الفصل الأول
حفلة تمثيلية في فندق بروغونيا
بهو في فندق بروغونيا سنة ١٦٤٠، أشبه بملعب لكرة المضرب «التنس»، وقد زخرف وأعد للحفلات
التمثيلية.
والبهو مستطيل بانحراف بحيث يبدو المسرح كالقطاع المائل، وقد صفت على جانبي المسرح
الأرائك، وستار المسرح من شقين من قماش مزخرف، تنفرجان عن المسرح حين يبدأ التمثيل، وقد
علقت فوقهما الشارة الملكية، ومنها ثوب المهرج، وثمة درج عريض يؤدي إلى خشبة المسرح،
صفت
على جانبيه مقاعد فرقة الموسيقى، وصف من الشموع.
وهيئت أماكن للنظارة على جانبي البهو صفًّا من خلف صف، خصص أعلاها للمقصورات، أما
أرض
البهو التي تؤلف المسرح ذاته فلم يكن عليها مقاعد.
وفي نهاية المسرح — أي إلى اليمين من المقدمة — عدد من المقاعد تؤلف درجًا، وتحت إحدى
الدرجات المؤدية إلى المقاعد العالية، حيث لا يرى منها إلا المقاعد السفلى، شيء يشبه
المقصف
ازدان بالمصابيح البراقة، وأصص الزهر، والأقداح البللورية، والصحاف الملأى بأنواع الحلوى،
والفطائر، والأباريق.
ويقع مدخل المسرح في الوسط من مؤخرته تحت صف المقصورات، وهو باب كبير وقد فتح قليلًا
ليدخل منه المشاهدون، وقد وضعت على واجهتيه الزجاجيتين، وفي أركان عدة، وفوق المقصف،
وفي
أماكن أخرى إعلانات حمراء عن المسرحية التي ستمثل تلك الليلة «كلوزير». وعند رفع الستار
يبدو البهو مظلمًا تقريبًا، وخلوًا من الناس والمصابيح مدلاة وسطه تنتظر الإضاءة …
المشهد الأول
(أخذ النظارة يتقاطرون قبل موعد التمثيل، وارتفعت جلبة خارج باب
البهو، واختلت الأصوات: فرسان، وأناس من الطبقة المتوسطة، وخدم، وعازفون – الماركيز
كويجي – بريساي، وغيرهم.)
(يدخل أحد الفرسان مسرعًا غير آبهٍ باعتراض الملاحظ الواقف
بالباب.)
الملاحظ
:
أين تذكرتك يا هذا؟
الفارس
:
أنا داخل من غير تذكرة.
الملاحظ
:
ولماذا؟
الفارس
:
أتسألني لماذا …؟ أنا من رجال سلاح فرسان الملك.
(يدخل فارس آخر.)
الملاحظ
:
وأنت؟
الفارس الثاني
:
أنا لا أدفع شيئًا.
الملاحظ
:
ولم؟
الفارس الأول
(لزميله)
:
ما أظن الرواية تبدأ قبل الثانية بعد منتصف الليل، والبهو خال من الناس …
فتعال نتجالد بالسيف لقضاء الوقت
(يتجالدان).
أحد خدم القصور
(يلمح صاحبًا له قد استبقه إلى القاعة)
:
أهذا أنت يا فلانكن؟
الآخر
(وقد دخل في تلك اللحظة)
:
وهذا أنت يا شامبان!
الأول
(وهو يطلع من صداره أوراق اللعب، ويجلس على الأرض)
:
أتلاعبني؟
الآخر
:
أنا لك … فهلم!
الأول
(يخرج بقية شمعة فيشعلها، ثم يثبتها فوق الأرض)
:
لقد جئت بهذه الشمعة لأستضيء على حساب المولى الذي أخدمه.
جندي
(لبائعة زهور)
:
إنه لكرم منك أن تحضري قبل إضاءة الأنوار
(يعانقها).
أحد الجنديين المتجالدين
(وقد سدد ضربة إلى غريمه)
:
لقد أصبتك.
أحد اللاعبين بالورق
(يصرخ صرخة مغلوب)
:
سباتي.
الحارس
(في أثر الفتاة)
:
قبلة!
الفتاة
:
ويحك إن الأعين ترانا.
الحارس
(يجذبها إلى ركن مظلم)
:
لا تراعي؛ فإن أحدًا لا يرانا.
(وهنا يأتي بعض النظارة يحملون طعامًا فيجلسون فوق الأرض
ليأكلوا.)
أحدهم
:
لنأكل طعامنا على مهل ما دمنا قد جئنا مبكرين.
أحد رجال الشعب
(وقد اصطحب ابنه)
:
دعنا نجلس هنا يا بني.
أحد اللاعبين بالورق
:
ثلاثة آس.
(متفرج آخر يخرج زجاجة من خلف مئزره، ويجلس فوق الأرض وهو يجرع
منها.)
– لا بأس على الشارب من جرعة يتناولها من نبيذ في فندق بورغونيا!
الرجل
(لابنه)
:
يمين الله ليخيل للمرء أنه قد دخل بؤرة لا ملهى (يشير بعصاه إلى
السكير) ألا ترى السكارى؟ (وهنا يصطدم
أحد المتجالدين بالسيف، وقد أراد أن يتحامى ضربة من زميله فيصطدم
به): ورعاع أيضًا …! (ومن أثر الصدمة
يقع وسط اللاعبين بالورق): ومقامرون …!
الحارس
(جندي من ورائه يعاكس الفتاة)
:
قبلة!
الرجل
(يتباعد بولده)
:
يا لله … أفهذا يا بني هو الملهى الذي مثلوا فيه روايات روترو؟
الابن
:
وروايات كورني …
(يدخل جمع من الغلمان يرقصون ويغنون، وقد تواثبوا يدًا
ليد.)
الغلمان
:
ترا لا لا لا لا لا لا لا! …
الملاحظ
(غاضبًا)
:
حسبكم، ما هذه المساخر وألاعيب الحواة؟
أحدهم
(بلهجة الغاضب للكرامة)
:
إن سوء الظن بنا … (لزميله) أمعك خيط؟
الثاني
:
وشص لصيد السمك أيضًا!
الأول
:
فلنصد بها الشعور المستعارة من فوق رؤوس المشاهدين!
نشال
(يجمع حوله فتية خبثاء)
:
استمعوا لي يا قطاعي الجيوب، بل أعيروني آذانكم حتى ألقنكم درسًا في
النشل.
الغلام الثاني
(ينادي صحابًا له في أعلا المسرح)
:
يا هؤلاء أعندكم نبال تهلو بها؟
الغلام الثالث
:
نعم، وحمص نرمي به.
(وانبرى يساقط عليهم حمصًا.)
الفتى
(لأبيه)
:
أية رواية سيقدمون لنا الليلة؟
الأب
:
كلوريز
الفتى
:
ومن هو المؤلف؟
الأب
:
الأستاذ بالتزار بارو. إنها مسرحية رائعة! (يقف خلف
كتف ابنه).
النشال
(لصبيانه)
:
لا تنسوا أن تقطعوا بكل خفة ورفق.
أحد النظارة
(يشير إلى موضع في الملهى وهو يتحدث إلى صاحب له)
:
لقد كنت جالسًا في ذلك المكان المرتفع في الليلة الأولى لتمثيل رواية
«السيد».
النشال
(يعلم الصبيان بأصابعه حركة النشل)
:
هكذا تنشل الساعات.
الأب
(لابنه)
:
سنرى الليلة مجموعة طيبة من مشاهير الممثلين والممثلات.
النشال
(يمثل حركة النشل)
:
وهكذا تنشل المناديل.
الأب
(لابنه)
:
وسنرى من هؤلاء الممثلين مونفليري.
أحدهم
(من إحدى المقصورات)
:
ألا عجلتم فأضأتم الشموع.
الأب
:
وسنرى بلروزوليبي، ولوبريه، وجودوليه!
أحد الغلمان
(في قاعة المسرح)
:
ها قد جاءت البائعة.
(تظهر الفتاة التي ستتولى البيع في المقصف «البوفيه»، فتقف
وراءه منادية.)
الفتاة
:
عصير الليمون، عصير البرتقال، لبن، شراب التوت.
(ترتفع جلبة في الخارج، وتسمع صيحة.)
الصوت
:
أفسحوا أيها الأوغاد.
أحد الخدم
(في دهشة)
:
يا عجبًا، حضرات الأشراف جاءوا للجلوس في القاعة مع السوقة؟
خادم آخر
:
لقد وفدوا لبضع دقائق فقط!
(يدخل فوج من النبلاء.)
مركيز
(لصاحبه وقد رأى الصالة شبه خاوية)
:
ماذا ترون؟ ونحن داخلون هكذا كأننا جماعة من تجار الأقمشة؟ فلنتلطف في
دخولنا، لا نزعج القوم، ولا ندوس على أقدامهم، أفٍّ لهم، أفٍّ لهم! من ذا أرى؟
ها هو ذا كويجي! وهذا بريساي!
(يتبادل النبلاء التحيات والعناق.)
كويجي
:
لقد حافظنا على الموعد؛ فجئنا قبل إضاءة الشموع.
المركيز
:
ولكني لا أطيق طول الانتظار.
مركيز آخر
:
لا بأس أيها المركيز، انتظر ها هم قد جاءوا ليضيئوا المكان؛ فلا تضق ذرعًا.
(ويرتفع التهليل وصيحات الفرح من النظارة أن رأوا الأنوار قد
بدأت تضاء، وأخذوا مجالسهم استعدادًا لابتداء التمثيل.)
النظارة
:
وافرحتاه.
المشهد الثاني
(يدخل شاب ذو مكانة، مضطرب البزة، مخمور هو لينيير، متأبطًا ذراع
شاب متأنق، على الرغم من قدم هندامه.)
المركيز كويجي
(وهو يلمح ذلك الخليع قادمًا)
:
ها هو ذا لينيير داخلًا!
بريساي
(وهو يضحك)
:
ألم يثمل إلى الآن؟
لينيير
(يتقدم بصاحبه نحو النبلاء)
:
هل أقدمك إليهم؟
كريستيان
(يهز رأسه موافقًا)
:
أقدم إليكم البارون دي نوفييت (انحناءات
بالتحية).
(يدوي المكان بتصفيق النظارة حين أضيئت الأنوار جميعًا.)
الجمهور
:
وافرحتاه.
كويجي
(ينحني على صديقه بريساي، ويرنو بعينه لكريستيان)
:
يا له من شاب مليح.
المركيز الأول
(للمركيز الثاني، وقد سمع الحوار)
:
هراء.
لينيير
(يسترسل في تعريف كريستيان)
:
مولاي المركيز دي كويجي، ومولاي المركيز دي بريساي.
كريستيان
:
لي الشرف.
المركيز الأول
:
لست أنكر أنه وسيم الصفحة، ولكن هندامه ليس فوق أحدث الأزياء.
لينيير
(يتحدث إلى المركيز كويجي)
:
إن هذا السيد قادم من تورين.
كريستيان
(في أثره)
:
نعم، ولم يمض في باريس غير عشرين يومًا أو قرابتها، وأنا غدًا ملتحق بالحرس
بفرقة الطلبة العسكريين.
المركيز الأول
:
لقد وصلت الرئيسة أوبرى.
فتاة المقصف
:
شراب البرتقال. لبن …
(الموسيقيون يصلحون الأوتار.)
