مُفترَق الطُّرق
زماننا عاثر الحظ أو نحن به عاثرو الحظ؛ فأينما تُولِّ وجهك تسمع تنهُّد شكوى أو ترَ تجهُّم كدر. ولن تعدم قائلًا إن هذا الزمان أضيَق رزقًا وأنضب حیاءً وأفسد خلقًا وأقل سعادة وأُنسًا من الزمان الماضي، ويجوز أن نكون لزماننا ظالمين، وأننا نتحامل عليه لا لعيب اختصَّ به دون غيره من الأزمنة، ولكن تبرمًا بقساوة الحياة وفرارًا من جفاف الواقع ولياذًا بظلام الماضي الذي يُشبه ظلام المستقبل؛ بعث أمل وطب آلام. ومهما يكن من هذا السخط فما من شك في أن جلال أفندي رغيب كان على حق في شكواه التي يُردِّدها بغير انقطاع. كان مُراجِع حسابات في وزارة المعارف وفي السادسة والأربعين من عمره، وقد وسَّع الله في إحدى زينتَي الحياة الدنيا وقتَّر عليه في الأخرى؛ فرُزِق ستة أبناء يسعَون ما بين حجر الأم والسنة الرابعة الثانوية. وأما مُرتَّبه فسبعة عشر جنيهًا، فناءَ بأثقال العيش ومتاعب الحياة، وقصمت ظهرَه المصاريفُ المدرسية. وكان كثيرًا ما يقول مُتبرِّمًا حانقًا كلما آن موعد قسط أو اقتراب موسم من المواسم: «رجلٌ مثلي؛ أب لستة ذكور؛ اثنين في المدرسة الثانوية، واثنين في المدرسة الابتدائية، وواحد في المدرسة الأولية، وواحد في البيت، غير زوجة وأم، ولا تراه الوزارة حقيقًا بإعفاء واحد من أبنائه من المصاريف، فمتى إذَن تجوز المجانية .. ولمن تجوز؟» وكان كغالبية أهل هذا البلد يائسًا من العدالة قانطًا من الخير، يعتقد اعتقادًا كالإيمان الراسخ أنهما لا يُصيبان إلا المجدودين من ذوي القربى والأصهار والأصدقاء، فرأى أن ليس أمامه سوى الكفاح الشاق، ومعاناة الشدة عامًا بعد عام، والتصبر على مرارة الحياة.
ولبث على حاله لا يطمع في رجاء حتى تولَّى وزارة المعارف معالي حامد بك شامل، فطرَق أُذنَيه اسمُ الوزير الجديد، وجذبت عينَيه صورتُه المنشورة في الصحف، فومض في أفقه المُظلِم بارقُ أمل جديد، وانتعشت نفسه برجاء لا عهد له به، وقال لنفسه: «ينبغي أن أقابله .. وأن أشكوَ إليه .. هل يرفض رجائي؟ .. لا أظن.» وقصد يومًا إلى سكرتير الوزير وكتب حاجته على ورقة ليُوصلها إليه، فمضى الشاب بها وتركه في حالة من القلق والإشفاق لا توصف، وعاد مُسرعًا يقول لجلال أفندي: معالي الباشا مشغول جدًّا اليوم، فلتتفضَّل بالمجيء ضحى الغد.
فعاد إلى حجرته مُسرعًا واجدًا مُتألمًا، وكان ألِف طول مدة خدمته خُيلاء الرؤساء وانتهاز المديرين، ولكن انشغال الوزير آلمه أكثر من أي شيء، وجعل يتساءل: تُرى هل يذكرني؟ .. ولم يكن شيء ليصدَّه عن هذا الباب، فذهب ضحى الغد كما قال له السكرتير، وانتظر طويلًا حتى قال له الشاب: تفضَّل.
فقام مُسرعًا خافق الفؤاد، وفُتِح له الباب المحروس فاجتازه إلى الحجرة ذات السجاجيد والزخارف، ونظر إلى صدر المكان فرأی معالي الباشا كما يدعونه يُطالع في شيء بين يدَيه؛ فلما أن شعر بوجوده رفع إليه عينَيه ومد له يده وعلى فمه شبه ابتسامة وقال: أهو أنت .. لقد اشتبه عليَّ الاسم .. أوَما تزال حيًّا؟
فسُرَّ جلال للمداعبة الأخيرة، واطمأنَّت نفسه، وقال بخضوع وإجلال: نعم يا صاحب المعالي ما أزال أُكابد حظي في الدنيا.
