءٍ، وقد انتشر الإسلام بسرعةٍ وجهاد، واليوم يَدِينُ بكلٍّ من الدينين مئاتُ الملايين من الآدميين.
ولم تكن فتوح العرب من الحروب الدينية، بل كانت نتيجة انتصارات شعب مقاتلٍ شديد الشَّكِيمة، وهي تختلف عن فتوح الجِرمان حَوْل البحر المتوسط اختلافًا أسياسيًّا من حيث الثَّقافة والاجتماع، وما كان من تحوُّل هذه الحروب إلى حروب ضدَّ النصرانية هو معلولٌ سياسيٌّ لا علَّةٌ أولية، وهكذا بَدَا هذا الحادث الغريب، وهو أن القبائل الجِرْمانيةَ، حين غزت بلاد البحر المتوسط فيما بين القرن الخامس والقرن التاسع واعتنقت النصرانية التي كانت دينًا تهاجمه، لم تظهر من غير البرابرة ولم تُعَدَّ من غير البرابرة على الرغم من ذلك، وعلى العكس واصَلَ العربُ بما فيهم من قوة إدغامٍ، كما عند اليهود والفنيقيين، ما وجدوه حول البحر المتوسط من الحضارات الراقية جدًّا، ولما فتح الخليفةُ الثاني عمرُ مدينةَ القدس بعد وفاة النبيِّ بخمس سنين لم يعامِل النصارى بسوءٍ قطُّ، ولكنه طرَدَ منها الفُرْسَ، وكان البطرك النصرانيُّ الذي سَلَّمَ إليه القدس لا يزال من رعايا بزنطة كما كان أسلافُه، وكانت القدسُ رومانيةً مدةَ ستة قرون بلا انقطاع تقريبًا؛ أي من زمن عيسى حتى زمن محمد، وهي لم تنفكَّ تكون مسلمةً منذ سنة ٦٣٧ حتى سنة ١٩١٨، وذلك خلا فَتْرةٍ قصيرة.
ولم يُدَنِّس مسلمٌ قبر عيسى، وعيسى ممن يؤمِن بنبوته المسلمون، ويمضي زمن فتشتعل الحروب عن تطرفٍ وتُوقَد نارُ الحروب الصليبية عن إفراطٍ، وكان لا بُدَّ من ظهور أذكى رجال البحر المتوسط، فردريك الثاني، حتى يُنَظِّم في أثناء حديثٍ سريع مع السلطان جميعَ الوظائف الدينية في القدس بروحٍ من التسامح، وقد بُلِغَت هذه النتيجةُ مع الترك بعد حين.
وهنالك عنَّتْ لرجلٍ خِطَّةُ التوفيق بين الدِّيانتين القريبتين بدلًا من أن تتنازعا عن نَفْرَة، وذلك أن الإمبراطور لِيُون الذي هو سوريٌّ يونانيٌّ، والذي شُجِّعَ بحركةٍ غيرِ مُكَرِّمةٍ للصور والتماثيل كاسرةٍ لها، حاول أن يَجِدَ في وحدانية الله وفي عدم الأصنام أساسًا للتوفيق ممكنًا صالحًا للجميع، غيرَ أن الرهبان عارضوا، غير أن البابا قاوم مثيرًا مصالحَ إيطالية السياسية في سبيل أغراضه، ولما أدرك أسطولَ بزنطة الغَرَقُ لم يكن يسوعُ ولا الربُّ حاضريْن، أو إنهما كانا حاضريْن في الزوبعة ليَحُولا دون التوفيق.
ويتصادم الغازيان الأجنبيان في إسبانية للمرة الأولى، ومن المحتمل أن بدأ هنالك تمازجُ العروق العظيمُ بما يَصْلُحُ به النوعُ البشريُّ؛ أي حدث ما يَنمُّ على أكبر الفروق بين الإنسان والحيوان، ثم تقع توالدات مهمة في صِقِلِّية على الخصوص.
وكان جُوسْتِينْيان في القرن السادس قد قضى على الأُسْترُوغُوت والوَنْدال، وعن العرب قَطَع أسطولُ بِزنطةَ اللُّنْبارَ الذين استولَوْا على إيطالية مؤخرًا، ولكن الفِزِيغُوت، الذين لم يزالوا مستقرين قريبًا من جبل طارق حتى ذلك الحين، ظَلُّوا مواجهين للعرب الذين فتحوا شمال أفريقية حوالَي سنة ٧٠٠. وكان في ذلك البلد فريقٌ من البَرْبر والبِزَنطيين؛ أي من الأفريقيين والأغارقة، قد قاتل في سبيل السلطان زمنًا طويلًا. ولما جاوز الأميرُ العربيُّ الأول مضيقَ جبل طارق سنة ٧٧١، كان، على ما يُحتمل، أولَ آسيويٍّ ظَهَر فاتحًا في غرب البحر المتوسط بعد الفنيقيين بخمسةَ عشرَ قرنًا، وكان جيشه مؤلفًا، على الخصوص، من مُقَاتِلَةٍ من بَرْبَر جبال دَرَن اعتنقوا الإسلام، وبالمغاربة سُمِّيت ذريةُ هؤلاء البربر الذين امتزجوا بالعرب وبرومان إسبانية وجِرْمانِها.
ويمتاز بجمال البَدَن هؤلاء القومُ الذين يُدْعَوْن تارةً بالمغاربة وتارةً بالبربر دُعَاءً غيرَ صحيح، والذين يبلغ عددُهم اثني عشرَ مليونًا في الوقت الحاضر، وكان أجدادهم قبل الميلاد بثلاثة قرون يُعَدُّون من شُقْرِ الشعور وزُرْق العيون فيَهْدِمُ هذا نظريةَ اختلاطِ الدم الجِرْماني، ومع ذلك فإن من الغريب أن تُرَى كثرةُ القُرْبَى بين أخلاقهم وأخلاق العرب. وكان عندهم مزاجُ المحارب الخياليِّ أيضًا، وكانوا مختالين محتالين متعصبين، وكانوا مشهورين بأنهم من السَّحَرَة الماهرين إلى الغاية مع الشرف البالغ، فاتَّفَق لهم بذلك صيتٌ ذو غرَابةٍ عند البحث المقارَن في أحوال الأمم، وكانوا في ذلك الدور أيضًا مزارعين وبُسْتَانِيِّين ماهرين في أعمال الرِّيِّ عارفين كيف يُحَوِّلون المُنْحَدَراتِ البَرِّيَّةِ إلى رِياضِ زيتونٍ وتينٍ، ومنهم تَلقَّى بدويُّو السهوب فَنَّ البَسْتَنَة الذي صاروا متخصصين فيه أخيرًا فمُلِئ به شعرُهم.
وأوغل العرب والبربر في إسبانية في عشرين عامًا متحدين طورًا متقاتلين طورًا آخر، وجاوزوا جبال البرانس وبلغوا نهر اللوار في فرنسة مع استمرار المعارك ضد النصارى، ثم تصادموا هم والجِرمانُ بين تور وبواتيه سنة ٧٣٢ وقُهِرُوا، ويمكن عَدُّ هذا التاريخ قاطعًا من حيث مصيرُ النصارى والمسلمين. والواقعُ أن هذه المعركةَ وَضَعَت حَدًّا لتقدُّم العرب، وذلك كما حدث منذ ثلاثمائة سنة حين وَضَعَت معركةُ شنبانية، غيرُ البعيدة من هنالك، حَدًّا لتقدُّم أَتِّيلَا، وانتهى العربُ بعد أن طُرِدوا، أو دُحِروا، إلى إسبانية، وبعد أن هُزِموا على شاطئ دِجْلَة من فَوْرهم، أو انتهى أحدُ رؤسائهم، إلى السير مع كتائبه نحو الغرب، فنادى هذا الرئيس بنفسه أميرًا على قرطبة مؤسسًا في إسبانية مِنطقةً لحضارة العرب. ومن حُسن الحظَّ أن شارلمان الذي دعاه النصارى إلى مساعدتهم قد اضْطُرَّ إلى تَحَوُّله عن ذلك نتيجةً لفِتَنٍ اشتعلت لدى السكسون، فدام بذلك ازدهار حديقة العرب هنالك، وقد غَدَت تواريخ الخلفاء التي مَلَأَتَ خيال الناس في الأغاني ودور التمثيل مصادرَ رواياتٍ لشعراء الغرب، كما أن جميعَ الأممِ لا تزال تُقَلِّدُ بُسُطَ العرب وحُلِيَّهم وأدويتَهم وعطورَهم حتى أَيَّامِنا.
وقد غَمَرَ سيلٌ من الجَمَال والمبادئ مِنطقةَ البحر المتوسط بُعَيْدَ ذلك الفتح، وقد بلغ اختلاطُه بذلك البحر من القوة ما يلوح معه تغييرُه لجريانه من بعض الوجوه، وهو في ذلك كالذي يأتي من البحر الأسود فيزيد ما يحويه مِلْحًا في الدَّرْدنيل.
والحقُّ أن العرب تلاميذُ بِزَنطة في غير حالٍ، تلاميذُ بِزَنطة في صِناعة السفن مثلًا، فجعلوا قناة السويس صالحة للمِلاحة مدةَ قرن، والحقُّ أن العرب لم يتعلموا العِلم اللازم من مواطئ جِمَال جزيرتهم، وما فُطِرَ عليه العرب من الروح التجارية يُذكِّر بالفنيقيين، وقد نما بسرعة فارتقى بعد بلوغهم البحر المتوسط كما يلوح، وقد قبضوا على زمام جميع التجارة مع الشرق الأقصى ولم يلْبَثوا أن وصَلوا إلى روسية والبحر البلطيِّ، ومع ذلك فإن أهمَّ ما أتى به العرب إلى البحر المتوسط كان ذهنيًّا، كان ثَقافيًّا تهذيبيًّا، ومن العرب في أشبيلية وقرطبة كان قد تلقَّى الحكمة، حقًّا، البابا سِلْفِسْتِرُ الذي عُزِي عِلْمُهُ المشهور إلى السِّحْر.
وقد بُهِرَ بَلَاط شارلِمان بالوفْد الذي أرسله الخليفةُ هارون الرشيد إلى هذا العاهلِ النصرانيِّ حوالَي سنة ٨٠٠، وقد نَقَلَ فريقٌ من الشعراء والمؤرخين قصةَ ذلك إلى العالم، ولم يَحْدُث أن رأى الغربُ مثلَ ذلك، حتى في زمن الفُرْس الذين كانوا قبل ذلك أسبقَ إلى الحضارة من العرب في بعض النواحي، وما كان من أقاصيص التجار والعلماء، حوالَي سنة ١٠٠٠ على الخصوص، حَوْل أُبَّهَة الفاطميين في مدينة القاهرة التي أُنشئت حديثًا وحَوْل بَلاطِ ملوك حلبَ وبلاطِ دمشق الشِّعْرِيَّيْن يُحْيطُ بإكليلٍ أسطورةَ العرب وخلفائهم الذين كان يلوح بين الأمم الحديثة أنهم وحدَهم جامعون للحكمة والبسالة والعِزَّة والجمال.
وفي ذلك الدور بدأ دورُ الجامعات في الفنِّ بقرطبة حيث أَسَّسَ الأميرُ الهاربُ أُسرةً مالكةً دام سلطانها ثلاثةَ قرون، فنالت من السُّؤْدُدِ ما لا يُقَاسُ بغير جاه الإسكندر، وقد بُهِتَ الغربُ النصرانيُّ من ثَقافة الكَفَرة وتسامحهم. وكان تعاون المسلمين واليهود قائمًا في صعيدٍ واحد، وكان كلٌّ منهما من فُرَّار آسية المعارضين للنصارى في الحقيقة، وتَبْدُو إسبانية الجَنوبية مركزَ الثَّقافة في العالم فيما بين سنة ٨٠٠ وسنة ١٠٠٠.
وأنجبت الروح اليهوديةُ هنالك — كما في المُدُن العَرَبية الأخرى بالأندلس — بفلاسفةٍ وشعراءَ وأطباء اشتُهر منهم في عالم القرون الوسطى يهودا هَلِيفي وابنُ جبيرول والحريزي.
