ثمن السعادة
دخل الأستاذ الحجرة التي قاده إليها الخادم فلم يلقَ تلميذه الصغير في انتظاره کمألوف عادته، فجلس على كرسيه يُقلب عينَيه في الصور المُعلَّقة على حيطان الحجرة، وكانت المرة الأولى التي ينتظر فيها تلميذه منذ جيء به له لعشرة أيام خلَت، وأوشك أن يدعوَ الخادم حين سمع وقع أقدام خفيفة، ورأى الغلام مُقبِلًا عليه يتأبَّط كتبه وكراسته، فحدَجه بنظرة تعنيف، ولكن راعه أن يرى عينَيه مُحمرَّتين من البكاء وذقنه الصغير يرتعش من التأثر، فسأله باهتمام: ما لك؟
وكأن السؤال أثار مكظوم شجون الغلام فاندفعت الدموع إلى مآقيه، قال وهو ينتحب: تیزة .. ضربتني، وتشاجرت مع بابا، وما زالا يتشاجران.
فسأله باقتضاب: من تيزة هذه؟
– امرأة بابا.
فدلَّته هاتان الكلمتان على معانٍ كثيرة بغير حاجة إلى مزيد من السؤال. على أن الغلام تطوَّع من نفسه فسرد قصته الصغيرة الحزينة على مُدرِّسه، قال: إن والدته ماتت لعهد ولادته، وأن أباه تزوَّج من تيزة بعد ذلك بعام أو عامَين، وإنه يعيش بمفرده تحت رعايتها بعد أن تزوَّج أخواته الأربع في الأعوام الثمانية التي أعقبت وفاة الأم، وإن أسباب الخلاف لا تنتهي بين تيزة وأبيه، فلن يزالا يصطدمان ويشتجران، وأقسم أن الحق دائمًا مع أبيه، وأنه لا يشتبك معها حتى يُضطرَّ إلى ذلك اضطرارًا، ثم لا يلبث أن يكفَّ عنها يائسًا قانطًا، فلا تسكت هي عن الغضب والحنق والسباب. وأصغى المُدرِّس إلى تلميذه بغير اهتمام ظاهر، وواساه بكلمةٍ تافهة، ثم تناول الكرَّاسة وبدأ عمله، ولم يَطرُقا الحديث مرةً أخرى، ولا عادا إليه فيما أعقب ذلك من الأيام، حتى كانت ساعة درس فاقتحمت عليهما الغُرفة بغير استئذان شابَّةٌ حسناء في ريعان الشباب، فوضع الأستاذ الكتاب على المكتب وقام واقفًا في تأدب واحترام، وألقى على الزائرة نظرةً حييَّة، فراعه ما رأى — لا من حُسنها وشبابها فحسب — ولكن من انطلاقها على سجيَّتها وعدم تكلفها، الأمر الذي أخرجها — بغير قصد طبعًا — عن الاحتشام، فكانت ترتدي «روب دي شامبر» من نسج حرير رقيق يكشف عن ذراعَيها ونصفَي ساقَيها وأعلى الصدر. وكان الأستاذ يظن أنه لا يجوز لشابَّةٍ أن تبدوَ هكذا لعينَي رجل غريب؛ ولذلك غلبه الارتباك والاستحياء، وحدس أنها إحدى أخوات تلميذه المُتزوِّجات، وتأكَّد حدسه حين رآها تمدُّ يدها في رفق إلى ذقن توتو تُداعِبه، ثم جلست باطمئنانٍ تجاه المُدرِّس وهي تُخاطِبه قائلةً: تفضَّل بالجلوس .. هل يُعجِبك عمل توتو؟
فجلس أنيس وهو يقول: توتو مجتهد، وقد تقدَّم في هذين الأسبوعين في الآجرومية والمطالعة، ولا ينقصه إلا المثابرة على حفظ الكلمات.
فابتسمت ابتسامةً حُلوة وطلبت إليه أن يستمرَّ في عمله، فعَلِم أنها ترغب في أن تشهد درسه، فلم يرَ بدًّا من متابعة الدرس مُتلعثِمًا برِمًا، واختلس منها نظرة فوجدها تنظر إليه بإمعان، فاعتقد أنها تُتابِع كلامه، فوجَّه انتباهه إلى ما يقول ليخرج صحيحًا عذبًا، ومرةً أخرى وقَع نظره على جيب الروب وقد انفرج عن أعلى الصدر فراغ بصره وارتدَّ في اضطراب وذعر.
