نحن رجال
كانت عطفة شنكل من زينتها في حُلَّة باهرة؛ فسماؤها أعلامٌ خضراء وثُريَّاتٌ حمراء وبيضاء، وأرضها رمالٌ صفراء، وعلى مدخلها أُقيمَ قوس من سعف النخل والورد والرياحين، وقد راحت جماعات الغلمان الحُفاة تعدو لاهيةً عابثة بين قوس الاستقبال وباب آخر بيت في العطفة أسبغت الزينات على جدرانه الباهتة المُتداعية بهاءً وجدة، فدلَّ الحال على أن القوم يحتفلون بعُرس أو خِتان أو عودة حاج. وقُبَيل الغروب بدت عند مُنعطَف الطريق طلائع مَوكب مُكوَّن من عربات ثلاث عُقدت على مقدم أُولاها هالات الورود والأزهار، وطُوِّقت أعناق جيادها بأهلَّة من الرياحين، واقترب الموكب يتهادى حاملةً عرباته الرجال الأشدَّاء ذوي العمائم البيض والجلابيب الفضفاضة والعِصي الغليظة حتى وقف أمام العطفة، وكان يتوسط القعود في العربة الأولى شابٌّ في مُقتبَل العمر غزير الشارب يرتدي جلابيةً حريرية بيضاء ويعصب رأسه بلاسة وقطائم، فنهض في خُيلاء وغادَر العربة مُعتمدًا على عصًا عجراء، فأقبل نحوه المُنتظرون مُحتفين يُسلِّمون عليه ويقولون بلسانٍ واحد: مبارك يا معلم جعدة .. ربنا يزيد ويبارك يا معلم.
وانطلق الغلمان يهتفون مُنشِدين: «يا ابن عطفتنا يا جعدة …» وقد تعالت الزغاريد من أبواب البيوت المُتداعية ومن وراء خصاص النوافذ، وتلقَّى القادم التحيات بابتسام وزهو، وسار في شِبه دائرة من الصحاب مُتبخترًا مرحًا لا تسعه الدنيا من السرور والغبطة.
لم يكن المعلم جعدة عريسًا ولا مختونًا ولا حاجًّا، كان في الحقيقة عائدًا من السجن، وليس عليه في ذلك من بأس؛ فما من فتًى من فِتيان عطفة شنكل إلا وقد زار السجن مرة أو أكثر، ولكن جعدة وحده الذي شق سبيله إلى الجاه والثروة؛ فإذا كانت شنكل قد أنجبت شُطارًا وفتوَّات عديدين فلم تُنجِب في الواقع إلا غنيًّا واحدًا هو جعدة.
كان قبل الحرب بائع بطاطا يسوق عربته الصغيرة حاسرًا جلابيته الزرقاء إلى ما فوق ركبته، ولم يكن يملك من حطام الدنيا شيئًا حتى عربته كان يكتريها بقرش في اليوم؛ فلما كانت الحرب وجد له عملًا في المعسكر البريطاني بالعباسية، وسُرعانَ ما خلع جلابيته وارتدى قميصًا وبنطلونًا كاكيَّين وحذاءً أسوَد أنيقًا، واستطاع في مدةٍ وجيزة أن يُتقِن السِّباب باللغة الإنجليزية وباللهجة الاسكتلندية .. وتنقَّل في عمله بين معسكرات عديدة حتى رمَت به النوى إلى التل الكبير، وهناك ابتسم له الحظ فترامت الأخبار بأنه يُتاجر في المهمات والأغذية، بل قيل إنه تعهَّد بالغسل في المعسكر جميعه، وتناثرت عنه حكايات