وعلى ما كان من فتورٍ بين إسبانية العربية وخلفاء الشرق، استندت إسبانية العربيةُ هذه إلى الدولة الإسلامية التي كانت تضم شمالَ أفريقية ونصفَ آسية بالغةً جَنوب فرنسة، وكانت هذه الإمبراطورية الحاميةَ للثَّقافة ممتدةً إذَنْ فيما بين الخليج الفارسيِّ والمحيط الأطلنطيِّ، ومن ينظر إلى الخرائط القديمة يجدْ هذه الإمبراطوريةَ أكبرَ من دولة بزنطة الجامعة للبلقان وآسية الصغرى وإيطالية الجَنوبيةِ وصِقِلِّية، ولو رَجَعْتَ البصر إلى جميع المغازي التي تعاقبت على شواطئ البحر المتوسط ما رأيتَ ما هو أكثر ثَمَرًا من غزو العرب.
١٨
ذاهبين إلى الإبير قيامًا بمغامرات، وهم كانواأوصى الملك الجِرْمانيُّ كُونْرَادُ الثاني لنفسه بتاجٍ في مايَانْس سنة ١٠٠٠، وكان التاج مؤلفًا من ثلاثة أجزاء، وكانت قوسُ الوَسَط، وهي أكبرُ الأجزاء، تَدْعَمُ صليبًا مُرَبَّعًا تقريبًا، ولم تكن اللآلئُ العظيمةُ والحجارةُ الثمينةُ التي رُصِّعَ بها التاجُ مُوَزَّعَةً توزيعًا منتظمًا تمامًا، وقد زُخْرِف الصليبُ الذي يعلو التاجَ عُلُوًّا خفيفًا بمثل ذلك الطِّراز، وقد انتقل هذا التاج في قرونٍ من أيدي الملوك إلى أيدي البابوات ثم آل إلى الملوك ما كانت ضخامةُ الحجارة وثمنُها يجعلان التاجَ أكثرَ قيمةً من الصليب، وما بين الإمبراطور والبابا من صِراع مَلَأَ جميع القرون الوسطى رُمِزَ إليه بتلك النِّسَب، ولم يَقْبَلْهما صائغُ مايانس عن مبادرةٍ منه لا ريب.
وكان الجِرمان يختارون ملوكهم من بين رؤساء القبائل المقاتلة، وهكذا أمكن الفَرنجَ والسكسونَ واللُّورانَ وكلَّ قبيلة أخرى أن يكونوا على رأس الآخرين، وكان الرجلُ الذي يمنحه البابا برومة بركتَه مُعْطِيًا إياه اللقبَ والتاجَ يُمَثِّلُ قومًا من عِرْقٍ آخر. وقد مارست الكنيسة الكاثوليكية، كسلطةٍ روحانية دَوْلِيَّة، نفوذًا قَسَم أوروبة بقاطِعٍ عَمُودِيٍّ، ويَقْطَعُ هذا القاطعُ الخطوطَ الأفقية وحدودَ الخريطة كدرجات الطول والعرض المتقاطعة.
وصرتَ لا تَجِدُ هواتفَ يُفَسِّرُها الكهانُ تفسيرًا مُنَزَّهًا عن الخطأ، كما ظَلَّ الأمرُ في طيبة ودِلْف زمنًا طويلًا، وكان صاحبُ الحكمة الرَّبَّانية، البابا، يظهر على خلاف دائم مع الملوك، ومع الأمم أيضًا، حين محافظته على مصالحه، وقد أدى الكفاح في سبيل السلطة الزمنية إلى خسرانِ الكنيسة ملايينَ من المؤمنين في القرون الوسطى. والواقعُ أن من نتائج الشكِّ والنَّقْد زوالَ كلِّ إيمانٍ بالعِصْمَة، والواقعُ أن ادعاءَ البابواتِ بالسلطة الزمنية أدى إِلى نقص سلطانهم على النفوس فيما بين سنة ٥٠٠ وسنة ١٨٧٠، حتى إنه كان من شأن دُوَيْلَة الفاتِيكَان التي يَقْبِضون على زمامها منذ سنة ١٩٢٩ أن تُضْعِف سلطانَهم الروحيَّ.
ولا تمكن دراسةُ تنازع الأباطرة والبابوات، الذي كَدَّر بلاد البحر المتوسط خمسة قرون، بالتفصيل هنا؛ ولذا نبحث في أسُسه الفلسفية، وذلك لقيام تُرَاث الإمبراطورية الرومانية عليها، ولم تَزُلِ الإمبراطورية الرومانية بغزو البرابرة ما كانت دولةً وهمية في ذلك الحين.
وكانت النصرانية قد تَسَرَّبت في الجِرْمان على وجهٍ خاصٍّ، ولما جَمَعَ ملكُ الفَرَنج، كلوفيسُ، الجِرْمانَ والرومان على أرض فرنسة حَوالَي سنة ٥٠٠ وتَعَمَّدَ مع ثلاثة آلاف فَرَنْجيٍّ بين شَغَبٍ عنيف كان قد حَسَب النتائجَ بعناية، وكان هذا الرجل، الذي هو من البرابرة، يَعْرِف أن غريزةَ رعاياه الجِرْمان الابتدائيةَ تُحَبِّبُ الحَرْبَ إليهم، وأنهم عِطَاشٌ إلى الدَّم والانتقام، وكيف استطاع إذَنْ أن يَفْرِض بين عشيةٍ وضحاها على هؤلاء القوم الوحوش، الجاهلين ما عند أمم البحر المتوسط من تقاليدِ حكمةٍ وفنٍّ جهلًا تامًّا، عبادةَ إلهٍ يَطْلُب من المؤمن أن يُقَوِّيَ الروحَ، لا البَدَنَ، وأن يمارس العدلَ بدلًا من الحرب والاتِّضَاعَ بدلًا من الزَّهْو؟
وهل كان ذلك الملك عالِمًا نفسيًّا أو أن المستقبل وحدَه هو الذي زَكَّاه مصادفةً؟ إن التضادَّ التامَّ وحدَه هو الذي كان يمكنه أن يُبَاغِت تلك القبائلَ التابعةَ لهواها وأن يَفُوز بها.
كانت طبيعةُ الجِرْمانيِّ الغريزيةُ المُفْرِطة وثِقَلُه الطبيعيُّ وعُنْصُرُ كِيانه الغائِمُ الوَجْدِيُّ وخُضوعُه للقَدَر أمورًا تحتاج إلى ما تُوازَن به أعمالُ شجاعته، وإذا كان الجِرْمانيُّ لا يستطيع غيرَ مخافة آلهته القديمة فإنه كان يمكنه أن يتوكل على الرَّبِّ الجديد، وهو قد استطاع أن يحترم هاتفه كما كان يحترم داعِيَ العجائز؛ لأنهنَّ كُنَّ بلا قُوَّة، وإنه لكذلك إذ يَجِدُ نفسَه تِجاه إلهٍ يَعْفُو بَدَلًا من أن ينتقم ويبارِكُ بدلًا من أن يجازِيَ، إذ يجد نفسه تجاه محكمةٍ تؤثِّر في مشاعره بدلًا من أن تأمر بالانتقام والتكفير، وهكذا يبدأ اعتراكٌ نفسيٌّ واسعُ المَدَى بِهَزِّ هذه الملايين من الآدميين الذين دُعُوا إلى الرَّبِّ الجديد. ومع ذلك فقد مضت سبعةُ قرون بين ذلك العِمَاد الكثيف وعِمادِ آخِرِ ألمانيٍّ، ولولا هذا الوجدُ العميقُ الذي أسفر عنه اعتناق البرابرة للنصرانية ما أمكن إدراك أمر الهَوَى الذي نشأ عن تخاصم الكنيسة والدولة، وما كان نزاعُ بعض الملوك والأمراء الطامعين، لانتزاع بعض الأسقفيات والأديار، ليُمْكنَ بلا شعورٍ شعبيٍّ كالذي كان في الشمال يفصل المؤمنين عن الماجنين.
وكان الأباطرة يسيرون كممثلي مزاجٍ عقليٍّ وَثَّابٍ تَوَّاقٍ إلى الاندفاع نحو الجَنوب، نحو البحر المتوسط الدَّفِيء الخصيب الذي هو هدف أحلامهم، وكانت رومة المِفْتاحَ التقليديَّ الذي يُفْتَحُ به الباب المؤدي إلى تلك البقاع المرغوب فيها، وكان في رومة يوجد لَحْدُ الإمبراطورية الرومانية من بعض الوجوه، ويَعُدُّ فُرْسانُ الجِرْمان أنفسَهم حُجَّاجًا كالصليبيين، وينتصب بعضُ رموز قيصرَ ويسوع بجانب بعضٍ في رومة، ويجلس البابا على عرش القياصرة السابق وتحوم حمامةُ الأردن المقدسةُ فوقه، وهكذا ينتعش خيالُ رجال الشمال انتعاشًا مُضِبًّا.
ويرى أحد ملوك الجِرْمان أن رومة جامعةٌ للسلطة الزمنية وللنصرانية معًا، وكان يمكنه أن يُبْصِرَ من فوق الكابيتول المكانَ الذي خَرَّ فيه قيصرُ صريعًا بين أيدي قتلته وأن يُبْصِرَ المكانَ الذي نال الرسولُ الأول فيه الشهادةَ والواقعَ على بُعْدِ نصف ساعة من هنالك. وكان مَزْجُ السلطة الزمنية والنصرانية ملائمًا لخُلُقِ الجرمان القوميِّ أكثر من ملاءمته لخُلُق أيِّ شعبٍ آخر، وهكذا نشأ مبدأ «الإمبراطورية الرومانية الجِرْمانية المقدسة» غيرُ المحتمل؛ أي المبدأ المغلوطُ فيه الذي أدى إلى نتائجَ عظيمةٍ عاطفية. وقد نَشِبَت فوق هذه القوى الغامضة التي تُشَبَّه بهدير بركان، وفي الميدان السياسيِّ، منازعاتٌ بين البابا والإمبراطور في سبيل السلطة، وقد حدثت هذه المنازعات باسم بعض المبادئ الخُلقية مع تفاسيرَ وتُهَمٍ كانت تصدر مُدَويةً خاطئة عن الفريقين.
وكان الفَرَنْجُ، الساكنون بلادَ الغول والذين دُعُوا بالفرنسيين فيما بعد، من أكثر أمم البحر المتوسط حُسْنَ شمائل. وكان الفَرَنجُ أولَ البرابرة وصولًا إلى شواطئ هذا البحر، ويَعْرِض رئيسهم الغاصبُ بيبنُ النصرانيُّ على البابا، حوالَي سنة ٧٥٠، أن يُنْجِدَه إذا ما وافق على رَسْمِه ملكًا، ويسوق حِصان البابا من لِجَامِه رسميًّا ويَرْكَع أمام هذا البابا الذي يَدْهُنُه ويتناولُ منه التاجَ المَلَكِيَّ الذي لم يكن في ذلك الحين غيرَ إطارٍ من ذهب، وهكذا أَطلق هذا الملكُ العِنَان لنزاعٍ يستعصي حَلُّه.
وقد اضْطُرَّ الملكُ إلى التنزل للبابا عن مدينة رومة مع دولة الكنيسة المزعومة في مقابل تلك الرِّسَامة، وقد أَيَّدَ خلفاؤه هذه العَطِيَّة مع الزيادة، وتُبْرَزُ لبلوغ ذلك وثيقةٌ مزورة في مضمونها يُرْجَع فيها إلى هِبَةٍ مزعومةٍ للكنيسة من قِبل الإمبراطور قسطنطين، ومن أحكام هذه الوثيقة إحداثُ حَقٍّ صار به خلفاءُ القديس بطرس مالكين لأرض رومة، ويبقى هؤلاء الخلفاءُ تابعين لملوك الفَرَنج على الدوام.
