الفصل الثاني
المنظر (مطعم الشعراء)
كان راجينو «الحلواني» و«الكبابجي» يطل على شارعين: شارع سان أندريه، وشارع لابرسك،
أي
الشجرة الجافة.
المنضدة الرخامية المستطيلة التي تصف فوقها الصحاف والأكواب قد أقيم فوقها رف من صلب
علقت
بالخطاطيف منه أنواع الطير مختلفة بين إوز وبط وديكة، وهناك أوان من الخزف تحمل باقات
من
الزهر، وأصص من عباد الشمس، وغيره من الأزهار … ثم موقد لدفء طيب، ونار مشبوبة من فوقها
سفاقيد، وأوعية للشواء والطهي بأنواعه، وعن اليمين سلم قليل الدرجات، يؤدي إلى غرفة ذات
مائدة لمن يريد الخلوة إلى طعام وشراب، وقد انفرع عن السلم دهليز خشبي يفضي إلى غرف أخرى
مماثلة … وفي وسط الحانون يتدلى طوق كبير من حديد له بكرة لرفعه وخفضه، وقد استدارت من
حوله
لحوم الصيد …
وكانت (الأفران) تبدو من تحت السلم من لهبها الحمراء، ونيرانها المتقدة، وقد برقت
عندها
الآنية النحاسية من صقلتها ولمعانها، واجتمعت أكوام من المآكل والأطعمة في أشكال هندسية
مربعات، ومخاريط كالأهرام.
وكان النهار قد طلع وبدأت الحركة في المطعم لإعداد معدات اليوم ومطالبه … وصبيان الطهاة
في شغل رائحين غداة … والطباخون السمان البطان، ومن يلونهم من الخدم والغلمان في الطهي
وضعوا قلانسهم البيضاء فوق رؤوسهم مزدانة بريش كثير من ريش الديكة والدجاج، وهم يحملون
فوق
ألواح معدنية، أو خيزرانية أكداسًا مكدسة من الفطائر، والكعك، وصنوف الحلوى.
وفي نواحي الحانوت وأرجائه مناضد صفت حولها الكراسي، ووضع عليها ما لذ وطاب من صنوف
المآكل، وصحاف الطعام.
المشهد الأول
(يشاهد راجينو عند رفع الستار جالسًا إلى منضدة صغيرة قائمة في ركن
من الحانون، عليها الدفاتر والأوراق … وهو منهمك في الكتابة، سابح المخيلة، رافع بصره
إلى السماء، يعد على أصابعه بين لحظة وأخرى.)
طاه
(يحمل وعاء ممتلئًا بالحلوى)
:
حلوى بالفاكهة … «نوجا».
طاه ثان
(يحمل طبقًا)
:
حلوى «كستر».
طاه ثالث
(يحمل ديكًا محمرًا فوق ريشه)
:
طاووس.
طاه رابع
(يحمل صينية عليها فطائر الحلوى)
:
فطائر رقاق.
طاه خامس
(يحمل قِدرًا)
:
مرق لحم بقري.
(راجينو ينقطع عن الكتابة، ويرفع عن الدفاتر رأسه.)
راجينو
(لنفسه)
:
ها هو الفجر قد بدأت تتألق فضته على الآنية النحاسية، ولا تزال يا راجينو
مضطرًّا إلى خلق وحي الشاعرية للذي يطير في صدرك، ولن تلبث أن تحين ساعة
الغناء، وألحان القيثار … الآن سأعد «المواقد» والأفران … (ثم ينهض من مجلسه، ويوجه كلامًا لأحد الطهاة)
هذا المرق سميك يا هذا ألا خففته؟
الطاهي
:
إلى أي قدر أخففه؟
راجينو
:
اسكب عليه الماء حتى يرتفع إلى ثلاثة أقدام.
(يبتعد عنه.)
الطاهي
:
كذا!
الطاهي الأول
:
إليَّ «بالتورتة»!
الطاهي الثاني
:
لقمة القاضي!
راجينو
(يقف أمام موقد قريب منه)
:
يا بنات الشعر، عودي إلى خدورك لئلا تلتهب الأعين الساحرة من أجيج النيران
الثائرة.
(طاه يقربه ويعرض عليه خبزًا) لقد أخطأت
وأسأت التقسيم، ألا تعلم أن المقطع ينبغي أن يكون بين المصراعين لوزن الشطرين؟
(إلى آخر يعرض عليه فطيرة كبيرة لم تستكمل
نضجها)، هذا قصر بلا سقف، فأضف له سقفًا (وإلى طاه ثالث من ناشئة الطهاة، وكان يشوي دجاجًا على السفود)
وأنت يا بني، أراك لا ينضج لك شواء، إنك تنظم الدجاجة الصغيرة مع الديك الكبير
في سفود واحد، وكان يجب أن تنظم كالشاعر «ما لرب» البيوت الطويلة متناوبة مع
البيوت القصيرة، وأن تدير على النار مجموعات متراصة من الشواء.
طاه ناشئ
(يتقدم من صنعة الحلوى، يحمل وعاء مغطى)
:
لقد تذكرت أيها «المعلم» ذوقك، وما تحب ويروقك، فاصطنعت هذا الصنف لك فعله
سيسرك (يكشف الغلام عندئذ عن فطيرة مطهوة في شكل
قيثارة) …
راجينو
:
متهلل الوجه: قيثارة؟
الطاهي الناشئ
:
نعم … وهي من الدقيق، والزبد، والبيض، والسكر …
راجينو
(متأثرًا)
:
وفواكه مجففة مسكرة.
الطاهي الناشئ
:
ألا ترى إلى أوتاره كيف صنعتها من السكر؟
راجينو
(ينفحه ببعض الدراهم)
:
خذ هذا لتشرب كأسًا في صحتي …
(يرى زوجته ليز قادمة) اذهب ولا تبطئ، وأخفِ
القطعة التي أعطيتك (ويتجه صوب ليز امرأته، فيريها
القيثار، وبه حرج) أليست رائعة؟
ليزا
(متأففة ضجرة)
:
إنها لسخافة وعبث (تضع على المنضدة رزمًا من أوراق
ولفائف لتصطنع منها أكياسًا صغارًا لصنع الحلوى).
راجينو
:
ما هذا؟ أأكياسًا أرى؟ شكرًا لك (يدنو من الأوراق
ليتأملها) يا إلهي كتبي المبجلة، وقصائد أصحابي، سولت لك النفس
تمزيقها على هذه الصورة وتشويهها، لتصطنعي منها أكياسًا للفطائر، ها أنت تعيدين
تمثيل القصة القديمة … قصة أورفيوس، وكاهنات باخوس.١
ليزا
(بجفوة)
:
ألست حرة على الأقل في الانتفاع بهذا الشيء الوحيد الذي يتركه كتابك الأردياء
أصحاب الأشعار المبتورة ثمنًا لما طعموا وشربوا؟
راجينو
:
أيتها النملة … لا تسبي الجنادب المقدسة، معاشر الشعراء الصادحين بأعذب الشعر
وأحلاه نغمًا.
ليزا
:
لم تكن قبل معرفتك بهذه الطغمة من الصحاب والأصدقاء تدعوني نملة، وتشبهني
بكاهنات باخوس.
راجينو
:
أهكذا بالشعر تصنعين؟!
ليزا
:
لا شيء خلاف ذلك.
راجينو
:
وما تصنعين إذن بالنثر يا سيدتي؟
المشهد الثاني
(يدخل غلامان صغيران يقفزان قفزًا.)
راجينو
:
ماذا تطلبان أيها الصغيران؟
أحدهما
:
ثلاث فطائر.
راجينو
(بعد أن يعطيهما)
:
انظر كيف هي طازجة ساخنة.
الغلام الثاني
:
هلا تفضلت يا سيدي فلففتها لنا.
راجينو
(وهو حائر متألم يقول لنفسه)
:
يا للأسف! سأفارق قصيدة من قصائد أصحابي (إلى
الغلامين) أو لا بد من لفها؟
(يتناول كيسًا من الورق، ويهم بأن يضع فيه الفطائر
لولا أن أخذت عينيه من الكيس هذا الشطر «ولما فارق عولص حسناء
بنيلوب» … ليس هذا! (وتناول كيسًا آخر، وكاد يضع
الحلوى في جوفه لولا أن قرأ على ظاهره) «فيبيس الشقراء» … لا، لا،
ليس هذا.
ليزا
(وقد عيل صبرها)
:
ما هذا التلكؤ؟
راجينو
:
ها هو، ها هو، ها هو. (يتناول كيسًا ثالثًا بيد
راعشة مستسلمة، ويلقي عليه نظرة … ثم يقول) «أغنية المناجاة … إلى
فيليس»، فلتكن هذه وإن كان فراقي لها محزنًا قاسيًا.
ليزا
:
الحمد لله على أنك انتهيت من تخير الأكياس أخيرًا
(تهز كتفيها)، يا لك من متردد جبان٢ (تصعد مقعدًا، وتصف الصحاف، وتنسق
الآنية).
راجينو
(يراها متولية عنه، فيغفلها فينادي الغلامين، وكانا قد بلغا
الباب)
:
هلا رددتما لي «مناجاة فيليس»، وأخذتما ست قطائر بدلًا من ثلاث؟
(فما إن يسمع الصبيان هذه المساومة الرابحة حتى يدفعا بالكيس
إليه، ويتناولا الفطائر الست، وينصرفا مسرعين.)
راجينو
(ينشر الورقة، ويتلو ما فيها من الشعر)
:
فيليس! يا أسفاه على هذا الاسم البديع الفاتن، الحلو الرنين … فيليس لقد تلوث
بزبد الفطيرة.
المشهد الثالث
(يدخل سيرانو مسرعًا.)
سيرانو
:
كم الساعة الآن؟
راجينو
(وقد رأى سيرانو يدخل الحانوت مسرعًا، ينحني انحناءة
بالغة)
:
أحسبها السادسة.
سيرانو
(بلهجة حماسة وانفعال وقلق)
:
لم يبق إذن على الموعد غير ساعة واحدة (يذرع
الحانوت ذهابًا وجيئة، ويمشي راجينو في أثره).
راجينو
:
مرحى! لقد رأيت …
سيرانو
:
ماذا؟
راجينو
:
معركتكم …
سيرانو
:
أية معركة؟
راجينو
:
المعركة الرائعة التي جرت في فندق بورغونيا.
