الجوع
انتصف الليل ولمَّا يُصادف حظ الوجيه محمد عبد القوي غير العبوس، وما انفكَّت خسارته تنمو وتتضاعف حتى بلغت نیِّفًا وأربعين جنيهًا في أقل من ثلاث ساعات، وكان هذا دأبه في أكثر لياليه، فلم تعُد الخسارة تهزُّ أعصابه أو تكرب نفسه، كان يتعاطاها بغير مُبالاة بين رشف الكئوس وقذف الدعابات، ثم ينساها بمجرد الانفصال عن المائدة الخضراء، ولكنه كفَّ تلك الليلة عن اللعب بغير إرادته لخمارٍ دار برأسه، فرغِب في تنسُّم هواء الخريف الرطيب في الخارج ومُراوَدة نشاطه بالمشي والحركة، فنهض مُعتذرًا وغادَر النادي، وكان الطريق كالمُقفِر والجو لطيفًا مُنعشًا، فسَرَت منه إلى رأسه الساخن الدائر قرة وسكينة، فجدَّ في السير مُصفِّرًا صفيرًا خافتًا وأحيانًا مُترنمًا، لغير غاية، وانحرف إلى الطريق المؤدي إلى قنطرة قصر النيل، وبصر بها في نهايته فانشرح صدره وحثَّ خُطاه؛ فلما بلغها مضى يسير الهُوينى التماسًا لمزيد من الراحة والانتعاش، ولم يكن يقطعها في تلك الساعة إلا السيارات المنطلقة في فتراتٍ مُتقطعة، إلا أنه حين بلغ ثلثها الأخير لاحت منه التفاتةٌ إلى الجانب الأيسر منها، فرأى رجلًا رثَّ الهيئة في جلبابٍ قذر ينحني مُتقوِّسًا على سور القنطرة مُلقيًا برأسه إلى النهر فلم يُلقِ إليه بالًا، ومضى إلى نهاية القنطرة، ولم يجد رغبة للتوغل فيما وراءها فتحوَّل إلى الجانب الأيسر ليعود من حيث أتى، وكان الرجل ما زال في تقوُّسه واستغراقه إن لم تكن أسكَرَته نسائم الهواء الرطيب فتسلَّل النوم إلى جَفنَيه .. ولما صار منه على بُعدٍ قریب رآه يقفز بحركةٍ مُباغِتة إلى أعلى السور، ثم توثَّب كأنما ليُلقيَ بنفسه إلى النيل، فاندفع نحوه بسرعةٍ جنونية وأدرَكه في اللحظة الفاصلة، فأمسك بيُسراه وجذبه إلى الخلف بشدة، فسقط على الإفريز عِوضًا عن أن يسقط في النهر، وبلغ منه الانفعال، وتدافعت أنفاسه، وتفرَّس وجه الرجل الذي هانت عليه الحياة فرآه يحدجه بنظرةٍ جامدة ووجهٍ مُكفهر، وقد لاح لعينَيه هزاله ورثاثته وشدة اصفرار وجهه، فصاح به: ماذا كنتَ فاعلًا بنفسك؟
فلم ينبس بكلمة، وظل على جموده واكفهراره، وتمالَك الوجيه عواطفه فعَجِب لما يدفع مثل ذلك الرجل إلى الانتحار وهو لا يعلو على الحيوان — والحيوان في العادة لا ينتحر — فسأله: هل كنت حقًّا تروم الانتحار؟ لماذا؟ .. دعني أشمَّ فمك، هل أنت ثملٌ أم مجنون؟ .. تكلَّمْ يا حيوان.
فقال الرجل بصوتٍ مبحوح دلَّ على الحقد والاستهانة: أنا جائع.