كويجي
(ينوه بازدحام المسرح لكريستيان)
:
لقد امتلأ المسرح.
كريستيان
:
نعم، جمهور كبير!
المركيز الأول
:
معرض لجميع الأزياء.
(تدخل السيدات فيشيران إلى كل باسمها، والنساء يوزعن الابتسامات
ردًّا على التحيات.)
المركيز الثاني
:
هذه مدام دي جيمينيه.
كويجي
:
وهذه مدام بوا-دوفان.
المركيز الأول
:
الحسناء التي ما زالت في قلوب الجميع.
بريساي
:
وهذه مدام دي شافيني.
المركيز الثاني
:
وهي التي ما زالت تلعب بأفئدتنا سحرًا وفتونًا.
لينيير
:
انظر! هو ذا المسيو كورتي، لقد عاد من روان.
الفتى
(لأبيه)
:
أعضاء المجمع العلمي الفرنسي كلهم هنا.
الأب
:
إني أرى أكثر من عضو واحد: فهو ذا بودي، وهناك يواسا وكيرو، ويورشير،
وكولومبي، وبورزيس، وبوربون، وأردو … ولن يموت اسم من هذه الأسماء، ما أجمل هذه
الفكرة!
المركيز الأول
:
انظر! لقد احتلت سيداتنا مقصوراتهن، فهذه بارتنوئيد، وهناك أوريميدونت،
وكاسانداس، وفيليكسيري.
المركيز الثاني
:
ما أمتع أسماءهن؛ فهل تعرفهن جميعًا يا مركيز؟
المركيز الأول
:
نعم كلهن.
لينيير
(لكريستيان في ناحية)
:
لقد جئت إلى هنا يا صديقي لأدخل السرور على نفسك، ولكن غادتنا لم تحضر؛ فأنا
منسحب لأوافي «آفتي» المحبوبة، بنت الحان.
كريستيان
(يتلطف إليه محلفًا في إمساكه)
:
كلا، كلا؛ فأنت الوحيد الذي تستطيع أكثر من سواك أن تعرفني من تكون هذه
الغادة التي أموت في حبها، ألست شاعر البلاط والشعب معًا؛ فهلا بقيت مرة أخرى؟
(وفي تلك اللحظة بدأت الموسيقى الوترية ترسل أنغامها، بينما
ذهبت فتاة المقصف تنادي على معروضاتها.)
رئيس الفرقة الموسيقية
:
سادتي (يرفع وتره استعدادًا).
فتاة المقصف
:
شراب البرتقال، بقسماط.
كريستيان
:
أواه، أخشى أن تكون هذه الحسناء لعوبًا خداعة، صعبة الإرضاء، فأين لمثلي وأنا
البليد الألكن الجرأة على التحدث إليها ومخاطبتها؟ إنني بلغة اليوم وأساليب
العصر لجاهل، ما أنا إلا جندي، وإن كنت في مواقف الحب الهيابة الوجل، لقد كانت
تجلس هناك في ذلك الموضع أبدًا، تلك المقصورة الخاوية التي على اليمين.
لينيير
(يهم بالذهاب)
:
إني منصرف لا محالة.
كريستيان
(يمسك بذراعه، ويتشبث به)
:
عليك بالله … إلا ما مكثت.
لينيير
:
لا أستطيع مكثًا، إن «داسوسي» ينتظرني في الحان، والإنسان هنا يكاد يموت
ظمأ.
(وفي تلك اللحظة تمر فتاة المقصف عن كثب منهما، تحمل صينية صفت
عليها الأقداح من مختلف الأشربة مترعة.)
الفتاة
:
شراب البرتقال …
لينيير
(يتأفف من سماع هذا النوع من الأشربة)
:
أفٍّ!
الفتاة
:
أتريد لبنًا إذن؟
لينيير
(يبدي حركة استياء)
:
أفٍّ!
الفتاة
:
نبيذ جيد؟
لينيير
(لصاحبه)
:
سأمكث معك لحظة أخرى فدعني أذق هذا الذي عندها.
(يجلس إلى منضدة المقصف. وتصب الفتاة له شرابًا.)
(وإذا بالأصوات ترتفع على مقدم رجل بدين قزم.)
الجمهور
(ينادي في فرح وتهليل)
:
ها هو ذا راجينو … راجينو!
لينيير
(لكريستيان)
:
إنه الحلواني المشهور.
(وكان هذا مرتديًا ثياب حلواني، فلم يكد يلمح لينيير حتى أسرع
إليه.)
راجينو
:
هل رأيت يا سيدي مسيو سيرانو؟
لينيير
:
هذا حلواني الشعراء والممثلين.
راجينو
:
إن هذا لشرف عظيم.
لينيير
:
أمسك يا صاح؛ فأنت راعي الأدب والفنون.
صاحب الحان
:
نعم، إن أولئك جميعًا يأكلون ما يشتهون عندي.
لينيير
(مقاطعًا)
:
دون أن يدفعوا …
(يستمر في التعريف به): وهو أيضًا شاعر
موهوب.
راجينو
:
لقد قيل ذلك لي.
لينيير
:
وهو بالشعر مفتون.
راجينو
:
القول الصحيح إني أعطي في القصيدة الصغيرة …
لينيير
(مستبقًا)
:
فطيرة أو كعكة.
راجينو
:
بل كعيكة.
لينيير
:
يا له من شهم كريم، ولكن ألم تعط في مقابل قصيدة من ثمانية أبيات؟
راجينو
(معاجلًا)
:
أقراصًا صغيرة من الخبز.
لينيير
(محتدًا)
:
بالزبد، والمسرح ألا تحبه؟
راجينو
:
إلى حد الهيام.
لينيير
:
وتدفع ثمنًا لدخولك المسرح عملة من الفطير والحلوى؟ قل لنا فيما بيننا: كم
يكلفك الدخول؟
راجينو
:
أربع قراقيش بالسكر، وخمس عشرة فطيرة رقيقة صغيرة
(يدير في المكان عينيه). أليس مسيو سيرانو هنا الليلة؟ إن هذا
لغريب.
لينيير
:
وما وجه الغرابة فيه؟
راجينو
:
لأن مونفليري سيمثل!
لينيير
:
هذا صحيح، فإن هذا البرميل سيظهر في دور «فيدون» … ولكن ما شأن سيرانو
به؟
راجينو
:
.كيف؟ ألم تعلم النبأ … إن سيرانو يضمر له أشد الكراهية، وقد حرم عليه الظهور
على المسرح شهرًا كاملًا
لينيير
(يجرع القدح الرابع)
:
وما رأيك إذن؟
راجينو
:
رأيي أن مونفليري لن يمثل.
المركيز كويجي
(يقترب من جماعته)
:
ولكن ليس في وسعه أن يمنعه.
راجينو
:
ليس في وسعه؟ هذا ما جئت لأراه!
المركيز الأول
:
ومن يكون سيرانو هذا الذي تتحدثون عنه؟
المركيز كويجي
:
فتى حاذق لجميع فنون السيف.
المركيز الثاني
:
وهل هو من النبلاء؟
كويجي
:
هو في عدادهم؛ وهو ضابط صغير في فرقة الحرس (يشير
إلى رجل من الأشراف يروح ويغدو في القاعة كمن يبحث عن شخص معين)
هو هو ذا صديقه «لوبريه» قادم نحونا، فاسألوه عنه، إنه بأمره العليم الخبير،
(يناديه) لوبريه، (لوبريه يدنو منه) أتبحث عن دي برجراك؟
لوبريه
:
نعم، وإني لقلق.
كويجي
:
أليس حقًّا أنه من أفذاذ الناس؟
لوبريه
(بحنان)
:
الحق أنه بدماثة أخلاقه، ورقة حواشيه يفضل كل من تظلهم السماء.
راجينو
:
شاعر!
كويجي
:
مبارز بالسيف!
بريساي
:
عالم بالطبيعيات.
لوبريه
:
موسيقار!
لينيير السكير
(وهو يغمز بعينه)
:
إنه لشخصية عجيبة!
راجينو
:
إنه لكذلك، وإني لا أعتقد أن رسامًا وقورًا كفيليب دي شامبان سيرسم لنا صورة
له، ولكن سيرانو، وهو ذلك الرجل الغريب، المسرف، المتقلب الأهواء ليمد المرحوم
جاك كالو١ بموضوع لإحدى لوحاته، هو موضوع ذلك المبارز بالسيف الذي يتخيل أنه
المفرد العلم بين المبارزين، والبهلول الذي يستطيع أن يثير ضحك الناس وسخريتهم،
المعجب بنفسه الذي يتجمل بقبعة ذات ثلاث ريشات مختلفة الألوان، ولباس ينزل من
الرقبة إلى الخصر، تتدلى منه ستة أطراف، وذباب حسامه يرتفع إلى أعلى من تحت
ردائه من الخلف كأنه ذيل الديك، أما أنفه فحدث عنه ولا حرج، إن من يقع بصره على
هذه العينة الأنفية لا يتملك نفسه من أن يصيح: «إن الرجل وايم الله يغالي»، ثم
إذا هو يبتسم، ثم يقول: «سوف يزيله»، ولكن مسيو برجراك لن يزيله قط.
لوبريه
(وهو يطوح برأسه إلى الخلف)
:
نعم يستبقيه ويشطر من تسول له نفسه بالسخرية منه شطرين!
راجينو
(معتزًّا مفاخرًا)
:
نعم، فإن سيفه هو يد القدر ضاربة، وعلى شفير حسامه المنايا راصدة.
المركيز الأول
(وهو يهز كتفيه)
:
ولكنه لن يأتي الليلة.
راجينو
:
بل سيأتينا ما في ذلك شك، وأنا أراهن بدجاجة، على نسق راجينو.
المركيز الأول
(مستضحكًا)
:
فليكن.
(همسات في الصفوف، همسات الإعجاب، وغمغمة الاستحسان لظهور
الحسناء روكسان في مقصورتها، وقد جلست في الصدر، ومن خلفها الوصيفة العجوز.)
(كريستيان في تلك اللحظة منشغلًا بدفع حساب الشراب لبائعة
المقصف، فلم ينتبه إلى الحسناء لحظة دخولها.)
المركيز الثاني
(في مرح بالغ)
:
لله درها أيها السادة من فاتنة مرهوبة الحسن، رائعة الجمال تستبي القلوب
استباء.
المركيز الأول
:
إن من ينظر إليها يخيل له كأن خوخة تضحك مع توتة!
المركيز الثاني
:
وكلها صباحة ونضارة ندية بدرجة يخشى معها المقترب أن تغشى القلب قشعريرة من
البرد.
كريستيان
(يرفع بصره، فيلمحها في مقصورتها؛ فيضطرب ويمسك بذراع
لينيير بقوة وهو يقول)
:
إنها هي!
لينيير
(يمسكه من ذراعه)
:
أهي هذه؟
كريستيان
:
نبئني وعجل، فإني في وجل.
لينيير
(يتناول جرعات من النبيذ)
:
مجدولين روبان المعروفة بروكسان، حسناء من ربات الأدب المتحزلقات.
كريستيان
:
يا ويلتا! وأنا العيي لا أبين.
لينيير
:
وهي غير متزوجة، يتيمة الأبوين، وابنة عم سيرانو الذي كنا اللحظة نتحدث
عنه.
(وفي تلك اللحظة يدخل في مقصورتها أحد النبلاء في ثوب رشيق،
يزين صدره شريط أزرق؛ فيظل واقفًا يجاذبها أطراف الحديث.)