وكانت هذه العلاقات الشرعية المبهمة بين البابا والملك تَمْزُجُ اللُّبَانَ بصليل السيوف وتُتِمُّ الصلاتِ التي تَهْدِف إلى عدم الاعتراف بإمبراطورية الملك الجِرمانيِّ الذي انْتُخِب «إمبراطورًا» إلَّا إذا تُوِّج من قِبَل البابا مع كون هذا تابعًا له في الحقيقة، وبهذا يرتقي الجِرْمانيُّ إلى تُرَاث قيصرَ ويصبح سيد الإمبراطورية الرومانية الجليل، وما كان له من حَقٍّ تاريخيٍّ بهذا التُّراث أقلُّ من حَقِّ البابا في امتلاك رومة، ويؤيد كلٌّ من السلطتين، أو الشخصيتين، مزاعمَ الأخرى إذَنْ، ويَمْزُجان التقوى الزائفة بالخديعة الواقعة إذَنْ، وهذا كُلُّهُ على حساب أهل إيطالية الذين كانوا لا يطْلُبون في الحقيقة إمبراطورًا ولا بابا، بل كانوا يطلبون توحيدَ بلادهم، ويمكن البصيرَ أن يُبْصِر مجرى تاريخ إيطالية من الحين الذي صار فيه الألمانيُّ الأولُ إمبراطورَ البحر المتوسط.
١٩
لا يبدو شارلمان الذي هو أحدُ أباطرة الجِرمان المُهمِّين الثلاثة إلَّا على هامش تاريخنا، ومَن ينظر إلى صورته، كما عُرِضت في تمثاله الصغير بباريسَ تَبْدُ له ملامح المولود عاهلًا، وهو ذو رأس مستدير وقَفًا قصيرٍ وأنفٍ معقوفٍ مع انحناءٍ في شفته العليا، وتلوح الكُرَةُ التي في يده اليسرى والممثلةُ لإمبراطوريته أنها من عطاء الطبيعة، وتدلُّ حياتُه العملية على مَيْلٍ جِرْمانيٍّ أَصْلِيٍّ إلى السيادة العالمية كما في أيامنا صادرٍ نصفُه عن إرادة السيطرة وصادرٍ نصفُه الآخر عن اندفاعاتٍ تَصَوُّفية، وكان أولَ سلسلة الأباطرة الذين بحثوا عن الوَحْدَة وعن التمكين أو عن التوسُّع الطبيعيِّ نحو البحر المتوسط لا نحو الشرق.
وقد حدث أدعى الأمور إلى الحَيْرَة في عهده الطويل على البحر المتوسط، في رومة، ولا تجد لهذا المنظر مثيلًا في التاريخ.
كان حَسَنَ الصلات بالبابا الذي بحث لنفسه عن ملجأ في ألمانية، ولم تَقِلَّ عِزَّةُ هذا العاهلِ الفَرَنجيِّ برَكَعَاتٍ ولا بإمساكه رِكابَ البابا، ولَمَّا ذهب إلى إيطالية ليقيم فيها «سَلْمًا رومانيًّا» على طريقة أُغسطس لم يكن قاصدًا أن يقوم بفتوحٍ في بلاد البحر المتوسط؛ أي وراء بلد النورمان في الشمال، ويَحِلُّ عيد الميلاد لسنة ٨٠٠، فيودُّ هذا الملكُ النصرانيُّ حضورَ القُدَّاس مع فرسانه في كنيسة القِدِّيس بطرس القديمة برومة، ويُقِيمُ البابا القُدَّاسَ، ويتظاهر بأنه مستغرقٌ في صلاته عندما رَكَعَ الملكُ أمام الهيكل، ولا يُعْرَف هل كان الملك يُفَكِّرُ في مُخَلِّصِه أو في أعماله، ولكنَّ الذي لا ريب فيه هو أنه لم يَدُرْ في خَلَده أمرُ المفاجأة التي كان البابا قد أَعَدَّها له.
والواقعُ أن البابا أخرج فجأةً تاجًا كان قد أَعَدَّه سِرًّا للوقت الملائم ووضعه على رأس الملك الراكع، وأن كتيبةً من فرسان الرومان تقدمت في تلك الدقيقة وهتفت باللاتينية، أو الإيطالية، قائلةً: «عاش إمبراطور الرومان، شارل أُوغُوست، المُتَوَّجُ من الرَّبِّ!» وتُضافُ المُوسيقَى إلى المنظر، ويَهْتِف الجُمهورُ الهائج مسرورًا مُقَدِّرًا أن حادثًا عظيمًا وَقَعَ على مرأى منه، ويبدو شارل الذي كان مجاوزًا الستين من سِنِيه دَهِشًا أَسِفًا، ولكن مع تَعَذُّر الرفض، ثم يأتي البابا حركةً لا تقاوَم، وهي أنه رَكَع أمام الإمبراطور المُتَوَّج من قِبَلِه.
ويعود شارل إلى قصره صامتًا، وفي الغد يَعْلم شارلُ من بلاغٍ رسميٍّ أن البابا «نَقَلَ إِليه سلطةَ الإمبراطور الرومانيَّ وسلطةَ اليونان والفَرَنج ورَفَعَ الملكَ شارلَ إلى مرتبةِ الإمبراطورِ الثالث والستين من الإمبراطورية العالمية الرابعة.»
ويروي مُتَرْجِمُ شارلَ المعاصرُ أن شارل ظهر غضبان حائرًا معًا، وشارلُ كان قد رأى في شبابه أباه بيبن يُمْسِك حصان البابا من عِنَانه فَيرْسُمه البابا مَلِكًا، وشارلُ كان خاليًا من كلِّ طموحٍ إمبراطوريٍّ فيُتَوَّجُ إمبراطورًا بغتةً، ويؤدي تتويجُه القسريُّ هذا إلى عدم تَزَوُّجِه أميرةً بزنطية. والواقع أن القسطنطينية عارضت في قرونٍ بقاءَ رومة مركزَ العالَم، والواقعُ أنْ وازَنَ لقبٌ رمزًا في القرون الوسطى وكان أهمَّ من عملٍ أحيانًا، وبما أن شارل لم يكن فاتحًا من الأساس، وبما أنه كان راغبًا عن محاربة بزنطة، فإن رغائبه حول البحر المتوسط قد رُبِكَتْ بتتويجه أكثر من أن تكون قد أُنْشِطَت.
وبهذا العمل الأخير تُبْعَثُ الإمبراطورية الرومانية بعد ثلاثة قرون من انقراضها في سنة ٤٧٦، وتعيش ألف سنة أخرى كرمزٍ أجوفَ، وشارلمانُ وحدَه هو الذي لم يرغب في التاج، وأما ملوكُ ألمانية الذين خَلَفُوه فقد جَدُّوا في طلب التاج، في تراث قيصر، مُضَحِّين في سبيله بحياة الألوف من الناس وبمصالح ألمانية وبعقائدهم الشخصية، ويمكن أن يُقال مع التوكيد إن شهرة قيصر لم تكن لتَبْدُوَ عظيمةً لولا حماقاتُهم، والجِرْمانُ هم الذين أَوْجَدُوا هذا الصيت.
ويسافر ملوك الألمان بعد ذلك الحين في مواكبَ لا حَدَّ لها من خِلَال جبال الألب قائمين بحروب كثيرة في عشراتِ السنين، وذلك فتحًا للُنْبارْدِية قبل تتويجهم أو فتحًا لإيطالية بعد تتويجهم، وهم لم يسيروا وضِفافَ نهرِ التِّيبِر ليستولُوا على رومة، بل لِيُتَوَّجوا في كنيسة القديس بطرس كما تُوِّج شارلمان، وقد بلغ هذا المبدأ من قوة الإغراء ما انتفع معه نابليون، الذي كان يزدري كلَّ رَمْزٍ إلى الحسَب، بالتاج اللُّنْبارْدِيِّ ليمنح توليتَه سلطانَ قيصرَ كإمبراطورٍ للفرنسيين.
وقد طَبَّقَ البابا والإمبراطورُ صِلَاتِ العَصْرِ الإقطاعيةَ على سلطانهم الخاصِّ كعلامةٍ خارجيةٍ لنظامهم الشرعيِّ. وكان الرجلُ الذي هو أقوى مَنْ في بلده، أو الفاتحُ الذي يأتي من الخارج، إذا مَنَحَ في ذلك العصر مَنْ هو دونه قطعةَ أرض، أي إذا ما أعاره إياها، حُقَّ لهذا الأخير أن يتمتع بها وأن يتركها لورثته، وذلك مع المحافظة على مصالح متبوعه دائمًا، وهكذا نال أبناءُ الأُسَرِ القديمة الفِتْيانُ في فَرْنكُونْيَة «بَفارية»، كما في مقدونية سابقًا، أَرَضين وقصورًا وأعمالًا رسمية؛ أي جُعْلًا وحمايةً من الدولة، وذلك مع التزامهم بأن يدافعوا عن متبوعهم إذا ما هُدِّدَ بالفتنة أو اختلافِ الأحزاب، وهكذا ترى طغيانَ الحقِّ الخاصِّ على الحقِّ العام في الدول الإقطاعية، ومما أدى إليه إحداثُ طبقةِ شرفٍ شاملةٍ لجميع أوروبة الغربية حتى الأزمنة الحديثة، رابطةٍ للخدمة المسلحة وللتملك والأرض بشخصِ وليِّ الأمر، اتساعُ نِطاقِ شبكةٍ من الأموال الإقطاعية في البلاد خاصةٍ بالأشراف من الفارس حتى الملك.
والملوكُ إذ يتركون الأرضَ الثابتة والمقسومة، والملوكُ إذ يُصَرِّحون بأنهم نالوا إقطاعاتِهم من الله، يكونون قد قاموا بوثبةٍ في الخَوَاء؛ ولذا كان التتويج، الذي باغت البابا ليونُ به شارلمان، هديةَ طمع، وقد أحدث هذا التتويجُ سابقةً حَوْل تَعَذُّر قَهْر رومة، كما جعل الصِّرَاعَ ضِدَّ السلطة الزمنية أمرًا مستمرًّا بحكم الضرورة.
وما الذي لم يوجبه هذا الصراع من خِطط غير طائشة؟ ومن ذلك أن عَرَض أوتونُ الأولُ أن يَجْعَلَ من البابا إمبراطورًا عالَميًّا شريكًا بجانبه، وأن يكون الإمبراطورُ رقيبًا على انتخاب البابا وأن يكون حاميًا للدولة الكَنَسِية في مقابل ذلك، وقد عاكسته في ذلك طبقة الأشراف الرومانية التي خلعت بابواتٍ كثيرين؛ وذلك لأنها كانت تَوَدُّ أن تَنْصِب واحدًا.
ويخلع أُوتُونُ الثاني أحدَ البابوات فيَفِرُّ هذا البابا إلى بزنطة ليُقْتَل في رومة أخيرًا على الرغم من كلِّ شيء، ويوجد بين القسطنطينية والعرب محالفاتٌ لمحاربة الإمبراطور النصرانيِّ، ويتقاتل أساقفةُ بزنطة ورومة ويَحْرِمُ بعضهم بعضًا في ذلك الحين، وذلك مع وضعهم على مراقي كنيسة القديس بطرس ودرج كنيسة أيا صوفية مراسِيمَ الحِرْم مقابلةً.
ويمضي قرن على الأباطرة، الحاملين لاسم أوتون، فيستعير أحد البابوات الأقوياءِ مبدأَ الإمبراطورية الرومانية ويحالف أمراءَ الجِرمان ونورمانِ نابلَ لمقاتلة ديمقراطيي ميلان. وكان غريغوار السابع، وهو حفيدٌ قبيحٌ لصانعٍ، هو الذي حاول قهر الملك هنري الرابع الرائع الممتاز على غير جدوى.
ويقضي هذا العاهل تائبًا مرتجفًا من البرد ثلاثةَ أيام في الساحة المُغَطَّاة بالثلج لقَصْر كانوسَّا، لقصر لُنْباربارديه، والذي كان يقيم به البابا سنة ١٠٧٧، ويلوح أن الكنيسة نالت نصرًا لا جدال فيه، وأنه انْتُقِم من غزو البرابرة بعد قرن، وأن الجِرْمان أُخْزُوا، وأن سلطان رومة بُعِثَ تحت التاج البابويِّ، أَجَلْ، بدا غريغوارُ مثلَ أباطرة بزنطة الذين كانوا يضعون أرجلهم على قَفَا الملك المقهور، غير أن هذا الفصل خُتِم بفرار غريغوار وخلعه وموته وحيدًا مع تتويج هنري من قِبَل بابا آخر.
