إلى المَنَار
والآن لا يُفَكِّرُ الحارس في رواية البحر هذه، وبالبحر اتصل مَدَى حياته، وعلى شاطئ البحر وُلِدَ ونَشَأَ، وقد رَكِبَ البحر شابًّا وكَهْلًا، فلما وَخَطَه الشَّيْبُ صار حارس هذه النار الدَّوَّارة التي أُنْشِئَت لحماية السُّفُن، وهو لذلك قد عَدَّ البحر عنصرَهُ الحقيقيَّ، عُنْصَره الأَبويَّ، وعنده أن تلك الصخرةَ لم تكن هنالك إلَّا لِدَعْمِ المَنَار، وفي الأسفل قد ألقى شبكتَه صَيْدًا للسَّرَطَانِ، والسَّرَطانُ مما يسهل بيعه على الشاطئ، والسَّرَطَانُ مما يستطيع أن يَجْلُبَ واحدًا منه إلى بيته.
والآن يَصِلُ مع ابنه إلى الشَّبَكة التي ألقاها عَشِيَّةً، ولا يَقْدِر ما صِيدَ من السَّرَطان أن يخرج منها، ويَجِدُ الحارس في الشبكة من السَّرَطان سِتَّة، ويَرَى أن يبيع منه خمسةً، ويربط القاربَ في الخُلَيِّج ويُخْرِج واحدًا من الحيوان، ويرتجف ويضرب الهواء بذَنَبهِ، ويضعه الحارس على رُكْبَتَيْه المُبَلَّلَتَيْن، ويُطْلِعُ ابنَهُ على جسم هذا المخلوق الأسمر الذي هو من حيوانات البحر المتوسط، وأولُ أمرٍ يثِيرُ الحَيْرَة في هذا الحيوان المُدَرَّع هو قَرْناه المُذَرَّبَان الطويلان الظريفان المُتَحَركان الأسمران، ويُبْصَرُ على كلِّ واحد من قرنيه ستُّ بُقَع أو سَبْعُ بُقَعٍ صُفْرٍ زاهرة كالتي تُرَى على أجنحة الفَرَاش، وللسَّرَطان من كلِّ ناحيةٍ خمسُ أَرْجُلٍ طويلةٍ رُباعِيَّةِ المفاصلِ ذاتِ شعرٍ طويلٍ يمنعها من المَلَص وذاتِ بُقَعٍ صُفْرٍ، وعيونُ السرطان كُرَاتٌ سودٌ رائعة لا تُمَسُّ من غير أن يرتعش، ولا يعرف الإنسان هل يراه السرطانُ لفراغِ نَظَرِه كما يحدث للممثل المَنْهوك في آخر تمثيله.
والآن يُعيد الحارسُ الحيوانَ ويُرِي ابنَه كيف أن الذَّنَب يُذَكِّرُ بحَبِّ الصَّنَوْبَر الكبير المُنَضَّدِ في جَوْزِه، وأن وسَطَ الجسم يشابه هيكلًا عظميًّا، وأنه رقيقٌ مَصُونٌ قليلًا، وأن الإنسانَ إذا ما ضرب الحيوان ضربًا خفيفًا عادت الأرجل إلى محلِّها، ومما يَسُرُّ الحارسَ أن يلاحظ جهازَ هذا الحيوان الذي هو من خلائق البحر المتوسط مثله.
ويَجْلِس الحارس مساءً على مقعده في البُرْج للقيام بعمله رقيبًا، ويفتح كتابَه الذي كان قد أطبقه أَمسِ، وفي الكتاب يقرأ حائرًا فَصْلَ: ولِمَ يجب إهمالُ بحرنا؟
أذلك لأن سُفُنَ الزمن الكبيرةَ سلكت طريقَ المحيط الأطلنطيِّ لتذهب إلى أمريكة؟ أَفَلَمْ تُقِم به ملايين السُّكَّان في جميع هذه القرون؟ أَفَلَمْ تَسْتَمِرَّ سُفُنُنا على السير بين الجُزُر كما في الماضي وتُصْبِحْ أكثرَ عَدَدًا وأعظمَ سرعةً؟ أفلم تكن السفن الفرنسية مسيطرةً على البحر المتوسط في هذا العصر؟ يا للمبالغة في عُنوان «البحر المُهْمَل»! ولْنَرَ إذَنْ ماذا يَقُصُّ علينا هذا الكتابُ حَوْلَ هذا الموضوع.