كريستيان
(بدهشة)
:
ومن هذا الذي يكلمها؟
لينيير
(وقد ثمل، فجعل يغمز بعينه وهو يجيب ضاحكًا)
:
هذا كونت دي جيش المفتون بها، وهو وإن كان متزوجًا بابنة أخت أرمان دي
ريشيليه، يسعى في تزويج روكسان برجل حقير يدعى الفيكونت دي فلفير، عساه يظفر
منها، وهي ذات بعل كهذا، بما عز عليه الظفر به، وهي عذراء، ولكنها تأبى الصفقة،
وتستعصم من المساومة، غير أن دي جيش ذو نفوذ، وفي وسعه معاكستها؛ إذ أين لابنة
رجل من عرض الناس، بلا نسب ولا لقب أن تقاوم رجلًا في مثل نفوذه، ولقد عرضت
لهذه المحاولة الماكرة بالتورية، والاستعارة، والكناية في قصيدة لي من الشعر
الغنائي، وأحسبه الآن عليّ واجدًا، وقد كان مقطع القصيدة في الصميم … ألا تسمع
ماذا قلت؟
(وتحامل لينهض؛ فترنح، ورفع القدح إليهم بالإنشاد.)
كريستيان
:
لا ضرورة … لا ضرورة … طاب مساؤك.
لينيير
:
إلى أين؟
كريستيان
:
إلى مسيو دي فلفير.
لينيير
:
حذار؛ فإنه هو ولا ريب قاتلك (يوجه نظر كريستيان
إلى روكسان بطرف خفي) يالله، اثبت في مكانك إنها تنظر إليك!
كريستيان
:
هذا صحيح.(ظل كريستيان غارقًا في تأملاته بأعين مفتوحة، ورآه جماعة
النشالين على تلك الحال، فاغر الفم مشدوهًا، متطلعًا إلى المقاصير ببصره؛ فدنوا
منه ليسرقوه.)
لينيير
(إلى صاحبه)
:
أنا ذاهب؛ فإن الظمأ قد اشتد بي، ولي صحاب ينتظرونني في المشارب والحانات
(ويمشي مترنحًا إلى الباب).
لوبريه
(يعود إلى حيث كان راجينو جالسًا بعد أن طاف القاعة كلها،
فلم يجد صديقه سيرانو، فيقول بصوت الواثق المطمئن)
:
لم أعثر لسيرانو على أثر.
راجينو
(وهو غير مصدق)
:
ومع ذلك …
لوبريه
:
عندي بقية أمل، فلعله لم يقرأ الإعلان في الرواية.
النظارة
(يملون بطول الانتظار، فترتفع الأصوات من كل جانب)
:
الرواية! الرواية!
المشهد الثالث
(ينزل الكونت دي جيش من مقصورة روكسان فيجتاز القاعة، يحيط به جمع
كبير من السادات، وحملة الألقاب، ومن بينهم الكونت دي فلفير.)
المركيز الأول
(يهمس لصاحب له)
:
ألا ترى دي جيش كيف يمشي وسط حاشية كبيرة كأنه رب بلاط عظيم.
الماركيز الثاني
(ساخرًا)
:
لا يغرنك ما ترى؛ فما هو إلا غسقوني كسائر الغسقونيين.
الأول
:
ولكنه الغسقوني ذو الحلم والمداورة الذي يصل … ويشق طريقه في الحياة، والرأي
عندي أن لا خير في تجاهله، بل يحسن بنا أن نحييه.
(يتقدم الأشراف نحو دي جيش.)
المركيز الثاني
:
ما أجمل هذه الأشرطة والأوشحة، بأي لون تصفها يا كونت دي جيش، أتسميه قبلة
الغرام، أم دم الغزلان …؟
دي جيش
:
أسميه مرض الإسبان!
المركيز الأول
:
لقد صدق المظهر المخبر، فلن يلبث أمر إسبانيا في فلاندر أن يسوء بفضل شجاعتك.
الكونت دي جيش
:
إنني متجه إلى المسرح، فهلا جئتم معي. (ويمضي إلى
المسرح؛ فيتبعه الأشراف الشباب مع الحاشية المحيطة به، ولكنه يستدير
فينادي): هلم يا فلفير.
(كريستيان يسمع هذا الاسم فيجفل، ويخطر له أن يخرج قفازه من
جيبه ليقذف به وجهه)
الفيكونت
:
… لأقذفن به في وجهه … في وجهه … (ولكنه
حين يدس يده في جيبه ليخرج القفاز يحس يد النشال فيمسك بها) …
وما هذا؟
النشال
:
آه …
كريستيان
(بينما يظل قابضًا على يد النشال)
:
لقد كنت أبحث عن القفاز.
النشال
(مبتسمًا متوسلًا)
:
ولكنك وجدت يدًا (بصوت منخفض) هلا تركتني،
فإن عندي سرًّا أكاشفك به.
كريستيان
(وهو لا يزال ممسكًا بيده)
:
وما هو هذا السر؟
النشال
:
لقد كان معك منذ لحظة الشاعر لينيير.
كريستيان
:
نعم، ثم ماذا؟
النشال
:
إن حياته في خطر، فقد نظم قصيدة هجاء أغضبت عليه جهات عليا، وقد نظمت مؤامرة
لقتله الليلة، وسيكمن له مائة رجل، وأنا أحدهم ليغتالوه …
كريستيان
(مندهشًا)
:
مائة رجل لرجل واحد، ولكن من هذا الذي دبر هذه المؤامرة؟
النشال
:
هذا سر لن أبوح به.
كريستيان
(يهز كتفيه)
:
أي سر يا هذا؟
النشال
(متصنعًا الوقار)
:
سر المهنة!
كريستيان
:
وفي أي مكان سيكمنون؟
النشال
:
عند بوابة نل، وفي وقت عودته إلى بيته … فعليك أن تحذره.
كريستيان
(يطلق يد اللص من قبضته)
:
ولكن أين تراني واجده الساعة؟
النشال
:
التمسه في الحانات، وطف عليه المشارب، اذهب إلى القنينة الذهبية، الأناناس،
المنطقة والخصر، المشعلان، المداخن الثلاث، واترك في كل حان ومشرب خبرًا ينبهه
إلى ما يكاد له ليتقيه.
كريستيان
:
ليكن، وهأنذا منطلق … يا للأوغاد، أمائة رجل على رجل بمفرده (يلقي نظرة إلى روكسان، كلها وجد ولوعه) يا ويح
القلب، كيف أتركها الساعة وأمضي (يحدج فلفير شزر،
ويصرف بأسنانه) وهذا الوغد، أذاهب أنا عنه، ولكن ما العمل، ومن
الشهامة أن أنقذ حياة لينيير؟ (ينصرف
مسرعًا).
(الكونت دي جيش، والأشراف الذين أحاطوا به قد تواروا خلف الستار
ليأخذوا أماكنهم فوق المقاعد المصفوفة على جوانب المسرح، وكان الزحام على أشده،
وامتلأت المقاعد والشرف بالمشاهدين، وهم في مضض من طول الانتظار.)
أحد النظارة
:
ألا يبتدئ التمثيل؟
(وكان أحد الخبثاء في أعلى المسرح قد انتزع بخيط وشص الشعر
المستعار عن رأس أحد رجال الطبقة البورجوازية، وكان هذا جالسًا في بهو المسرح،
فتلفت مذعورًا؛ فانكشف رأسه الأصلع للنظارة؛ فتعالت الصيحات من الجمهور في فرح
وسرور.)
البورجوازي
:
شعري!
ثان
:
ها ها ها ها!
ثالث
:
إنه أصلع.
رابع
:
مرحى، الخدم … ها ها ها.
البورجوازي
(يهز قبضة يده)
:
ويحك أيها الشقي المهذار.
النظارة
(صيحات الضحك والمرح)
:
ها … ها … ها …
(ثم يسود السكون.)
لوبريه
:
ما معنى هذا السكون الذي ساد هكذا بغتة؟ (أحدهم
يهمس له): أصحيح هذا الذي قلت؟
الهامس
:
لقد سمعته اللحظة ممن أثق به.
همسات في الصفوف
:
إنه هو بلا ريب! كلا ليس هو … إنه في المقصورة الأولى ذات السياج … الكردينال
… الكردينال!
أحد الخدم
:
يا للشيطان، سيفسد حضوره علينا المرح والتسلية، ويلزمنا الأدب والسكون.
(يسمع النظارة الطرقة الأولى على المسرح من خلف الستار فيخلدون
إلى الهدوء، وتشرئب منهم الأعناق.)
صوت مركيز
:
أطفئوا الشموع!
مركيز آخر
(يطل برأسه بين شقي الستار)
:
إليَّ بكرسي!
(ينقل الكرسي من يد ليد فوق الرؤوس؛ فيتناوله المركيز،
ويتوارى عن الأنظار، ولكن بعد أن يكون قد بعث قبلات بيديه إلى صاحبات
المقصورات.)
أحد النظارة
:
هدوءًا.
(يتوالى الدق ثلاثًا، وترتفع الستار، فإذا السادات والنبلاء قد
جلسوا على جانبيه، تبدو عليهم مظاهر العظمة، وكان المنظر يمثل مرعى نضيرًا تعلوه
سماء زرقاء، وقد أضيء قاع المسرح بأربع شموع في أوان بلورية.)
(القيثارات تعزف في رفق.)
لوبريه
(بصوت منخفض لراجينو)
:
ماذا ترى الآن؟ ألا تظن أن مونفليري هو الذي سيظهر اللحظة على المسرح؟
راجينو
(عندما بدا الممثل للأبصار)
:
يا الله، إنه هو الذي سيبدأ.
لوبريه
:
وها هو سيرانو لم يحضر!
راجينو
:
نعم، وقد خسرت الرهان.
لوبريه
:
قدر الله ولطف.
(وبدا مونفليري بدينًا ضخمًا في ثوب الرعاة، قد وضع فوق رأسه
قبعة مكللة بالورد، متدلية على إحدى أذنيه، وهو يمسك بمزمار مزين بالأشرطة، ينفخ
فيه فيرسل أنغامًا موسيقية.)
(واستقبله الجمهور بالتصفيق … مونفليري … مونفليري …)
(ينحني الممثل لهم شاكرًا، ويبدأ التمثيل في دور فيدون.)
مونفليري
:
السعيد من نأى بنفسه عن قصور الملوك، وقربة الأمراء، وآثر العزلة في الخلاء،
وارتضى العيش في الأرض الفضاء، وحين تهب على الغاب أنفاس الهواء …
صوت
(من وسط المسرح)
:
ويحك أيها الشقي، ألم أحرج عليك الظهور على المسرح شهرًا كاملًا …؟
(وهنا يستولي الذهول على الجميع، وتدور الأنظار لترى من هذا
الصائح المتوقح، ويسري الهمس في كل مكان، وتقف الغيد في المغاصير لتتبين ما
جرى.)
أصوات متباينة
:
عجبًا؟ ما هذا؟ ما جلية الأمر؟
كويجي
:
يا عجبًا … إنه هو؟
لوبريه
(مرتاعًا)
:
سيرانو!
سيرانو
:
يا أمير المهرجين، اترك المسرح في الحال.
الجمهور
(غاضبًا متذمرًا)
:
أف! أف!