سيرانو
(بازدراء)
:
آه … المبارزة!
راجينو
:
أجل … المبارزة في الشعر.
ليزا
:
هو هكذا أبدًا، لا يتكلم في شيء سواه.
سيرانو
:
ما في ذلك من بأس.
راجينو
(يجرح نفسه بسفود أمسك به)
:
وفي المقطع الأخير أصيب! وفي المقطع الأخير أصيب! حقًّا إن هذا لبديع.
سيرانو
(بقلق وصبر نافد)
:
كم الساعة الآن يا راجينو؟
راجينو
(وكان قد وقف يلوح بسفوده كأنه السيف في كفه مقلدًا سيرانو
حين كان يجالد المركيز، ويصوب الطعنات إليه؛ فأمسك بصره إلى الساعة المعلقة فوق
الجدار)
:
الدقيقة الخامسة بعد السادسة، ولكن دعني أتمثل بختام الأبيات المرتجلة حيث
تقول: «في المقطع الأخير أصيب» … لي الله ما أشوقني إلى نظم موشح غنائي.
سيرانو
:
بإزاء المنضدة الرخامية المستطيلة، ويسلم على ليزا وهو شارد الفكر، فترى يده
جريحة.
ليزا
:
ما الذي أصاب يدك؟
سيرانو
:
لا شيء، جرح خفيف.
راجينو
:
هل جرى لك حادث سوء، أو تعرضت لخطر؟
سيرانو
:
لا شيء مطلقًا.
ليزا
(تهدده بإصبعها)
:
لست تقول حقًّا.
سيرانو
:
وهل رأيت أنفي يرعش وأنا أتكلم؟ إن مثل هذه الحركة تدل على إفك عظيم (يغير لهجته) إنني أنتظر هنا بعض الناس، فإذا
جاءوا فاتركونا وحدنا، ولا تزعجونا لشيء ما حتى ولو قامت القيامة، وأزفت
الآزفة.
راجينو
:
ولكن هذا مستحيل؛ فإن أصحابي الشعراء قادمون.
ليزا
(بتهكم لاذع)
:
لكي يتناولوا وجبتهم الأولى.
سيرانو
(للحلواني متلطفًا)
:
أرجو أن تتنحى بهم ناحية حين ترى إشارة مني … خبرني كم الساعة الآن؟
راجينو
:
السادسة وعشر دقائق.
سيرانو
(يفتقد مجلس راجينو إزاء منضدته، وهو في حال من القلق
ظاهرة، يتناول ورقة من فوقها)
:
عليَّ بقلم.
راجينو
(يدفع إليه بالقلم الذي كان قد وضعه خلف إحدى أذنيه)
:
هاكه فإنه من ريش بجعة.
(يدخل الحانوت فارس من حرس الملك، له شارب كبير.)
الفارس
(بصوت راعد)
:
طاب صباحكم.
(ليزا تسرع إليه.)
سيرانو
(متأملًا)
:
من هذا؟
راجينو
:
هذا صاحب لزوجتي، وهو جندي مخيف، ومقاتل جبار كما يزعم هو عن نفسه.
سيرانو
(يتناول القلم في يده ويشير إلى راجينو ليبتعد)
:
سكوتًا (ثم يناجي نفسه) أكتب الكتاب
وأطويه … وأدفع به إليها، وأنطلق هربًا (ولكنه يلقي
بالقلم من كفه) يا لي من جبان … يخيل إليّ أنني أموت، أو أصعق قبل
أن أجترئ على مفاتحتها بما في فؤادي، أو أنطق أمامها بكلمة واحدة(إلى راجينو) كم الساعة؟
راجينو
:
السادسة والربع.
سيرانو
(يضرب صدره بيده)
:
ألا من كلمة واحدة من الكلمات التي يزخر بها صدري هذا! (يتناول القلم مرة ثانية).
والآن لأكتب هذه الرسالة الغرامية التي ألفتها، وأعدتها في نفسي مائة مرة
ومرة … وما عليَّ إلا أن أضع روحي بجانب القرطاس لأنسخ صورة مما فيها عليه
(وبينما هو مكب على الكتاب لاحت له من وراء الباب
الزجاجي أشباح هزيلة مترددة).
المشهد الرابع
ليزا
(إلى زوجها مهرعة، غضبى، متبرمة)
:
ها هم أولاء شعراؤك المهلهلون قد حضروا.
(يدخل الشعراء في ثياب سود، ترتمي أطراف جواربهم فوق وجوه
أحذيتهم؛ لافتقارها إلى الحمائل والأربطة، وهم شعث، غبر، تتلطخ بالأوحال
أرديتهم.)
أولهم
(إلى راجينو محييًا)
:
السلام على نسيبي في الشعر والفن.
الثاني
(باليد مصافحًا)
:
سلام على نسيبي العزيز.
الثالث
(مناديًا)
:
تحية لك أيها النسر المحلق وسط طهاة الحلوى والفطير (يرفع أنفه ليشم الفطائر) حقًّا ما أزكى رائحة عشك.
الرابع
:
لقد انقلبت «فيبيس» ربة النور حلوانيًّا …
الخامس
:
السلام على «أبوللون»٣ رب الطهاة البارعين.
(يجتمعون من حوله يعانقونه، ويتملقونه، ويدورون به.)
راجينو
:
ما أروح النفس إليكم، وما آنس الخاطر بكم، كلما اجتمعتم تهللت لكم الروح
تهللًا.
الأول
:
لقد عاقتنا جموع الغوغاء عن البكور إليك، فإن الزحام كان شديدًا حول «بوابة
نل».
الثاني
:
وقد تجمهر الناس، وأحاطوا بجثث ثمانية من اللصوص كانت طريحة فوق الأفاريز
مثخنة الجراح، كست أديم الأرض خضابًا.
سيرانو
(مكبًّا على الكتاب الذي بين يديه، ولكنه إذ يسمع صوت هذا
الراوي يرفع بصره)
:
ثمانية! كنت أظنهم سبعة. (يعاود
الكتابة).
راجينو
(لسيرانو)
:
وهل عرفت يا سيدي من يكون بطل المعركة؟
سيرانو
(دون أن يرفع إليه ناظره، أو يحتفل بالجواب)
:
لست أنا …
ليزا
(إلى الفارس)
:
وأنت هل تعرفه؟
الفارس
(وهو يفتل شاربيه)
:
ربما …
سيرانو
(وهو لا يزال منشغلًا بكتابته مغمغمًا)
:
«أحبك … أحبك …»
الشاعر الأول
:
ولقد سمعت بأن رجلًا واحدًا هو الذي دوخ عصابة بأكملها، وبدد شملها! …
الثاني
:
يا له من مشهد عجيب، الهراوات والأسنة كانت تغطي الأرض! …
سيرانو
(لا يزال يكتب)
:
وإن عينيك.
الثالث
(في حماسة بالغة)
:
وكان الناس يجدون القبعات والقلانس حتى ساحل نهر السين.
الأول
:
يا لله لا بد أن يكون ذلك البطل وحشًا ضاريًا …
سيرانو
(كدأبه)
:
وإن شفتيك …
الأول
:
لقد كان صاحب هذه الفعال الجسام بلا ريب ماردًا جبارًا يقذف الرعب في القلوب
…
سيرانو
(مكبًا على القرطاس)
:
وحين أراك دانية أنتفض من الرعب، وتسري الرعدة في أوصالي …
الثاني
(وهو يلتهم فطيرة أهوى عليها)
:
ألا تنشدنا يا راجينو مما نظمت أخيرًا؟
سيرانو
(وقد هم في تلك اللحظة أن يمهر الكتاب بتوقيعه)
:
من الذي يهواك؟ (ولكنه أمسك ونهض من مجلسه، ودس
الكتاب طي ثوبه) لا ضرورة للتوقيع ما دمت سأدفع إليها الكتاب
بنفسي.
راجينو
(للشاعر الثاني)
:
لقد وصفت وصفة من الفطير في قصيدة خريدة من الشعر الذي اختمر في صدري.
الثالث
(وقد جلس إلى صحيفة حوت قطعة من الحلوى المزيجة
بالقشدة)
:
هلم أسمعنا ما قلت؛ فكلنا آذان …
الرابع
(ينظر إلى فطيرة قد تناولها صاحبه)
:
ما لي أرى قبعتها منحرفة إلى ناحية، ألا يحسن أن نأتيها بأسناننا ننقص من
أطرافها لتعتدل، ويستقيم غطاء رأسها … (ويهوي على
الفطيرة فيقضم رأسها).
الأول
:
انظروا إلى هذه الكيكة المحلاة بالجنزبيل، إنها لتغمز للشاعر الساغب بعينيها
اللوزيتين، وحاجبيها المصنوعتين من حشيشة الملائكة، فتستبيه بحسنها الفتان
(يلْتَهِمها الْتِهَامَة الحوت
المفترس).
الثاني
:
أسمعنا قصيدتك.
الثالث
(يضرب بأصبعه جوف فطيرة محشوة بالقشدة)
:
يا لله ما بالها، هكذا تومض ضاحكة حتى ليسيل عسلها على جوانبها، وينبعث من
جوفها الدسم الشهي للطاعمين.
الثاني
(وقد أنشب أسنانه في الفطيرة المصنوعة على صورة
القيثارة)
:
يا لله! هذه هي أول مرة في حياتي تغذيني القيثارة فيها أشهى الأنغام مؤنة
…
راجينو
(استعد للإنشاد فتنحنح، وسعل وأرخى قبعته على جبينه، ووقف
وقفة شاعر معجب بنفسه)
:
إليكم قصيدتي في وصفة اللوزينج.
(الشعراء في شغل بالتهام الفطائر، والانقضاض على الكعك
والحلوى.)
الثاني
(للأول وهو يدفعه بمرفقه)
:
أتتناول طعام إفطارك؟
الأول
(للثاني)
:
أتتناول عشاءك؟
راجينو
:
والآن إليكم وصفة كعكة اللوز.
