حياة للغير
ساعة الأصيل هي الساعة المختارة التي يهبط فيها عبد الرحمن أفندي إلى حديقة البيت الصغير، وهي عادته التي يُلازمها أو التي تُلازمه أغلب شهور السنة؛ لأنه من القلة النادرة التي لا ترتاح إلى ترك البيت إلا لعمل أو ضرورة. وقد نزل إلى الحديقة ذلك اليوم من أيام سبتمبر المعتدلة، وألقى عليها النظرة المعهودة، وتمشَّى بين طرقاتها الملتوية يسرح بصره بين شجرات الورد وأُصصِ الزهور، ثم جلس على أريكة على كثب من السور المقام من الأسلاك الشائكة الذي يفصل بين حديقة بيته وحديقة البيت المُجاور، وبسط جريدة من جرائد المساء كانت مطوية تحت إبطه ومضى يطالع.
وكان في مشيته كما كان في جلسته آية للرزانة؛ فمن كان يراه لا يشكُّ لحظة في أنه رب بيت وعاهل أسرة، فحركاته وإيماءاته تُقرَن دائمًا بالهدوء والاتزان، ونظرة عينَيه تلوح فيها الرزانة والرجولة والمسئولية، ورأسه الكبير وشاربه الغزير يدلَّان على أنه ابن أربعين وإن كان في الحقيقة لم يُجاوز الخامسة والثلاثين إلا بشهورٍ قلائل. وكان مُستغرقًا في مطالعته حين استيقظ فجأة على صوتٍ رقيق يهتف به قائلًا: سعيدة يا عمي.
فأزاح الجريدة عن وجهه ونظر إلى حديقة البيت المُجاور نظرةً التمع فيها الابتهاج، فرأى وجهًا مُشرِقًا يرنو بعينَين سوداوين صافيتين يُطالعانه بالبراءة، فأحسَّ إحساس الحرَّان هبَّ عليه نسيمٌ بارد معطر بالياسمين، وردَّ تحيتها قائلًا: أهلًا بالآنسة سمارا.
فابتسمت إليه ووقفت تُلاعب كلبها الأبيض الصغير. كانت في السادسة عشرة، يتجاذب وجهها الصبوح وقدُّها الممشوق براءة الصِّبا وأنوثة الشباب.
وأشار إلى كلبها وسألها: كيف هو اليوم؟
– تم شفاؤه .. الحمد لله.
فضحك قائلًا: لعل هواء الإسكندرية لم يُوافق مزاجه؟!
– على العكس كان يعدو على الشاطئ والدنيا لا تسعه من الفرح.
فنظر إلى وجهها الذي كسا الشاطئَ بیاضُه حُمرةً كأنه غمسه في الشفق وقال برقة: لقد اكتسبت بشرةً جديدة يا سمارا.
فاستضحكت، وعدا الكلب في تلك اللحظة فولَّته ظهرها وعدَت وراءه.
وبدا عليه تغيرٌ ظاهر، ففاضت من عينَيه نظرة الجد والرزانة وخلَّفتها نظرة حنان وأحلام. وطاب له أن يختلس منها نظرات طويلة سعيدة، فشاهَدها وهي تجلس على الكرسي وتنحني لتُلاعِب كلبها الصغير، وجعلت أناملها تتخلل شعره الأبيض الطويل، ومضى الكلب يلعق يدها مسرورًا ويثب على ركبتَيها وذنَبُه يرقص طربًا، وفي أثناء ذلك تدلَّت خصلات شعرها الحريري وحامت حول عنقها وخدَّيها. وكان في مشاهدته سعيدًا مُبتهجًا، ولكن انقبض صدره فجأةً فلوی رأسه ونظر إلى الأمام بعينَين لا ترَيان شيئًا؛ لأنه تذكَّر أن سلوكها نحوه لم يتغير منذ كانت تدرج في الطفولة والصِّبا، وأنها ما تزال تُناديه بقولها «عمي» كما كانت تفعل وهي صغيرة تلعب بالعرائس. وكان فيما مضى يفرح بهذا النداء ويعدُّه آية على ما له في نفسها ونفس أبيها من المودة والصداقة، أما الآن فهو يضيق به ويتأذَّى منه ولا يكاد يسمعه حتى ينقبض صدره وتتولَّى عنه المَسرَّة.