الممثل
(في اضطراب)
:
ولكن …
سيرانو
:
ويحك أتتحداني بعصيان أمري؟
أصوات
(من قاعة المسرح)
:
سكوتًا وكفى صياحًا … وأنت يا مونفليري استمر ولا تخف شيئًا.
مونفليري
:
«السعيد من نأى بنفسه عن قصور الملوك، وقربة الأمراء …»
سيرانو
:
الويل لك يا شر الأشقياء … ألا تريد أن تغرب من المسرح إلا إذا جئتك فأذقتك
طعم عصاي؟
(وارتفعت عصا في يد ممسكة بها فوق رؤوس المشاهدين.)
مونفليري
(يهم بالمضي في دوره مبتدئًا)
:
السعيد من …
سيرانو
:
انصرف قلت لك! (ويهز العصا في
الفضاء).
الجمهور
(متذمرًا)
:
أف!
مونفليري
(يمضي في دوره، ولكن صوته يختنق)
:
السعيد من نأى بنفسه عن قصور …
سيرانو
(ينهض واقفًا على كرسي وسط الصالة شابكًا ذراعيه شبكة
المتوعد، مرخيًا قبعته في ناحية إرخاءة الغضب، جافل الشاربين من سورة الغيظ،
وقد استطال أنفه المخيف)
:
لقد بدأت أغضب، فحذار من غضبي وبطشي.
(يشتد الهرج والمرج من هذه المباغتة العجيبة.)
المشهد الرابع
مونفليري
(يدور بعينيه إلى الأشراف مروعًا)
:
النجدة أيها السادة.
المركيز
(بغير اكتراث)
:
استمر، استمر.
سيرانو
(يصبح بالممثل)
:
حذار أيها البدين، وإلا أوسعتك لطمًا.
المركيز
:
كفى!
سيرانو
(يلتفت إلى حيث كان النبلاء يجلسون)
:
وإذا لم يمسك هؤلاء السادة ألسنتهم فسأضطر إلى إذاقتهم طعم عصاي.
النبلاء
(ينهضون)
:
حسبك يا هذا، وأنت يا مونفليري.
سيرانو
:
إذا لم ينصرف مسرعًا صلمت أذنيه، وقطعته إربًا إربًا.
صوت من المسرح
:
ولكن …
سيرانو
:
لينصرف!
صوت آخر
:
ومع ذلك …
سيرانو
:
ألم يذهب بعد، إذن فلأصعد إلى المسرح بنفسي فأفري هذا الإنسان اللحيم الشحيم
فريًا (يشمر عن ساعديه ليفعل).
مونفليري
(يحاول أن يهدئ من سورة غضبه متلطفًا)
:
إنك بإهانتي على هذه الصورة تغضب بنات الشعر.
سيرانو
(في مثل لهجته)
:
وهل لبنات الشعر بمثلك صلة، وأنت البطين الضخم الفاتر البليد الإحساس، لا
والله لو أن لبنات الشعر معرفة بك لضربنك بنعالهن.
(ترتفع الصيحات من القاعة، وتسود الفوضى، وتتردد
الأصوات.)
النظارة
:
مونفليري، مونفليري أنشد لنا قصيدة بارو.
سيرانو
(إلى النظارة)
:
أرجوكم أن تحذروا وإلا إذا استمر هرجكم هذا، وصياحكم؛ فإن سيفي لن يلبث أن
يخرج من غمده.
(ويتحسس مكان سيفه؛ فيتراجع الذين كانوا قد أحاطوا به من
خيفته، ولكنهم يعاودون الصياح.)
النظارة
:
حلمك يا هذا.
سيرانو
(يلتفت إلى الممثل)
:
هلم انصرف.
النظارة
(يقتربون محتجين)
:
أف لهذا! أف لهذا!
سيرانو
(يلتفت فجأة)
:
هل أراد أحدكم الكلام؟
صوت من الخلف
(ينشد)
:
السيد سيرانو يستبد بنا، ولكن ستمثل رواية كلوريز، رغم أنف الطاغية!
الجميع
(ينشدون)
:
كلوريز … كلوريز.
سيرانو
:
حسبكم أيها الأوغاد، لو سمعت هذه الأنشودة تعاد؛ لأفنيتكم جميعًا.
أحدهم
:
لست شمشون!
سيرانو
:
أعرني إذن عظمة فكك أيها الرجل لأضرب بها هذه الوجوه، كما فعل شمشون بفك
الحمار.
سيدة في مقصورتها
:
هذا تهجم فظيع.
أحد السادة
:
هذه فضيحة!
أحدهم
:
شيء يغيظ!
أحد الخدم
:
إنه لعبث سخيف!
(وعادت الضجة أشد من قبل.)
القاعة
:
هدوءًا، مونفليري … سيرانو …
سيرانو
:
سكوتًا!
النظارة
(يسخرون، وبعض الخبثاء فيهم يقلدون القطط، وصياح الديكة،
ومختلف البهائم والأنعام)
:
هي ها … با … أوا …
سيرانو
:
آمركم …
أحد الخدم
(يموء)
:
مياو …
سيرانو
(يصيح بهم)
:
إني آمركم جميعًا بالتزام السكوت، وأتحداكم بجمعكم، بل إني لمدون عندي
أسماءكم، فهلموا، تقدموا، وليبرز الشجعان فيكم والصناديد، صنديدًا في إثر
صنديد، وعليَّ أنا المناداة بالعديد تلو العديد، والآن من منكم يريد أن يفتح
القائمة؟ وأين الشجاع البادئ بالمهاجمة؟
(يتطلع إلى الوجوه، ويمشي مستعرضًا الصفوف، وهو لكل
واحد منهم قائل) أنت يا سيد … أم أنت؟ أفكلكم لا؟ ألا من مبارز
يتاح له شرف الموت من كفي لفضل السبق على الآخرين … أيها السادة … من يشتق إلى
الموت فليرفع يده.
(يسود السكون.)
سيرانو
(صائحًا)
:
يا لكم من جبناء رعاديد، خفتم مشهد سيفي مجردًا عن غمده، إذن ألا من مبارز؟
أفلا مناجز … حسن ما أرى … فلأمض فيما أريد.
(يستدير ناحية المسرح حيث كان مونفليري قد وقف وهو في أشد
حالات الاضطراب.)
سيرانو
:
هلموا انكفئوا من حيث أتيتم نجيًّا سالمين، وإلا أعملت سيفي في الرقاب،
(ويضع يده على مقبض حسامه).
مونفليري
(بخوف)
:
إنني …
سيرانو
(ينزل من كرسيه، ويتوسط حلقة المتفرجين الذين أحاطوا من
حوله)
:
سأصفق بيدي ثلاثًا، وها أنتم قد اجتمع شملكم حولي، واكتمل كالبدر الممتلئ
الباهر، ولكنكم بعد الثالثة «من التصفيق» ستخسفون خسوفًا، وتذهبون
أشتاتًا.
(فاستضحك الناس، وتماجنوا لهذا التشبيه الذي شبه فرارهم
به.)
القاعة
:
مرحى!
سيرانو
(ولكنه لم يحفل بهم، وصفق صائحًا)
:
واحد!
(مونفليري يرتاع ولا يدري ماذا هو صانع.)
صوت
(من جانب المقاصير يهيب به)
:
لا تذهب!
(وانقسم الناس فريقين: فمن قائلين إنه سينصرف، ومن قائلين إنه
سيصر على البقاء.)
القاعة
:
لن ينصرف! بل سينصرف!
مونفليري
(وهو يرفع بصره إلى الجمهور متلعثمًا)
:
أظن أيها السادة.
سيرانو
(يصفق صائحًا)
:
اثنين!
مونفليري
:
أظن أنه من الحكمة في موقف كهذا …
سيرانو
(يعاجله بالتصفيق مناديًا)
:
ثلاثة!
(مونفليري يفر مثل خطفة البرق كأن الأرض انشقت من تحته فابتلعته
…!)
(النظارة يضحكون من فراره على تلك الصورة، ويطيلون صفير
الاستهزاء.)
المتفرجون
:
يا جبان … يا جبان … ارجع ولا تخف …!
سيرانو
(يطرب لهذا المشهد، وتنتفخ أوداجه؛ فيعود إلى مقعده، ويجلس
شابكًا ذراعيه)
:
ليرجع إن استطاع.
أحد النظارة
:
نادوا خطيب الفرقة.
(يظهر الممثل بليروز، ويتقدم وينحني للجمهور محييًا.)
الجمهور
:
الممثل بلروز … ها هو ذا سيتكلم؟
بلروز
(بتؤدة مخاطبًا الأشراف)
:
سادي النبلاء.
الجمهور
:
نريد جودوليه! نريد جودوليه.
جودوليه
(يتكلم من أنفه مشمئزًا)
:
أيها العجول!
الجمهور
:
مرحى، مرحى، استمر.
جوديليه
:
لا مرحى يا سادة، ولا أحسنت، فإن ممثلكم المؤثر الذي تحبونه قد شعر بأنه …
الجمهور
(مقاطعًا)
:
إنه جبان.
جوديليه
:
بأنه مضطر إلى الذهاب.
أصوات
:
فليرجع.
أصوات أخرى
:
لا، لا …
أصوات
:
ليرجع! ليرجع! ليرجع!
شاب من المتفرجين
(يخاطب سيرانو)
:
ولكن أرجو يا سيدي أن تبين لنا ما سر كراهيتك لمونفليري.
سيرانو
(وهو لا يزال مستويًا في مجلسه)
:
لقد سألتني يا فرخ الإوز عما يدعوني إلى كراهيته، وجوابًا عن سؤالك أقول: إن
لهذه الكراهية سببين، كل منهما يكفي في ذاته مبررًا، أما الأول فلأنه ممثل شنيع
الإلقاء، غليظ الصوت، وهو حين يلقي الأبيات يتثاقل بها كأنما يمتح دلوًا من
بئر، فتذهب روعة الشعر في انطلاقته، ويتجمد نسيمه، وأما الثاني فذلك سرّ من
أسراري لا أذيعه، ولا شأن لأحد به …
شيخ
(من خلفه باستياء)
:
ولكن هذا عيب كان أولى بك الاستحياء منه، فقد حرمنا الليلة من مشاهدة رواية
«كلوريز»، ولهذا أصر …
سيرانو
(يدور نحوه مقاطعًا)
:
أيها الشيخ المخرف، إن شعر بارو العجوز من سقط المتاع، وإني لمسرور أن أغنيكم
عن سماعه دون أن يؤنبني ضميري على ذلك.
السيدات الأديبات المتحذلقات «اللاتي ازدانت بهن المقاصير»
:
كيف تجترئ بهذا القول في حق شاعرنا «بارو»؟ هذا كثير! هذا كثير!
سيرانو
(يحرك مقعده صوب مقاصيرهن متلطفًا مداعبًا)
:
يا أملح الغيد، وأجمل بنات حواء، تلألأن كما تشأن، وأرسلن علينا من باهر
ضيائكن، ووهج سبائكن، أليس حسبكن أنكن بالشعر إلى خواطرنا موحيات حتى تردن أن
تكن له ناقدات؟
الممثل بلروز
:
لقد أفسدت علينا مورد ليلتنا، ونحن مضطرون إلى رد ثمن التذاكر للمتفرجين …
سيرانو
(ملتفتًا إليه)
:
يا بلروز، هذه هي أول ملاحظة بارعة وجيهة سمعتها الليلة، فلا ويمين الله ما
كان مثلي ليجرد الفن٢ من ثيابه (ثم ينهض من مجلسه فيخرج كيسًا
مليئًا بالمال، ويطوح به على خشبة المسرح) هاك التقط الكيس الذي
أرمي به، وحسبك لا تجادلني فيما فعلت.