اخفق البيض خفيفًا، ولكن مسرعًا … حتى يتكاتف زلاله مع محه فلا يكون مائعًا،
وأخلط مع خفضه به عصير ليمون طيبًا رائعًا … وضع على الخليط اللبن واللوز معًا
… ثم أحط خصر القالب الجميل بالعجين، وخطط على القمة التقاسم برفق ولين … واقطر
المزيج بخفة ورشرشة … وهات القشدة الصريحة المنعشة، فاسكب منها سكبًا طيبًا …
وأدخل القوالب في الفرن قالبًا قالبًا … فإذا أخرجتها كانت محمرة الأديم …
وظفرت من أكلها بمتاع ونعيم … وصحت في فرح وحمية … إنها لوزية أي لوزية!
الشعراء
(ترتفع أصوات الشعراء بالهتاف، وقد امتلأت بالفطائر
أشداقهم)
:
عظيم! لذيذ!
شاعر
(يكاد يختنق من الطعام)
:
أحسنت!
(الشعراء ينصرفون إلى موضع آخر من الحانوت وهم منتفخو الأشداق
بالطعام.)
سيرانو
(لراجينو، وكان يتأمل هذا المشهد الغريب)
:
ألم تر إليهم كيف يطربهم صوتك؛ فشرهوا على الطعام؟
راجينو
:
نعم رأيت ذلك، ولكني تظاهرت بأني لا أرى حياء منهم، وخوفًا من إيلامهم، وهكذا
أكتسب سرورًا مضاعفًا، وأجني لذة مزدوجة حين أنشدهم أشعاري؛ لأنني أتركهم
أحرارًا يأكل منهم من لم يأكل، وفي الوقت ذاته أحقق شهوتي للشعر، وهو ضعف في
ممتع.
سيرانو
(وهو يربت على كتفه)
:
إنك تعجبني! (ينصرف الحلواني لينضم إلى رفاقه،
يتبعه سيرانو بناظريه، ثم ينادي زوجة الحلواني بحدة، وكانت تتحدث إلى
الفارس حديث الغرام) ما الأمر يا ليز، أهذا الضابط يحاصرك؟
ليزا
(بغضب)
:
إن نظرة ازدراء واحدة مني تعرف كيف تقهر أي رجل إن هو اجترأ على عفافي
وفضائلي.
سيرانو
(بسخرية)
:
لكني أرى الأعين القاهرة ضعيفة مستسلمة …
ليزا
(تستشيط غضبًا)
:
ولكن …
سيرانو
(بلهجة حادة قاطعة)
:
إنني أحب راجينو، وأنت فلتعلمي يا سيدة ليز أنني لن أسمح بأن يجعل ضحكة من
أحد مهما كان شأنه.
ليزا
:
ولكن …
(تحاول ليزا أن تتكلم، ولكنه يستبقها رافعًا صوته بالنذير
والوعيد لكي يبلغ ذلك الجريء الفاجر الذي يغازلها.)
سيرانو
:
ليتعظ من يسمع.
(يحيي الضابط، ويمضي إلى الباب القصي ليراقب بعد أن تطلع
إلى ساعة الجدار.)
ليزا
(إلى الضابط، وكان هذا قد رد على تحية سيرانو فحسب)
:
إني لأتعجب منك … أهذا كل جوابك؟ هل فاتك أنفه؟
الضابط
(مرتبكًا)
:
أي والله، إنه أنفه، حقًّا إن أنفه …
(يتقدم ولكن في ناحية بعيدة متحاشيًا الدنو من سيرانو، وهي
تتبعه وتتأثره لتعرف أين هو ملتمس أن يذهب.)
سيرانو
(وهو لدى الباب يشير إلى راجينو ليصرف الشعراء
بعيدًا)
:
هيا (فينتحي الحلواني بالشعراء إلى ناحية الباب
الأيمن).
راجينو
:
تعالوا بنا إلى هذه الحجرة؛ فنستمتع بخلوة لنا طيبة.
سيرانو
(وقد عيل صبره)
:
هيا، هيا (يبتعد راجينو بهم أكثر من ذلك
وأنأى).
راجينو
:
تعالو معي لمطارحة الشعر.
الشاعر الأول
(ولا يزال فمه بالفطير مزدحمًا)
:
إلى أين؟ إلى أين؟ والفطائر! …
الثاني
:
نأخذها معنا.
(يهجمون على الأواني والأوعية هجمة مضرية، حتى يتركوها من
الحلوى والأطعمة خالية، ويذهبون في صف متتابع رهيب في أثر راجينو.)
المشهد الخامس
سيرانو
(لنفسه)
:
إذا أنا لمحت أقل بارقة من الأمل دفعت بالكتاب إليها (تدخل روكسان وقد أرخت على محياها نقابًا، وفي أثرها
وصيفتها، وهي تتهادى متقدمة نحوه، وخيالها يلوح له خلف زجاج الباب؛ فيبادر
إليه يفتحه على عجل) ادخلا (للوصيفة)
كلمتان معك يا سيدتي.
الوصيفة
:
بل أربعًا يا مولاي.
سيرانو
:
هل تحبين الطعام الشهي؟
الوصيفة
:
آكل حتى ينتابني منه المرض.
سيرانو
(يمد يده إلى الأكياس الورقية فوق المنضدة فيتناول جملة
منها)
:
بديع ما تقولين … أفرأيت إلى هاتين القصيدتين الغنائيتين للشاعر بنسراد؟
الوصيفة
(بوجه يرثى له)
:
تبًّا لك.
سيرانو
:
سأملأ هذين الكيسين اللذين يحويانها بالكعك والفطير …
الوصيفة
(متغيرة الوجه)
:
مرحى.
سيرانو
:
وما رأيك في الحلواء التي يسمونها القطائف.
الوصيفة
:
إذا حشيت بالقشدة كانت آية عجبًا.
سيرانو
:
ها هي ذي ست منها أسقطها لك في قلب قصيدة للشاعر «سان أمانت»، وأزيدك عليها
في هذا الكيس الحاوي لأبيات من شعر شابلان قطعة أخرى أخف وزنًا، ولكن أوفر
عسلًا وسمنًا … والآن هل تحبين الفطير الساخن الخارج لساعته من اللهب؟
الوصيفة
:
من صميم القلب.
سيرانو
(يملأ حضنها بالأكياس من مختلف الصنوف والأشكال
مزدحمة)
:
هيا كُلي، واستمتعي بمذاقها في الشارع.
الوصيفة
(بتردد)
:
ولكن يا سيدي …
سيرانو
(يصرفها برفق)
:
إياك أن تعودي قبل أن تأتي على آخر واحدة منها.
(يغلق الباب في أثرها، ويتقدم إلى روكسان فيحسر عن رأسه محييًا،
ويقف على خطوات منها وقفة أدب بالغ، واحترام كثير.)
المشهد السادس
سيرانو
:
أسعد باللحظة التي تنازلت فيها إلى التفكير في وجود رجل مثلي يتنفس في هذه
الدنيا ويعيش … وتفضلك بالمجيء لتخبريني … لتخبريني؟
روكسان
(معاجلة وقد حسرت النقاب عن محياها)
:
بل لأشكرك أولًا، فإن ذلك الكونت الدعي الخليع الذي هزمته ليلة أمس بسيفك
البتار هو الذي كان أحد كبار الأشراف الهائم بحبي …
سيرانو
:
الكونت دي جيش؟
روكسان
(وهي تخفض الطرف)
:
يريد أن يفرضه عليَّ فرضًا، ويحملني على الرضى به زوجًا.
سيرانو
(بلهجة مرة لذاعة)
:
يا عجبًا زوجًا لمثلك … زوجًا مزيفًا … (منحنيًا
بالتحية): ما أهنأني يا سيدتي الكريمة أن أعلم الساعة أني كنت
أقاتله في سبيل عينيك الساحرتين، ولم أكن أقاتله من أجل أنفي القبيح.
روكسان
:
وثانيًا أردت … ولكن قبل أن أبوح بما جئت أعترف لك به، أود أن أجد فيك مرة
أخرى الصديق الأخ الذي كنته في أيام الطفولة البريئة، أيام كنا نرتع ونستبق في
الغاب على ضفاف البحيرة …
سيرانو
:
نعم، وكنت تأتين إلى برجراك كل صيف …
روكسان
:
أفذاكر أنت القصب كيف كنت تقتطع من خشبه مضارب وسيوفًا؟
سيرانو
:
نعم، إني له لذاكر، فهل تذكرين كيف كنت تتخذين من «شواشي» الذرة جدائل
لعرائسك؟
روكسان
:
تلك أيام ملاعب ولهو.
سيرانو
:
وعليق حامض لم يتم نضجه.
روكسان
:
ولقد كنت في تلك الأيام تفعلين كل ما أريد.
سيرانو
:
وكانت روكسان في ثوبها القصير تدعى مادلين …
روكسان
:
أكانت جميلة في تلك الأيام؟
سيرانو
:
بهجة الخاطر كنت، ومسرة العين.
روكسان
:
كم من أحيان كنت تأتي من التسلق دامي اليدين، وكنت أنا إذ أراك هكذا، أمثل
دور الأم فأقسو عليك وأؤنبك (تتناول يده في
كفها)، ولكن ما هذا الخدش الذي أرى؟ (وقد استولت عليها الدهشة وهي ترى خدشًا آخر): يا إلهي، وهذا خدش
آخر.
(ويهم سيرانو بسحب يده من إمساكتها.)
روكسان
:
كلا، دعني أرى، حتى بعد أن كبرت سنًّا، وأين حدث لك هذا؟
سيرانو
:
أصابني وأنا ألعب وألهو عند بوابة نل.
روكسان
(تجلس إلى مائدة، وتغمس طرف منديلها في قدح من
الماء)
:
هات يدك.
سيرانو
(يجلس بجانبها)
:
يا لها من أمومة حدبة حانية!
روكسان
:
خبرني وأنا أمسح الجرح، وأزيل الدم عنه، كم اجتمع من المقاتلين عليك؟
سيرانو
:
مائة أو نحوهم.
روكسان
:
نبئني بالتفصيل ما جرى …
سيرانو
:
اتركي هذا الموضوع، وحدثيني أنت عن الذي لم تجرئي على إعلانه …
روكسان
(وهي لا تزال ممسكة بيده)
:
الآن أستطيع أن أتكلم؛ فإن ذكريات تلك الأيام العطرة قد شجعتني، الآن أستطيع
أن أبيحك سرًّا يتردد في صدري، فاستمع لي: إنني أحب …
سيرانو
:
آه! (ينتفض من الرعب، ولا يملك منع زفرة انبعثت من
أعماق جوانحه).