وما كان يمازج أسقف رومة من شعور بالقوة في ذلك الدور يبدو في صفحةٍ أملاها غريغوار كمذكرةٍ لاستعماله الخاص، وهو لم ينشرها قَطُّ، وإنما كان يتبع ما فيها من توجيه، واليوم يمكن أن تُقْرَأ نسختها الأصلية في الفاتيكان، وهي تشتمل على سبع وعشرين فِقْرَةً مُرَقَّمَةً بأرقام رومانية حُمْرٍ مع خطٍّ لاتينيٍّ جميل ومع فصل بعض الكلمات عن بعض ومع حروف كبيرة وصغيرة، ولا تجد كاهنًا مصريًّا كان ذا شعورٍ بسلطانه مثل شعور هذا البابا الوضيع الأصل والذي قال عن نفسه: «إن على جميع الأمراء أن يُقَبِّلوا قَدَمَ البابا، ولا ينبغي أن يُذكر في الكنائس اسمٌ غيرُ اسمه، وهذا الاسم وحيدٌ في العالم، والبابا وحدَه هو الذي يجب أن يَحْمِل الأشعرة الإمبراطورية، وللبابا حَقُّ خلع الأباطرة، ويمكن البابا أن يَحُلَّ الرعايا من يمين الوَلاء لوليِّ أمرِهم، ولا يجوز لأحدٍ أن يردَّ حكم البابا، وهو يستطيع أن يَرُدَّ أوامر الجميع.»
وكان يوجد في ذلك الدَّوْر نوعان من الدِّين والحياة في بلاد البحر المتوسط، والحقُّ أن الأباطرةَ لم يحاربوا البابا وحدَهم، بل انفصلت عن البابا جمعياتُ الإخوان أيضًا متوجهةً نحو نصرانية حقيقية كما وُجِدَت منذ قرون على طرف الصحراء، أي في الأديار الأولى التي تحولت إلى حصونٍ مع أسلحة وكُتب وأَزْوِدَة.
وعاش كلٌّ من البابا إينُّوسانَ الثالثِ وسان فَرنْسوَا بجانب الآخر في رومة وأَسِّيز في ذلك الدَّوْر؛ أي حوالَي سنة ١٢٠٠.
وبينما كان فرنْسوَا الأَسِّيزيُّ تامَّ الفُتُوَّة منهمكًا في الملاذِّ إذْ يَطْلُبُ اللهَ مداويًا المَرْضَى معتنيًا بالفقراء، وكان يشابه النصارى الأوَّلين منهاجًا، فتبلغ تعاليمه ما وراء البحر المتوسط، ويَرْقُب الغِطْريسُ إينُّوسانُ ما أَدَّى إليه هذا المجذوبُ الغريب من رَدِّ فعلٍ. وكان هذا البابا من أُسْرَة كُونْتِي الرومانية القوية، وقد رُسِمَ على فسيفساء بملامحَ تُذَكِّرُ الناظرَ بالمثال الصقلبيِّ، وكانت له هيئةُ المسيطر، وكان في هذا على النقيض من سان فرنسوا الذي تَنِمُّ صورته على رجلٍ مأخوذ. وكان إينُّوسان من اللباقة ما يعترف معه بالجمعية الرَّهْبانية الجديدة التي نالت حُظْوَةً لدى الشعب سريعًا، ولكن إينُّوسان أبطل عملَها بفرضه عليها نظامًا دقيقًا وإطاعةً وثيقة، وهنالك عَدَل فَرنْسوَا عن توجيه تلك الجمعية الصاحبة لأملاك كبيرة، وقد مات مؤسسُها هذا مُعْدِمًا إلى الغاية.
واتفق لفَرنْسوا ما اتفق ليسوعَ وغيرِه من الأنبياء والفلاسفة الذين تَدَخَّلوا في سَيْر التاريخ على الرغم من إرادتهم أحيانًا، والذين شُوِّهت تعاليمهم وأُسيء تفسيرها فلم يلبثوا أن خاب أملهم عندما أبصروا نتائجَها، والذين تَمَثَّلُوا مذهبهم منعزلين عن العالَم على خلاف ما وقع، ولم تعتم هذه المذاهب أن شابهت زورقًا روائيًّا غامَرَ في مِنْطقة زوابع البحر المتوسط بين رأس ماتابان وأَقْريطش.
٢٠
ينتصب في البيرِه التي هي ميناء أَثينة أسدٌ قديمٌ ظَلَّ سليمًا مدة خمسةَ عشرَ قَرنًا، ولَمَّا نَقَشَ نوتيٌّ اسمَه عليه فَعَل ذلك بحروفٍ يونانية أو لاتينية، وتوجد على الأسد، ذاتَ يومٍ من سنة ١٠٤٠، كتابةٌ غريبة لم يَسْطِع أحدٌ أن يَفُكَّها، وتلك الكتابةُ هي رُونِيَّةٌ كان يستعملها في الشمال، وعلى مسافة ألوف الكيلومترات من البحر المتوسط، أناسٌ شُقْر الشعور زُرْق العيون لتسجيل أساطيرهم. ولَمَّا بدت هذه الشعوب الشمالية في الجَنوب للمرة الأولى نَظَرَ القوم، ولا سيما النساءُ، بعين الحَيْرة إليها، ولم تكن الجاذبية الجنسية للشعوب الأجنبية في زمنٍ أكبر مما في الزمن الذي ظهر فيه النورمانُ من أهل الشمال على شواطئ البحر المتوسط.
وكان العرب قد بلغوا البحر المتوسط في ذلك الحين؛ أي في القرن الحادي عشر، وكانت صفات هؤلاء القادمين الممتازين الجُدُدِ البدنيةُ تفوق صفاتِ الأغارقة والإسبان الجثمانية، ولكن مثالهم كان شرقيًّا. والواقع أن العربيَّ كان ذا عينين ثاقبتين مشبعتين كشَعْرِه، والواقعُ أن العربيَّ كان أقصرَ من أهل الشمال مع هَيَفه، وكان العربيُّ ماهرًا في حمل السلاح وفي الصيد، وكان العربيُّ يحبُّ الخيل والثيابَ الجميلة، وكان خطيبًا مُدَاريًا بفطرته، وكان أستاذًا في العدل والشكل، ومجملُ القول أن العربيَّ كان على النقيض من الجِرْمانيِّ الفَظِّ القليل العقل الذي وصل إلى شاطئ البحر المتوسط قبله.
وكان النورمان أولَ مَنْ عندهم قدرةٌ على الادِّغام من أهل الشمال، وكان الجِرْمان قد ظَلوا من البرابرة حتى ذلك الحين، وقد استقرَّ أناسٌ من إسكندينافية بنورماندية في القرن العاشر فتعلَّموا لغةَ هذا البلد وانتحلوا دينَه، ثم ادَّغَم من جاوزوا المانشَ ليقيموا بإنكلترة في أهل البلاد في مدة قرن، ولكنْ بينما تراهم قد وَجَدُوا في إنكلترة شعبًا ذا طبائعَ استطاعوا أن يلتئموا بها سريعًا لم يقع هذا الالتئام إلا ببطءٍ بالغٍ في صِقِلِّية.
وصارت صِقِلِّية ملتقى الحضارتين في القرن التاسع كما في عصر برِكْلس وعصر برُّس، وهنالك، حيث مَلَكَ العربُ طِيلَةَ القرنين السابقين، تقابل أبناءُ الصحراءِ هؤلاء وأبناءُ بحر الشمال مقابلةً تمثيلية، وهنالك قصائدُ وأساطيرُ تُحَدِّث عن اصطدام هذين العِرقين اللذين خُلِقَا ليتجاذبا بدنيًّا، ويمكن جمالَ المُوَلَّدِ أن يُكَوِّنَ لنا فكرةً عن الذي حدث في ذلك الحين نتيجةً للغريزة الحسية أكثر مما للزواجات، ولم يتفق للنغيل الذي تَغَنَّى به شكسبير من الحُظْوَة ما اتفق لتوالد العِرقين المختلفين الذي ليس عندنا سوى صُوَرٍ قليلة عنه والذي لدينا عنه قصائدُ وقِصَصٌ وأخبارٌ كثيرةٌ.
وفي بَلَرْمَ يَدُلُّنا قصرُ رُوجِرَ النورمانيِّ المزخرفُ بفسيفساء ذهبيةٍ على رَوْعة ذلك الامتزاج النورمانيِّ العربيِّ كما تدلنا عليه القِبَابُ الإسلامية التي تبدو لنا من فورها بين بساتين البرتقال في صِقِلِّية قريبةً من الكنائس الابتدائية ذات الخطوط الجافية.
ومن يمكن أن يكونوا أبطالَ أحلامِ نساءِ الحريم الروائية السُّمْرِ الفَوَاتنِ الغِيدِ إن لم يكن أولئك الفرسانُ أو قُطَّاعُ السابلة الشُّقْرُ الملازمون للبحر المتوسط زُمَرًا صغيرةً على حين يجول العرب كتائبَ كثيرةً؟ أَوَلم يَجُبْ أشهرُهم، رُوبِرْت غِسْكار، من آل هُوتْفِيل، بلادَ إيطالية لابسًا مِعْطفًا مُخْفيًا سيفًا تحت حُلَّته؟ ومن أَبولِي طلب العربُ العَوْن منه ومن فرسانه. وكان هؤلاء الرجال ذاهبين إلى الإبير قيامًا بمغامرات، وهم كانوا قد اختاروا بِزَنطة كالعرب، وهم لم يستطيعوا أن يستولوا على بزنطة، وإنما انتزعوا صِقِلِّية من العرب؛ أي وُفِّقُوا لأمرٍ لم يَتَّفِق لبزنطة قَطُّ. وبما أن فتحَ إمبراطورية بِزنطةَ الشرقيةِ كان متعذرًا على غِسْكار فإنه ساق كتائبَه إلى رومة حيث مَثَّلَ مَهْزَأةَ الأباطرةِ المعتادةَ مُكْرِهًا البابا على إقطاعه دُوكِيَّتَه، حتى إن أحدَ خلفائه، روجر، حَمَل على تتويجه ملكًا لنايل وصِقِلِّية.
وشعبٌ مَلَّاحٌ وحدَه هو الذي كان يمكنه أن يقوم بجميع تلك الفتوح سريعًا، وكان جميع هؤلاء الرجال، وهم من جِرْمانية الشمالية وإسكندينافية اللتين لم تَسْطِع الإمبراطوريةُ الرومانية أن تَصِلَ إليهما، قد تعلَّموا المِلاحة في بحر الشمال وفي البحر البلطيِّ. وكان أناسٌ من الأَنْغلُوسَكْسُون والجُون، ثم من الدانيماركيين، قد جاوزوا البحرَ إلى الجُزُر البريطانية، ثم أتى الوِيكِنْغ من روسية إلى القسطنطينية حيث صاروا جنودًا ورَبَابنةً مشهورين. وكان النورمان قد ظهروا في القرنين التاسع والعاشر على البحر المتوسط كجنود وكحُجَّاج، وكقراصينَ على كلِّ حال، فشابهوا عربَ البحر المتوسط بنشاطهم هذا مشابهةً كثيرة، وكان يوجد في الغالب جَذَّافون من العرب في سفينةٍ نورمانية فيَتَّحِدُ الشمال والجَنوبُ بذلك على مراكبَ واحدة.
وكان دور القرصنة الروائيُّ قد انقضى منذ زمن طويل، وعاد لا يُعَدُّ في البحر المتوسط عملًا بطوليًّا، وكانت القَرْصنة تُعَلَّمُ كما كان التجار يتعلمون المِلاحةَ فيما مضى. وكان قومُ الصحراء، العربُ، قد بلغوا المحيطَ الأطلنطيَّ منذ القرن الثامن، حتى إنه يُعْتَقَدُ نزول العرب إلى البرازيل سنة ١١٥٠، وقد غدا العرب في القرن التاسع مصدرَ هَوْلٍ في البحر المتوسط، فانتهبوا مرسيلية ونيسَ وأوستي. وقد تَعَلَّم الوَنْدَالُ المِلَاحةَ في البحر المتوسط أيضًا، ويلوح أن البرابرة كانوا أمةً بحريةً وأمةَ فرسانٍ معًا، لمجاورة مُلْكِهم للبحر وللصحراء معًا.
