حُلمُ ساعة
من عجيب الأمور أننا قد نحيا حياةً سعيدة نخالها طويلة في حُلمٍ قصير الأجل، وما تعتم أن تطرق اليقظة مغلق الأجفان فينتقل النائم من عالم الأحلام المخدرة إلى دنيا حقائق شديدة الجفاء، وما يجد يده قابضة إلا على هواء. على هذا المثال مضى ذلك اليوم من حياته، كان يومًا أو بضع يوم، ولكن قلبه ذاق فيه سعادة وغبطة، وحلَّق في آفاقٍ بعيدة من أحلام المنى، وخفق خفقة فرح سماوي جاوَز به عالم الزمان والمكان، ثم أدركته يقظةٌ منكرة اغتصبته من عالمه الحنون السعيد على نحوٍ بالغ في القسوة والوحشة .. كيف كان ذلك؟
كان اليوم السعيد الخميس، وكان الأستاذ بهاء الدين علمًا عائدًا من سماع محاضرة علمية في الجمعية الجغرافية الملكية عن الغُدد الصمَّاء، وكان يسير في ميدان الإسماعيلية مُتفكرًا في تلك الأدوات الإنسانية العجيبة، المُسيطرة على الفرد أيما تسيطر، وكيف يزعم العلماء أنهم بالتحكم في إفرازاتها يستطيعون أن يُحوِّلوا الطيب إلى شرير والشرير إلى طيب، والشاعر إلى رياضي والرياضي إلى شاعر، وكيف يُفسِّرون أخيلة جيتة وأحلام شیلي بعصاراتها المُتدفقة في الدم .. وكان رأسه لا يكاد يخلو من أمثال هذه الأفكار؛ فهي مادة عمله ومادة حياته معًا. وفي الواقع يندر أن نجد بين شباب المعيدين بكلية العلوم من يُناظر الأستاذ بهاء الدين في حبه العلم وحِرصه على تحصيله.
وكأنما أرهقه القعود والسكون — في أثناء إلقاء المحاضرة — فأحسَّ بارتياح إلى المشي، واعتزم السير على الأقدام إلى شارع فؤاد الأول، واتجه إلى شارع قصر النيل في خُطًى وئيدة يُدخِّن لفافة من التبغ ويجترُّ أفكاره وتأمُّلاته في لذة ويُسر، وصادَف بلوغه مدخل المكتبة الفرنسية بُروز فتاة منها تندفع فيما يشبه العَدْو، فتوقَّف بحذر ووجل، وتراجع خطوة على عجَل وتوقَّفت مثله وتراجعت، والتفت نحوها فرآها ترمقه بنظرة ارتباك واعتذار، ثم مضت في سبيلها حتى إذا ما حاذته عطفت رأسها إليه بغتة وقد بدا على وجهها التساؤل والحيرة، وكأنها تُحاول تذكُّره ولا تدري كيف، ثم أدركت بأن نظرها إليه هكذا من الغرابة فأدارت رأسها عنه وما روَت غُلة، وقصدت إلى سيارة تنتظر إلى جانب الإفريز، فأدرك من وهلةٍ أن صورته اشتبهت عليها، وعلَت لذلك فمَه ابتسامة، وأراد أن يستوثق من رأيه فألقى بنظرة إلى السيارة — وكان جاوَزها بأمتار — فرآها تُتابعه بنظرة تعلو وجهَها آيُ الحيرة والغرابة، فغمرته موجة انفعال مُضطرب لذيذ، وتعثَّر بأذيال الارتباك والحيرة، ثم تحرَّكت السيارة مُندفعةً في الاتجاه الذي يسير فيه، وما تزال صاحبتها ترنو إليه خلال زجاج النافذة بنظرة تحيُّر بماذا يصفها .. ودية؟ .. حنونة؟ .. حتى باعدت بينهما المسافة.