كالأساطير مؤدَّاها أنه أثرى ثراءً فاحشًا، وأنه أمسى يلعب بالجنيه لعب عابث مقتدر .. ثم قال الرواة يومًا إنه ضُبِط مُتلبِّسًا بالاتجار في أغذية الجيش، وقُضي عليه بالسجن عامًا، ولكنه على أية حال دخل السجن من المُثرِين وكذلك فارَقه. وقد زفَّ شقيقه إلى الأهل والأحباب خبر الإفراج عنه، وأقام الزينات وأتى بالزمَّار والمُنشِدين، وأقسم ليجعلن من يوم أخيه يومًا مشهودًا. وهكذا عاد جعدة إلى عطفته كالعرسان، واستُقبل بالزغاريد والدفوف والمزامير، ومضَوا به إلى منظرة بالفِناء حيث كان يبيت وعربة البطاطا قبل أربعة أعوام، فُرشت بالحُصر ورُصَّت إلى جوانبها أرائك، فجلس في الصدر يُحيط به الإخوان الأقربون، ومُدَّت المقاعد في الفِناء وتصدَّر المكانَ الزمَّارُ وأعوانه، وزمَّرت المزامير وأنشَد المُنشِدون، واستبق الفِتيان إلى الرقص، ودارت أكواب الشربات والجوزة والبوري، وشمل الفرح البيت والناس جميعًا، أما في المنظرة فقد جيء بزجاجات الكونياك حيث جمع الصفاء بين الأحباب فأُترعت الأكواب ودارت على الأفواه النهمة المُشتاقة، وجرى اسم جعدة على الألسنة وتعالى له الدعاء، ومال الشاب على أُذنِ شقيقه وقد ألحَّت عليه شهوة الظهور والإعلان عن النعمة، وقال له: «ابسط يدَيك حتى ترويَ العطاش وتُشبع الجياع وتسرَّ القلوب؛ هذا يوم أخيك.»
ومضى يُشارِب الجالسين ويُضاحِكهم مُمتلئ النفس ثقةً وطمأنينة وسعادة، وكان بين ساعة وأخرى يُبرز حافظته الكبيرة ويستخرج منها ورقة ويرمي بها إلى حجر أخيه قائلًا: «هات الشيء الفلاني .. هات الشيء الفلاني .. أنا خادم الإخوان .. لا بد أن ينبسط الإخوان.»
ومضت ساعات الليل الأولى في رقص وزمر وأكل وشرب، وقد شرب جعدة حتى سكر وانبعثت النشوة في دمه، فاهتزَّ طربًا وقهقه ضاحكًا، وداخَلته رقة فملأت نسائم الأريحية فؤاده، ولم يلبث أن نازَعه شوقه القديم إلى الرقص، وكان في زمانه الأول يهوى الرقص ويُحبه، وربما تقدَّم الزفة شارعًا بعد شارع بشغف لا يعرف التعب والمَلل، فلم يعصِ شوقه، ونهض بجسمه الفارع ودعا الزمَّار، فجاءه الرجل وتبعه رفاقه وأقاموا على عتبة المنظرة مُتأهِّبين، ووقف جعدة وسط الحجرة قابضًا على عصاه بيُمناه ومدَّ يُسراه إلى شقيقه فأعطاه كوبًا ممتلئًا إلى نصفه، ولكنه صاح به في خيلاء وقد سرَت بأطرافه حمية الخمر: «املأه حتى آخره.» .. وأخذ الكوب المُترَع وهو يكفي أربعة أشخاص ثم ردَّد عينَيه في الجمع المحيط به وأنشأ يقول: نحن رجال، نحن إخوان، نذلٌ من يتنكر لإخوانه، نذلٌ من ينسی أصله. يعيش الوفاء.