والنورمانُ وحدَهم هم الذين بَدَوْا ملاحين حقيقيين منذ البُداءة، والنورمانُ قد جلبوا إلى البحر المتوسط طرازًا جديدًا من السُّفُن كما يَلُوح، جلبوا إليه نوعَ السفينةِ المعروفة بالغالِير والتي ظَلَّت تُقْتَبَس عِدَّة قرون، وكانت هذه السفينة المُغَطَّاةُ مجهزةً بالمقاذيف بالغةً من الطول خمسة وخمسين مترًا أحيانًا مصنوعة من الخشب تمامًا، وكان يمكن هذه السفينةَ أن تَحْمِل حتى أربعمائة رجل، وكان جَدَّافُوها يُوضعُون بجانب بعضهم بعضًا، لا في طبقات، وكان طول مقاذيفها اثني عشر مترًا فيُحَرِّك الواحدَ منها تسعةُ رجال، ويُذْعِنُ الرجلُ منهم لرجلٍ جهير الصوت مُشْرِفٍ على الحركة في فَيْنَاتٍ ثلاثٍ مُقَطَّعةٍ هكذا: «ارفَعُوا، مُدُّوا الذرعانَ، اجْذِبوا وعُودُوا إلى المَقْعَد!» وكان يمكن أن يُؤْتَى ما بين اﻟ ٢٢ واﻟ ٢٦ جَدْفَةً في الدقيقة الواحدة فتتقدم السفينة عشرةَ أمتار إلى الأمام بالجَدْفَة الواحدة وتُنْجِزُ عشرَ عُقَدٍ في كلِّ ساعة، وذلك في مساوفَ قصيرةٍ وفي أثناء الهَجَمَات، وكان من المعتاد أن تُنْقَصَ السرعةُ في الساعة الواحدة إلى خمس عُقَدٍ، وإلى عقدتين أيضًا. وكانت السُّفُن تجري بلا أَشْرِعَةٍ في الغالب، وكانت السَّفِين، في غير أوقاتٍ، تُجَهَّزُ بشراعٍ يُعْرَف باللاتينيِّ، فيَتَدَلَّى على طول ساريةٍ طويلة، وكان لا يُتْنَفَع بهذا إلَّا عند تقدُّم الريح، وذلك لقِصَر مقدار ما يدخل من المركب في الماء ولجهل تدوير المركب.
وكان النورمانُ والعربُ يجعلون البحر أقلَّ أمنًا من فوق مراكبهم التي لم تَلْبَث الشعوب الأخرى أن انتحلت طرازَها، وكان هذان الفريقان يتحالفان تارةً ويقتتلان تارةً أخرى كما تصنع المصارف الكبيرةُ ذلك في الوقت الحاضر. وكان النورمان والعرب يتخذان الصليبَ والهلالَ ذريعتين للاقتتال كما تنتفع هذه البنوك بالنَّعْرَة الوطنية. وكان البابوات يدفعون جزيةً إلى قراصين العرب، طويلَ زمنٍ، ليُصانوا، ولا عَجَب، في مثل هذه الأحوال، إذا ما تحالفت المدن التجارية وأَنشأت أساطيلَ للدفاع وزادت سلطانَها على هذا الوجه، وَيُعَدُّ هذا مصدرًا لِمَا يكون للتجار الإيطاليين من قوةٍ في المستقبل.
وأول خِطةِ هجومٍ التزمتها المدن المتحالفة على ما نعلم هو ما صنعته بيزِه وجِنوَة سنة ١٠١٥ عندما اتفقت هاتان المدينتان على نزع سردينية من القراصين.
وقد نشأت فكرة حرية البحار حوالَي ذلك الحين، وقد بدأت المُدُنُ: غايِت وأَمَالْفِي وسالِيْرم ونابل وبرِنْدِيزي وأُتْرَانت وبارِي في الجَنوب، وبيزة وجِنوة في الشمال، ثم البندقيةُ التي لم تَلْبَثْ أن فاقت الجميع، تأخذ مكانَ بِزَنطة بالتدريج حَوالَي عصر النورمان والصليبيين الأولين. وقد تحولت وسائل دفاع هذه المدن إلى قوة بحرية متزايدة سريعًا، ومع ذلك لم تكن خلف هذه القوة أية خِطة للسيطرة العالمية، ثم أخذت سفن المدن المتحالفة تطوف في دوائرَ أكثرَ اتساعًا وتتاجر مع تونسَ وطرابلسَ والإسكندرية ومع النصارى والمسلمين من غير نظرٍ إلى المزاعم الدينية.
ووضعت جامعة أمالْفي قواعدَ قانونٍ للبحرية حوالَي ذلك الدور للمرة الأولى، وكانت كلية الطبِّ في سالِيْرم تجتذب طُلَّابًا من كلِّ أمة، وكانت كنيسةُ بيزة الرُّخاميةُ تستند في وسطها إلى ثمانيةٍ وستين عمودًا قديمًا يونانيًّا أو رومانيًّا اشْتُرِي أو حُجِزَ من قِبَل أهل هذه المدينة، وهكذا ترى التجارة والثَّقافة، في سواء القرون الوسطى التي نَصِفُها بعدم التسامح، تَشُقَّان طريقًا لهما بين الأمم والأديان بروح كبيرة من التسامح، ولَمَّا نَشِبَ الصراع كان بين النصارى أو بين الطلاينة، فخُرِّبتْ أمالْفِي من قِبَل بيزة كما خُرِّبَت بيزة من قِبَل جِنِوَة، ولَمَّا تنازعت المدن حالفت إحداها العرب ضِدَّ أبناء وطنها من النصارى.
ولا أحد يستطيع أن يقول أيُّ الأمور كان سائدًا للبحر المتوسط: آلقانون أم الفوضى، آلأَمْن أم قطع السابلة، آلعقود الحُرَّة أم العنف، والواقعُ أن جميع هذه العناصر كانت باديةً في مختلف الشواطئ معًا، وإذا ما بحثنا في تاريخ جِنوَة وجدنا الجرمان قد خَرَّبوا هذه المدينةَ في القرن السابع، ووجدنا كوُنْتًا من أصلٍ جِرْمانيٍّ كان يَمْلِكها في القرن الثامن فَخَرَّ صريعًا في معركةٍ ضِدَّ قَراصين العرب، ووجدنا عَرَبًا من أفريقية نَهَبُوها بعد مائة سنة، ووجدنا هؤلاء قد استولَوْا، في الوقت نفسه، على مرافئ نهر التيبر وانتهبوا ضفتَه اليُسرى وكنيسةَ القديس بطرس، وقد جَرَّد قراصين دَلْماسْية مدينةَ أبولي من خمرها وزيت زيتونها، ثم طرد النورمانُ العربَ من صِقِلِّية، وتصبح التجارةُ حُرَّةً زاهرةً على شاطئ البرُوفنْس من فورها، ويُنَظِّم أُسْقُفُ فرِيجُوسَ أسواقًا في سان رَفَائِيل على الطراز الحديث اجتذابًا لتجار من الأجانب.
وتُضْطَرُّ البندقية في ذلك الدور إلى تسكين قراصين الساحل الصخريِّ القريب منها بأن تُعَاهِدهم على أن تُعْطِيَهم جزيةً عظيمة وعلى أن يُجَهِّزوا البندقيين بعبيدٍ لتجارتهم، وتُضْطَرُّ جِنوَة ومُنَظَّمة الهَيْكلِيِّين في ذلك الدور إلى التحالف ضِدَّ قراصين البربر والعرب المتحدين، ولم يَنْشَب كلُّ أميرٍ نصرانيٍّ يريد محاربةَ رئيسٍ مغربيٍّ أن صار يحالف أميرًا مغربيًّا آخرَ ضدَّه قبل كلِّ شيء.
وهكذا صار يَتَدَفَّق الأجانب على الشواطئ بلا انقطاع، وقد أخذت كلُّ زمرة جديدة تَحْرِمُ الزمرةَ السابقة حقوقَها، وقد امتزجت الزُّمَرُ امتزاجًا عِرْقيًّا، وكما أن الفنيقيين، الذين بَدَوْا تجارًا أكثر منهم قراصين، كانوا يسافرون على زوارقهم الهزيلة إلى سورية وسَرْتَ وجبل طارق وَصَلَ العربُ الآتون من الجَنوب والنورمانُ الآتون من الشمال إلى الموانئ الفنيقية والإغريقية القديمة على سفنهم بعد ألفٍ وخمسمائة سنة، ولم يكن قد تغيَّر شيءٌ غيرُ مقاييس هؤلاء النصارى وهؤلاء المسلمين الخُلقية، وذلك لِمَا حَدَث من انحطاطهم بأن صاروا قراصينَ أكثر منهم تجارًا.
٢١
من النادر أن جُرِّب تحريك الجماهير نحو هدفٍ مثالِيٍّ في غضون التاريخ، ويُعَدُّ الدفاعُ عن الوطن مُحَرِّكًا طبيعيًّا غيرَ مشتملٍ على مزية خاصة وإن كان يُنْعَتُ بكلمة «البطولة» المصنوعة، وأما حَرْب الفُتُوح فقد صُوِّرَت مثاليةً تصويرًا خاطئًا، فالواقعُ أن أحد العَدُوَّيْن في الحرب يريد أن يَكْسِب أموالًا وأملاكًا وأن العدوَّ الآخر يرغب في الانتقام من ظالمه أو في المحافظة على أمواله بمقاومته، وتجتمع غريزةُ القِراع والطمعُ وحبُّ نَيْل الإعجاب لإلهاب ما يُسَمَّى الحماسةَ نحو حَرْبِ فُتُوح.
ومن المحتمل أن كانت الحروبُ الصليبية وحيدةً في التاريخ من حيث حَفْزَها جُمهورًا إلى الدفاع عن ذخيرةٍ مقدسة نتيجةً لإلهامٍ دينيٍّ، وفي هذه الحوافز الوَجْدِيَّة يَشْعُر الرجل العاديُّ بأنه ارتقى فوق قَدَره وبأنه مُلِئ قوةً جديدة، وفيها يستطيع ابنُ الوطن البسيطُ أن يَحْمِل سيفًا لا يَصْلُح لغير الفرسان، ومع أن هذا الرجلَ كان يُبْصِر في الماضي ما يَحْمِله الجنود من الأشعرة الزاهية تراه الآن مَدْعُوًّا، عن مِثَالِيَّةٍ، إلى عملٍ يكافَأُ صاحبه بالشرف وحدَه، وهنالك ترتقي حماسته إلى درجة الوَجْدِ. وفي الحروب الصليبية كان العملُ كلُّ العمل في التقتيل نهارًا وفي الركوع ليلًا شُكْرًا للربِّ مع دعائه أن يُوَفِّقَ في الغَدِ لمثل ما صُنِع بالأمس، وهكذا كان يَتَحَوَّل السَّكَّاف إلى بطل.
ولما اجتمع مجمعُ كلِيرْمُونَ الدينيُّ سنة ١٠٩٥ صَرَخَ البابا أُوربانُ الثاني قائلًا عند ختام خُطبته النارية: «تلك هي إرادة الرَّبِّ!» ويلتهب الجُمهور حماسةً ويعزم على الذهاب إلى القدس من فَورِه لحماية القبر المقدس، وتَهُزُّ الجماهيرَ رؤًى خياليةٌ في ذلك الحين عن آمالٍ مَسِيحيةٍ، وكان مُعْظَمُ المشاغبين من الفرنسيين، وكذلك البابا الذي ذهب إلى فرنسة ليُلْقِيَ تلك الخُطبة، وكذلك الناسكُ الذي فُوِّض إليه أمرُ الدِّعاية للحرب الصليبية، وكان وَغْيُ الحرب اللاتينيُّ الجديد هو: «صوتٌ جديدٌ نحو السماء وغفرانُ خَطايانا»، ويُضَافُ إلى هذه العوامل الدينية الصِّرْفة ما كان من إيقاظ غرائز عالَمٍ فُرُوسِيٍّ كحبِّ المغامرات وكالبسالة وبَذْلِ النفس، والواقعُ أن الرجال الأصِحَّاء، الشُّبَّانَ في الغالب، هم الذين زحفوا في نهاية الأمر مسلَّحين لابسين خُوَذًا خائطين صُلْبَانًا على أرديتهم.