وعَجِب الأستاذ أيَّما عجَب، على أن عجَبه كان شيئًا يسيرًا إلى ما أحسَّ به ساعتئذٍ من ثورة الوجدان. وكانت الفتاة شابَّة حسناء مدمجة الخلق، مرتوية الساقَين، فاتنة القسمات، يُزيِّن وجهَها عينان زرقاوان لنظرتهما وقعُ السحر في الحواس والقلب والأعصاب؛ فانبعث في قلبه خفقان واضطراب، وشعَر بنشوةٍ رائعة، ثم لسعته حسرةٌ أليمة؛ حسرة محروم طال عهده بالحرمان. وكانت حياته في الواقع خالية من الحب مثل كهف رطب لا تزوره الشمس؛ لأنَّ تفانيه في طلب العلم لم يدَع له وقتًا لشيءٍ سِواه، ولعيبَين طبيعيين كبرا في وهمه واشتدَّا على نفسه؛ إذ كان يترامى إلى أُذنَيه أنه «ثقيل الدم». وكان إلى هذا عييًّا حصورًا لا يكاد يُبين، فلم يكن في وُسعه قطُّ أن يُحسِن خطاب فتاة فضلًا عن أن يُغازِلها. ودعاه هذا وذاك إلى النفور من الحِسان وإلى ما يشبه الخوف منهن، وحزَّ لذاك الألمُ في نفسه، وسكب في قلبه امتعاضًا ومرارة، فتبدَّى عليه الجفاء والوحشة، واضطرب عهدًا طويلًا بائسًا بين الرغبة في الحب والخوف من المرأة، والتشوق إلى النساء والحقد عليهن، فكانت تلك النظرة الحلوة أول نسمة تهبُّ عليه من دنيا الوجدان فترتوي بها نفسه الظمآنة ويندى بها قلبه الجاف، ولكنه ارتواء كالظمأ، وندًى أشد حرقةً من الجفاف، فتحيَّر وتعجَّب، وتساءل وهو يُقلِّب كفَّيه: تُری ما خَطبُ هذه الفتاة؟ .. وما معنى هذه النظرة الفاتنة التي أذابت الوجد والهُيام والحنو المُتجمد في قرارة نفسه؟ .. إنه لا يعرفها على وجه اليقين ولا يذكر أنه رآها من قبل، وهي بغير ريب لا تعرفه أيضًا؛ فلا هي قريبة ولا جارة ولا طالبة بكلية العلوم. لعله التبس عليها شبهه، ولكن كيف طال بها الشك تلك المدة السعيدة التي أدامت فيها النظر إليه؟! .. ومضى يتفكر تنقله الحيرة من فرض إلى فرض وقد انشغل عن الغُدد والكيمياء جميعًا.
وكان في عزمه أول الأمر أن يعود إلى بيته، فيستمع إلى المِذياع ساعة ويُطالع ساعة قبل النوم، ولكن عافت نفسه ذلك، ومضى يضرب في الأرض على غير هدًى تارکًا مُحرِّك خياله للخواطر السعيدة والأحلام اللذيذة والأوهام المُخدرة حتى أعياه التعب وتعنَّاه المشي، وكان سری عنه بعض الشيء، وأخذ يُفيق من أثر النظر فاتجه إلى قهوة روجينا، وجالَس بعض صحبة حتى شارفت الساعة التاسعة، ثم خطر له أن يقضيَ سهرة المساء في سينما رويال — وكان قليلًا ما يجذبه مزاجه إلى ذلك — فسارَ بلا تردد إلى السينما وقطع التذكرة. وكان يكره الانتظار جالسًا، فدلف إلى الصور المُعلَّقة بالردهة الخارجية وقلَّب فيها عينَيه، ثم أدارها ظهره ملالًا، وأرسل بناظرَيه إلى مدخل السينما يُشاهد جمهور الداخلين، فرأى سيارةً فخمة تقف أمام مدخل السينما، وفُتح بابها ونزلت منها سيدةٌ بدينة بادية النعمة والثراء تبعتها على الأثر فتاةٌ حسناء انخلع لرؤيتها قلبه في صدره، وأحسَّ بفرحٍ عجيب تُمازجه دهشة فلم تتحول عنها عيناه، وفاته في ذهوله أن يرى ضابط بوليس شابًّا يبرز من الباب الثاني للسيارة ويدور بسرعة ويلحق بالسيدة والفتاة، وانعطف رأس الفتاة إليه، وكانت فتاته دون سواها كأنما جذبتهما قوة بصره المشوق، والتقت عيناهما، ولاح على مُحيَّاها الجميل الاهتمامُ والدهشة، ورقَّت نظرتها بالحنان الذي حيَّره وفتنه منذ حين، فتبعهم في خُطًى مُضطربة مُلبيًا نداء قوة عاتية، وصعدت الفتاة مع الصاعدين إلى الطابق الثاني، فوقف في الردهة يُتابعها بعينَيه، ورآها قبل أن يُغيِّبها عن ناظرَيه منعطفُ السلَّم تُلقي عليه نظرةً أخرى .. يا لها من نظرة .. فاستخفَّه طربٌ جنوني عذب لا يتأتَّى لغير الموسيقى وصفُه، واندفع إلى الداخل لا يلوي على شيء؛ فلما اطمأنَّ به مقعده مضى يُصعِّد نظره في الألواج والبناوير باحثًا عن الوجه الحبيب ذي النظرة الفاتنة الحنون، حتى وجد ضالَّته في البنوار رقم ٣، وكانت تتقدم السيدة بقامتها الهيفاء، والتقت نظرتها بوجهه هذه المرة أيضًا، وكأنها تتوقع أن تجده مُجدًّا في العثور عليها، فارتسمت على شفتَيها القِرمزيتين شِبهُ ابتسامة أضاء لها وجهها بنورٍ بهي، وجلست وهي ترنو إليه بعينَيها فبدت وهي تنحني قليلًا وكأنها تحنو عليه، وأنقذه من سعادته التي لا تحتمل انطفاء الأنوار وانهماك الشاشة في عرض أخبار الدنيا.