فنظر إليه كالمُرتاب وقال: كذبت .. إن الكلاب الضالَّة تجد قوتها .. ولن أصدِّق أن إنسانًا يموت جوعًا في هذا البلد .. ولكن هل تُدمن الحشيش أو المنزول؟
فقال بنفس اللهجة: لك عذرك .. فإنك لم تعرف الجوع .. هل ذقتَ الجوع؟ .. هل بِتَّ ليلةً بعد ليلة تتلوَّى من عض أنيابه؟ هل ثقَب أُذنَيك عويلُ أطفالك من نهشة أمعدتهم؟ .. هل رأيت صغارك يومًا يمضغون عيدان الحصيرة ويأكلون طين الأرض؟ .. تكلَّمْ يا إنسان .. وإذا لم يكن لديك ما تقوله فلماذا تَحُول بينهم وبين الخلاص من غائلة الجوع؟
فامتعضت نفسه، وسأله بلهجة لم تخلُ من شك: أتعني حقًّا أن لك زوجًا وأطفالًا؟
ففَطِن الرجل إلى بواعث شکه، وعبس وجهه امتعاضًا وقال: كنت يومًا قادرًا على الزواج والإنفاق .. كنت عاملًا بمصانع عبد القوي شاکر.
وأحدث الاسم في نفس الوجيه هزةً عنيفة لأنه اسم والده، وكان يوشك أن يسأم ويضجر، فاسترجع اهتمامه وسأل الرجل: هل حقًّا کنت عاملًا مرتزقًا؟!
– نعم .. وبلغت يوميَّتي ستة قروش .. وكنت محترمًا ومحبوبًا، وكفلت الحياة لزوجي وأمي وأطفالي الستة، بل كنت أعظم جلَدًا من البك صاحب المصانع العظيمة؛ لأني تعوَّدت الرضا والقناعة حيث جعل يتذمَّر ويشكو سوء الحال ويعتلُّ بالعلل لقطع رزق البعض والتقتير على البعض الآخر .. لم تكن الحياة رغدًا ولا يُسرًا .. ولكنها كانت مشقة بالرجاء والأمل.
وأمسك الرجل عن الكلام كأن استرجاع الذكريات الحُلوة استنفد البقية الباقية من حيويَّته وقواه، فجزع الوجيه وقال له: هيه .. وكيف انقلب بك الحال إلى هذا المصير؟
فرفع يُمناه إلى أعلى فتدلَّى كُم الجلباب المُمزَّق كأنه لا يوجد فيه ما يُمسِك به، وبرَز من أحد خروقه بقية عضده كأنه رِجل أريكة تداعت وأكَلها التقادم، وأشار إليها بيُسراه وقال: أرأيت إلى هذا؟ .. لقد هوَت الآلة الجبَّارة على ذراعي وأنا مُنشغل عنها بما بين يديَّ فلن تُبقِ منه إلا على ما ترى، وأطاحت بالجزء النافع الذي أكسب به قوتي، فجعلتني في ثانية شيئًا تافهًا عن الحاجة .. ولما تماثلتُ للشفاء مضيت إلى البك صاحب المصنع مُنکسِرَ الفؤاد مُفعَم النفس بالقنوط، فتلقَّاني آسفًا وأعلن أني قطعت ذراعي من جرَّاء إهمالي، فقلت له إنه القضاء الذي لا يُرَد، فهزَّ رأسه آسفًا وتصدَّق عليَّ بمبلغٍ يسير، فقلت له إن هذا المبلغ نافد عاجلًا أو آجلًا، وإني وأسرتي سنموت جوعًا إذا لم تُدركنا رحمته .. فوعدني أن يتصدَّق عليَّ بثلاثين قرشًا كل شهر .. وكان هذا أقصى ما ظفرت به منه، وأدركت أن حياتي دُمِّرت تدميرًا، وأني وأمي وزوجي وأطفالي الستة قد أُلقيَ بنا إلى الفقر والجوع .. ولَشدَّ ما وجدت الحياة قاسية لا رحمة فيها .. فتجرَّعت مرارتها قطرة فقطرة، وهِمت على وجهي في الطرقات أسأل السابلة مُستدرًّا رحمتهم