ولم تمکث الشابة طويلًا فحيَّته وانصرفت، فشيَّعها بنظرةٍ غريبة وقال لتوتو مُستفهمًا: أهي أختك؟
فهزَّ الغلام رأسه سلبًا وقال بجفاء: تيزة.
فتملَّكت الشابَّ الدهشةُ وتساءل مُتعجبًا: تيزة؟!
فنظر الغلام إليه بإنكار وقال: نعم.
فتمالك أعصابه ولم ينبس بكلمة، ولكنه لبث مشغولًا دائم التفكير، وفي أثناء عودته إلى مسكنه بشارع ماهر بالجيزة استدعى صورة والد توتو — كما رآه يوم قدم إليه — ببدنه المترهِّل وكرشه الكبير ورأسه الصغير المُستدير الأصلع قد علا المشيب قذاله، وقلق المنظار على أنفه الغليظ المجدور؛ ثم تمتم قائلًا: «الآن فهمت كل شيء .. فرضوان بك حكمدار في المعاش جاوَز الستين، وزوجته لا تعدو الرابعة والعشرين، وتوتو غلامٌ بائس تضافرت عليه أسباب التنغيص الظاهرة والخفية .. ولكن لماذا تلطَّفت بالغلام أمامي؟! ولم يعتور أفکارَه سوء؛ لأن أنيس كان طالبًا — وإن كان أستاذًا لتوتو — طاهر النفس. على أنه تأثَّر بحُسنها وشبابها وخلاعتها غاية التأثر.
وفي الدرس التالي لم يكَد يطمئنُّ إلى مقعده أمام تلميذه حتى كانت «تيزة» ثالثتهما، وكانت كما رآها أول مرة جميلةً خليعةً مُبتذلة في ثوبها ولم تُلازم مکانها طول الوقت، فكانت تخرج لبعض الشئون ثم تعود إلى جلستها. وفي مرة عادت فجلست إلى جانبه دون أن يبدوَ عليها أنها تعمَّدت ذلك، فخال أنيس أن ساقها — لدنوِّها — تُلامِس ساقه. وعند انصرافه سلَّمت عليه باليد، فراح يضوع من کفه أريج مُعطر، ومضى مُبلبَل الفكر تضطرم في وجدانه يقظة عاطفية حارَّة، وما زال مشغول البال يُحاول أن يتفهم محاضراته عبثًا حتی ضرب مكتبه بقبضة يده، وصاح جزعًا مکروبًا: «لا أحسبني إلا مجنونًا أو مسحورًا.»
وفيما أعقب ذلك من أيام كان يذهب إلى بيت رضوان بك شغفًا بها قبل کل شيء، وأحسَّ أن تفضُّلها بحضور درسه هو السعادة الحقيقية التي تبذلها له الدنيا جميعًا، فاستلذَّها واستطابها وجُنَّ بها جنونًا. وجعلت الشابة الفاتنة تتودَّد إليه، وتعرض لعينَيه المشغوفتين محاسنها العارية، وتُداعبه بنظرات من عينَيها حُلوة فاتنة، أو لفتات من لحظها قاتلة فاتكة .. والشاب يذهل عما حوله بسرعةٍ جنونية. وذهب يومًا إلى بيت الحكمدار فوجد الشابَّة في الحجرة دون الغلام، فسأل عنه لا يحفل به في باطنه، فقالت له المرأة: «ذهب مع والده إلى شقيقته في الزمالك لأنها مريضة.» فأحسَّ خيبة وحنقًا لأنه سيُضطرُّ إلى مغادرة البيت، وقام واقفًا كئيبًا فسألَته: «إلى أين؟» فأشار إلى الباب وقال: «سأعود من حيث أتیت.» فصوَّبت إلى عينَيه نظرةً مُلتهِبة وتمتمت بجرأة وهي تهزُّ رأسها الصغير: «کلا …» فخفق قلبه وتدافعت أنفاسه، ووقف حيالها كالمسحور المذهول، ثم تبعها على الأثر لا يلوي على شيء.