كان قلقًا مجنونًا إلى غير حد، فرحًا سعيدًا بغير حساب، يشعر برغبةٍ عنيفة لا يدري ما كُنهُها إلى القتال أو الرقص أو الصياح أو البكاء، وتندَّت أهدابه بدمعةٍ أحسَّ بتفجرها من أضلُعه. كان بمعنًى آخر عاشقًا يتلقَّى قلبه لأول مرة أمواجَ الحب الكهربائية الغامضة غموض الأثير، وأغمض عينَيه في الظلام وهو يتنهَّد في ارتياح وغبطة مُستسلمًا للذة الأحلام، وتساءل في استسلامه السعيد: تُرى ما الذي ساقه هذا المساء إلى السينما ولم يكن أعدَّ نفسه لذاك؟! .. إن كل شيء يبدو وكأنه يؤكِّد أن القدر يرسم خطةً رائعة بدأها في شارع قصر النيل وما زال ينسج فصولها في سينما رويال، نعم إنه لم يرَها عبثًا، ولم تلتقِ عيناهما مصادفة، كلا ولم يأتِ إلى السينما اتفاقًا، ولكن الحب يخلق الحوادث والظروف، وإلا فما معنى هذه الحلقة المُتقَنة؟ وما معنى هذه النظرة الحنونة العذبة الذي دل تَكرارها على أنها مُغرِضة، أليس هذا الذي يُسمُّونه الحب من أول نظرة؟! .. بلى هو هو .. ويشهد عليه قلبه ومشاعره ونظرتها الفاتنة النافذة التي لن ينمحيَ أثرها من نفسه. كيف حدث هذا؟ .. هل كان القدر في قسوته عليه وازوراره عنه يدَّخر له هذه المفاجأة السعيدة وهو لا يدري؟! .. وهل وجدت أخيرًا من لا يستثقل دمه كما يستثقله كثير من الناس؟! .. ومن تتعرف نفسه بالنظرة الملهمة لا بتغرير الألفاظ وسحر البيان؟ .. كم سخط على الدنيا ظلمًا، وكم أدان القدر جهلًا .. والساعة الساعة ينتهي الجفاء وتتبدد الوحشة، ويندى قلبه المحروم ويرطب حلقه اليابس. وفكَّر الأستاذ بهاء الدين إلى هذا في أمورٍ غاية في الأهمية والجد، تناولت حاضره ومستقبله، ولم يفُته أن يحسب حساب الوسيلة إلى التعرف والخطبة، ولا فاته — في تلك الساعة — أن يقدر المهر ويحدد تاريخًا للزواج السعيد.
ولم يُحسَّ بالوقت كالسعداء، وجعل يتأمل بعين مُخيِّلته الوجه النضير والنظرة المُضلَّة للقلوب، مُستسلمًا للأحلام استسلام الحرَّان إلى برد النسيم، حتى ظن أن أشهى الأماني دانيًا لا يُكلفه جنيهًا إلا أن يمدَّ يده فيقطفها في يُسر واطمئنان.
وانتهت الشاشة من عرض فصولها الأولى وأُضيئت الأنوار، ففتح عينَيه وكأنه يصحو من نومٍ سعيد، وصعَّد رأسه إلى البنوار رقم ۳ فرأى فتاته في أجمل صورة ترشقه بنظراتها الفاتنة كأنما كانت تنتظر انقشاع الظلمة مثله، ورآها تميل برأسها نحو السيدة البدينة — التي تدل الظواهر على أنها أمها — وتهمس في أذنها، ثم شاهَد السيدة تنظر إلى أسفل باحثةً بعينَيها عن ضالة حتى استقرَّتا عليه .. فارتبك وتعجَّب وتساءل: تُرى لماذا تدل أمها عليه؟! .. على أن عجبه ازداد إلى غير حد لأنه رآها تعطف رأسها إلى الوراء وتُحادِث شخصًا لا يُرى سوى أعلى طربوشه. ومال هذا الشخص إلى الأمام ونظر صوبه، وكان ضابط البوليس.