بعرض بقية عضدي على أنظارهم، مُتلهِّفًا على الملاليم وكِسَر الخبز. وعَلِم الله أني كنت ذا حياء وأنَفة، وأن إماتة هذه العاطفة النبيلة كلَّفني ما لا أُطيق من الألم والخجل، واشتدَّت وطأة العيش فبعتُ الضروري من أثاث حجرتنا بثمنٍ بخس، وتمزَّقت ثيابنا وتعرَّى الأطفال .. وتهالكنا من الجوع .. وكان أقسى ما في حياتنا صراخ الأطفال وعويلهم وشكواهم؛ فجوع دهر طويل أخَفُّ على نفسي من قول طفلي وهو يتطلَّع إليَّ كالمُستغيث ودموعه مُنهمِرة: «أبتي .. أنا جائع.» ولاحقتني هذه الآلام فجعلت صدري جحيمًا، وبغَّضت لي الدنيا، وولَّدت في قلبي شعور المقت والحقد، وتضاعف إحساسي بعجزي وهواني حتى قال صاحب ممن جمعنا الجوع في ميدانٍ واحد: «ما لك تُكلِّف نفسك ما لا تُطيق من الهم كأنك امرأةٌ مُترَفة تأكل كل يوم رطلَ لحمة .. سيتحجَّر قلبك ويصبح الجوع مُستملَحًا، فتُجيب ابنك إذا شكا إليك الجوع كما أجيب ابني .. بلطمةٍ تُنسيه الجوع.»
وسكت الرجل وقد بلغ منه الإعياء والتأثر، وبدأ الوجيه يضجر مرةً أخرى ويُفكر في حل للعقبة التي اعترضت سبيله ليتخلص منها على وجهٍ مُرضٍ، فسأل الرجل: أهذا ما دفعك إلى محاولة الانتحار؟
فقال الرجل وهو يهزُّ رأسه كأنه يقول له بل أكثر وأكثر: في مساء هذا اليوم رجعت إلى الفِناء الذي نأوي إليه صِفر اليدَين عجزًا وإعياءً، فلقيت الأطفال نائمين هادئين، فاستولت عليَّ الدهشة كيف نزلت عليهم السكينة؛ هل تعوَّدوا الجوع فما عاد يقرصهم؟! .. وكانت زوجي وأمي نائمتَين أيضًا، فأيقظت أكبر الأطفال وأدنيته مني، وما إن أفاق من ذهول النوم حتى اندفع يقول لي فرحًا: «أكلنا عيشًا ساخنًا.» فسألته: «من أتى به؟» فقال: «عم سليمان الفرَّان.» فنفَذ الاسم إلى صدري المُتهالك كالرَّصاصة، وشددت قبضة يدي على ساعده، وسألته وقد طالعت في وجهه أثر ما لاح في وجهي من التغيير: «وهل الرجل دعا أمك إلى الفرن أم أتى بنفسه إلى هنا؟» فقال: «أرسلها مع غلامه.» فلم أرتَح إلى جوابه على الرغم أنه لم يُحقق شکوكي، ودفعته ساخطًا غاضبًا، واستقرَّ بصري على وجه زوجي وقد تملَّكني الحنق وتخايلت لعيني أشباحٌ مُخيفة. لقد امتلأت عيناها بالنوم بعد أن امتلأ بطنها .. بعد أن ملأها الوغد الذي خطب ودها فيما مضى وراجعه هواه فسعی يحذق إلى استغلال ما تُعاني من الشقاء والجوع. إني أُدرك كل شيء، وأُدرکه بمشاعري التي نشأت عليها ولم يظفر الجوع بإماتتها بعد .. إنها ما تزال حية في صدري تبعث في نفسي الغيرة وفي قلبي الغضب .. وتشبَّعت أفكاري بروح الجريمة والعُدوان .. هل أنقضُّ على المرأة النائمة فأكتم أنفاسها؟ كانت رغبتي في الفتك عظيمةً جبَّارة، ولكن لاحت مني التفاتةٌ إلى الأطفال فتردَّدت. من لهم بعد أمهم وأبيهم؟ وتخاذلت وتداعت إرادتي .. ونفَّست عن غضبي فركلتها بعنف وغادرت الفناء وصراخُها الفزع يُلاحقني، ثم هِمت على وجهي في الطُّرق التي أتسوَّل فيها .. وجعلت أتخبَّط على غير هدًى .. وعاودتني أفكار العُدوان .. هل أرجع إلى الفرن وأثِب على عم سليمان وثبة الهلاك، أم أرصد عبد القوي بك وأطعنه طعنةً قاتلة؟ .. ولكن ما أعجزني .. فقدتُ يُمناي ودبَّ الإعياء في جسمي وأطرافي وتضعضعت حواسي، ثم بلغت بي قدماي هذا المكان ورأيت النهر الجاري في وحشة الليل فانجابت عني الوساوس، وأدركت للحال كيف ينبغي أن أُنهي الحياة، وخِلتُ أن النيل ضالَّتي المنشودة، وكأن قضاءً إلهيًّا هداني إليه ليدلَّني على سبيل الخلاص والراحة، واستولت عليَّ فكرة الموت واستبدَّت بي، وتفكَّرت في عجزي وضعفي وجوعي، وفي عذاب أطفالي وشقائهم، فحمدت الله على أني لم أُطِع غضبي وأقتل زوجي، وقلت لنفسي إنني إذا اختفيت من حياتها فلن يُعييها إطعام الأطفال، ليَكُن معهم سليمان أو غيره، أما أنا فلا، وما عليَّ إلا أن أُوجِّه غضبي إلى نفسي فتكون الضحية .. وألقيت بناظريَّ إلى النهر طويلًا، واستسلمت لليأس، ثم توثَّبت لأُلقيَ بنفسي، ولكنك حِلت بيني وبين ما أريد. هذا كل ما هنالك، فهل أدركت الآن أي شر فعلت؟
وكان الوجيه يُصغي إلى الرجل مُصطبرًا ويُعمِل فِكره، فسأله: هل إذا تركتك الآن تعود؟
قال الرجل بهدوء وتصميم: إن شاء الله.
فضحك الوجيه، وكان قد بتَّ في المسألة برأيٍ قاطع، وبحث في جيوبه عن نقود فضية فعثر بقطعة ذات عشرة قروش، فدسَّها في يد الرجل وقال: استعِن بهذه على إصلاح أمرك، وإذا طلع عليك صباح الغد فتوجَّه من فورك إلى المصنع الذي كنت تعمل فيه، وستجدني هنالك في انتظارك، وهاك بطاقةً تُقدمها لمن يعترض سبيلك.
وأعطاه البطاقة، ودفعه عن السور وهو يقول: أجِّل عزمتك؛ فما يزال لديك متَّسَع من الأمل، وسأجد لك عملًا كبوَّاب أو خادم أو ما شاكَل ذلك .. تقدم وعُد إلى رشدك .. ولكن خبِّرني قبل أن أنسى ما اسمك.
وجعل الرجل ينظر إليه بعينَين ذاهلتين كأنه لا يُصدِّق أُذنَيه. ولما سأله عن اسمه قال بصوتٍ غريب: «إبراهيم حنفي.» فدفعه الشاب مرةً أخرى: افعل ما أمرتُك به يا إبراهيم .. سلام عليك.
وتحوَّل عنه ومضى في طريقه مُتفكرًا .. يَعجب كيف أنه أتى في الوقت المناسب ليُعفي أباه من وزرٍ ثقيل. وكان ينطوي في قرارة نفسه على سذاجة، فأيقن أن ما ساقه إلى الرجل في الوقت المناسب شيءٌ أكبر من المصادفة، فأثلج صدره وشعر بارتياح وطمأنينة.
ولكن فكرة خطرت له بباله فقطب جبينه وتساءل كالحالم وهو يجدُّ في السير.
ولكن فكرةً خطرت له بباله، فقطَّب جبينه وتساءل كالحالم وهو يجدُّ في السير: «تُرى كم أسرةً من الأُسر التي يشقى بها أمثال إبراهيم حنفي يمكن أن تُسعدها النقود التي أخسرها كل ليلة في النادي؟!»