واتجه بصره إليها مرةً أخرى وتساءل — ولم يكن يفعل ذلك للمرة الأولى — أمن المُستحيل أن تصير سمارا زوجي يومًا من الأيام؟
وهزَّ رأسه في إنكار واستغراب كأن الفرض من المستحيلات حقًّا، ولكنه لم يُسلِّم بلا جدال فتساءل مرةً أخرى: ما وجه الاستحالة؟ .. العمر؟ .. فهو ابن ستة وثلاثين وهي بنت ستة عشر؛ فعشرون عامًا تفصل بينهما وهو عمرٌ طويل يُبرِّر «عمومته» لها، فكيف يتأتَّى للعم أن يصير زوجًا وحبيبًا؟! حقًّا إن الكثيرين لا يعترفون بعقبة العمر ولا ينزلون عند حكمها ويُذلِّلونها بغير مبالاة، ولكن كل تضحية من هذا القبيل بثمن، فما عسى أن يكون الثمن الذي يبذله لمثل كل هذه التضحية الغالية؟ هو في الواقع ليس إلا موظفًا منسيًّا في وزارة الداخلية لا يتجاوز مرتبه الخمسة عشر جنيهًا فلا مكانة له يُعتد بها، ولا مال له يُسدل به على نقائصه سترًا من الرواء والجلال، ومع ذلك فهو يحبها، ويبدو له أن لم يكن من حبها بد. وكيف كانت تُتاح له النجاة منه وقد كانت تنمو تحت بصره يومًا بعد يوم ستةَ عشر عامًا؟ .. وكانت إلى ذلك الإنسانة الوحيدة من الجنس الثاني التي رمَتْه بها الأقدار في عزلته القاسية .. فتسرَّب الحب إلى قلبه خفيةً في أناة وهدوء، وبلا قصد أو حذر، تسرَّب الكرى إلى أجفان حالم مُستسلم إلى هبَّات النسيم اللطيفة في جلسة طويلة هادئة على شاطئ النيل.
وكان في أول عهده بها يتمتَّع بطفولتها السعيدة ويجد فيها منفذًا لحنان صدره المكتوم؛ فلما أن انقلب عاشقًا أنشبت فيه الحيرة أظافرها، وحُرِم القناعة السعيدة، وصار يُعذِّبه كل شيء حتى عطفها عليه وحديثها؛ لأنها كانت تُقبل عليه ببراءة، ولم تشعر حياله شعور امرأة بإزاء رجل، وقد حدجها مرَّات بنظراتٍ نفذ منها لهيب الهوى قهرًا فلم تستجِب له ولم تحس به، وأصرَّت على أنه «عمها العزيز» لا أقل ولا أكثر. ما عسى أن يكون ردها لو طلب يدها .. كيف يكون شعورها .. وكيف تكون دهشتها .. وماذا تقول لأبيها .. وماذا تقول لنفسها .. وهل يمكن أن يراها بعد ذلك كما يراها الآن في حديقتها، وأن يتمتع برؤيتها مُقبِلةً مُدبِرة مُحدِّثة مُداعبة أم ينقطع عهده بها إلى الأبد؟
وهبْ أنه وجد من نفسه الشجاعة الكافية لأن يُفاتِح أباها — صديقه العزيز — في هذا الشأن الخطير، فما عسى أن يقول له؟ يا له من قولٍ عسير .. وفكَّر طويلًا، ثم أغمض عينَيه وحدَّث نفسه وكأنه يُحدِّث صديقه: «صديقي العزيز لقد جئت أُحدِّثك في أمر خطير لم تكن تتوقَّع أن أُحدِّثك فيه أبدًا، وربما لم أكُن أتوقَّع ذلك أنا أيضًا، ولست واثقًا من موافقتك ولا من أهليَّتي للطلب الذي أتقدَّم به، ولكني لم أُرِد أن أضيِّع فرصةً ذهبية لمجرد توهُّمي الإخفاق .. سيدي .. وصديقي.»
ولم يتم حديثه لأن صوتًا عذبًا أيقظه من حُلمه قائلًا: أنائمٌ أنت؟
فانتبه خافق القلب وقد تولَّاه ما يُشبِه الرعب، وقال: کلا.
– معذرةً .. رأيتك مُغمض العينَين.
– كنت أفكر.