(النظار يصيحون بدهشة بالغة ويهمهمون.)
جوديليه
(يجري إلى الكيس فيلتقطه بفرح متناه، ويزنه في يده بسرور
زائد مخاطبًا سيرانو)
:
إذا كان هذا هو الثمن يا سيدي فتعال كل يوم لتعطيل تمثيل مسرحية كلوريز.
(النظارة ترتفع صيحات الاحتجاج والهمهمة.)
جودوليه
:
أيستهزأ بنا جملة على هذا النحو؟
بلروز
:
يجب إخلاء المسرح.
جودوليه
:
تفضلوا يا حضرات، لقد أوقفنا الرواية.
(فريق منهم ينصرفون، وسيرانو ينظر نظرة الارتياح، وتنهض السيدات
في المقاصير ليرتدين معاطفهن استعدادًا للخروج، ولكنهن لم يلبثن أن تلكأن، كما وقف
كثيرون من النظارة في أماكنهم لسماع حوار قام في تلك اللحظة بين سيرانو وصديقه
لوبريه، وعادت السيدات إلى الجلوس.)
لوبريه
(معاتبًا)
:
إن هذا جنون يا صاح.
فضولي ثقيل
:
لقد أسأت صنعًا، واستهدفت للأذى، ألا تعلم أن مونفليري محسوب على الدوق دي
كندال، وتحت رعايته، أفليس لك عظيم يحميك؟
سيرانو
:
كلا.
الفضولي
:
يا عجبًا، أحقًّا ليس لك من عظيم يرعاك؟
سيرانو
(مجيبًا)
:
قلت لك: كلا مرتين، فهل لا بد لي أن أعيد؟
لا أنا بحسيب على أحد، ولا أنا صنيعة لمخلوق، ولكن حسبي هذا السيف لي راعيًا
وحاميًا (يقبض بيده على حسامه).
الفضولي
:
يجب إذن أن تغادر المدينة غير متردد.
سيرانو
(متأففًا)
:
سنرى.
الفضولي
:
إن للدوق باعًا طويلًا.
سيرانو
:
ولكنه لن يوازي سيفي طولًا إذا خرج من جرابه هكذا،
(وراح يريه حسامه).
الفضولي
:
وهل تنوي أن …
سيرانو
:
نعم أنوي ذلك.
الفضولي
:
ولكن …
سيرانو
:
قلت لك انطلق في وجهك، وإلا فخبرني يا هذا ما الذي جعلك تطيل النظر هكذا إلى
أنفي …؟!
الفضولي
(بخوف وتلعثم)
:
أنا؟!
سيرانو
(يقترب منه)
:
وما الذي يدهشك منه؟
الفضولي
(يتراجع منتفضًا من شدة الروع)
:
إنك تخطئ يا سيدي.
سيرانو
:
هل تراه متهدلًا كالخرطوم؟
الفضولي
:
حاشا يا مولاي، لم يخطر مطلقًا لي …
سيرانو
:
أم تحسبه أعوج مقوسًا كمنقار البوم؟
الفضولي
:
حاشا، حاشا، والله …
سيرانو
:
أم تراك لمحت تؤلولًا على أرنبته؟
الفضولي
:
إني …
سيرانو
:
أم شهدت ذبابة تستنشق الهواء فوق قمته؟ وإلا فما الذي تراه عجيبًا فيه؟
الفضولي
:
ويحي.
سيرانو
:
أهو فلتة من فلتات الطبيعة؟
الفضولي
:
لقد تحاشيت يا سيدي أن أنظر إليه حتى النظرة العابرة.
سيرانو
:
وما الذي منعك أن تتطلع إليه؟
الفضولي
:
لقد كنت …
سيرانو
:
هل اشمئززت منه؟
الفضولي
:
سيدي، حاشا لله.
سيرانو
:
أم عفت قبح لونه؟
الفضولي
:
سيدي!
سيرانو
:
أم لم يرقك شكله؟
الفضولي
:
أستغفرُ الله، ما عن هذا لخاطري.
سيرانو
:
ما بالك إذن قد أبديت علامات التنفض، وأمارات التأفف والاستهزاء؟ أرأيته
مفرطًا في حجمه؟
الفضولي
:
كلا يا سيدي، إنه صغير، عفوًا، بل إنه لدقيق مفرط في دقته.
سيرانو
:
أتجترئ يا هذا على وصفي بما يعاب، واتهامي بما يبعث السخرية والضحك أصغير
أنفي؟ … مهلا!
الفضولي
:
يا إلهي!
سيرانو
:
ويحك أيها المغفل الأحمق، والفضولي الذي يدخل فيما لا يعنيه، ألا فاعلم أنني
بهذا الأنف الكبير لفخور، أفقد جهلت يا هذا أن كبر الأنف دليل على لطف النفس،
ورقة الطبع، وعنوان الأدب والشجاعة، والأنفة والشمم، وهذا هو شأني، وتلك هي
شيمتي، هيهات أن تتاح لمثلك، ويقع شيء منها لمن هم على شاكلتك أيها المخلوق
الحقير، والصعلوك المهين، على حين يدل وجهك الكالح، وسحنتك الغبية، وصفحتك
السميكة التي لن ألبث أن أصفعها الساعة، على التجرد
(يلطمه فيصرخ).
الفضولي
:
أواه …
سيرانو
:
أي والله، على التجرد من الشعور والكرامة في ملامح العبقرية، ومجمل القول من
الأنف، تجرد ركلة من حذائي تصيب أسفل ظهرك من هذه الصفات (يمسك بكتفيه، ويديره إليه، ويركله بقدمه في ظهره ركلة
قوية).
الفضولي
(يتخلص منه)
:
النجدة، النجدة، أيها الجنود، إليَّ أيها الشرطة.
سيرانو
(إلى الذين أحاطوا به)
:
أفرأيتم ما صنعت بهذا الفضولي الثقيل، فليكن هذا نذيرًا مني لمعاشر الحمقى
والمغفلين الذين يجدون في هذا الجزء الناتئ من وجهي مجالًا للغزل والسخرية،
ومادة للنكات والمجون، فإنني لمذيقهم من هذا، أما إذا كان الماجن نبيلًا،
والمهذار شريفًا، فإني غير مفارق مكاني حتى أطعمه من مذاق سيفي، بدلًا من نعلي
وخفي.
(كان النبلاء والأشراف في هذه اللحظة قد نزلوا من المسرح فسمعوا
هذا النذير الذي أطلقه سيرانو فيمن حوله.)
دي جيش
(لرفاقه)
:
لقد تمادى هذا الرجل في غيه، وأصبح ثقيلًا علينا.
الكونت دي فلفير
(يهز كتفيه)
:
إنه لمغرور مدعٍ.
دي جيش
:
ألا من أحد يسكته؟
المركيز دي فلفير
(غاضبًا)
:
أتسأل ألا من أحد؟ مهلًا بعض هذا التجاهل؛ فإني مبادره بشيء من سخريتي
وازدرائي، ودعابتي واستهزائي، اسمع يا هذا (يتقدم إلى
سيرانو، ولم يكن قد فاته شيء من كلام المركيز ومراده) سيدي إن
أنفك … ولكن لست أدري والله ماذا أنا قائل … إن أنفك يا صاح مفرط في حجمه
كثيرًا.
سيرانو
(يلتفت إليه بطرف من نظره، وبمنتهى البرود والسخرية)
:
أحقًّا؟
المركيز
(يضحك حتى يكاد يستلقي)
:
ماذا تعنى؟
سيرانو
(هادئًا كالصخرة الصماء)
:
أهذا ما عندك؟
المركيز
:
ولكن …
سيرانو
(غاضبًا)
:
أيها الشاب الغر، أراك أوجزت وقصرت فيما وصفت، والموصوف مديد مستطيل، لقد كان
يصح أن تقول في وصفه الشيء الكثير وتعدد، ويطول بك نفس الكلام ويمتد، ولا يعوزك
في أفانين القول وضروبه إلا التنويع في لهجته وأسلوبه، فأما وقد عجزت، ولم تنصف
أنفي بل ظلمت، فاسمع فنونًا من القول فيه: فإن أردت لهجة المهاجم المتحدي،
قلتَ: «لو أن لي أنفًا كأنفك يا سيدي لبترته من ميدان وجهي واستأصلته»، وإن شئت
لهجة الصديق قلتَ: «إن أنفك يا سيدي ينغمس في كأس شرابك، فخير لك أن تصنع له
وعاءً خاصًّا»، وإن أردت مجرد الوصف قلتَ: «ليس هذا بأنف، إنه لصخرة ناتئة من
جبل، أو قلة قائمة فوق طود، أو رأس مشرف على بحر، لا والله، بل إنه في الحق
أدنى إلى شبه جزيرة شبها»، أما إذا قصدت العجب واستغربت، فإنك قائل: لعمر الله
ما أولى بهذا العقاص المستطيل الأجوف أن يروح للمقص جرابًا، وأن يكون للخنجر
غمدًا، أو ما بالك يا سيدي لا تتخذ منه دواة ليكون للمداد مددًا، وإذا أنت أردت
الإشادة بالفضل، وإبراز المحامد، قلت: «أحسبك على الطير مشفقًا، وعلى العصافير
حانيًا، فجعلت لها من أنفك الطويل مأوى لها، تقع عليه لتسكن، وإذا قصدت إلى
الجفوة، ورمت قولًا عنيفًا، فما أراك إلا قائلًا: «إذا دخنت لفائف تبغك، فخرجت
ذوائب الدخان منبعثة من هذه الماسورة التي في وجهك، أفلا يتصايح الجيران: «لقد
شب في المدخنة حريق!!» وفي مقام التنبيه والتحذير، يصح لك أن تقول: «أخشى عليك
يا سيدي أن ينقلب رأسك في الهوة إلى أسفل، وترتفع قدماك، إذا أنت أطرقت برأسك
وفيه هذا الثقل، الذي يختل به توازنك.
وفي مجال التحبب والعطف، جاز لك أن تقول: ألا من مظلة صغيرة نقيمها من فوق
أنفك، خشية على لونه الزاهي من شعاع الشمس أن تنطفئ، ومخافة على أديمه البراق
أن تتصل، وحين تريد التباهي بالعلم الواسع، وادعاء المعرفة والاصطلاح تنشئ
تقول: «أكبر الظن أن الحيوان الذي أطلق عليه (أرستوفانيس)٣ اسم هيبو كامبلفانتو كاميلوس٤ كان دون شك يحمل تحت جبهته هذه الكتلة المجتمعة من اللحم فوق هذه
الكتلة المجتمعة من العظم».
وإن أحببت مجونًا قلت: «إن أنفك يا صات هو إحدى المبتكرات في صناعة المشاجب
لتعليق القبعات».
وإذا أردت التوكيد فإنك قائل: «أيها الأنف الجليل، ليس في الرياح ما يستطيع
أن يصيبك بوعكة البرد، إلا أن تكون رياح «المسترال».»٥
وإن عمدت إلى لغة التمثيل والتهويل، قلت: إن هذا الأنف الضخم إذا دمي فهو
البحر الأحمر.