وتخلَّفت بعد ذلك عن حضور دروسه، ولكنها سمَّت له الأيام التي يستطيع أن يلقاها فيها في أمن من الرُّقباء، فاندفع في سبيله كمِياه الشلَّال الجارفة في فورةٍ عاطفة مشبوبة تصمُّ الآذان وتعمي البصر وتغرق هواجس النفس، مُستكينًا لنوازع شهوته وجنونه. وإنه ليُغادر بيتها ذات أصيل من أصائل الحب إذ لاحت منه التفاتةٌ بغير قصد إلى شُرفة البيت المُطلَّة على الطريق، فرأى مشهدًا تجمَّد له الدم في عروقه، وتصلَّب شعر رأسه من الهول، فتعثَّر وأوشك أن يقع على وجهه، وهُرِع إلى الإفريز تحت الشُّرفة كأنما يُداري نفسه، وتقدَّم في خطًى مُضطربة لاهثًا حتى بلغ منعطف الطريق، وأراد أن يستوثق مما رأى فصوَّب بصره في خوف وإشفاق نحو الشُّرفة، فرأى عند مدخلها رضوان بك برأسه الأصلع المُستدير يجلس مُطمئنًّا إلى كرسيه في جلبابٍ فضفاض يُطالع جريدة ويهشُّ الذباب عن وجهه بمِذبَّة .. فأيِسَ من تكذيب عينَيه، ولهث قائلًا بفزع لا يوصف: «ربَّاه إنه هو هو .. نعم في جلباب البيت، فكيف كان ذلك؟» .. هل عاد إلى البيت أثناء وجوده مع زوجه؟ فكيف لم يشعرا به؟ ولماذا لم يقصد إلى حجرة نومه ليُبدِّل ثيابه، أم إنه كان في البيت قبل ذهابه هو إليه؟ فكيف استقبلته المرأة باطمئنان؟ وكيف لا تعلم بوجود زوجها في البيت؟ بل كيف لم يشعر به رب البيت مع أنه غادَر المخدع في خطًی مطمئنة غير مُحاذِر؟ ربَّاه .. لقد نجا من شرٍّ فادح .. وداخَله إحساس الذي يستيقظ بغتةً فيجد أنه قد اجتاز سورًا شاهق العلو في نومه .. وتخايلت لعينَيه أشباح الإثم والجريمة والسجن، فعزم على أن يضرب بغرامه عُرْض الحائط متَّعظًا بالهاوية التي أوشك أن يتردَّى فيها، ولكنه لبث يذهب لإعطاء دروسه للغلام توتو. وكان يُعاني آلام قلبه وجموح عواطفه، ولكن المرأة لم تُمهله حتى يتناسى ويتعزَّى، فعادت إلى اقتحام حجرة الدرس عليه وسألته بعينَيها في عتاب وکدر .. وحين انتهاء الدرس تبعته إلى الباب الخارجي وسألته بحدة: «لماذا لا تأتي؟» فقصَّ عليها همسًا ما رأته عيناه آخر مرة، ونظر في وجهها ليمتحن أثر كلامه، فهالَه ألا يرى الانزعاج الذي كان يتوقع، وسمعها تقول بلهجتها الغاضبة: «كذَّبتك عيناك.» .. فأكَّد لها أن ما رآه حق بغير ریب، فاستهانت بتأكيده وقالت له: إنها ستنتظره وترى ما هو فاعل .. فأبدى لها مخاوفه .. فقالت وقد نَفِد صبرها: «أنت مخطئٌ واهم، فتعالَ ولا تُتعب نفسك بالنظر إلى الشُّرفة .. تعالَ ولا تخَف.» فوعدها بالعودة لكي يتخلَّص من إلحاحها، ثم انطلق على نية ألا يُعاود ذلك البيت إلى الأبد.