– وفيمَ تفكر؟
حدَّق في وجهها بعينَين حائرتين وتساءل بماذا يُجيب .. أيقول لها فيك أنتِ .. ولكنها مجازفةٌ سابقة لأوانها، فلازَم الصمت، وأحسَّ رغم ارتباكه بلذعة سخرية لاضطرابه أمام هذه الطفلة. وكان يُنعم النظر في عينَيها السوداوين، ومرَّت دقيقة على جموده، فشعَر بسرَيان تخدير لذيذ، ولم يعد يرى إلا سوادًا جميلًا، ثم لاحَظ تغيرًا فجائيًّا يطرأ عليها، فرأى وجنتَيها تتورَّدان وشفتَيها تقلقان، وعينَيها تتحولان إلى هدفٍ وراءه .. وشاهَدها تفرُّ نافرةً إلى داخل البيت، ونظر خلفه دهشًا فرأى أخاه نور يقف مُبتسمًا ويمدُّ له يده للسلام، وأحسَّ بكآبة لم يدرِ ما سببها، وخفق قلبه خفقان الخوف والخيبة، ولكنه سلَّم عليه مُبتسمًا وقال له: أهلًا، كيف حالك يا دكتور؟
فضحك الشاب وقال بصراحة: كم أنت سعيد يا أخي!
وأدرك ما يعني من اتجاه بصره ولهجته، وآلمه ذلك غاية الألم، ولكنه تجاهَل الأمر وقال بإنكار: سعيد؟!
– طبعًا، من يُحدِّث سمارا ينبغي أن يكون سعيدًا.
فابتسم ابتسامةً صفراء وقال لنفسه: إما أن هذا الشاب خبیثٌ ماكر وإما أنه غبيٌّ لا يفقه لما يقول معنًی. ليس السعيد حقًّا من تُحدِّثه سمارا، ولكنه من تخجل من محادثته ومن يتورَّد وجهها حين رؤيته فلا تملك إلا أن تفرَّ هاربةً .. هذا هو السعيد حقًّا .. أفلا يفهم ذلك هذا الشاب أم إنه يتغابى ويمكر؟!
على أنه كان يحرص على ألا يبدوَ عليه شيء مما في نفسه، فقال يُغيِّر مَجری الحديث: كيف كانت ليلتك بالأمس؟
فجلس الشاب إلى جانبه وقال: كان قصر العيني أمس حافلًا بالحوادث المزعجة، ومضيت أغلب الليل أستقبل صرعى القضاء والقدر.
وكان عبد الرحمن يرمق شقيقه وهو يتكلم بعينَين ساهمتين وعقله دائب على التفكير .. كان ذا قلب كبير يفيض حنانه؛ فهو يحب شقيقه، وقد أمدَّه هذا الحب الأخوي بالعون والصبر، فربَّاه ورعاه کما ربَّى أخوَين له من قبل، ولكن يُداخله أحيانًا من ناحيته خوف وجفول وربما أكثر من ذلك. نعم هي الحقيقة؛ فهو يكرهه أحيانًا، وهو أشد ما يكون كراهيةً له إذا جرى ذِكر سمارا على لسانه؛ فبمجرد نُطقه لذاك الاسم الحبيب يؤذيه ويعذِّبه؛ وتستحيل هذه الكراهية المؤقَّتة مقتًا إذا وقعت عينا الفتى عليها أو عيناها عليه كما حدث منذ حين قليل .. على أن هذا لا يعني أن هذه الكراهية عاطفةٌ ثابتة؛ فهي مجرد انفعال عنيف، وغير ذلك فهو يُحبه وينظر إلى مستقبله کشيءٍ جميل من صُنع قلبه وکدِّه، فأي حَيرة وأي عذاب .. تُرى هل يفطن الشاب إلى ما يحدثه في نفس شقيقه الأكبر من الشقاء؟ .. کلا .. هو بلا شك لا يتصور أن مثله يمكن أن يحب هذه الصبية الجميلة.
وكان الدكتور الشاب يفكر في تلك اللحظة من حياته السعيدة في أمورٍ هامة، فقال لأخيه: لديَّ أمور هامة أريد أن أُفضيَ إليك بها.
ولم يدَعه قلبه القلق يرتاح إلى هذه الرغبة، فقال: اخلع ملابسك أولًا وارتَح قليلًا.