وفي باب الإعجاب والاستحسان تقول: هو إعلان على دكان لبيع الروائح العطرية،
وتقطير الزهر والريحان»، وعلى سبيل التغني: «أأنت تربتون،٦ وهذا الأنف بوقه؟»
فإن آثرت الوقار قلت: «دعني يا سيدي أحييك بوصفك من ذوي الأملاك، وهذا الأنف
دارك». وفي لغة البساطة أنت قائل: «في أية ساعة من النهار، يمكن الدخول لمشاهدة
هذا المتحف، أو دار الآثار؟»
فإذا أردت تشبيهات الفلاحين. تقول: «لا تخدعني ما هذا بأنف يا بني! إن هو إلا
لفتة عملاقة، أو شمامة قميئة». وفي لغة رجال الحرب تقول: «صوب فوهته إلا
الفرسان».
وفي الأساليب المالية، لك أن تقول: «لو عملت عليه «يا نصيب» لفاز بالربح
الأوفى دون شك».
وإن شئت تحويرًا لمرثاة بيرام، قلت: «هو ذا الأنف الذي يفسد على وجه صاحبه
جماله وتناسقه، كيف احمرّ خجلًا من شعوره بالجرم في حقه والخيانة».٧
فمثل هذا يا سيدي العزيز وأشباهه كان جائزًا لك أن تقوله لو أنك أوتيت أقل
نصيب من ذكاء، أو أدنى حظ من أدب وعلم.
ولكنك أيها المسكين الذي يرثى له لم تصب من الذكاء ذروة، ولم تظفر من بحر
العلم بقطرة، وما وعيت من أفانين القراءة والكتابة إلى أربعة أحرف مركبة، وإذا
تهجيتها كانت لك صفة مناسبة، وهذه الأحرف تجمعها كلمة «حمار».
وأما عن الذكاء، فلو أنك أوتيت القدر الضروري منه، لما رضيت لنفسك في معرض
مجانتك وعبثك أمام هذا الجمع الكبير من السامعين أن تقف عند نكتة واحدة، وهي في
ذاتها باردة، فتفسح بذلك لي المجال لقول ما قلت، وتخدمني في سياق كل هذه
الأوصاف والتشبيهات التي سقت، ولئن رأيتني قد وصفت بها نفسي، ورضيتها في معرض
الكلام عن شخصيتي، فإني لا أقبل عشر معشارها من أي إنسان، كائنًا من كان.
الفيكونت دي جيش
:
هلم إذن أيها الفيكونت! (يتميز غضبًا) كل
هذا الصلف والكبرياء! ومن ريفي حقير ليس لديه … ليس لديه حتى قفاز، ويسير بدون
أشرطة أو أربطة.
سيرانو
:
إن تيهي إنما هو تيه النفس الباطنة، فلست أقنع بمخادعة نفسي كما تفعل
الببغاء، بل إني أكثر إباء وشممًا، مني نزاعًا إلى الظهور، وليس دأبي أن أمضي
في طريقي بأي حال من الأحوال قبل أن أمحو الإهانة، وأزيل آثارها، وما أنا لأقعد
وغمة بضميري، أو انتقاص بكرامتي، أو سبة بجبيني، إن ريشة المجد هي صراحتي،
واستقلال شخصيتي، ولا أتحدث عن القوام المنسق الجميل، بل إنها نفسي هي التي
أقمعها، فأمضي في حياتي تشرفني أعمالي لا الأشرطة، وإني لأشذب نفسي كما يشذب
الشارب، ويدقق طرفاه، وعندما أشق طريقي وسط الجمع أرسل الحقائق؛ فيكون لها رنين
نخز مهماز الفارس.
فالفير
:
ولكن يا سيدي …
سيرانو
:
ليس لدي قفاز؟ وهذا أمر جلل! لم يكن لدي سوى زوج واحد قديم، لم ألبث أن أحسست
به عبئًا ثقيلًا …؛ فألقيت به في وجه واحد من الناس.
الفيكونت
:
وغد، دنيء، نفاية من نفايات الأرض.
سيرانو
(يرفع قبعته محييًا كأن الفيكونت قد أقبل يقدم نفسه
إليه)
:
ماذا تقول؟ وأنا سيرانو سافينيان هركيول دي برجراك.
الفيكونت
(بغيظ)
:
بهلول.
سيرانو
(يتلوى وينثني وينفرد، كأنما قد التوى عضل فيه، أو ضلع من
أضلاعه، وهو يصيح منه شاكيًا)
:
أواه!
الفيكونت
(وكان قد هم بأن ينصرف، فلما سمع ذلك منه التفت
إليه)
:
ماذا قال أيضًا هذا المخلوق؟
سيرانو
:
ها هو ذا يتحرك، وأخشى أن يتوتر ويتخشب، وأحسب الكسل والفراغ، وانقطاع الحركة
هي العلة والسبب (ويمضي في تأوهه
وتوجعه).
الفيكونت
:
ما الذي تشكو منه وتتلوى يا هذا؟
سيرانو
:
أصاب سيفي تشنج، فهو في غمده مضطرب متهيج.
الفكيونت
(يستل سيف)
:
هلم إذن.
سيرانو
:
إنني لمشعرك منه ضربة صغيرة، وقدة يسيرة.
الفيكونت
(باحتقار)
:
كلام شاعر.
سيرانو
:
أي والله إني لشاعر، وبرهاني أنني ونحن متجالدان مرتجل أمامك أبياتًا من
الشعر الغنائي.
الفيكونت
:
من الشعر الغنائي؟
سيرانو
:
هل تريد أن أعرفك ما هو هذا «الضرب» منه؟
الفيكونت
(مرتبكًا)
:
ولكن …
سيرانو
(بلهجة المدرس الذي يلقن تلاميذه درسًا يستظهرونه)
:
اعلم يا فتى أن الأغنية، أو القطعة الغنائية من الشعر هي قصيدة تتألف من ثلاث
مقطعات، كل منها تحتوي على ثمانية أبيات.
الفيكونت
(يضرب الأرض بقدميه متأففًا ضجرًا)
:
أف.
سيرانو
(مسترسلًا في تلقينه)
:
وهي تنتهي بمقطع أو ختام يتألف من أربعة أبيات.
الفيكونت
(ضجرًا)
:
إنك …
سيرانو
(لم يترك له مجالًا للقول)
:
وإني لمنشدك قطعة من هذا الضرب من الشعر، أو توشيحًا على غراره، ونحن نتجالد
بالسيف ونتبارز، ثم لا أكاد أبلغ منها المقطع، حتى أكون قد أنفذت فيك الطعنة
الأولى والأخيرة.
الفيكونت
:
هيهات.
سيرانو
:
كيف هيهات، وإني لمبتدئ من اللحظة فمرتجل مقدمة الأبيات، وهي عند البداية
واجبة:
(المبارزة في فندق بورغونيا ناشبة، بين دي برجراك وأحد
الأوغاد.)
وما موضع هذا من القصيدة الغنائية؟
سيرانو
:
هذا هو الرأس منها والعنوان، فلنتم الآن.
(عند ذلك يستولي على جميع الحاضرين في الملهى اضطراب بالغ،
وحماسة متناهية؛ فيتزاحمون ويتدافعون.)
أحدهم
:
أفسحوا المكان؛ لنرى النزال بينهما، والطعان، ولتكف الأصوات لنسمع الأبيات.
(ينظم القوم دائرة، واختلط الأشراف والنبلاء فيهم بالعامة
والغوغاء، وتسلق المجنة والخبثاء أكتاف صحابهم والخلطاء ليشرفوا على سير المبارزة
الدائرة.)
(تقف الحسان والغيد في المقاصر متطلعات قلقات، بينما ينتحي
الكونت بحاشيته إلى اليمين، ويجتمع أنصار سيرانو ومريدوه: لوبريه، وراجينو، وكويجي
إلى اليسار.)
سيرانو
(يغمض عينيه برهة)
:
مهلًا ولو ثانية، حتى أختار لأبياتي الروي والقافية، (يم ينشد مطابقًا بين كل لفظة من شعره، وبين كل حركة من
كره وفره) «إني لأخلع في فرح قبعتي، وأنزع عن كتفي عباءتي، لتخلص
لي وثبتي وحركتي، ثم أستل حسامي المصقول، فأجول به وأصول، كأني «سلادون» خفة
وخطرانًا، ورشاقة ودورانًا، أو «سكاراموش»٨ ثم أختلس همسة في أذنك، وهي أني في النهاية طاعنك، ومع الختام
مصيبك، (وهنا يبدأ النزال) كان خيرًا لك لو
لبثت محايدًا وتطامنت، ولقدر نفسك عرفت، فليت شعري من أي موضع فيك أبعث الموت؟
… أمن خاصرتك، أم تحت إبطك، أمن قلبك، أم من تحت وشاحك الأزرق الذي يلي الصدر؟
يا للغناء العذب المشنف، في قراع السيف، فإني يا ميرميدون،٩ حتمًا للكرش والخوف مع الختام مصيب …»
«ألا من قافية على حرف التاء المربوطة، أيتها المسكينة «البياض» المتلوية
المتخبطة، ألا من قافية تناسب رعشتك البادية؟ كأنك الريشة القلقة في مهاب
الرياح الجارفة، وي، هأنذا من ذبابة سيفك ألتمس واقيًا، ومن الطعنة التي أردتها
ناجيًا، وأما أنت إذن فخذ، ولا تنس أني في المقطع الأخير مصيب …»، (وهنا يهبط صوته منشدًا الختام شاديًا) والآن صل
على روحك قبل أن تطير إلى السماء؛ فهأنذا أتقدم إليك الخطوة الباقية ليكون
الغناء … (فإذا بالفيكونت يتراجع مدبرًا، ويترنح
متقهقرًا).
سيرانو
:
ألم أنبئك أني في المقطع الأخير مصيب؟
(يدوي المكان بالتصفيق، وترتفع الأصوات بالهتاف، وصياح
الاستحسان، وتشترك في التصفيق الغيد والحسان، وينثرن على الشجاع سيرانو الزهر،
والمناديل والرياحين، ويطوف به الفوارس مهنئين، ويرقص راجينو صاحب الخان في الهواء،
ويقفز من فرط السرور، ويبدو الفرح على وجه لوبريه، ولكنه يلبث قلقًا في موضعه،
منشغل البال بينما يحمل الفيكونت الجريح أصحابه، وينصرفون به مبتعدين.)
الجمهور
:
يعيش، يعيش، يعيش!
أحد الفرسان
:
عظيم!
امرأة
:
جميل!
راجينو
:
مدهش!
ماركيز
:
نوع من النزال جديد!
(ويعود الجمهور فيرسل هتافًا يشق السماء، ويحيط
بسيرانو.)
لوبريه
:
يبهر الأنظار.
صوت امرأة
:
إنه لبطل مغوار.
فارس
(وهو يبسط له يديه)
:
اسمح لي يا سيدي، فلعمر الحق ما في العالم أبدع مما رأينا، وأنا في مثله حكم
ترضى حكومته، ولقد شهدت براعتك فما ملكت نفسي من ضرب الأرض بقدمي إعجابًا
(وينصرف مسرعًا).
سيرانو
(إلى كويجي)
:
من يكون هذا السيد الذي انصرف اللحظة؟
كويجي
:
هذا دارتانيان، يا عجبًا ألم تكن تعرفه؟
لوبريه
:
كلمة لي معك (ويمسكه من ذراعه لينصرف به، ولكنه لا
يذهب).