ولبث على ذلك أسبوعًا كاملًا. وفي مساء يوم الجمعة، وكان في الشقة — التي كان يشاركه فيها بعض الأقران — بمفرده، سمع طَرقًا على الباب، فمضى إليه وفتحه، فرأى أمامه رضوان بك بجسمه المترهِّل مُتوكئًا على عصاه ذات المقبض العاجي، فسَرَت في جسده رعدةٌ شديدة زلزلت قلبه زلزالًا عنيفًا، ووثب إلى ذهنه خاطرٌ سريع؛ إن المرأة ربما وشَت به كذبًا عند زوجها لتكيد له، وإنه جاء للتأديب والانتقام .. فاستولى عليه اليأس والقنوط، وصعَّد في وجه الرجل نظرةَ ارتياع ليقرأ ما تدلُّ عليه أمارات وجهه وما يُنذِر به حضوره، فرآه هادئًا مُبتسمًا كأنه جاء لسلام لا لقتال. ومدَّ يده بالسلام، فمدَّ الشاب يده، ولما يُفِق من دهشته .. ثم تنحَّى عن الباب وهو يقول مُزدردًا ريقه: تفضَّل بالدخول يا سيدي .. فدخل البك وهو يتحدث قائلًا إنه لا داعي للجلوس لأنه على عجَل، وإنه جاء ليسأل عن صحته وعما اعتاقه عن متابعة دروسه .. واعتذر أنيس بأن موعد امتحانه اقترب، وأنه في حاجة إلى كل دقيقة من وقته .. ولكن البك لم يقتنع بحجته ورفض أن يقبل عذره، وطلب إليه برقة ألا يحرم توتو من دروسه، فعاوَد الشاب الاعتذار، وكرَّ الرجل إلى الإلحاح، ثم أدنى رأسه من أنيس وقال له: «لا بد من حضورك؛ فهذا ضروري جدًّا لتوتو .. تعالَ حينما تشاء وكيفما تشاء .. لا بد من حضورك؛ فهذا ضروري جدًّا» .. وكان لا يُحوِّل بصره عن الشاب، فوجد في نظرته ونبرات صوته ما أثار فضوله ودهشته .. أما الشيخ فصمت لحظةً مُترددًا، ثم استدرك قائلًا: «هذا ضروري لتوتو ولسعادتي ولسعادة الأسرة .. بل لسعادتنا جميعًا .. فأصغِ لي، لا بد من حضورك.»
واحتقن وجهه بالدم، وارتعشت شفته السفلى وذقته كالطفل إذا أوشك أن يفحم بالبكاء، ثم تحوَّل عنه .. ومضى دون أن ينتظر موافقة الشاب، ولبث في مكانه مُتفكرًا مذهولًا تتجاذبه شتى العواطف.
وكان الأسبوع الذي أعقب هذه الزيارة مُعترَك أزمة نفسية عنيفة أخذت بتلابيب أنيس، فتقاذفته الغرائز والشهوات، وتجاذبته نوازع اللذة ومُغريات السلامة والطمأنينة. وكان ذا عزيمة وسريرةٍ طاهرة وقلبٍ نقي، فآثَر السلامة؛ فلما استدار الأسبوع أحسَّ قواه تتماسك وتشتد، فأطرى إرادته وجعل يتناسی بیت رضوان بك السيئ الحظ وزوجته الحسناء القلقة الغضوب، ويودع ذاك العهد زاوية من زوايا الذكريات الغريبة المنسية.
وانتصف مايو، فقصد أنيس يومًا إلى الكلية ليسأل عن موعد ظهور نتيجة الامتحان. ولما بلغت قدماه باب مقهى المثلث شعَر بإنسانٍ يعترض سبيله بعصاه كالمُداعِب، فرفع رأسه إليه فرأى رضوان بك يُغادر المقهى يسبقه أحد أصدقائه إلى سيارة تنتظر عن كثب، فارتبك ورفع يده بالتحية، وابتسم البك ثم سأله عن حاله، وتحدَّث معه قليلًا دون أن يُعرِّج إلى الذكريات القديمة. وحين همَّ بمفارقته غيَّر لهجته وقال بصوتٍ دلَّ على الضراعة والمضض: أيها الشاب .. إياك والسخرية من الناس أو الهزء بالبؤساء؛ فأنت تجهل الدور الذي تعدُّه لك الأقدار غدًا. واذكر أن أغرب تصرفات الإنسان لا تعوزها أسبابٌ تبررها؛ فصُنْ لسانك عن الأذى، وحاول ما استطعت أن تتَّعظ بما يصادفك من العِبر. كتب الله لك حظًّا سعيدًا.
ورفع يده بالسلام، وسار في طريقه منتصب القامة يدل مظهره على أنه رجلٌ عسکري بغير جدال.