روكسان
:
ولكن الذي أحبه لا يدري بما في نفسي له …
سيرانو
:
آه، (يشتد اضطرابه، ويرسل زفرة أحر من
الأولى).
روكسان
:
مهلًا إنه إلى الآن لا علم له … ولكنه لن يلبث أن يكون به عليمًا …
سيرانو
:
آه! (يزفر زفراته وهو لا يملك النفس من فرط الدهشة
والذهول).
روكسان
:
هو شاب مسكين يهابني إجلالًا، وقد أحبني من بعيد، ولكنه لا يجرؤ أن يعلن عن
حبه.
سيرانو
:
آه …
روكسان
:
دع يدك في يدي … ما بالها حارة كأنها من الحمى في مثل اللهب مستعرة، ولكني
رأيت اعترافاته ترتعد على شفتيه.
سيرانو
:
آه.
روكسان
(تضمد جرح يده بمنديلها)
:
وأعجب ما تتصور أنه بالمصادفة يا ابن العم يعمل في فرقتك …
سيرانو
:
آه.
روكسان
(ضاحكة)
:
وهو في الضباط الأحداث عندكم، وفتيانكم الناشئين …
سيرانو
:
آه.
روكسان
:
وعلى جبينه يبدو طابع الذكاء الخارق، والألمعية الباهرة، وهو فخور أبيٌّ قوي
شجاع جميل …
سيرانو
(وقد دارت الأرض به؛ فنهض من مجلسه بجانبها)
:
جميل!
روكسان
:
ماذا بك حتى تلوح هكذا شاحبًا مضطربًا؟
سيرانو
:
لا شيء بي، إنه (وأراها الجرح الذي في كفه
مبتسمًا) إنه هذا الخدش لا شيء سواه …
روكسان
:
لقد أحببته، وفي هذا القول حسبي، ولكن يجب أن تعلم أني ما رأيته من قبل هذا
إلا في الملهى …
سيرانو
(مدهوشًا)
:
كيف هذا … ألم تتخاطبا؟
روكسان
:
إذا لم تتخاطب الألسنة تخاطبت العيون.
سيرانو
:
ومن أين عرفت إذن أنه كما تصفين …؟
روكسان
:
من أحاديث الناس تحت أشجار الزيزفون في منتزه رويال … ومما يدور على الأفواه
فهمت ثم قدرت …
سيرانو
:
أهو من صغار الضباط قلت؟
روكسان
:
في فرقة الحرس.
سيرانو
:
وما اسمه؟
روكسان
:
البارون كريستيان دي نوفييت.
سيرانو
:
كيف ذلك، وليس لدينا أحد بهذا الاسم؟
روكسان
:
اليوم فقط يلتحق بفرقتكم تحت إمرة الكابتن كاريون دي كاستل جالو.
سيرانو
:
ما أسرع رفيف القلب وطيرانه، ولكن يا بنيتي المسكينة …
(يسمع صوت الوصيفة وهي تفتح الباب.)
الوصيفة
:
لقد أكلت الفطير كله يا مسيو برجراك.
سيرانو
:
اقرئي الأشعار المطبوعة التي على الأكياس إذن
(تنصرف)، ولكنك يا فتاتي المسكينة الصغيرة التي تحب الكلام
الرشيق، واللفظ البارع، والحديث الموفق، والذكاء البارق، ماذا تكون الحال إذا
ظهر أن هذا الذي أحببته ليس إلا فتى غبيًّا بليد الخاطر، عييًّا محصورًا؟
روكسان
:
لا يمكن أن يكون كذلك، وله شعره الجميل الذهبي أشبه بشعر أبطال القصص في الروايات.٤
سيرانو
:
وما يدريك أن يكون جميل الشعر ذهبيه، وهو في الوقت نفسه ألكن اللسان
عييه؟
روكسان
:
كلا، أكبر ظني وخاطري، بل حديث نفسي ومشاعري، أن لسانه عذب، وكلامه جميل.
سيرانو
:
أفكل الكلام في تقديرك جميل، ما دام مختبئًا تحت الشارب الجميل، فلنفرض أنه
مأفون أحمق، فماذا تفعلين؟
روكسان
(وهي تضرب الأرض بقدميها)
:
أقتل نفسي من الحزن الدفين …
سيرانو
(بعد لحظة)
:
أفواعدتني اللقاء لكي تخبريني بهذا وتنبئيني؟ لست أرى يا سيدتي أي جدوى من
ذلك، وأي نفع ترتجين.
روكسان
:
لقد أحس قلبي بكمد قاتل حين علمت أمس أنكم جميعًا في فرقتكم غساقنة.
سيرانو
:
ومن دأبنا أن نتحرش بكل فتى متثن مياس لم تنبت له لحية ولا عذار، ممن تدخله
الوساطة، والشفاعة، واحتساب المحتسبين في وسطنا نحن الغساقنة الخالصين، حفظ
الله موطنهم وصانه، أفحدثوك بهذا أيضًا؟
روكسان
:
ولك أن تتصور مبلغ الرعب الذي تملكني من خيفة عليه.
سيرانو
(يغمغم بين أسنانه)
:
ولك العذر.
روكسان
:
ولكني حين شاهدتك الليلة البارحة شجاعًا قهارًا، وباسلًا مغوارًا، رابط
الجأش، ثابت الجنان حيال أولئك النبلاء الفادسين الفجار، قلت لنفسي: لو أن هذا
الشجاع الذي يخاطبونه جميعًا، ويتهيبونه تكرم وتعطف فقط بأن …
سيرانو
:
أدافع عن بارونك الصغير، ليكن ذلك، فإني له لفاعل.
روكسان
:
أحقًّا ستدافع عنه؟ لطالما كنت لك الصديقة الوفية الحنون.
سيرانو
:
نعم، نعم.
روكسان
:
وسوف تكون صديقًا له وحاميًا، أليس كذلك؟
سيرانو
:
سوف أكون صديقه.
روكسان
:
أتعدني أنه لن يدخل في مبازرة قط؟
سيرانو
:
أقسم لك.
روكسان
:
كم أودك؟ والآن أحسب قد حان أن أنصرف. (ترخي النقاب
على وجهها، وتتهيأ للذهاب، ولكنها لا تلبث أن تقف): ولكنك لم
تخبرني عن معركة الليلة الماضية، يا لله، لا بد أنها كانت معركة رهيبة، تجلت
فيها بطولتك رائعة تأخذ الأبصار، أرجو إليك أن توصيه بأن يكتب لي. (تمشي خطوات، ثم تبعث إليه بقبلة في الهواء من أطراف
أناملها)، لله ما أعظم محبتي لك!
سيرانو
:
نعم، نعم.
روكسان
:
أمائة رجل ألب عليك؟ وداعًا الآن … لقد أصبحنا صديقين حميمين، أليس
كذلك؟
سيرانو
:
هو كذلك، هو كذلك.
روكسان
(وهي منصرفة)
:
دعه يكتب لي … وستقص على مسمعي قصة المائة رجل في يوم من الأيام، يا عجبًا …
مائة رجل … يا لك من شجاع.
سيرانو
(ينحني لها مودعًا)
:
لقد كانت المعركة التي تلتها بيني وبين نفسي أشد وأقسى، وكان موقفي منها أروع
وأسمى.
(يقف في مكانه مطرقًا إلى الأرض. راجينو يفتح الباب للجناح
الأيمن من الحانوت، ويطل برأسه من فتحة الباب.)
المشهد السابع
راجينو
:
هل نستطيع الآن دخولًا؟
سيرانو
(وهو في موضعه لا يريمه)
:
نعم فقد انتهى الأمر.
(راجينو يومئ إلى الشعراء أن يدخلوا فيأتون مهرولين، يدخل في
تلك اللحظة من الباب الخلفي، كاربون دي كاستل جالو في ثياب الضباط، وشارات
(الكبتن)، فلم يكد يلمح سيرانو حتى تبدو الدهشة المتناهية عليه …)
كاربون دي كاستل جالو
:
من أرى!
سيرانو
(يرفع بصره من طول إطراقته)
:
يا عجبًا، الكبتن كاربون دي كاستل جالو؟
كاربون
(متهللًا)
:
أأنت هنا يا بطلنا الغضنفر؟ لقد سمعنا قصة ما جرى، وقد خلفت في الموضع ثلاثين
أو أكثر من ضباطنا.
سيرانو
:
ولكن (يحاول أن ينزوي عنه، ويذهب منصرفًا، ولكن
كاربون جعل يحاول أخذه معه).
كاربون
:
هيا بنا إليهم؛ فلن يستريحوا حتى يروك.
سيرانو
:
كلا.
كربون
:
وهم الساعة جلوس في الحانة المقابلة، حانة كروا دي تراهوار يكرعون الكئوس.
سيرانو
:
إني …
كربون
(يمشي إلى الباب، وينادي بصوت قاصف، مخاطبًا ضباط فرقته في
الجانب الآخر من الطريق)
:
إنه لا يريد أن يأتي، إن البطل اليوم لمتجهم منقبض.
صوت
(في الخارج)
:
ها! سانديو.
(جلبة في الشارع، ومواقع الأحذية الضخمة، وصليل السيوف، وهي
جميعًا تقترب.)
كاربون
(إلى صديقه وهو يفرك يديه)
:
إنهم قادمون إلى هنا مسرعون.
(يدخل الضباط يتصايحون، وقد اختلطت الأصوات، وازدحم بهم
الحانوت: ميلديو – كابدديو – مورديو – بوكابدديو.)
(تراجع راجينو على مشهدهم مذعورًا مجفلًا.)
راجينو
:
أيها السادة، أأنتم جميعًا من غسقونيا؟
الضباط
:
نعم كلنا … كلنا.
(يحيطون بسيرانو متصايحين، مصافحين بالأكف، بين معتنق له،
وهاز يده، ومقبل خديه.)
الضابط الأول
:
مرحى.
سيرانو
:
سيدي البارون.
الضابط الثاني
:
عشت.
سيرانو
:
سيدي البارون.
الضابط الثالث
:
دعني أعانقك.
سيرانو
:
سيدي البارون.
جمع من الضباط
:
لنعانقه.
سيرانو
(حائر وسطهم لا يدري من يجيب)
:
سيدي البارون عفوًا، عفوًا سيدي البارون.