وما الذي كان عليهم أن يدافعوا عنه؟ وهل كانت القُدس والقبرُ المُقَدَّس بين النيران؟ وهل ذَبح الكافرون المؤمنين؟
وإذا نظرت إلى القرون الثلاثة؛ أي إلى ما بعد فتح القدس من قِبَل عمرَ سنة ٦٣٧، وجدتَ سادةَ الأرض المقدسة العربَ قد ظهروا أكثرَ حِلْمًا وتسامحًا من مُعْظم الفاتحين، ومن ذلك أن سَلَّم الخليفةُ هارونُ الرشيد إلى شارلمان مفاتيحَ القدس ومَنَحَه لقب حاميها كما منحه حَقَّ امتلاك القبر المقدس، وكان ملوك الجِرْمان والإنكليز على صِلاتٍ وِدِّيَّة بالعرب فيقيمون مبانيَ ويقومون بأعمالِ بِرٍّ وإحسان.
غير أن الوضع تغيَّر حينما احتلَّ الترك السلجوقيون تلك المدينة سنة ١٠٧١، ومن الطبيعيِّ أن يكون قد وَقعَ ارتباك كثير عندما أعادت دولٌ نصرانية فتحَ أقسام من العالَم الإسلاميِّ في صِقِلِّية وإسبانية ثم خَسِرَتها ثم استردتها مُجَدَّدًا حتى لُقِّبَ نورمان صِقِلِّية ﺑ «الصليبيين قبل الحروب الصليبية»، ويستولي الترك نهائيًّا على آسية الصغرى تقريبًا، ويَشْعُر كلٌّ من النصارى والمسلمين بأنهم مُهَدَّدون مقابَلةً مع أن كلًّا منهما كان يُهَدِّد الآخر، فتنشأ حالٌ نفسية تؤدي إلى اشتعال حَرْبٍ في البحر المتوسط كان أقطاب السياسة قد اجتنبوها عن تسامحٍ وحكمةٍ عِدَّة قرون.
وكانت تُضاف إلى الوَجْد الدينيِّ والزَّهْوِ العِرْقيِّ والرغبة في المجد جاذبيةُ الشرق المعروفِ قليلًا والملازمِ لخيال الغرب، وكان يُعَبَّر عن هذه الجاذبية في الأقاصيص والروايات الكثيرة التي تجعل أمر الشرق ماثلًا في الأذهان، وهذا إلى ما كان من مُغْرِيات الكسب والصيت والأملِ في الثواب من الرَّبِّ، وهذا إلى ما كان من استيلاء الطاعون بشدةٍ على ما بين الفلَانْدِر وبُوهِيمْيَة وإِكراهِه ألوفَ الناس على مغادرة بلادهم، وقد حَلَم هؤلاء الذين لا مأوى لهم بسورية على أنها جَنَّةٌ تُثْمِر تفاحًا ذهبيًّا تحت سماءٍ دائمةِ الزُّرْقة، وهنالك أناسٌ آخرون كان يساورُهم أملُ الفِرار من الاضطهاد أو من النذورِ الدينية أو من نسائهم، وهكذا كان كلُّ ما في الإنسان من ضعفٍ وفضائلَ يَدْفَع الألوفَ من الآدميين إلى ترك وطنهم الأمين ووسائلِ عيشهم وإلى تركِ أُسَرِهم متوجهين إلى ما هو مجهول وراء البحر المتوسط.
وسُمِعَت شكاوى منذ البُداءة، حتى من أفواه الأساقفة المقيمين ببلاد الرِّين، حَوْلَ ما عُدَّ «لصوصُ» الصليبيين مسئولين عنه من إِهانة اليهود واضطهادهم.
ولاح للبابا أنه تَمَثَّلَ مبدأً عظيمًا عندما قذف كلمةَ «الحرب الصليبية» في العالم، ومع أن البابا لم يَقْصِد أن ينتقل من رومة إلى القدس فإنه كان يَوَدُّ أن يسيطر على القدس من رومة. ومن شأن ذلك المبدأ أن يجعل البابا صاحبَ سلطةٍ فوق الدول وأن يَدْعُوَ الرجال الأقوياءَ الشُّجَعَاءَ في جميع البلاد من فوق مولاهم إلى إِخضاع بطاركة الشرق لمقامه الرفيع، وأن يَشْرِيَ شُكْر كثيرٍ من الأمراء والإقطاعيين بأن يسلك بأبنائهم الفتيان سبيلَ المجد والشرف والثراء.
ويا لحماسة الصيارفة الذين يُمِدُّون هذا المشروع بالمال! ويا لضخامة ما تتلقاه مدن إيطالية من طَلبَاتِ وسائلِ النقل وطَلبَاتِ الإصدار والإدخال! وبينما كان الغرب يهتزُّ بصُرَاخ المُحَرِّضين اللابسين ثيابَ الكَهَنُوت والقائلين مع التكرار إنه لا بُدَّ من حماية القبر المقدس. وبينما كانت الاجتماعات العامة تُخْتَم بالصلوات والتراتيل، كان يطوف بين الحضور البالغي الوَجْدِ تجارٌ حاملون أقلامًا بأيديهم جامعون لأعمدةٍ من الأرقام، وبينما كانت الأحوال تضطرب اضطرابًا لم يَسْبِق له نظير، كان التجار في رِداه مرفأ جِنِوَة ذواتِ القِبَاب الدُّكْنِ وفي أروقة البندقية الأكثرِ نورًا ومَرَحًا يَعْقِدون اجتماعاتٍ لا حَدَّ لها للبحث في الوسائل التي ينالون بها أعظمَ ما يُمْكِن من المكاسب، أَجَلْ، كان بعض ألوف الصليبيين يبحثون عن نجاة روحهم، غير أن مُعْظَم الصليبيين لم يَنْشُد سوى الثَّرَاء، ومن المحتمل أن كانت تلك أولَ حربٍ في التاريخ لم تَقُم بها جيوشٌ، بل قامت بها شعوبٌ بأَسْرِها، وقد كان بُرُوز الجُمهور المُغْفَلِ عاملَ التاريخ الحاسمَ في ذلك الدور أكثر من أن تَكُونَه المعارك الصِّرفة.
وبالشكل والدوام والنجاح اختلفت الحروبُ الصليبية الأربع أو الخمس التي ملأت القرنَ الثانيَ عشرَ والتي لا محلَّ لتحليلها هنا، ويكفي لتَمَثُّلِها أن تُفْحَصَ تلك البُسُطُ الشرقية التي أتى الصليبيُّ بها إلى بلده والتي وَصَف بها عالَمَ الشرق الأَبْلَق لأُسْرَته، وكانت تُرَى على تلك البُسُط صُوَرُ حيواناتٍ ونباتاتٍ عجيبةٌ وصورُ فرسانٍ غَنِيَّةٌ بالزخارف، وصُوَرُ سَيِّداتٍ وسُفُنٍ وخيلٍ وجمالٍ مع رسومٍ خيالية، ولو لم يجئ الصليبيون بشيء غيرِ أساطير الشرق لكفى هذا وحدَه للاعتداد به، والواقعُ أن كلَّ ما كَسَبته النصرانية هو تلك الكنوزُ من الفنِّ والشعر والأغاني وأساطيرِ المغامرين، فشَوْكَةُ الإسلام لم تُكْسَر قَطُّ.
وكان يوجد لصوصٌ أغنياءُ ورهبانٌ متعصبون، وكُونْتاتٌ طالبون إمارةً، ونُغَلَاءُ ملوكٍ أتقياءَ لا يَعْرِفون هل يُبَاهون بأصلهم أو لا يُبَاهون، وخطباءُ جائلون موهوبون ووزراءُ بُخَلَاءُ، وأساقفةٌ أَخذوا عن العرب نظامَ الحريم، ومُرَابون أَغْرَقوا سُفُنًا نَيْلًا لمبلغ التأمين، ومقامرون وطُلَّابٌ، وجَوَّابون مُغَنُّون وكاتبو أشعارٍ بلغة لاتينية رديئة، وشعراءُ دَوَّارون منشدون تحت نوافذ نساء التُّرْك المُحَجَّبات أو ساخرون منهن إضْحَاكًا للناس، ومخترعو سُفُنٍ جديدة، وتجارُ ذخائرَ زائفةٍ. وكان يوجد من أغنياء جِنوَة مَنْ يُرْسلون أبناءهم حاملين أسلحةً ذهبية ليقاتلوا، في كتائب الأريستوقراطيين، فريقَ الكافرين الذين يبيعونهم خشبًا ومعادنَ في الوقت نفسه كما لا يزال يصنع كِبَارُ المستصنعين في أوروبة.
وينقضي دور الحماسة الأول فيُشاهَدُ بين الرؤساء المتحالفين مثلُ ما يُشَاهَدُ في أيامنا من سُوءِ الظنِّ، ويكفي أن تُقْرأ قصةُ الفَزَعِ الأكبر الذي استحوذ على إمبراطور بزنطة ألِكْسِيس، وعلى ابنته، حينما دخل الصليبيون المرفأَ نهائيًّا، فقد آذَوْا مزاجَ أهل بزنطة من شعبٍ وأهلِ بَلَاطٍ، وانتهكوا حُرْمةَ تقاليدهم وعاداتِهم. وإذا نُظِرَ إلى الأمر من حيثُ هو مشروعُ استرداد فلسطين التي كان قد خَسِرَها البِزَنطيون، وُجِدَ هؤلاء كارهين لهذا المشروع ما دام وليدَ خيال منافسهم، بابا رومة، وما كان قُوَّادُ الجيوش المتحالفة المتباغضون ليسيروا في آسية الصغرى مع كتائبهم إلَّا بعد مفاوضاتٍ شاقَّة إلى الغاية كادت تتحول إلى اصطراع. وكان الإمبراطور قد طلب من الصليبيين أن يَتَلَقَّوا الأَرَضِين التي تُؤْخذ من الترك بلادًا تابعةً لبِزَنطة، فرفض أحد الأمراء أن يَحْلِفَ اليمين، وكذبَ أميرٌ ثانٍ في يمينه، وباشر أميرٌ ثالثٌ الأمرَ طليقًا غيرَ ملتفت إلى ذلك.
وكانت تُدَوِّي معجزاتٌ تورائيةٌ في تلك الأماكن الكثيرة، فينتفع الرؤساء بكلِّ مصدرٍ للخرافة والإيحاء إثارةً لحماسة الجنود، وقد قاومت أنطاكية حِصَارَ عِدَّةِ أشهر، وقد أبصر الصليبيون أنهم مُهَدَّدون من قِبَل جيشٍ تركيٍّ جاء لمساعدة المحصورين، وهنالك أنقذ فَلَّاحٌ بروفنسيٌّ ذلك الوضعَ الموجب لليأس، وذلك بأن رفع رُمحًا قائلًا إن يَسُوعَ كان قد طُعِن به على الصليب، وتُحَرِّك هذه الظاهرةُ المسيحيين فيَكْسِبون المعركة، ومع ذلك فقد تَبَسَّم نائبُ البابا من هذه الأُسطورة مرتابًا وكتب يَشُكُّ في موضوع ذلك الرمح.
وأخيرًا تَسْقُطُ القدس في سنة ١٠٩٩، ويزيد شوق الفاتح إلى الانتقام، وإذا ما قُرِئ في تقريرٍ قديمٍ: «أن الصليبيين ملئوا ساحةَ هيكل سليمان بالدم حتى رُكَبِ الفُرْسانِ وعُدَدِ خُيُولهم» أُثْلِجَ حتى الفَقَار عند تَمَثُّلِ تحرير تلك المدينةِ الأولِ من قِبَل جنود الربِّ الأتقياء أولئك. وكان النبيُّ الذي يَرْقُد في القبر المقدس نبيًّا يعترف به دين الأعداء أيضًا، وكان كلا الدينين يأمر بالتسامح، وما كان من اقتتال أتباعهما على الرغم من كلِّ شيء يُثْبِتُ أنه يُمْكِنُ سلطانَ الرموز والأشعرة أن يُحِيط حسَّ العقل والعدل بطبقةٍ من الظَّلام، ويُقْتَل الألوف من الفريقين بعد سقوط القدس مع أن أجدادهما كانوا يَدْعُون إلهًا واحدًا بأسماءٍ مختلفة، ويدلُّ هذا على جاذبية النداءات الحربية والأشعرة وعلى تأثير الخُطَب في الجماهير.