ورفع الكوب إلى فمه فأفرغه دفعةً واحدة، والتفت إلى الزمَّار وأومأ له برأسه، فنفخ الرجل في مزماره ونقروا على الدفوف، وبقدرةٍ عجيبة انتقل الإيقاع من المزمار والدُّف إلى وسط جعدة ورقبته وسيقانه وعصاه، فحالَ إلى موجةٍ مُترنِّحة تذهب وتجيء، وتجيء وتذهب، والإخوان يُرجِّعون النقر بأكفِّهم هاتفين مع الإيقاع: «يعيش الوفاء .. يعيش الوفاء.» وشعَر جعدة وهو يتمايل ذات اليمين وذات الشمال بأنه ينبعث من جوفه لسانُ لهب ثم ينطلق في عروقه نافخًا نارًا وطربًا وجنونًا، وما زال في رقص وخيلاء حتى اكتفى، فلوَّح بعصاه للزمَّار فأمسك، ووقف جعدة لاهثًا حتى تمالك أنفاسه، ثم مدَّ يده إلى شقيقه فأعطاه كوبًا آخر، وقلَّب وجهه في القعود كما فعل أول مرة، ثم استدرك قائلًا: نحن رجال، والبيوت للنسوان. القابع خاسر، والجسور فائز. انطلِق يا جعدة، إلى العباسية يا جعدة، إلى الأهرام يا جعدة، إلى حلوان يا جعدة، إلى التل الكبير یا جعدة. اشتغل يا جعدة، الحذق والشطارة يا جعدة، عاد القرش يا جعدة .. يعيش القرش يا جعدة.
وأفرَغ الكوب في فيه كسائل الجحيم، وغمَز للزمَّار بعينَيه فدقَّت الطبول وأسلَم نفسه لشيطان الرقص يَذرع به الدائرة في رشاقة القيان، والإخوان يهتفون مع الدفوف: «يعيش القرش .. يعيش القرش.» وقد تصاعدت أبخرة الخمر إلى رأسه، فخال في رقصه أنه يسبح في عباب مصطفق أو يطير على جناحَي ريح مجنونة، وما زال يرقص ويرقص حتی أعياه الرقص، فتوقَّف وقد احمرَّت عيناه وتشعَّث شاربه، ولبث برهةً يستريح، ثم مد يده ناحية شقيقه وتناول الكوب الثالث بعنف وشرَه، وصاح بإخوانه: نحن رجال .. هل توجد جسارة بغير ثمن؟ هل الزناتي سَلِم؟ هل عنتر سَلِم؟ زلَّت بنا القدم وما يقع إلا الشاطر، ودفعونا إلى السجن .. السجن للرجال .. ما عيب إلا العيب، يعيش السجن للرجال.
وصبَّ الكوب في جوفه وقد فقدَ إحساس الذوق، وانقلب وحشًا لو أفرغوا فيه حانة لابتلعها، وزمَّر الزامر، وصفَّقت الأيدي، وتعالى الإنشاد: «يعيش السجن للرجال.» واندفع يرقص بغير وعي وكأن نبض قلبه يُرسِل موجات كهربائية إلى أطرافه، وتركَّزت في رأسه أوهامٌ غريبة بثَّت في نفسه خيلاء الخالقين، وطال به المطال حتى أمسك الزمَّار رحمة به فكفَّ مُترنِّحًا ثملًا، وجعل يبتسم ابتسامةً بلهاء وينظر ببصرٍ زائغ، وعلى حين غِرَّة طالعت عينَيه من عالم الذاكرة صورةٌ ذات حُسن وبهاء، فأهاجت قلبه كوحشٍ رأى فريسةً شهية، وخال أنه يسمع فرقعة قبقابها وتمطُّقها باللبان؛ فدغدغت قلبه لسعات الهيام، ومدَّ يده نحو أخيه في ثورةٍ فائرة، ولكن الرجل اقترب منه مُشفِقًا، ومال على أذنه وهمس له: «أسرفت يا معلم.» فتولَّاه الغضب وصاح به: «نحن رجال، هات.» وأخذ الكوب المُترَع، وقال بلسانٍ مُلتوٍ وقد عاودته الصورة الجميلة: نحن رجال .. الرجل بغير زواج ناقص .. الزواج فرض وسنة، شلبية المَصونة بنت عم طلبة جارنا وعمنا .. يا عم طلبة اقرأ الفاتحة.