راجينو
:
أكلكم بارونات أيها السادة؟
الضباط
:
أي نعم كلنا بلا استثناء.
راجينو
:
وهل حقًّا هم كذلك؟
أحدهم
:
وكيف لا … وإنك لتستطيع أن تقيم برجًا عاليًا من تيجان باروناتنا وحدها.
لوبريه
(يدخل فيمشي رأسًا إلى سيرانو)
:
إن الجمهور المتحمس يبحث عنك، وقد جاءت مظاهرة كبيرة يقودها أولئك الذين
كانوا معك ليلة أمس.
سيرانو
(باضطراب شديد)
:
يا لله، وهل أنبأتهم بمكاني؟
لوبريه
(وهو يقلب كفيه)
:
نعم قد فعلت.
(وفي سرعة البرق دخل رجل من الطبقة المتوسطة تتبعه جماعة كبيرة
من الناس.)
الرجل
:
إن أهل حي ماريه في باريس قادمون جميعًا إلى هنا لتحية البطل الصنديد.
(في الخارج تموج الشوارع بالجماهير، وتبدو مركبات ومحفات تقل
الأشراف والسادات.)
لوبريه
(في أذن سيرانو وهو يبتسم)
:
وروكسان؟
سيرانو
(بعجلة)
:
صه، لا كلام الآن.
الجمهور
(يهتف في الخارج)
:
سيرانو … نريد سيرانو!
(ويندفع الناس، ويتزاحمون بالمناكب، ويهجم الذين في الطليعة
فيقتحمون الباب، ويرسلون تصفيقًا مدويًا يصم الآذان.)
راجينو
(وهو فوق مقعد من المقاعد)
:
لقد اشتد الزحف على دكاني، وتكاثفت طلائع الهجوم على بضاعتي، وحطمت كل شيء،
ولكن كل هذا رائع بديع.
الجمهور
(حول سيرانو يصيحون)
:
ليحيَ صديق الشعب … ليحيَ صديق الشعب.
سيرانو
:
يا سبحان الله، لم أكن أجد لي بالأمس صديقًا واحدًا، فأصبحت اليوم ولي كل
هؤلاء الأصدقاء.
لوبريه
:
لا عجب، فهكذا هو النجاح، وكذا يكون المجد.
مركيز شاب
(يتقدم إلى سيرانو)
:
لو أنك أيها الصديق العزيز عرفت …
سيرانو
(مقاطعًا)
:
صديق؟ عزيز؟ يا للعجب، ومتى كنت أنا وأنت نقف للحراسة معًا؟
شريف آخر
:
أحب يا سيدي أن أعرفك ببعض الغيد الحسان يرغبن في رؤيتك، وهن الساعة في
مركبتي الواقفة بالباب تنتظر.
سيرانو
(ببرود)
:
ومن يعرفني أولًا يا سيدي بك؟
لوبريه
(مبهوتًا)
:
ماذا حدث يا عزيزي وما الذي يغضبك؟
سيرانو
:
صه.
أحد الأدباء
(يحمل دواة وقلمًا)
:
ألا أستطيع يا سيدي أن أظفر ببعض التفصيلات عن …
سيرانو
(بجفوة)
:
كلا …
لوبريه
:
(يغمزه بمرفقه معاتبًا): كيف هذا؟ إنه تيوفراست رينودو المعروف، مخترع
الصحيفة السيارة.
سيرانو
:
ومن يعنيه أن يقرأ ورقة كهذه؟
لوبريه
:
ولكن هذه الصحيفة من التي يحشدون فيها الأنباء والطرائف من كل نوع، ويقولون:
إنها فكرة ناجحة ستصادف بلا شك رواجًا وإقبالًا.
الشاعر
(يتقدم نحو سيرانو)
:
سيدي …
سيرانو
:
وهل أديب آخر هذا الذي أرى؟
الشاعر
:
ألا تأذن لي أيها البطل العجيب في نظم خماسيات من الشعر باسمك؟
أحدهم
(يتقدم نحوه أيضًا)
:
سيدي.
سيرانو
:
كفى، كفى.
(تظهر حركة أخرى في الصفوف، وبينهم الكونت دي جيش في حاشية من
الضباط، ومن بينهم كويجي، وبريساي، والضباط الذين صحبوا سيرانو في ختام الفصل
الأول.)
كويجي
(إلى سيرانو معلنًا قدوم القائد)
:
مسيو دي جيش! (فيتهامس الناس باسمه، وتتسع الحلقة،
وتفرج الصفوف، ويتنحى المتزاحمون لإفساح الطريق.) وقد جاء من قبل
المارشال دي جاسيون (دي جيش يحيي سيرانو)
ليعبر لك عن إعجابه بما أبديت أمس من جسام الفعال، وعظائم الأمور في ذلك الحادث
الرائع الذي سرى نبأه في البلاد.
أصوات
(بالهتاف)
:
مرحى.
سيرانو
(وهو ينحني أمام الكونت)
:
لا بدع؛ فإن المارشال حكم في فنون البسالة.
دي جيش
:
ولم يكن ليصدق ما سمع من أمرك، وترامى إليه لو لم يقسم هذان السيدان أمامه
أنهما شهدا المعركة.
كويجي
:
بعيني رأسينا.
لوبريه
(لصديقه سيرانو، وقد رآه ذاهلًا، شارد الخاطر، مشتت
اللب)
:
ولكن ما بالك؟
سيرانو
:
صه.
لوبريه
:
يبدو أنك تتألم.
سيرانو
(ينتفض ثم ينتصب واقفًا)
:
أمثلي يضطرب أو يتألم أمام هؤلاء السوقة؟
(يستوي بقامته، ويشرئب بعنقه، ويفتل شاربه، ويبرز
بصدره): مهلًا فسترى.
دي جيش
(بعد لحظة كان كويجي خلالها قد دنا منه، فأسره كلامًا غير
مسموع)
:
لقد بدأ اسمك في ميادين الشجاعة ينبه، وذكرك في ساحات المجالدة يشتهر، أتخدم
مع أولئك الغساقنة الحمقى؟
سيرانو
:
أي نعم شباب الضباط.
أحد الضباط
(بصوت مرعب)
:
معنا.
دي جيش
(وهو يرى الغسقونيين وقوفًا وراء سيرانو)
:
أفهؤلاء الذين تبدو على وجوههم أمارات الزهو، والتعاظم، والعجرفة هم
المشهورون بأنهم …
كاربون دي كاستل جالو
(مناديًا)
:
سيرانو.
سيرانو
:
سيدي الكابتن؟
القائد
:
أنا وجميع ضباط فرقتي مجتمعون اللحظة هنا، فأرجو إليك أن تتكرم بتقديمهم إلى
مولاي الكونت.
سيرانو
(يتقدم خطوتين حتى يمثل بين يدي دي جيش)
:
سيدي الكونت دي جيش، اسمح لي أن أقدم (وأشار بيده
إلى صفوف رفقائه).
إنهم شباب غسقونيا البواسل
تحت إمرة كابتن كاربون دي كاستل جالو
قتلة، كذبة، ولا حرج لكنهم أشرف من اللصوص نسبًا
تستعر دماؤهم في أوردتهم، وتضطرم الحمية في حناياهم
إنهم شباب غسقونيا البواسل
أعينهم كالصقور، وسيقانهم كاللقالق
لهم شوارب السنانير، وأنياب الذئاب تمزق كل وغد
يغطي الريش قلانسهم العتيقة ليستر ما بها من خروق
لكن لهم عيون الصقور، وسيقان اللقالق
شوارب السنانير، وأنياب الذئاب
شعارهم المفضل الضرب والطعان
بقر البطون وتحطيم الجماجم
بلذة المجد أرواحهم سكرى، ونفوسهم إليه عطاش
أينما قام صدام، كانوا فيه على موعد
لأن شعارهم المفضل الضرب والطعان
ها هم شباب غسقونيا البواسل
عجائز الأزواج أكلت نفوسهم الغيرة
ومن أكلته الغيرة — أيتها الفاتنات — جعلوه ديوثًا
فانفخي يا أبواق، واصدحي يا طيور
ها هم شباب غسقونيا البواسل.
الكونت دي جيش
(وهو جالس جلسة العظمة في مقعد رهيب، قدمه إليه راجينو صاحب
الحانوت)
:
إنه لمن دواعي الترف اليوم أن يكون للنبلاء شعراء يتبعونهم، أترضى أن تكون
شاعري؟
سيرانو
(بأنفة وإباء)
:
كلا يا سيدي، لست أرضى أن أكون لمخلوق في هذا العالم تبعًا.
دي جيش
:
لقد سُر عمي ريشيليو من عبقريتك ليلة أمس، فلست أبخل أن أقول عنك كلمة تزكية
طيبة أمامه.
لوبريه
:
يا إلهي، إن هذا لنبأ عظيم.
دي جيش
:
وقد بلغني أنك وضعت رواية شعرية في خمسة فصول أو نحوها، فهل أبلغت حقًّا؟
لوبريه
(في أذن صاحبه)
:
إنه يقصد روايتك «أجريبينا» لسوف تراها ممثلة في النهاية.
دي جيش
:
لو أنك أخذتها إليه …
سيرانو
(وقد بدأ يتأثر ويفعل في نفسه الإغراء والترغيب)
:
في الحق إنني …
دي جيش
:
فهو نقادة حاذق، وأديب بارع، وقد يصحح لك بيتًا أو بيتين فيها.
سيرانو
(وقد عاوده إباؤه فتجهم)
:
هذا مستحيل، وإن دمي ليجمد في مسراه حين أتصور أن قلمًا يعمل فيما أكتب، أو
يدًا تمحو فيه وتثبت حتى ولا نقطة واحدة أو ترقيمًا.
دي جيش
:
ولكنه إذا استطاب بيتًا، أو راقه من الشعر شيء لم يضن عليه بثمن عظيم يا
صديقي العزيز.
سيرانو
:
ما أحسبه يدفع فيه ثمنًا أعظم، ولا أغلى مما أدفعه أنا فيه، فإنني حين أنظم
بيتًا يروقني أدفع نفسي له ثمنًا، وأتغنى أنا ذاتي به.
دي جيش
:
إنك لمتكبر، وبنفسك فخور.