ولكن الشاب قال بإصرار: استمع لي أولًا يا أخي؛ فإن حياتي في مُفترَق الطُّرق.
فسكت الرجل وأردف الشاب: ستنتهي بعد أشهُر مدةُ تمريني كطبيب امتياز في القصر، وقد أخبرني أستاذي الدكتور براون بأن النية متجِهة إلى اختياري عضوًا في بعثة كلية الطب.
فأحسَّ الرجل بارتياحٍ غير منتظر وقال بفرح: مبارك، مبارك. أنت أهل لذاك بغير شك.
والظاهر أنه كان لدى الشاب ما يقوله غير ذلك؛ لأنه قال بارتباك بصوتٍ خافت: ولكني … أعني … أريد أن أقول … إني إذا سافرت فلن أُسافر مُنفردًا.
– لا أفهم شيئًا.
في الواقع إنه يفهم كثيرًا، أو يفهم على الأقل ما جعل قلبه يرتدُّ إلى الجفول، وكان الشاب قد تغلَّب على ارتباكه فقال: سأسافر زوجًا إن شاء الله.
يا لها من مفاجأة .. إنه لم يسبق لك التحدث إلى أحد في هذا الموضوع .. أليس كذلك؟
– كلا.
– هل نبت في رأسك على حين غِرَّة؟
– کلا، ولكني كنت أُوثر الصمت حتى أخرجني عنه السفر المنتظر.
وسكت الأخ لحظةً يُغالِب عواطفه ثم قال: هل أفهم من ذلك أنك وُفِّقت إلى الاختيار؟
فأحنى الشاب رأسه، وأشار بذقنه إلى بيت الجار وقال: سمارا.
وساد الصمت، وقلق الشابُّ لسكوت أخيه، فسأله بلهفة: ما رأيك يا أخي .. ألا تُعجبك؟
فقال الآخر بسرعة: نِعْم الاختيار .. نِعْم الاختيار.
فابتهج الشاب وقال: أشكرك يا أخي .. وأرجو ألا تتوانى، فعِدْني أن نذهب غدًا إلى مقابلة والدها، ولعلي لا أُصدَم هناك بما يُخيِّب أملي.
– حسن .. ولكن ما الداعي إلى هذه السرعة؟
– لا بد من السرعة؛ فليس أمامي سوى شهور قلائل ينبغي أن يتمَّ في أثنائها الاتفاق والاستعداد للسفر إلى إنجلترا.
ثم ضحك الشاب وقال وهو يهمُّ بالوقوف: ألا ترى أني سأمضي شهر العسل خارج القُطر كالوُجهاء؟
فابتسم الرجل وحيَّاه الشاب وذهب إلى داخل البيت.
وتبعته عيناه حتى غيَّبه الباب، ثم عادتا تنظران إلى الدنيا المحيطة نظرةً ذاهلة لا تعي التفاصيل، فأحسَّ إحساسًا غامضًا بالسُّمرة التي أخذت تشوب الكون والسكون الساري في مفاصله، وضاق بجلسته فقام يتمشَّى في الحديقة الصغيرة بائسًا محزونًا مُختنقًا، ودار دورتَين ثم رجع إلى الأريكة وارتمى عليها بشيء من العنف كأنه يُسلِّم إليها حظه التعس لا جسمه المنهوك.
ووجد في تلك اللحظة رغبةً خفية قاهرة في الفرار إلى الماضي .. فطار خياله في الزمان عشرين عامًا في غمضة عين إلى تلك الفترة من العمر التي تبدو فيها الحياة كقطعة من العجين في يد الخيال يعبث بها كما يشاء، ويصنع منها ما يُملي عليه هواه بعيدًا عن قساوة الواقع. في ذلك الوقت البعيد كان هذا الرجل المُمتلئ رزانة وهمًّا وحزنًا؛ صبيًّا مرحًا مُدلَّلًا يفيض قلبه بالأفراح والآمال؛ وقد ميَّزته الطبيعة منذ رأى النور، فكان أول من خفق له قلب والدَيه بالأبوَّة والأمومة من الأبناء، ثم كان من بعد ذلك غلامًا مجتهدًا تُضيء حياته المدرسية استعدادات عالية ومواهب نامية تُبشِّر بالنبوغ والتفوق والمستقبل البسَّام، ولكن الحقيقة أن ما خفي من فضائله كان أعظم، وأنه كان ينتظر الفرصة فقط للظهور في أبهی الحُلل، وقد جاءت هذه الفرصة ولكنها لم تكن وا أسفاه سوى وفاة والده.