أَجَلْ، بَقِيَت مملكة القدس اللاتينيةُ التي أُقيمت بين ما لا حَدَّ له من الدسائس والمنافسات ثلاثةَ قرون مبدئيًّا، ولكنها دامت قرنًا واحدًا فعلًا، ويَرْفِض غُودْفرْوَا البُويُونيُّ، الذي هو أول فارسٍ اختِير ملكًا، هذا اللقبَ بإباء مُفَضِّلًا إقامةَ دولة دينية، ويُعْلِن أنه تابع للبطرك الجديد و«قَيِّمٌ على القبر المقدس»، وعلى العكس يُسَمِّي أخوه، الذي خَلَفه بعد عهدِ سنةٍ، نفسَه بُودْوَانَ الأول، ولا يكون إذَنْ غيرُ إمارةٍ صغيرة زائدة بدلًا من دولةٍ دينية واحدة، ولم يُسْفِر هذا الإنشاء الذي ظُنَّ أنه يكون نَمُوذجًا للملوك والقساوسة عن غير إثارةِ ما لا نهايةَ له من صِراعٍ بين ملوك القدس وقساوستها، وبين النورمان والفرنسيين، وبين اللُّوران والطليان، من صراعٍ عن حبٍّ للسلطان ومن غيرِ أيِّ نفعٍ للأعقاب ومن غير أيِّ تأثير في نفوس العالَم الحديث وأفئدته.
وتتحول الحرب الصليبية النصرانية ضدَّ الكَفَرة إلى قتالٍ بين خمسةٍ أو ستةٍ من الأمراء والشعوب، ويحارب النورمانُ بِزَنطة، وتقاتِل مُنَظَّمَتَا الهَيْكَلِيِّين وفرسانِ مار يُوحَنَّا ملوكَ القدس، ويقاتِل أباطرةُ ألمانية وبزنطة ملوكَ فرنسة والنورمان، ومَن ينظر إِلى الأساس يُبْصِر اقتتال جميع النصارى، والفَرَنْجُ والعربُ وحدَهما هما اللذان عَقَدا معاهداتٍ دَوْلِيةً مُثْبِتِين مخالفةَ الحروب الدينية للعقل، ويَمْضِي زمنٌ، فيقترح سلطانُ مصرَ، حوالَي سنة ١٢٢٠، على أمراء النصارى أقربَ الحلول إلى الصواب؛ أي يَعْرِض عليهم جميعَ الأرض المقدسة على أن يتركوا مصر، غير أن الكردينالَ بيلَاج، الذي كان يُفَضِّلُ استغلالَ مصرَ الغنيةِ على تَمَلُّكِ الأرض المقدسة الفقيرة، رَفَضَ ذلك فلم يَنَلْ هذه ولا تلك في نهاية الأمر.
٢٢
صَدرَ ما بين ملوك العرب والنصارى من تضادٍّ أيام الحروب الصليبية عن تاريخ رجلين بما يَقِفُ النظر، وقد تقاتل الرجلان من غير أن يَقْهَر أحدُهما الآخر، وقد تفاهما في نهاية الأمر، وقد انتقل اسمهما إلى الأعقاب مع تماثلٍ في المجد، والرجلان هما قلبُ الأسد ريكاردوسُ والسلطانُ صلاح الدين.
تفصِل قارَّةٌ وبحرٌ محيطٌ بين مسقَطَيْ رأس هذين الرجلين المختلفين عِرْقًا ودينًا، ومع ذلك كان كلاهما جنديًّا وفارسًا بفطرته، ومع ذلك كانا متساويين ثَقافةً ومقامًا واستعدادًا عندما التقيا في معركةٍ قصيرة، ومع ذلك كانا يختلفان شخصيةً بفعل ما نالاه من تربيةٍ فضلًا عن اختلاف العِرْق والدين.
صار ابن ملك إنكلترة دوكًا فرنسيًّا في الخامسةَ عشرةَ من سنيه، ونُشِّئ ليَقْبِضَ على زمام الأمور، وكان يَتِيهُ زَهْوًا بإقدامه الرائع فارسًا، وهو لم يُعتِّم أن اشترك، كأميرٍ من بلد أجنبيٍّ، في مؤامرة ضدَّ ملك فرنسة، وتُكْتَشَفُ المؤامرة ويُخْزَى الأميرُ، ثم يُعْفَى عنه، وتُعَادُ إليه حقوقه، ويَبْلُغ من العمر ثمانيَ عشرةَ سنةً، وينقِذُ متبوعَه من تَمَرُّد كُونتٍ آخر، ويخاصم أخاه الأكبرَ الذي اقتدى بأخيه الأصغر في مهنته عن حَسَد، ويموت أخوه هذا فيغدو وليَّ عهد إنكلترة ونورماندية، ويَحْفِزُه نشاطُه ومواهبُه وآمالُه، كمقاتلٍ لا يَشْبَع من القتال، إلى البحث عن مآثرَ جديدةٍ، ويَجِدُّ، كشاعرٍ جَوَّالٍ وموسيقيٍّ، في نَيْل المجد بالفنِّ والقتال معًا.
وفي الدَّوْر نفسه يبدأ ابنُ كُرْدِيٍّ من أرمينية، يبدأ القائدُ والحاكمُ، يبدأ ابنُ الأصل الوضيع، بعَمَلِه وَفْقَ خِطَّةِ حياةٍ ناشئةٍ عن حماسة عميقة، ويُكَوَّن بسنواتِ صَبْرٍ وتأملٍ صامت.
ومن سوء الحظِّ أنه ليس عندنا صورةٌ صحيحة لكلٍّ من الرجلين، خلا خاتَمٍ لريكاردوس ورُسَيْمٍ لصلاح الدين، وكلا الرسمين خفيف؛ ولذا ترانا مضطرين إلى تَنَوُّرِ سيماهما بما انتهى إلينا من أوصاف، فنُبْصِرُ الصليبيَّ النشيطَ العصبيَّ الصَّوَّالَ بجانب الكرديِّ الصموتِ الفاترِ المُتَبَصِّر، ويَبْدُو الأولُ لنا أكثرَ قسوةً من الثاني.
ويَنِمُّ اسمُ «صلاح الدين» على تَدَيُّنٍ عميقٍ في هذا المسلم، ويَنمُّ اسمُ «قَلْب الأسد» على قوة المشاعر، وكان الاسمان لقبين، ومن ثَمَّ كانا جزأين من شخصية البطلين، وقد رُبِّيَ ابن الملك بين الألعاب العسكرية وشجاعة الفُرْسان، وما كانت التوراة لتدلَّ قلبَ الأسد على شيء كبير، وكان صلاحُ الدين الذي تَخَرَّج في مركز الثقافة الإسلامية دمشقَ يَحْمِل القرآن مدى حياته.
وكان صلاح الدين يمقتُ النصارى ولكنه كان يعاملهم كفيلسوف، وكان قلبُ الأسد لا يمقت المسلمين ولكنه كان يُقَتِّلهم، والحكمةُ هي التي كانت تتغلب على ذلك الشرقيِّ، والجِبِلةُ هي التي كانت تتغلب على هذا الغربيِّ، ولو نُظِرَ إلى الأفكار الشائعة لوجب أن يكون قلبُ الأسد هو الشرقيَّ.
وما كان البقاء ليُكْتَبَ لمملكة القدس اللاتينية في وسط العالَم العربيِّ إلا لِمَا بين الأُسَر المالكة الإسلامية، ولِمَا بين خلفاء بغدادَ وفاطميي القاهرة، من شِقاق؛ ولذا كان على قائد الخليفة صلاحِ الدين أن يقهر المصريين في بدءِ الأمر حتى يقضيَ على تلك الجُزَيِّرة النصرانية، وقد وُفِّق صلاح الدين لذلك بعد جهاد عشر سنين مع عزمٍ وثباتٍ شرقيٍّ، وقد بَدَّد قلبُ الأسد نشاطَ نفسه في مئات المعارك المحلية، وقد استولى صلاح الدين على مملكةٍ قوية، ونادى بنفسه سلطانًا في الثلاثين، وجمع تحت سلطته جميعَ تُرَاث الفاتحين الأولين تقريبًا، واستردَّ القدسَ بعد أن أضاعها الترك بنحو قرن، وحَوَّل هيكلَ سليمان إلى مسجد، ولكنْ مع حقن دماء النصارى جُهْدَ المستطيع، ويصبح بفتوحه أقوى من جميع أمراء المسلمين.
وكان يَكبُرُ الإنكليزيَّ بعشرين سنة، وكان مُجَاوزًا الخمسين من عمره؛ أي كان في أوج سلطانه، حينما قبض الآخر على زمام الحكم ابنًا للثانية والثلاثين فقط ولَبَّى نداء حربٍ صليبية جديدة. وكانت فتوحُ صلاحِ الدين قد دفعت أوروبة إلى قتالٍ جديد شعارُه «يجب استرداد البلاد المفقودة!»، فكان من شأن مثل هذه الرسالة إثارُة خيال قلب الأسد وطموحِه وخُلُقِ المغامرة فيه.
ويَصِلُ إلى صِقِلِّية، وتشتعل المعارك حيثما يَرِد، وكانت أرملة ملك صِقِلِّية أختَه، وهذا لم يمنعه من حصار مدينة مَسِّينة النصرانية وانتهابها نتيجةً لخِصامٍ لا أهمية له، وكان هذا حربًا صليبيةً مُصَغَّرَةً.
وكان ريكاردوس فارسًا فرنسيًّا حقيقيًّا، وقد تَهَدَّدَ الإنكليز ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وقد كان كريمًا وطَمَّاعًا فُرُوسِيًّا وغَضُوبًا مُدَلَّلًا وتابعًا لهواه معًا، وتمنحه هذه الصفات روحًا متناقضة قاتمة، وتجعله عرْضةً لمتاعبَ مباغِتةٍ ولسوداء يَعْقُبها حُمَّيَاتُ نشاطٍ جديد. وعلى ما كان من صدق رغبةِ قَلْبِ الأسد في تحرير القبر المقدس نَسِيَ ما أعطاه من مَوْعدٍ أمام حِصنٍ فذهب لفتح قبرس في طريقه وتَزَوَّج أميرةً فيها، ثم يصل وليدُ الحظِّ المُفَضَّلُ هذا إلى عكا متأخرًا ستة أشهر فيُسْتَقْبَل كمنقذٍ مع ذلك.
ويبدو أمام القدس مرتين من غير أن يأمر بحِصارها، وذلك لخوفه من قِلَّة الماء لكتائبه وما يؤدي إِليه هذا من حبوط الحِصار ومن خُسْرِه نفوذَه ومجدَه تِجاه الأعقاب، ويحاول صلاحُ الدين أن يَكْسِب وقتًا فيَعِدُه بإعطاء جزية ولا يدفعها صلاح الدين، فينتقم ريكاردوسُ بقتله ألفي رهينٍ لعدم قبضه مائتي قطعةٍ من ذهب، ويَعْرِف العالَم بأَسْرِه ما أبداه صلاح الدين من حِلْمٍ تجاه أَسْرَى النصارى، حتى إنه أضاع بحِلمه هذا قلعةَ عكا التي صانها زمنًا طويلًا فتنالُ مَدَدًا في نهاية الأمر.
وما كان يقضيه قلبُ الأسد من حياةِ تَجْوالٍ بين بلدٍ وآخر يُبْعِده من مملكته زمنًا طويلًا ويوجب محاولةَ أحد إخوته أن يَخْلَعه في لندن، وينتهي خبرُ ذلك إلى ريكاردوس فيغادر سورية من فوره إنقاذًا لعرشه، ويَعْقِد صلحًا على جناحِ السرعة عن اضطرابٍ نفسيٍّ أو عن تَعَبٍ فيكلِّفه ذلك كما يكلف النصرانيةَ معظمَ ما كان قد اكتسبه في جولته الأولى، ولا يبقى لاتينيًّا غيرُ طرفٍ من الساحل وغيرُ مَمَرٍّ إلى القدس، ويظلُّ القبرُ المقدس قبضةَ الكافرين، ولا يستطيع الحجاج أن يَصِلُوا إليه إلَّا عُزْلًا من السلاح، وينصرف قلب الأسد كقائد مقهور، فلما بلغ بلدَه كان غيرَ ذي جيش.