سيرانو
:
أحقًّا؟ ألم تدرك ذلك إلا الآن؟
(يدخل في تلك اللحظة ضابط من الغساقنة يحمل على سنان سيفه خيطًا
قد ربط فيه عدة قبعات قديمة ممزقة، كثيرة الثقوب والخروق.)
الضابط
:
انظر أيها العزيز ماذا وجدنا في هذا الصباح على الطريق؟ لقد قنصنا هذا القنص
البديع من الريش، بل هذه القبعات القديمة، قبعات الهاربين.
كاربون دي كاستيل جالو «قائد الفرقة»
:
إنها والله لأسلاب المعركة (يضج الجميع
ضاحكين)! ها! ها! ها!
كويجي
:
إن من دبر ذلك الكمين يجب عليه والله أن يسخط اليوم.
بريساي
:
وهل عرف الفاعل؟
الكونت دي جيش
(بغضب)
:
هو أنا.
(فينقطع الضحك، ويسود السكون.)
الكونت دي جيش
:
لقد أردت عقاب شاعر عربيد، وتأديب نظام أفَّاق، فنزهت سيفي عن فعلة قذرة،
وربأت بحسامي عن عمل صغير، فعهدت إلى أولئك السوقة أن يتولوه عني
وينفذوه.
(وخيم صمت طويل.)
الضابط الذي حمل الأسلاب
:
ماذا نصنع بهذه القبعات وهي ملأى بالشحم والدهن؟ أنطبخ بها قدرًا؟
سيرانو
(يتناول السيف الذي ينتظم القبعات، ثم يلقيها تمامًا عند
قدمي الكونت دي جيش، ويؤدي التحية العسكرية)
:
أرجو يا سيدي أن تتكرم بردها إلى أصحابك، (يخرج دي
جيش غاضبًا).
دي جيش
(ينهض ويقول في لهجة مقتضبة)
:
إليَّ بمحفتي، وبالحمالين في الحال.
(يتوجه إلى سيرانو في صرامة) أما أنت أيها
السيد …
(يسمع صوت صائح في الطريق: حمالو السيد الكونت دي جيش.)
دي جيش
(بعد أن ملك زمام أمره، يقول وعلى شفته ابتسامة)
:
أقرأت دون كيخوته؟
سيرانو
:
نعم قرأته، وإني باسم هذا المجنون الذي هبط علينا من عل، لأميطن اللثام عن …
دي جيش
:
نصيحتي إليك إذن أن تتروى …
أحد الحمالين
(يظهر إلى الخلف)
:
المحفة بالباب!
دي جيش
:
وتذكر الفصل الخاص بالمطاحن الهوائية!
سيرانو
(بانحناءة)
:
الفصل الثالث عشر.
دي جيش
:
ذلك لأنه عندما يهاجمها الإنسان، فما يحدث عادة …
سيرانو
:
إلى أن أستنبط من ذلك أنني قد هاجمت أناسًا يدورون مع كل ريح؟
دي جيش
:
ذلك الذراع المكسو بالخيش من أذرعها الطويلة يلقي الإنسان في الوحل!
سيرانو
:
أو يرفعه إلى السماكين!
(يخرج دي جيش، يرى وهو يدلف إلى محفته، ينصرف السادة مهمهمين،
يصاحبهم لوبريه ثانية إلى الباب، ينفض الجمع، يظل الضباط جالسين إلى الموائد، إلى
يمينها ويسارها حيث يقدم إليها الطعام والشراب.)
المشهد الثامن
(سيرانو، لوبريه، الضباط جالسين إلى الموئد على اليمين وعلى اليسار
يقدم لهم الطعام والشراب.)
سيرانو
(ينحني في استهزاء إلى من ينصرفون دون أن يجرؤوا على
استئذانه بالانصراف)
:
سادتي … سادتي … سادتي …
لوبريه
(يعود إلى النزول، في حالة شديدة من الابتئاس، رافعًا يديه
إلى السماء)
:
ليت شعري، ما كان أجمل ملابسهم!
سيرانو
:
واه، أأنت؟ كنت أنتظر منك أن تتوجع وتتذمر.
لوبريه
:
وأخيرًا، أنت متفق معي في أن اقتناص الفرص العابرة دوامًا يصبح ضربًا من
المغالاة …
سيرانو
:
أجل هذا صحيح، فإني أشتط فعلًا.
لوبريه
(في نشوة النصر)
:
أرأيت، إنك تعترف بذلك.
سيرانو
:
ولكن اعتقادي أنه من الخير أن أشتط كما أفعل الآن، في سبيل المبدأ، وكذلك
لأقدم عظة لمن يتعظ.
لوبريه
:
ألا تخليت بربك لحظة واحدة عن نزوعك إلى الفروسية، وإلى الجاه والمجد.
سيرانو
:
ترى ما عسى المرء أن يفعل؟
هل يسعى إلى عظيم من العظماء، ويتخذه نصيرًا، ويحاول كما يفعل اللبلاب الخفي
عندما يلتف حول جذع شجرة يجعل منه دعامته، ويمتص لحاءه، فيبلغ العلا بالمكر
والخديعة لا بقوة ساعديه؟ لا شكرًا لك.
هل تريدني أن أقدم القصائد كما يفعل البعض إلى أصحاب الجاه، وأنظمها في
مدحهم؟ هل أخلع على نفسي ثوب المهرج بغية أمل حقير في أن يرى شفتي وزير تنفرجان
له، ولو مرة واحدة عن ابتسامة لا تنذر بشر مستطير؟ لا شكرًا لك.
هل آكل ضفدعًا بريًّا كل يوم؟ أأزحف على بطني ذلًّا واستكانة حتى تتجرد
ثيابي، ويتسخ جلدي سريعًا عند ركبتي؟ أأؤدي أعمالًا تكسب ظهري مرونة من كثرة
الخشوع والانحناء؟ لا شكرًا لك. أأربت على العنزة بيد، وأروي الكرنب باليد
الأخرى؟ أأقدم هدايا من نبات السنا لآخذ بدلًا منه هدايا من الرواند، وألا أكف
عن التلويح بمبخرتي بين يدي واحد من أصحاب اللحى؟ لا شكرًا لك.
أأرتمي في حضن بعد حضن، وأصبح رجلًا عظيمًا صغيرًا، في دائرة عظيمة ضيقة؟
أأدفع سفينتي بالقصائد الغزلية بدلًا من المجاديف، وأملأ أشرعتي بآهات عجائز
النساء؟ لا شكرًا لك.
أأسعى لدى سرسي، ذلك الناشر الحاذق، وأعطيه مالًا لينشر قصائدي؟ لا شكرًا
لك.
أأسعى لنيل الشهرة بنظم قصيدة غزلية واحدة بدلًا من أن أنظم قصائد غيرها؟ لا
شكرًا لك.
أتراني أقصر جهدي على كشف مواهب الناشئين دون سواهم؟ أأخشى ما قد يحلو للصحف
الخاملة أن تقوله عني، ثم لا أفتأ أحدث نفسي قائلًا: ليت اسمي يظهر في صحيفة
«باريس ميركري» الصغرى؟ لا شكرًا لك.
هل أحتمي، وأخاف، وأنزوي، وأوثر القيام بزورة على الاضطلاع بنظم قصيدة، وأن
أجنح إلى تدبيج العرائض والملتمسات؟ لا شكرًا لك؟ لا شكرًا لك! لا شكرًا
لك.
ولكني أوثر أن أغتني وأحلم، وأضحك وألهو، وأعيش منفردًا حرًّا، وأن تكون لي
عينان يقظتان، وصوت مجلجل، وأن ألبس قبعتي حين أشاء وكيف أشاء، وأن يكون لي
الخيار حسب هواي في أن أدخل في مبارزة، أو أنشد أنشودة! وأن أعمل دون أن أحسب
حسابًا للجاه والمجد، وأن أقوم بالرحلة إلى القمر، الرحلة التي تنشدها جميع
النفوس! وألا يدبج يراعي شيئًا لا يصدر عن عميق وجداني، بيد أني في اتضاع أقول
لنفسي: يا صاح لتقنع بالأزاهير والفواكه، أجل لترض بأوراق الشجر فحسب، ما دمت
تجمعها من حديقتك أنت، ثم إذا اتفق أن أحرزت بعض النصر، فلن أكون ملزمًا أن
أعطي أي قسط منه لقيصر، بل أن أحتفظ به كله لنفسي، ومجمل القول: إني لأنأى
بنفسي عن أن أكون اللبلاب الطفيلي، حتى وإن عجزت عن أن أكون شجرة البلوط، أو
الزيزفون، وأوثر أن أرتفع معتمدًا على نفسي، وإن لم أبلغ علوًّا شاهقًا.
لوبريه
:
وحدك؟ ليكن ذلك لك، ولكن لا يجب أن يقف شخص واحد في وجه الجميع! كيف بربك
أصبت بهذا الجنون الذي يملكك، والذي يجعلك تخلق على الدوام أعداء لك في كل
مكان؟
سيرانو
:
أصبت به عندما رأيتك تتودد إلى الناس، وتبتسم لهذه الجماعات من الأصدقاء
عينها بابتسامة لا تنفرج لها شفتان! لا أريد أن أحمل عبء رد التحايا في الطريق،
وإني لأصبح في نشوة: هل من عدو جديد؟
لوبريه
:
هذا انحراف عقلي!
سيرانو
:
إني لا أجادلك في ذلك؛ فهذه إحدى نقائصي، إن سروري في أن أغضب الآخرين، وإني
أحب أن يكرهني الناس، أيها الصديق الحميم، لو تعلم كم هو حسن بالمرء أن يسير،
والعيون الحاقدة ترسل عليه شواظًا من الحقد، وكم يكون ارتياحه لتلك البقع التي
تنتشر على صدره، وإن كان فيها شفاء لحقد الحاقدين والجبناء … أما أنت فإن
الصداقات التي لم تكتمل، والتي تحيط بها نفسك أشبه بتلك «الياقات» الإيطالية
الواسعة، السهلة، المسترخية، ذات الفتحة التي تظهر منها الرقبة، وكأنها رقبة
امرأة، إنها ياقات توفر الراحة، ولكنها ذات مظهر غير لائق؛ لأن أطرافها التي لا
تشد إلى أعلى شدًّا لائقًا، كثيرًا ما تنحرف ذات اليمين وذات اليسار … أما عني
فإن الكراهية تزيد كل يوم صلابة ياقتي التي تقيم رأسي وتنصبها في وضعها الصحيح،
إن كل عدو جديد هو طية أخرى من طيات هذه الياقة، وإن كانت هذه الطية تولد ضغطًا
جديدًا إلا أنها تضيف شعاعًا آخر، فإن الكراهية التي تشبه الياقة الإسبانية من
جميع الأوجه هي رباط ووثاق، ولكنها هالة من النور أيضًا!