سيرانو
:
انتظر حتى ينصرف الناس (مخاطبًا الممثل بلروز)
أتأذن لي في البقاء؟
بلروز
(باحترام)
:
بلا شك.
(تسمع جلبة في الخارج، وصيحات متعالية.)
جودوليه
:
ما هذه الجلبة في الخارج؟ إن الجمهور يصفق خلف مونفليري تصفيق
الاستهزاء.
بلروز
(مخاطبًا حراس الباب)
:
هلموا أخرجوا الناس، وأغلقوا الأبواب، ولكن اتركوا الأنوار، فإنا سنتناول
العشاء، ولكننا سنعود بعد ذلك للتمرن والمذاكرة في أدوارنا الليلة القادمة.
(وينحني الممثلان لسيرانو تحية مؤدبة، وينصرفان عنه.)
البواب
(لسيرانو)
:
وأنت يا سيدي أذاهب لتناول العشاء؟
سيرانو
:
كلا.
(البواب ينصرف.)
لوبريه
:
ولماذا لا تلتمس العشاء؟
سيرانو
(بأنفة وكبرياء)
:
لأنني … (ويتهمل حتى يتوارى البواب) ذلك
لأنني لا أملك درهمًا.
لوبريه
(بدهشة وهو يمثل حركة التطويح بكيس النقود)
:
كيف؟ وكيس النقود؟
سيرانو
:
فكرت كما يفكر الأب، إننا نعيش من يوم ليوم!
لوبريه
:
يا عجبًا لك … ومم أنت منفق الشهر كله؟
سيرانو
:
لم أعد أملك شيئًا.
لوبريه
(وهو في أشد الدهشة)
:
رمي الكيس حماقة ما بعدها حماقة!
سيرانو
:
ولكنه عمل جميل، وفعلة رائعة، ألا تراها كذلك؟
(وكانت الفتاة التي تبيع الحلوى والأشربة في المقصف واقفة من
خلفهما، وقد سمعت حوارهما؛ فسعلت سعلة ظاهرة، فالتفتا نحوها، وتقدمت وجلة إلى
سيرانو.)
البائعة
:
يؤلمني يا سيدي أن أراك ممسكًا عن الطعام، وها هو ذا المقصف خذ منه كفو حاجتك
(بحرارة)، هيا تناول منه ما يطيب
لك.
سيرانو
(وهو يرفع قبعته إكبارًا واحترامًا لشعورها)
:
أيتها الصبية الرفيقة الحانية، لئن كان إبائي وعزة نفسي، وحفاظي وكرامتي
تنهاني جميعًا عن أن أتقبل أي عطاء مهما قل وضؤل من يديك، فإن خوفي من جرح
شعورك برفضي، وإيلام نفسك بإمساكي ليتغلبان عندي على الكرامة والإباء، فلا
يسعني إلا القبول (يتقدم إلى المقصف) فليكن
حسبي هذا القدر القليل … سآخذ هذه الأعناب، وتقدم الفتاة العنقود كله، وتعرض
عليه شرابًا، ولكنه يدفعها.
سيرانو
:
بل شربة من ماء قراح أفضل، ثم نصف قطعة من البقسماط.
(وكانت قد تقدمت إليه بقطعة كاملة، فرد النصف الآخر
إليها.)
لوبريه
:
يا لك من أحمق!
الفتاة
:
ألا تأخذ شيئًا آخر؟
سيرانو
:
نعم يدك لأقبلها …
(وينحني على يد الفتاة يقبلها كما لو كانت يد أميرة عظيمة،
وتنحني له بأدب كثير: شكرًا لك أيها السيد الكريم، وطاب ليلك.)
(تنصرف مسرعة.)
المشهد الخامس
سيرانو
(يكلم لوبريه)
:
الآن هات ما عندك؛ فإني مستمع لك.
(يقف قبالة البوفيه، ويضع البقسماط أمامه)
العشاء أولًا (ثم يمد يده إلى الأعناب، فيجعل صفحتها
بجانب البقسماط ثم الشراب، ويلقي قدح الماء حياله) ثم الفاكهة
(ويأخذ له مجلسًا قبالة عشائه) الآن
إلى المائدة. يا لله … لقد كنت في الواقع جائعًا في مثل سغب الطير الجارحة
(يتناول الطعام) لقد كنت الآن
تقول؟
لوبريه
:
إن أولئك المنتفخين الذين يزدهيهم حديث النزال والطعان لن يلبثوا أن يذهبوا
بلبك، ويفسدوا عليك عقلك، فإذا لم تصدقني، فسل من كان به مسكة من عقل عن عقبى
هذه الجرأة المتناهية.
سيرانو
(وقد انتهى من تناول البقسماط)
:
بقسماط فاخر.
لوبريه
:
الكردينال.
سيرانو
(متهللاً)
:
أكان حاضرًا الكردينال؟
لوبريه
:
نعم، ولا بد أنه كان من رأيه …
سيرانو
:
إنها مبتكرة.
لوبريه
:
ومع ذلك …
سيرانو
:
إنه مؤلف، وأكبر ظني أنه يسره أن أمنع تمثيل رواية لزميل له.
لوبريه
(غاضبًا)
:
إنك بمثل هذا ونحوه تكثر أعداءك، وتزيد خصومك وحاقديك.
سيرانو
(وهو يتناول الأعناب)
:
كم بلغ عددهم الليلة في اعتقادك؟
لوبريه
:
أربعون لا أقل، من غير أن نعد السيدات.
سيرانو
(مازحًا)
:
حسنًا، عدهم لي.
لوبريه
:
مونفليري أولًا، ثم السيد الذي نهرته، ثم دي جيش، والفيكونت، والمؤلف بارو،
والمجمع العلمي.
سيرانو
:
كفى، إنك لمسعدي.
لوبريه
:
ولكن إلى أية نتيجة ستؤدي بك هذه التصرفات الغريبة، في النهاية هلا شرحت لي
غرضك منها ومرادك؟ خبرني ماذا تبغي من ورائها.
سيرانو
:
ماذا تريد أن أقول لك؟ لقد وجدتني في تيه متشعب المسالك، متناوح الدروب،
ورأسي أمام منافذ وسبل كثيرة متفرقة؛ فضللت وتهت؛ فأخذت …
لوبريه
:
أيها أخذت؟
سيرانو
:
أسهلها، لقد وطنت النفس على أن أصيب الإعجاب في كل شيء.
لوبريه
(يهز كتفيه)
:
ليكن ذلك، فما سر كراهيتك لمونفليري، السحر الحقيقي، قل لي.
سيرانو
(ناهضًا)
:
هاك باعثًا على بغضائه فاسمع: إن هذا الممثل البطين، سيلنوس١٠ العجوز هذا، ذا الكرش الضخم لا يزال يحسب نفسه خطرًا على الغيد،
كارثة على ربات الجمال، من تنظر إليه منهن، تقع في حبه، ومن تنظر إليه تستهم به
فهو حين تهدر شفاشفه، في تمثيل دوره، ويسيل لعابه، ويتساقط ريقه، يروح يلعب
بحاجبيه، ويغمز بطرفيه، نحو مقاصيرهن، ويضرب بعينين غليظتين كعيني الضفدع، ولقد
كرهته من تلك الليلة التي تجرأ فيها؛ فرفع عينيه إليها، حتى خيل إليَّ أني رأيت
«حلزونًا» قد دب لينفث لعابه فوق غلاف زهرة على فروعها يانعة.
لوبريه
(مندهشًا)
:
عجبًا، أو فيمكن أن تكون …؟
سيرانو
(يقاطعه ضاحكًا ضحكة مريرة حزينة)
:
في حب؟ أي والله أنا أحب.
لوبريه
:
وهل يجوز لي أن أعرف من تكون؟ لأنك لم تقل لي شيئًا عن هذا قبل الآن.
سيرانو
:
أي والله إني محب، ولكنه الحب البائس لا أمل فيه، حب لا بصيص رجاء يشع عليه،
ولا علاقة فيه لتبادل، حتى ولا من جانب فتاة مسيحية فقيرة شوهاء، إذ لعمرك أية
فتاة تحبني، وأنا بهذا الأنف القبيح المركب في وجهي، هذا الأنف المستطيل الذي
يسبقني أينما سرت، ويتقدمني باعًا كلما مشيت؟ ولكني مع ذلك أحسست حبًّا، فهل
تدري من تلك التي أحببت؟ لقد أبى القدر العجيب إلا أن أحب أجمل نساء الأرض،
فليت شعري ماذا كانت الحال لو كان الأمر بالعكس؟
لوبريه
:
يا لله أجمل نساء الأرض تقول!
سيرانو
:
نعم … أجمل النساء كافة، وأذكاهن عقلًا، وأرقهن حاشية، ثم أفتنهن لون شعر،
وذهب جدائل.
لوبريه
:
ومن هي؟ بربك قل لي.
سيرانو
:
هي الخطر تمثل إنسانًا سويًّا، والفتنة المميتة تجسمت بشرية، براءة كلها
ونقاء، مليئة بمفتن وبهاء، وهي بها غير آبهة ولا دارية، كأنها وردة حلوة عطرة،
فخ من فخاخ الطبيعة، بين لفائفها وأوراقها يكمن «كيوبيد» إله الحب في خفية، فمن
رآها تبتسم رأى الكمال الإنساني مائلًا، وإنها لتقطر ملاحة، فتجعل لأتفه
الأشياء شأنًا، وتضفي عليه من حسنها حسنًا، في كل حركة منها، وإشارة نقاء سماوي
وطهارة، فلا والله ما «فينوس» نفسها على زورقها الصدفي في البحر ماخرًا، كمثلها
وهي على المحفة سائرة، ولا «ديانا» ذاتها، وهي تجوب الغابة في الربيع الزاهر
خاطرة لتعدل جمال تهاديها وخطراتها مجتازة بك عابرة.
لوبريه
:
يا للشيطان لقد وضح الآن لي من تعني.
سيرانو
:
بل أوضح من النهار.
لوبريه
:
إنها ابنة عمك مجدولين روبان، المشهورة بروكسان.
سيرانو
:
أجل روكسان.
لوبريه
:
لا بأس من ذلك ولا ضير، بل لعل فيه الخير، ولكن لماذا لا تبوح لها بحبك وقد
شاهدت الليلة انتصارك وعلو شأنك.
سيرانو
:
أطل النظر في وجهي، ثم خبرني بأي أمل أيها الصديق يوحي إلى قلبي هذا الأنف
الناتئ في وجهي، ما أنا بالذي يغري نفسه بخداع الآمال، وينساق مع كواذب
الأماني، ولكني لا أكتمك يا صاحبي أن هناك أويقات تمر عليّ أحس فيها أحيانًا
بحنان يسيل على قلبي، ونشوة حب تخامرني إذا أتى أزرق المساء، فأدخل روضة ناضرة
عطرة، أستنشق بأنفي الكبير المتقوس أرجها ورياها، وأملأ صدري من نفحات الربيع
المبكر، وقد يتاح لي أثناء ذلك أن أرى في الشعاع الفضي شبح عاشقين يمسك أحدهما
بذراع الآخر، فأتمنى لو صحبتني كهذا الهمام غادة تمسك بذراعي أنا أيضًا، ونمشي
معًا بخطى صغيرة في ضوء القمر الساهي، ولا يني الخيال يستخفني، ويطير بي حتى
تصدمني الحقيقة، وتتبدد الأماني والأحلام فجأة حين أرى ظل وجهي مبتسمًا على
حائط الروض.