ترك الوالد المتوفَّى أسرةً بائسة مُكوَّنة من أرملة وأربعة أبناء أكبرهم — عبد الرحمن — في مستهلِّ الشباب، وأربعة جنيهات معاشًا. وهكذا تصدَّت الحياة للشاب السعيد الواسع الآمال بوجهٍ عبوس، استأدته الواجبات، وحتَّمت عليه أن يخلع رداء الطفولة ليحمل على عاتقه اللدن أثقل التبعات .. وكان عليه قبل كل شيء أن يتناسى أطماعه، ويُدرِج في الأكفان آماله، ويقبر مواهبه لكي يُهيِّئ للأسرة حياةً سعيدة، ويُوليها بعض العناية التي كان يوليها إياها الأب الراحل، ورضي کارهًا بوظيفةٍ بائسة لم يتصور قطُّ أن تنتهيَ إليها آماله.
كانت تلك الأيام في بدئها مؤلمةً شديدة المرارة تبعث في النفس الأسى والحسرة واليأس، ولكنها لم تبلغ به قط حدَّ الثورة أو الغضب الهائل. لماذا؟ كان قلبه كبيرًا ينضح بالحنان والأخوة، فوهبه أمه وإخوته، وهانت لذلك تعاسته، وخفَّفت الأيام من وقع الخيبة في نفسه، وتحدَّدت في قلبه آمالٌ أخرى لا تتعلق بمستقبله هو، ولكن بسعادة إخوته ومستقبلهم، وذاق سعادةً جديدة هي السعادة التي يُحدِثها بذل النفس والعمل من أجل سعادة الغير؛ وبذلك شغل الشاب مكان أبيه، ودخل في طور الرجولة الحق قبل الأوان.
وذكر هنا كيف أنه كان يشعر بالفراغ الأليم رغم امتلاء حياته بالآمال والأعمال، ولكنه كان ينجح دائمًا في إبعاد فكرة الزواج من قلبه حبًّا في أسرته وإيثارًا لإخوته، واستوصى بالصبر، ولكن أثبتت له الأيام أن إخوته أقل صبرًا وأعنى بنفوسهم منه، وربما كان للزمن في ذلك شأن وأي شأن، فما کاد أكبرهم يتخرج ضابطًا في مدرسة البوليس حتى تزوَّج وترك العبء له وحده، وتبعه بعد قليل أخوه الثاني المهندس؛ فاضطُرَّ إلى البقاء أعزب حتى هذه السن.
ثم ذكر كيف أنه كاد يختار أخيرًا ما يُكمل به حياته، وکیف جاء الاختيار بعيدًا عن التوفيق، وكيف أتته الطعنة النجلاء من يدٍ طالما آثرها بالحب والعطف، وقد طعنه وهو يضحك ضحكةً مُشرِقة بالأمل والسعادة كأنه ذاك الحكيم الذي يترنَّم بأنشودة السلام وقدمُه تقتل عشرات الأحياء التي لا تراها العين.
وفيما هو في أحلامه إذ سمع صوتًا يُنادي قائلًا: عبده، لماذا تبقى في الظلام؟
هذا صوت أمه الحبيب .. ربَّاه .. لقد لفَّه الليل وهو لا يدري.
وقام من جلسته مُتثاقلًا، وسار ببطء إلى الداخل، وبادرته أمه قائلةً: هل حدَّثك أنور؟
فقال: نعم.
– ما رأيك؟
– اختيارٌ جميل يا أمَّاه، سأذهب غدًا لمقابلة جارنا وطلب يد ابنته الجميلة لابننا النابه.
فقالت بحنان: لم يبقَ إلا أنت.
ولازَم الصمت هذه المرة.
من يعلم؟ .. ليس الذي يلقى الآن بأشد قساوة مما لقي في ماضيه، وما هذه بأول كارثة يمتحن بها قلبه الكبير، وقد علَّمته الحياة فضيلة الصبر كما علَّمته حقيقةً أجل؛ هي أنه يستطيع أن يسعد وهو يحقِّق السعادة للآخرين.