لوبريه
(بعد برهة، يتأبط ذراع سيرانو)
:
إني لأعلنها على أسماع الجميع بأنك متشامخ حاقد، أما عني فلتقل لي في همس: إن
الأمر لا يعدو أنها لا تحبك.
سيرانو
(في حدة)
:
صه!
(كريستيان يدخل، ويختلط مع الضباط فيتجاهلونه؛ فيتوجه في
النهاية إلى منضدة صغيرة يجلس إليها منفردًا؛ حيث تقوم ليز على خدمته.)
المشهد التاسع
ضابط
(جالس إلى مائدة ممسكًا بكأس من الشراب ينادي)
:
سيرانو، (يلتفت سيرانو نحوه) سيرانو،
علينا بالقصة.
سيرانو
:
بعد حين.
(وينثني إلى صدقه لوبريه، فيعتمد على ذراعه، يروحان ويغدوان،
وهما في حديث وهمس مخافت.)
الضابط
(وهو ينهض من مجلسه ويتقدم إلى سيرانو)
:
علينا بالقصة، قصة معركة الليلة الفائتة، فلعلها تكون درسًا حسنًا وعظة
(يقف قبالة المائدة التي كان كريستيان جالسًا
إليها) لهذا التلميذ الحدث المتهيب.
كريستيان
(رافعًا رأسه)
:
تلميذ؟ من هو الذي تعني؟
آخر
:
هو هذا الفتى الشمالي الهزيل.
كريستيان
:
هزيل؟
الضابط الأول
(متذمرًا)
:
اسمع مني في أذنك يا مسيو دي نيفييت، إن هناك شيئًا لا يستطيع أحد منا التحدث
عنه، كما لا يستطيع أحد التحدث عن الحبل في بيت المشنوق!
كريستيان
:
وما هذا الذي عنيت؟
ضابط آخر
(بصوت مرعب)
:
انظر إلى (يضع أصبعه ثلاث مرات فوق أنفه)
أفهمتني؟
كريستيان
:
آه … إنه ذلك اﻟ …
آخر
:
صه، ولا تنبس بهذه الكلمة وإلا كنت من الهالكين
(يشير إلى سيرانو، وكان في شغل بالحديث مع صديقه لوبريه)، ويتقدم
ثالث من كريستيان فيقتعد المنضدة القائمة قبالته، وينحني إليه، ويهمس له.
آخر
:
اسمع لقد أهلك رجلين أخنفين في غضبة له، لا لسبب سوى أنهما كانا
أخنفين.
ضابط آخر
(يزحف من تحت المائدة، وكان قد تسلل تحتها خلسة)
:
وإذا أردت ألا تموت قبل الأوان، فتحاشى يا بني ذكر هذا الغضروف
المميت.
آخر
(وهو يربت على ظهره صائحًا به)
:
بل إن كلمة أو إشارة أو حركة بمنديلك قد تجعل منه كفنك.
(يسود السكون، وينظر الجميع وهم مشبكو الأذرع فوق الصدور إلى
كريستيان، وكان قد تقدم إلى كاربون دي كاستل قائد الفرقة، غير أن هذا جعل يتحدث إلى
أحد الضباط متظاهرًا بأنه لم ير كريستيان قادمًا نحوه.)
كريستيان
:
يا سيدي الكابتن!
الكابتن
(وقد استدار نحوه، وجعل يثأره بنظرة من رأسه إلى أخمص
قدمه)
:
ماذا تقول؟
كريستيان
:
ماذا يصنع المرء إذا رأى جنوبيين يكثرون من الزهو والادعاء، ويسرفون في
الغطرسة والخيلاء؟
كاربون
:
يقدم لهم الدليل على أن الفتى قد يكون شماليًّا، ومع ذلك شجاعًا
أبيًّا.
كريستيان
:
شكرًا لك.
الضابط الأول
(إلى سيرانو)
:
علينا الآن بالقصة.
الجميع
:
القصة، القصة.
سيرانو
:
إذن فلتسمعوا.
(وفي الحال يزدحم جميعهم من حوله، ويقربون المقاعد حياله،
ويتحفزون للإصغاء، ويقفز كريستيان فوق مقعد، ويظل قائمًا يترقب.)
سيرانو
:
لقد ذهبت وحدي للقاء تلك العصابة، ومشيت إليها بمفردي، وكان القمر مفترشًا
أديم السماء، كأنه من الساعة الكبيرة الوجه والميناء، وإذا بذلك الصانع الماهر
الذي اصطنع الساعة، والأنجم الدقاق، قد أرسل بحكمته، وعجيب مشيئته، غمامًا كأنه
قطعة من قطن فوق الظرف الذي يمسك بتلك الساعة الفضية، فما لبث القمر أن احتجب،
وذهب متواريًا، وساد الكون ظلام، فلم يعد المرء يرى شيئًا أبعد من …
كريستيان
:
أبعد من أنفه.
(يذهل القوم وينهضون من مجالسهم بطاء، وينظرون إلى سيرانو نظرات
الرعب إذ وقف مبهوتًا لحظة، مشدوهًا لا يستأنف حديثًا، ولا يعاود كلامًا.)
سيرانو
:
من هذا المتكلم؟
أحدهم
(همسًا)
:
إنه زميل التحق بالفرقة اليوم فقط!
سيرانو
(وهو يخطو خطوة نحو كريستيان)
:
اليوم فقط.
كاربون دي كاستل
(بصوت خافت)
:
نعم، وهو يدعى البارون دي نيفييت!
(لا يكاد سيرانو يسمع هذا الاسم حتى يشحب لونه ويحمر.)
سيرانو
:
هذا؟ حسنًا! (ثم يتمالك نفسه وينزوي، ويهم بأن ينقض
على الفتى ليصرعه لولا أن احتجز غضبه) إنه … (يتمالك نفسه).
إلى أي حد من القصة كنت قد بلغت؟ (ويطلق زمجرة
ولعنة مكبوتة) يا للعنة! وكان الظلام شديد الحلكة.
(وما كاد يبدأ على هذا النحو حتى علت الوجوه دهشة بالغة،
فقد كان القوم يتوقعون منه شيئًا آخر، ويرتقبون أن يروه فاتكًا بالفتى لساعته،
وظلوا يرمقونه بأبصارهم عاجبين.)
ولكني سرت قدمًا، وأنا أحدث نفسي قائلًا: «أتراني من أجل مسألة تافهة أو
حكاية قبيحة أتحدى رجلًا عظيمًا، أو كبيرًا ذا خطر، أو من يدري أميرًا في وسعه
بلا شك أن يهشم …
كريستيان
:
أنفي …
(فما أن يسمع الجميع هذه الكلمة الجرئية من الشباب الدخيل
الجديد عليهم حتى يستووا على سوقهم مبهوتين، قد تملكتهم الدهشة المتناهية، بينما
يظل كريستيان متأرجحًا على كرسيه لا يأبه بشيء!.)
سيرانو
:
أن يهشم أسناني، ومجمل القول: أنني بطيشي وتهوري إنما رحت أدخل …
كريستيان
:
أنفي …
سيرانو
:
أصبعي بين الشجرة ولحائها، بل ما يدريني إذا كان ذلك العظيم شديد البأس، قوي
المحال، مديد السلطان، فيلقيني …
كريستيان
:
فوق أنفي.
(يضطرب سيرانو، ويتصبب العرق من جبينه، ويمسحه عنه
بمنديله.)
سيرانو
:
على أصابعي، غير أني ناديت نفسي في نجواي قائلًا: «تقدم يا ابن غسقونيا،
وافعل ما يمليه الواجب عليك، تقدم يا سيرانو!»، قلت هذا وتقدمت، ولكني ما لبثت
أن رأيت في الحلكة شبحًا ينقر …
كريستيان
:
أنفي …
سيرانو
:
فتحاشيته، ولكني وجدت نفسي فجأة …
كريستيان
:
أنفًا لأنف!
سيرانو
(ولم يستطع تجلدًا فانقض عليه صائحًا)
:
لعنة السماء والأرض.
(فاشرأبت الأعناق، وتواثب الشباب ليروا ماذا سيحدث، ولكن سيرانو
ما كاد يصبح على قيد خطوة واحدة من كريستيان حتى تماسك، وانثنى يستأنف.)
سيرانو
:
وحيال مائة مخلوق من الرجال والصعاليك، والسكارى تنبعث منهم …
كريستيان
(مقاطعًا)
:
بل من أنوفهم.
سيرانو
(يبتسم بوجه شاحب)
:
تنبعث منهم روائح البصل والثوم، رحت أكر وأفر خافضًا رأسي من خبث
ريحهم.
كريستيان
:
والأنف ضارب في الهواء.
سيرانو
:
فما زلت أكر عليهم حتى كتمت أنفس اثنين، ونفذت بالسيف في صدر ثالث، وتصدى لي
أحدهم، ولطمني «باف»! فرددت عليه …
كريستيان
:
ثم عطست.
(سيرانو وقد انفجر غيظه المحتدم في صدره؛ فزعق زعقة مدوية
راعدة.)
سيرانو
:
يا للصاعقة! انصرفوا جميعًا، ولا يمكث منكم أحد.
(يتدافعون جميعًا إلى الأبواب.)
أحدهم
:
ها هو ذا النمر قد استيقظ.
سيرانو
:
اخرجوا جميعًا، ودعوني وحدي معه.
ضابط
:
لن تلبثوا أن تشهدوه مفريًا كاللحم المفروم.
راجينو
:
مفرومًا؟
ضابط ثالث
:
حشو فطيرة من فطائرك.
راجينو
:
يخيل إليّ أني شحبت، وانكمشت كهذه المنشفة.
كاربون
(إلى ضباطه)
:
هلموا بنا ننصرف.
ضابط منهم
:
لن يترك صاحبنا منه، ولا قطعة نثيرة من لحمه!