فلم يستطِع أن يُديم النظر إلى أعلى، وأدار رأسه إلى الأمام، ولكنه تذكَّر هذا الضابط، وذكر أنه كان من زملاء فِرقته في الخديوية، وأنه يُدعى علي سالم، وأنه كان مُبرِّزًا في الألعاب الرياضية، وظنَّ أنه أخو الفتاة ولكنه تحيَّر في فهم الدواعي التي بعثتها إلى توجيه الانتباه إليه بكل جسارة وفيما عسى أن حدثتهما به عنه .. وغلبه الشوق وحب الاستطلاع فرفع بصره إلى البنوار مرةً أخرى فرأى الوجوه الثلاثة مُحدِّقة فيه، وخُيِّل إليه أن زميله القديم يُحيِّيه فلم يُصدِّق بصره، وظل جامدًا ولا يتحرك، فأعاد الضابط تحيَّته برفع يده إلى رأسه، وردَّ عليه الأستاذ التحية مُرتبکًا، وشاهَده يدعوه أن يصعد إليه فخفق قلبه خفقةً عنيفة، وقام واقفًا وقد لفَّته الدهشة والارتباك وغادر المكان في ذهولٍ شديد. وصعد السلَّم والتَقی بصاحبه عند مدخل البنوار، واستقبله هذا استقبالًا وديًّا وشدَّ على يده بحرارة — ولعله فعل ذلك ليطرد عنه الدهشة والارتباك — ثم أوسع له وهو يقول هامسًا: تعالَ أقدِّمك إلى أهلي.
ووجد نفسه في البنوار أمام السيدة والفتاة الجميلة، وقال وهو يقدمهما له وهو يُشير بيده: حرم الأميرالاي محمد بك جبر، الآنسة زينب كريمتها وخطيبتي.
ثم التفت إليه وقدَّمه لهما مُكتفيًا بذِكر اسمه وزمالته القديمة لأنه كان يجهل حاضره، ودوَّت كلمة «خطيبتي» في أُذنَيه دويًّا مُزعجًا أطفأ نشوة الفرح في حواسه جميعًا وسكب مكانها خيبةً مُرَّة، فجلس کما طلب إليه ذاهلًا مُرتبكًا قانطًا عاجزًا العجز كله عن حصر انتباهه فيما حوله. وكانت السيدة تُرحب به وتُشارك الضابط في التودد إليه ومجاملته، ولكنه لم يدرِ مما قالا شيئًا، واكتفى قهرًا بانتزاع ابتسامة مُغتصَبة من شفتَيه يردُّ بها عليهما ردًّا صامتًا کئيبًا. وكان يتخبط في حيرةٍ عمياء لا يدري لماذا دلَّت الفتاة عليه، ولا كيف دعاه زميله، ولا لأي سبب عرَّفه بهما وعرَّفهما به .. ولاحت منه نظرة إلى الفتاة فوجدها تبتسم إليه ابتسامةً حزينة فشعر بامتعاض، ووجَّه عينَيه إلى أمها كأنما يفرُّ منها فرارًا، فرأى المرأة ترنو إليه بعينَين مُغرورقتين بالدموع، فازدادت دهشته، وبدا عليه الانزعاج، والتفت إلى صاحبه مُتسائلًا مُتحيرًا، ودقَّ الجرس في تلك اللحظة مُنذرًا بإطفاء الأنوار، فقام الشاب واقفًا وأحنى رأسه تحية، ودَعته السيدة إلى زيارة البيت فوعدها قائلًا: إن شاء الله.
وهو لا يعني ما يقول. وغادَر البنوار، ولحِق به صاحبه، وكان يدرك ما يقوم بنفسه من الدهشة والانزعاج، فقال له وهو يشدُّ على يده مُودِّعًا: أنا آسف جدًّا على ما أحدثَته دعوتي لك من الارتباك والإزعاج، وحقيقة المسألة أنك تُشبِه شبهًا عجيبًا ابنًا شابًّا كان فقدته الأسرة منذ عامَين، ولعل هذا يُفسِّر لك كل شيء أيها الصديق.
وهبط السلَّم في خُطًى بطيئة جدًّا، وكان يتوقف كل درجتَين ويتأمل فيما أمامه بعينَين لا ترَيان شيئًا، وعلَت شفتَيه الشاحبتين ابتسامةٌ هازئة مريرة، وقد بدا له كل شيء كريهًا كئيبًا تعافه النفس.