وما فُطِرَ عليه قَلْبُ الأسد من عنادٍ خُلُقيٍّ أدى إلى حِقْد نصف أروبة عليه، وعاد قلبُ الأسد لا يستطيع المغامرةَ وراءَ البحر، حتى إنه لم يَقْدِر على المرور من فرنسة التي كان قد أهان ملكها، ولما أراد أن يجازف بشقِّ طريقٍ له من خلال ألمانية سَقَطَ بين أيدي جواسيسَ يعملون لحساب دُوكٍ نَمْسَوِيٍّ كان قد شَتَمه أمام عكا في ساعةِ نَزَقٍ، ولما وَقَع أسيرًا وَجَدَ في القلعة الشاعرَ الجَوَّالَ بلُونْدِل الذي هو أحدُ تابعيه، ويُسَلَّمُ إلى الإمبراطور خلافًا لحقِّ الصليبيين في الإكرام، ويحتفظ الإمبراطورُ به أسيرًا ولا يُطْلِقه إلَّا في مقابل فِدْيَةٍ عظيمة يدفعها أبناء إنكلترة من أموالهم، ويعود إلى بلده فلا يُعَتِّمُ أن يستردَّ سلطانه، ويَغْفِرُ لأخيه خيانته، ويعود إلى فِرَنْسَتِه محبوبًا، ويلاقي زوجَه التي تركها في أثناء فِرَاره، ويَسْكُن حِصْنًا جديدًا، ومن الطبيعيِّ أن يَبْحَث من فوره عن سببٍ تافهٍ لمقاتَلَةِ كُونْتٍ. ويموت قلبُ الأسد ريشارد بطعنة رمح، ويلوح أنه أراد معالجةَ الجرح بالاستخفاف فلا يُطَهِّرُه ويلتهبُ الجرح ويوجب موتَه.
ويُعْقَدُ الصلحُ مع صلاح الدين فيرسل إليه قلبُ الأسد هدايا مَلَكيَّة، وما فُطِرَ عليه من القِرَى وحبِّ الأولاد وحماية النساء ونظرةِ أُنْسٍ، ومن حِلْمٍ في الأوضاع، جَعَلَ منه قِدِّيسًا بعد حين، وهو لم يكن قِدِّيسًا في الحقيقة، وإنما صار قطبَ دائرةٍ من الأساطير كما حَلَم به. وكان صلاح الدين رمزَ حِصْن الإسلام وآسية ضِدَّ أوروبة النصرانية، وكان قلبُ الأسد مَثَلَ القرون الوسطى الأعلى وبطلَ أحلامها، وكلا الرجلين جاوز مقياس التاريخ، وعاد لا يكترث أحدٌ لحروبهما التي انتهت فَوْرَ وفاة صلاح الدين، وعلى العكس تراهما قد بلغا أعلى مناطق الأقاصيص، فصار صلاح الدين بطلَ أسطورةٍ وصار قلب الأسد بطلَ نشيدٍ حماسيٍّ، وعُدَّ كلٌّ منهما مجاهدَ القرون الوسطى على البحر المتوسط.
٢٣
حان وقتُ زوال القسطنطينية، وإذا ما وُجِدَت إمبراطوريةٌ في بلاد البحر المتوسط أضاعت سلطانَها نتيجةً لانحطاط أسطولها كانت تلك الإمبراطوريةُ بِزَنطةَ التي بَدَت ذاتَ طيشٍ في عَيْشها والتي صارت كثيرةَ الاطمئنان إلى نفسها.
ولم يَزَلْ آلُ كُومنِين في القرن الحادي عشرَ والقرن الثاني عشرَ أصحابَ بَلاطٍ كثيرِ التَّرَف غافلين عن السَّلَامة الحقيقية منهمكين في أمور الجمال والطقوس فقط. وبينما كان كثيرٌ من الفرسان والأمراء والشعراء والسَّحَرَة يَتَدَفَّقُون في هذه المدينة التي ظَهَرَت أجملَ مدن العالَم ليشتركوا في أعيادٍ تُجَدَّدُ دَوْمًا أو ليُثْرُوا أو ليَعْرِضوا غِنَاهم، كانت رِيحُ البحر تأتي بأَخْطارٍ متزايدةٍ من كلِّ ناحية، وكانت تُهَدِّد هذه المدينةَ الإمبراطوريةَ أساطيلُ وجيوشٌ، ومن الجَنوب غَلَبَ كتائبَ الإمبراطور المغامرُ النورمانيُّ والجالبُ مقاتلين وقَرَاصين ضِدَّ بِزَنْطَة، روبرتُ غِسْكار، ومن الشرق هَدَّد التركُ بحرَ إيجه، ومن الشمال هَدَّد المضايقَ بجَناحهم قومُ البلغار الذين انتحلوا النصرانيةَ حديثًا وبَلَغُوا البحرَ الأدرياتيَّ، ومن الغرب كانت سلطةُ البندقية القوية تزيد أسطولَها.
وتَغَيَّر كلُّ شيءٍ منذ حَرَم العربُ أوروبةَ سُفُنًا مملوءةً بُرَّ آسية وأفريقية مُكْرِهين أممَ أوروبة على زراعة الأرَضِين بنفسها، وما كانت بزنطة لتستطيع إنقاذَ نفسها إلَّا بعزمها على إنشاء أسطولٍ قويٍّ جديد مشابهٍ للأسطول الذي جَمَعَته رومةُ ضدَّ قرطاجة، والفارقُ هو أن رومة كانت جُمهوريةً في دور الارتقاء وأن بِزنطة كانت إمبراطوريةَ بَهْرَجٍ ذاتَ سفنٍ راسيةٍ في القرن الذهبيِّ مغطاةٍ بالديباج خافقةِ الأعلام على صوت الأبواق، وكان يلوح بعثُ روح الجُمهورية في البندقية مع عبقريةٍ تجاريةٍ قويةٍ غيرِ مسبوقة، وذلك إلى أن إِمبراطور بزنطة، الذي كان أغنى مَنْ في العالم والذي كانت بناتُه تُطْلَب للزواج بأباطرة الألمان، صار يُعْطِي البندقيةَ والبلغارَ جزيةً وأصبح وضعُه يَزِيد سوءًا في كلِّ جيل، ولما استولى ألوفُ الصليبيين على القسطنطينية وانصرفوا من غير أن يؤدوا ما عليهم ثار الشعب، وتُحاكُ مؤامراتٌ وتَقَعُ اغتيالاتٌ، ولم يكن لدى إمبراطور بِزَنطة، إسحقَ الثاني، الذي أمضى هو وزميلهُ النصرانيُّ بارْبارُوسُ معاهدةً، خِيَارٌ غيرُ مصالحة سلطان الكافرين صلاحِ الدين سِرًّا مع محاربة كلا الإمبراطورين إياه.
وفي الغرب، برومةَ، وَحَّدَ إمبراطورٌ ألمانيٌّ، وَحَّد ابنُ بارباروسَ، إيطاليةَ للمرة الأولى، وقد تزوج أميرةً صِقِلِّيَّةً، وهكذا أخذ يُحَقِّق الحُلُمَ الألمانيَّ حَوْل السيادة العالمية للمرة الأولى، وهنالك تُحْمَلُ خِزَانةُ تاج نورماندية على ظَهْر البغال من خلال جبال الألب وفي فصل الشتاء، وذلك رمزًا إلى أن وارثَ قصرِ هُوهِنْشتَاوْفِن الألمانيِّ بَسَطَ سلطانَه من البحر البلطيِّ إلى الشاطئ الشماليِّ الأفريقيِّ، والواقعُ أن سيطرة الجِرمان على البحر المتوسط صارت حقيقةً، ولم يَبْقَ لتمام الصورة غيرُ حَمْلةٍ حربية شبيهةٍ بحملة الإسكندر، وكان الألمانُ يحيطون بالبابا إينُّوسان الثالث الأكبر، فأَبصر هذا البابا أن من عدل الرَّبِّ موتَ الإمبراطور الألمانيِّ فَجْأَةً حينما كان يَتَسَلَّح إيقادًا لنارِ حربه العالمية.
بَيْدَ أنه كان يقبِضُ على زمام الحكم في البندقية بين جميع أولئك رجلٌ في الثمانين من عمره حديديُّ الأخلاق، واسمُ هذا الرجل هو أَنْرِيكُو دَنْدُولُو الذي كان من قوة العزم ما هَيَّأَ معه مصيرَ القسطنطينية في جميع حياته، والآن يحِلُّ وقتُ الضرب، فلما بدا جيش الصليبيين غيرَ ذي مال للذهاب بحرًا أنبأه بإمكان نقله على أن تُدْفَع أجرةُ النقل من غنائم الغَزْو، وكان هذا الشيخُ الحامل قلبًا فتيًّا دَوْمًا يَعْلَم أن مثل هذه الغنائم لا يكون في فلسطين، بل في بِزَنْطة، وهكذا كان يرى أن يتمكنَ من منافسيْه الكبيرين، إمبراطورِ ألمانية وبَطْرَكِ القسطنطينية، فيجمعَ النصرانيةَ تحت وِصاية أُسقف رومة ويَغْدُوَ صانعَ ملوكٍ وصَيْرَفِيَّ البحر المتوسط.
ويُوَفَّقُ في خِطته، وذلك أن بِزَنطة، التي حاول الهياطلة والمجر والقُوط والعرب في قرونٍ كثيرة فتحَها على غير جدوى سقطت في نهاية الأمر مع أسوارها المنيعة ونارِها اليونانية، وذلك بضَرَبات الصليبيين الذين هَمَزَتْهم البندقية، لا بفعل جيشٍ وثنيٍّ من البرابرة، وقد خُتِمَت هذه الحملةُ الصليبية حتى قبل بدئِها، وقد انتهى كلُّ شيء في سنة ١٢٠٤ بعد حِصارٍ دامَ عامًا تقريبًا، وقد تداعَت عاصمةُ الدنيا بين اللهيب والدم والقتل.
ويقول الرئيسُ البندقيُّ الغالب للإمبراطور ألكسيس صارخًا: «من الوَحَل أخرجناك وفي الوَحَل نَقْذِفك يا مسكين!» ويُخْنَق الإمبراطور في السجن، ويُبيدُ الفاتحون الأتقياء جميعَ الأوابد القديمة التي جُمِعَت في بزنطة في سبعة قرون، ولم يُنْقَذْ شيءٌ تقريبًا، وذلك خلا أربعة أَحْصِنةٍ من برونزٍ يونانيٍّ تُزَيِّن اليومَ قبةَ كنيسة مار مُرْقص، وأعجبُ ما في الأمر أن البندقيةَ هي المدينةُ الوحيدة التي لا تَجِدُ فيها خَيْلًا.
ومع ذلك طَلَبَ الرئيسُ البندقيُّ المتعطشُ إلى الانتقام أكثرَ من أربعة أحصنة، فزاد حِصَّتَه من الغنيمة التي كانت ثلاثةَ أثمانٍ في بدءِ الأمر فاحتفظ بثلاثة أرباع الإمبراطورية البزنطية فيما بعد، وقد أوجب أيضًا احتلالَ جميع المرافئ المهمة وجُزُرِ بحر إيجه والجزيرتين: أَقريطش وأُوبِه، وهو لم يترك للفَرَنج، (وبالفَرَنج كان يُعَبَّرُ عن جميع الشعوب الجِرْمانية) غيرَ فُتَاتٍ من هذه الوليمة المَلَكية، وذلك مع محافظة بِزَنطة على لقب الإمبراطورية الذي قَضَت به شِبْهَ حياةٍ مدةَ قرنين آخرين.
خُتِمَت الحروب الصليبية مع الحبوط، ولم يقتصر الأمر على عدم احتلال الشرق من قِبَل النصارى، بل حدث العكسُ بغزو الإسلام للغرب عندما استولى التُّرْكُ العثمانيون على حَوْض الدانوب، ولم تقدر النصرانية ولا سلطانُ أوروبة على النصر في آسية، ومع ذلك وَجَدَت التجارةُ لنفسها مستعمراتٍ ومنافذَ رائعةً، وصارت العلوم والفنونُ الحربية والمِلاحةُ تتقدم بما لم يُعْرَف منذ زمن الأغارقة، وظهرت فرنسة والبابا على رأس الحضارة والتجارة، وأسفر الشِّعر والفنُّ الشرقيان اللذان وصلا إلى الغرب عن كُنُوزٍ لا تُحْصَى.
ولكن دولةً خيالية ظهرت من البحر المتوسط في أثناء الحروب الصليبية وبعدها كولادة أفروديت: ظهرت البندقية.