وأنشد الرجال «يعيش الحب .. يعيش الحب.» واشترك معهم عم طلبة نفسه وقد لعبت به الخمر. وشرب جعدة الكوب فاستولى عليه السُّكْر والذهول وما عاد يدري أقائمًا أم قاعدًا، راقصًا أم واقفًا، في البيت أم في الخلاء، وصار رقصه أشبه بالترنح، وثقلت جفونه واحتقن الدم في وجهه، وأمر أخوه الزمَّار أن يكفَّ فخمد جعدة في مكانه مُعتمدًا على عصاه، وتحوَّل نحو أخيه، ومدَّ إليه يُسراه كعادته، ولكنه لم يستطع أن يحمل ذراعه هذه المرة فردَّت إلى جنبه، وقال له شقيقه: أسرفت على نفسك يا معلم .. هلمَّ معي إلى الخارج تنشق الهواء الرطيب.
ولكنه هزَّ رأسه غاضبًا، وسار مُترنِّحًا إلى المائدة، وملأ الكوب حتی فاض منه الكحول وسال، ورفعه إلى فيه بيدٍ مُرتعِشة وهو يُتمتم بلسانٍ ثقيل: نحن رجال.
وأفرَغه حتى الثمالة، ورمی به إلى الأرض فتحطَّم عند قدمَيه، ونظر في وجوه السكارى بعينَين لا تريان شيئًا، وقال بلسانٍ ثقیل مُلتوٍ لا يكاد يُبين: نحن .. رجال .. افرحوا، ابتسمت لكم الدنيا .. مالي وما أملك لكم .. حظي حظكم .. لن أنسى الإخوان .. يعيش الحظ.
ونقروا على الدفوف وأنشدوا مُهلِّلين: «يعيش الحظ .. يعيش الحظ.» وأراد أن يرقص، أن يخطوَ إلى الأمام، ولكنه كان قد فقد كل قوة يمسك بها نفسه، فاندفع مُترنِّحًا وسقط على وجهه فاصطدم رأسه بالأرض في عنف وشدة، وأمسك المُنشِدون ونهض القوم فزِعين، ورفعوه بأيديهم وحملوه إلى الأريكة التي كان يجلس عليها، ومال عنقه على مسند الأريكة وانحلَّت مفاصله جميعًا، وجاء قوم ونضحوه على وجهه، فرفع جفنَيه الثقيلين لحظات، ولما رأى الأعيُن المُحدقة به همس بصوتٍ ثقيل مُتعثر: دعوني .. نحن رجال .. افرحوا. الحظ!
ثم شعَر في رأسه بدويٍّ هائل وكأن مائة مِطرقة تدقُّ مخه، وفقدَ الحركة والإرادة والكلام.
وكان المعلم بيومي في الحاضرين، كان إذا سَكِر حمله أصحابه إلى بيته وطرحوه على لحافة فيروح في نومٍ عميق لا يُفيق منه إلا ضحى اليوم الثاني، فقال للقوم ناصحًا: دعوه ينَم؛ فالنوم دواؤه، وسوف يصحو غدًا صحيحًا مُعافًی.
وبادروا إلى حمله وأرقدوه على فراش أخيه وتركوه في سلام .. وعاد القوم إلى لَهْوهم يشربون ويسمرون.
وراح جعدة في نومٍ عميق كما قدَّر المعلم بيومي، ولكن حدث ما لم يقدر أحد من السكارى ولا دار لهم بخلَد، انفجر شريان ونزف دمه، وتسللت الحياة من جسمه نقطة فنقطة حتى تركته جثةً هامدة، فنام نومًا عميقًا لا يقظة بعده ولا إفاقة، وكان ذلك قُبَيل انبثاق الفجر، وقد تصايحت الديكة، فاختلط صياحها بهتاف الهاتفين وإنشاد المُنشدين.