ضابط آخر
:
إني لأموت فزعًا من تصور ما سوف يحدث الآن هنا.
ضابط آخر
:
إنه لشيء رهيب ما سيحدث الساعة هنا!
ضابط ثالث
(يغلق الباب)
:
شيء فظيع.
(ينصرف الجميع من أبواب متفرقة بينما يقف سيرانو وكريستيان
وجهًا لوجه، يرمق كل منهما الآخر شزرًا.)
المشهد العاشر
سيرانو
:
الآن تعال عانقني.
كريستيان
:
سيدي؟!
سيرانو
:
إنك لشجاع جسور.
كريستيان
:
ولكن يا سيدي، ما …
سيرانو
:
هيا عانقني؛ فإنني أخوها.
كريستيان
:
ومن هي تلك التي تعني؟
سيرانو
:
أعنيها هي؟
كريستيان
:
عجبًا! ومن هي؟
سيرانو
:
روكسان.
كريستيان
(وهو يعدو نحوه)
:
يا لله، أخوها أنت؟
سيرانو
:
أخوها، أو ابن عمها، كلاهما على حد سواء.
كريستيان
:
هل نبأتك؟
سيرانو
:
بكل شيء.
كريستيان
:
وهل هي تحبني؟
سيرانو
:
يجوز.
كريستيان
(وهو يتناول يديه في كفه)
:
ما أسعدني يا سيدي اليوم بلقائك!
سيرانو
:
قد يسمى هذا شعورًا فجائيًّا.
كريستيان
:
أستميحك يا سيدي مغفرة، وأسأل صفحًا.
سيرانو
(يطيل النظر إليه، وهو ملق يده على كتفه، ويغمغم
لنفسه)
:
الوغد جميل حقًّا، جميل.
كريستيان
(في استحياء)
:
أواه يا سيدي، لو أنك عرفت مبلغ إعجابي بك؟
سيرانو
:
وما شأن تلك الأنوف التي جعلت تذكرها لي؟
كريستيان
:
أسحبها جميعًا!
سيرانو
:
روكسان تنتظر منك هذا المساء كتابًا.
كريستيان
:
يا ويحي.
سيرانو
:
ما الخبر؟
كريستيان
:
لو فتحت شفتي بالكلام لكان في ذلك الخسران المبين.
سيرانو
:
ولم هذا؟
كريستيان
:
وا آسفاه! إنني أبله منزو، شديد الحياء.
سيرانو
:
ليس الأبله من يدرك أنه الأبله، ولم تك كذلك حين تحديتني!
كريستيان
:
لا يعز على المرء أن يطلق صوته بصيحة الحرب قبل الهجمة، وما أنكر أن لي
بالجندية قليلًا من المعرفة، ولكنني أمام النساء أجدني المرتج عليه، العيي
الحصور، أن أعينهن، يا لي من أعينهن، إنهن ليلحن لي من بعد عاطفة حانية.
سيرانو
:
وهل قلوبهن أقل حنانًا إذا دنوت منهن، ووقفت بقربهن؟
كريستيان
:
كلا، فإني من أولئك، وأنا أعرف ذلك، من أولئك الذين تنعقد ألسنتهم حين
يتحدثون عن الحب!
سيرانو
:
ليت شعري! لو أن الطبيعة عنيت بخلقتي، وأحسنت تصويري لكنت سيد العاشقين
مكاشفة وإعلانًا.
كريستيان
(بتحسر)
:
أواه ليت لي من ملكة الكلام حظًّا، يؤهلني للتعبير عن الأشياء تعبيرًا
جميلًا.
سيرانو
:
ويا ليتني كنت جنديًّا عاديًّا، ولكن مليحًا صبيح المحيا.
كريستيان
:
ولكن روكسان أديبة متحذلقة، ولا شك في أني سأخيب آمالها؛ فتتضح الحقيقة لها
…
سيرانو
(ينظر إلى وجهه المليح، ومعارفه المستوية، وطلعته
الباهرة)
:
لو أن لي مثل هذا المحيا مترجمًا يعبر عن روحي، ومتحدثًا يشهد بما في
نفسي.
كريستيان
(متوجعًا)
:
ألا بلاغة تباع؟ ألا بيان يشترى؟
سيرانو
(فجأة)
:
في وسعي أن أعطيك فصاحتي، وفي وسعك أنت أن تعيرني حسنك ومفاتنك، بل لو
تمازجنا واختلطنا، لكان من مزاجنا وخليطنا بطل من أبطال القصص الغرامية.
كريستيان
:
ماذا تقول؟
سيرانو
:
هل تحسبك مستطيعًا أن تردد في كل يوم ما أعلم لسانك ترداده، وألقنك له إعادة
وتكرارًا؟
كريستيان
:
أتقترح علي ذلك؟
سيرانو
:
إن روكسان لن تصدم في حبها، فهل تريد أن نشترك معًا في غزو قلبها؟ أنت بحسنك
فاتنًا، وأنا بالكلام الملقن ساحرًا؟ هل ترضى أن أخرج ما في صدري فأضعه في صدرك
وحيًا طبعًا؟
كريستيان
:
ولكن …
سيرانو
:
سألتك هل أنت بهذه القسمة راض؟
كريستيان
:
كلامك يخيفني.
سيرانو
:
أما وأنت بنفسك تخاف أن تبترد عاطفتها من نحوك في صدرها، فهل ترضى في سبيل
إضرام نار المحبة في قلبها أن أشترك بكلامي مع شفتيك وهما تقبلانها؟
كريستيان
:
ما بال عينيك تتقدان؟
سيرانو
:
أراض أنت؟
كريستيان
:
عجبًا! وهل يسرك رضائي كل هذا السرور؟
سيرانو
(يستخفه الطرب)
:
بل أجد فيه بعض التسلية، فإن ذلك كما لا يخفى عليك يساعد الشاعرية، ويلهم
المعاني العاطفية، فدعني أكمل نقصك، ولتكمل أنت نقصي، أنت تمشي فائزًا منتصرًا،
وأنا أسير في أثرك ظلًّا تابعًا، وشبحًا مستترًا، ولأكن أنا لك الخاطر والخيال،
ولتكن أنت لي الصباحة والجمال.
كريستيان
:
والكتاب الذي نبأتني أنها ترتقبه، فإني لن أستطيع أن أكتب منه حرفًا واحدًا.
سيرانو
(يخرج من صدريته خطابًا مكتوبًا)
:
انظر ها هو ذا الكتاب الذي تريده.
كريستيان
:
كيف فعلت ذلك؟
سيرانو
:
خذه فهو لك، ولم يبق إلا أن يكتب عنوانه.
كريستيان
:
ولكني …
سيرانو
:
لا تخف، وبادر إلى إرساله إليها، فهو الكتاب المناسب الذي سوف يسرها، ويلهب
الحب في صدرها.
كريستيان
:
وهل عندك منه؟
سيرانو
:
نحن الشعراء جيوبنا من رسائل الغرام ملأى حافلة نخيلها تخيلًا، ونتصور
للعشيقات أسماء تتشكل بها أحلامنها، بنات أشعارنا، وعذارى خواطرنا، ومصنوعات
أخيلتنا، هاك الكتاب، خذه، تتحول العواطف الزائفة فيه إلى حقائق لديك، وقد
أطلقت الزفرات والأنات في فضائه إطلاقًا بغير حساب، وسترى كل هذه الطيور
الهائمة في أوكارها تقع وتشعر بأني كنت فيه فصيحًا بقدر ما كنت بعيدًا عن
الإخلاص، خذ الكتاب وتوكل.
كريستيان
:
ألا يحسن التحوير فيها والتبديل؟ وما دمت لم تكتبها إلى شخص معين، فهل ستكون
مناسبة لروكسان؟
سيرانو
:
ستناسبها كما يناسب القفاز اليد.
كريستيان
:
ولكن …
سيرانو
(لنفسه)
:
ما أعجب براءة الحب، وسذاجة الهوى، وما أقرب سرعة تصديق المحبين، لست أحسب
روكسان إذ تقرأ الكتاب إلا معتقدة أن كل كلمة فيه قد كتبت لها.
كريستيان
:
أي صديقي! (يرتمي على ذراعيه، ويعانقه
مليًّا).
المشهد الحادي عشر
(يشتد قلق الجمع المنتظر بنجوة منهما، ويكاد صبرهم ينفد في ارتقاب
ما عسى أن يقع بينهما، فيدنو ضابط محاذرًا يفتح الباب قليلًا.)
الضابط
:
لا شيء، سكون رهيب، لا جرأة لي على الرؤية (يطل
برأسه ليرى) عجبًا! ماذا أرى؟
(يندفع الضباط والجميع في إثره متزاحمين، وهم في أشد الذهول
ليروا كريستيان وسيرانو متعانقين!) عجبًا! عجبًا!
أحدهم
:
لقد تجاوز هذا حدود التصور والإمكان (رعب)، (وكان بين القدوم الضابط الذي يدعي
البطولة، ويتحبب إلى زوجة الحلواني، ويزعم أنه الشجاع الذي لا يشق له غبار،
والفتى الفارس المغوار، فاستهواه هذا المشهد إلى السخرية، وظن أن ما قيل عن
سيرانو وجسام فعاله لم يكن سوى خيال، ورواية تروى).
الفارس
:
يا للعجب.
القائد كاربون دي كاستل جالو
(مداعبًا)
:
لقد استحال شيطاننا قديسًا وديعًا إذا ضربه أحد على منخره الأيمن أدار له
منخره الأيسر.
الضابط المدعي
(مناديًا لويز)
:
لقد أصبحنا اليوم في حل من الكلام على أنفه، فتعالي اسمعي اللحظة ما أنا
قائله له (بتصنع استنشاق الهواء) أوه! أوه!
ما هذا الشذى الكريه؟
(ويتقدم نحو سيرانو، وينظر إلى أنفه): لا شك
عندي يا سيدي في أنك قد عطست، وإلا فما هذه الريح التي انتشرت في كل ناحية؟!
سيرانو
(يضربه على أم ناصيته)
:
يا لها من رأس صنمة!
(الجميع يغرقون في الضحك، ويلوح السرور في الوجوه؛ إذ رأوا
سيرانو شجاعهم المعهود قد عاد إلى نفسه كما كان، يقفزون ويتشقلبون في
الهواء.)