لوبريه
(متأثرًا)
:
واهًا لك أيها الصديق.
سيرانو
:
إنه في الحق لأليم أن أشعر أحيانًا بوحدتي ووحشتي، وأتبين النحس المقترن بقبح
سحنتي.
لوبريه
:
أتبكي؟
سيرانو
:
لا يا سيدي، ولن تراني باكيًا أبد الدهر، وهل هناك أقبح منظرًا من دمعة تنحدر
على ذلك الأنف الطويل، إنني لن أترك ما حييت ذلك الجمال المائل في الدموع يخالط
القبح ويجانسه، أتعرف يا صاحبي ما الدموع؟ لا شيء أنبل منها في الكون وأغلى، لا
شيء … ولا أريد أن أريق واحدة منها تكون عرضة للضحك والسخرية.
لوبريه
(يهز رأسه)
:
هون عليك ولا تحزن، الحب أحاظ وجدود.
سيرانو
:
لا، انظر إليّ، هل أنا قيصر فأهيم بكليوباترة، أو أنا فينوس فأحب برنيس؟
لوبريه
:
إن لك يا صديقي شجاعتك، وعقلك … أنسيت الفتاة الصغيرة التي عرضت عليك الساعة
الطعام والشراب … وهل رأيت كيف أن عينيها سكنتا إليك، وأعجبتا بك؟
سيرانو
:
أي والله، لقد كان ذلك.
لوبريه
:
ما بالك إذن تستسلم هكذا لليأس؟ فلقد والله رأيت روكسان نفسها شاحبة اللون،
وهي ترقب المبارزة وتتبعها.
سيرانو
:
أكانت حقًّا شاحبة؟
لوبريه
:
إن قلبها وخاطرها لفي عجب؛ فتشجع وتحدث إليها لعلها …
سيرانو
:
تسخر من قبحي … لا، فإن هذا هو الشيء الوحيد في العالم الذي أخشاه.
(يدخل حارس الملهى.)
الحارس
:
سيدة تسأل عنك يا سيدي.
سيرانو
(يلمح وصيفة روكسان قادمة إليه)
:
يا إلهي هذه وصيفتها.
المشهد السادس
الوصيفة
:
كلفت يا سيدي بأن أعرف في أي مكان يصلح لسيدة معروفة أن تقابل ابن عمها
الشجاع الباسل على انفراد بمنأى عن العيون والرقباء …
سيرانو
:
أتريد مقابلتي أنا؟
الوصيفة
:
نعم يا سيدي، إنها تريد أن تتحدث إليك في أمر ما.
سيرانو
:
في أمر ما؟ يا للعجب، وماذا عسى أن يكون؟
الوصيفة
:
في شئون خاصة يا سيدي.
سيرانو
:
يا إلهي.
الوصيفة
:
غدًا حين يتورد وجه النهار، ويصطبغ محيا الصباح بأرجوان الشق، ستذهب للصلاة
في كنيسة سان روك.
سيرانو
:
يا إلهي؟
الوصيفة
:
ففي أي مكان بعد الصلاة تستطيع سيدتي أن تخلو بك … عجل بالجواب؟
سيرانو
:
دعني أفكر! في مطعم … راجينو … الحلواني …
الوصيفة
:
وأين يكون؟
سيرانو
:
في شارع (ينسى من فرط اضطرابه مكان الحان)
في شارع سان أونوريه! …
الوصيفة
:
حسنًا يا سيدي … فلتكن في انتظارنا هناك في السابعة من الصباح.
سيرانو
:
بلا أدنى شك.
المشهد السابع
سيرانو
(مضطرب الفؤاد مرتميًا على صدر صاحبه)
:
يا الله … أموعد منها؟ …
لوبريه
:
لا تحزن إذن، ولا تبتئس بعد الآن.
سيرانو
:
لتحترق الدنيا، وليفن العالم فما أحفل اليوم به … إذ حسبي أنها قد عرفت أن
سيرانو في هذا العالم يحيا.
لوبريه
:
والآن لعلك تهدأ؟
سيرانو
:
الآن … ولكني الآن في جنة، أنا عاصفة تهدر، وسماء تصعق … ألا من جيش كامل
أنازله … فإن لي الآن عشرة قلوب تخفق في صدري، وإن لي عشرين ذراعًا … ولا
يكفيني الأقزام لأقدها بسيفي … ألا من عمالقة؟
(تبدو أشباح الممثلين في هذه اللحظة على المسرح، وأصواتهم
الخافتة تترامى في الردهة، وقد بدأوا يتمرنون على إلقاء أدوارهم في الرواية
القادمة.)
أحدهم
(وقد سمع صوت سيرانو)
:
ما هذه الأصوات، ونحن نتمرن على الرواية؟
سيرانو
(إلى الممثلين الواقفين فوق المسرح وديعًا ضاحكًا)
:
لا بأس … سنذهب في الحال (ولكنه عند الباب يرى
كويجي، وبريساي، وبعض الضباط والجنود، وقد حملوا رجلًا من فرط السكر لم تعد
ساقاه تقويان على حمله).
كويجي
:
لقد أحضروا إليك رجلًا أخذ فيه الشراب …
سيرانو
(وقد عرفه)
:
يا عجبًا … هذا لينيير، فماذا؟
كويجي
:
إنه يبحث عنك …
بريساي
:
ولا يجرء على الذهاب إلى بيته.
سيرانو
:
ما الذي يمنعه من ذلك؟
لينيير
:
لقد جاءني هذا الكتاب ينبئني بأن مائة رجل سيكمنون لي عند بوابة «نل»
ليقتلوني، وما أحسب إلا أنهم قد استؤجروا شفاء لموجدة، ورغبة في انتقام، ولعلك
لم تنس أنت تلك القصيدة الهجائية التي قلتها، ولا بد لي من المرور بذلك الموضع
في طريقي الليلة إلى بيتي، ولست على هذا جريئًا، فهلا أذنت لي في المبيت الليلة
تحت سقف بيتك.
سيرانو
:
أتقول مائة رجل؟ يمين الرحمن إنك الليلة ستنام في بيتي. لينيير: ولكن … كيف
يا صاح وأنا …
سيرانو
(في عنف وصوت قاصف، مشيرًا إلى المصباح المضاء الذي يحمله
بواب المسرح، وكان هذا هاجه الفضول؛ فتلكأ ليسمع الحديث)
:
خذ المصباح منه.
(لينيير مذعنًا لا يقول شيئًا.)
سيرانو
:
هيا بنا … وأقسم لك إنني سأهيئ لك مرقدك بنفسي في هذه الليلة (إلى الضباط والجنود) اتبعونا، ولكن عن بعد …
لتكونوا على ما سيجري شهودًا.
كويجي
:
ولكن مائة رجل …
سيرانو
:
لو كانوا دون ذلك لما رضيت قتالًا …
(وكان الممثلون والممثلات في ثياب التمثيل قد نزلوا في تلك
اللحظة من المسرح، ووقفوا يصغون إلى الحديث.)
لوبريه
:
وعلام تورط نفسك في أمر كهذا؟
سيرانو
:
يا عجبًا لوبريه الذي يعلم، هو الذي يؤنب ويلوم.
لوبريه
:
ولكن ألذلك السكير الحقير؟ …
سيرانو
(مقاطعًا وهو يأخذ لينيير تحت جناحه، ويربت على كتفه
ملاطفًا)
:
اعلم أن هذا السكير الذي يملأ كل ليلة جوفه خمرًا، بل هذا الدن أو الراقود،
فعل ذات يوم فعلة جميلة، وذلك أنه بينما كان يهم بالخروج من الكنيسة بعد الصلاة
إذ رأى حبيبته وهي تشرب من الماء المقدس، فما كان منه وهو الذي يعاقر الخمر،
ويعاف الماء القراح إلا أن أسرع نحو جرن الماء المقدس، فشرب ذلك الماء إلى آخر
قطرة.
إحدى الممثلات
(في زي وصيفة)
:
حقًّا إنه لعمل جميل.
سيرانو
:
ألم أقل الحق أيتها الوصيفة؟
الوصيفة
(للآخرين)
:
ولكن لماذا يتألب مائة على شاعر مسكين كهذا، وأي ذنب جناه؟
(ولكن أحدًا لم يجبها عن سؤالها …)
سيرانو
:
هلموا بنا … (إلى الضباط) وأنتم أيها
السادة حين ترونني أحمل على القوم لا يتقدم أحد منكم نحوي لمعونة، ولا تحاولوا
مددًا …
ممثلة أخرى
(تقفز من فوق المسرح)
:
لكم الله … خذوني معكم لأشاهد وأرى.
سيرانو
(لها ضاحكًا)
:
هيا إذن معنا.
ممثل
(يقفز من مكانه في البهو، ويلتفت إلى زميل له)
:
وأنت ألا تذهب معنا لتشهد كيف يخضب الدمُ الثرى
سيرانو
:
تعالوا جميعًا … وهلموا بجمعكم … ليكتمل المهرجان بكم، ويقترن من هذه الرواية
التي ستمثل … الجد فيها بالمهزلة، والوقار بالسخرية …
(النساء جميعًا يتراقصن من الفرح، ويصفقن، وترتفع
الأصوات.)
سيرانو
:
لتبدأ فرقة الموسيقى عزف دور المسير.
(يتألف موكب بديع ينضم ضاربو الكمان إليه، وينتزعون الشموع التي
تضيء جوانب المسرح ليتخذوا منها مشاعل في الطريق وأنواره.)
سيرانو
:
(يتقدم الضباط والجنود، تتلوهم النساء أترابًا، في
أرديتهم، وثياب تمثيلهم أسرابًا، وعلى عشرين خطوة من ورائهن)
سأمشي أنا بمفردي، تحت هذه الريشة التي زان المجد بها قبعتي، فخورًا معتزًّا
بشجاعتي وكرامتي، ولكن حذار أن يتقدم أحد لمعونتي … والآن هلموا، واحد، اثنان،
ثلاثة، يا حارس! افتح الأبواب.
(وهنا تلوح باريس للعيان في سر الليل الرهيب، وهي تمتد وتتباعد،
تحت ضياء القمر.)
سيرانو
:
ها هي ذي باريس قد لفها الليل بسواد ردائه، وها هو ذا القمر يسيل لجين ضيائه
على منحدر السقوف الزرقاء، فما أنسبه لمعركة الليل زينة، وما أجمله لصورتها
إطارًا، بل ها هو ذا نهر السين كالمرأة الساحرة يرعش ويضطرب تحت وشاح من
البخار، وما هي إلا لحظة حتى تشاهدوا ما أنتم مشاهدوه …
الجميع
:
إلى باب نل … إلى باب نل …
سيرانو
(على عتبة الباب صارخًا)
:
نعم إلى باب نل، إلى الممثلة التي كانت منذ لحظة تسأل عن سر تألب مائة رجل
على رجل، ألم تسألي يا فتاة: ما الذي جمع مائة رجل على واحد بمفرده؟ (يستل سيفه) السر يا حسناء أنهم عرفوا أن ذلك
الرجل صاحبي، ولعنة الله على من يخذل صاحبه …
(ينطلق منصرفًا، يجري لينيير في أثره مترنحًا متعثرًا،
يتبعه الجمع من الضباط، والجنود، والممثلين، والممثلات بينما راحت الموسيقى تدق
أعذب النغمات، والليل رهيب، والمشاعل ترسل ظلالًا متراقصة.)