فنظر إليه نظرة استفهام، ومال إلى الوراء قليلًا وهو يُتمتم: أفندم؟
فقال جلال: يا معالي الباشا قصدت إلى معاليك لأشكوَ إليك ما أشكوه من عنت الدهر وشقاء الأيام. لي أسرةٌ كبيرة وأبناء كثيرون ومُرتَّبي صغير، ولست طامعًا في علاوة أو درجة، ولكني أضرع إلى معاليكم أن تُعفيَ ابنين لي في مدرسة شبرا الثانوية من المصروفات.
– الاثنين معًا؟!
– نعم يا معالي الوزير، إن آمالي مُشرِقة بمعاليكم، لقد جاورت معاليكم عهدًا طويلًا من سني الدراسة، وينبغي لمن حظيَ بذاك الجوار أن يربوَ حظه على حظوظ الناس جميعًا، خاصة إذا علمتم أن لي غيرهما أربعةً آخرين.
فقال الوزير باقتضاب: قدِّم لي مذكرة.
وكان الرجل مُحتاطًا لذلك، فأخرج من جيبه التماسًا أعدَّه لهذه الساعة وقدَّمه إلى الوزير، فجرت عليه عيناه بسرعة، ثم أمسك قلمه ووقَّع عليه بكلمة وقال للرجل: اطمئن.
فانحنی جلال أفندي تحية، فتكرَّم الآخر بمد يده له، ثم غادر الحجرة مُغتبطًا مُثلَج الصدر، ولكنه ما كاد يعود إلى مكتبه بالوزارة حتى قال لنفسه مُتعجبًا: لم يتغير «حامد شامل» البتة، ولا تقدَّم به العمر، وكأنه في ريعان الشباب .. هل يُصدِّق إنسان أن كلينا ابن خمس وأربعين؟ .. تالله إني لأبدو لعين الناظر في سن والده .. وقضى وقته يفكر في الوزير، في حاضره وماضيه، وفي صلته القديمة به .. ثم اضطجع بعد غدائه في بيته، وأشعل سيجارة، واستسلم إلى أحلام الذكريات .. فألوَت به إلى عهود الماضي المُنطوي .. إلى الوقت الذي كان يجلس فيه إلى يسار التلميذ «حامد شامل» على مقعد واحد لا يكاد يُفرِّق بينهما فارقٌ جوهري .. وكان التلميذ «حامد شامل» يلفت الأنظار إليه ببياض بشرته واحمرار وجهه. ويُلازِمه عبدٌ مُتهدِّم طويل يرتدي بذلةً سوداء في الطريق إلى المدرسة وفي طريق العودة، يتبعه كالظل إذا مشى، ويطمئنُّ إلى مكانه إلى جانب حوذي العربة إذا ركب؛ ولذلك كان يحلو لرفاقه أن يُداعبوه فدعَوه «حامد أغا». على أنه عَجِب غاية العَجب كيف كانت المنافسة تحتدم بينه وبين وزير اليوم وتلميذ الأمس كأنهما أخوا حظٍّ واحد .. والأعجب من هذا أنهما جريا معًا وراء تلك العاطفة — التي تُهيِّج الجد والنشاط ولا تتسامی عن المرارة والألم — منذ أول عهد تجاورهما! وكانا في كفاحهما كأنهما يعيشان مُنفردَين في فصلٍ واحد، فكانت الغاية التي يهدف إليها كلٌّ منهما أن يتفوَّق على قرينه بغير مُبالاة الآخرين. وعلى الرغم من استعانة حامد بالدروس الخصوصية يتلقَّاها على أنبه مُدرِّسي المدرسة، فقد كانت الغلبة بينهما سجالًا، وكانت كفة جلال الراجحة .. وكانا في ملعب كرة القدم مثلهما في الفصل لا يُريحان ولا يستريحان، وكان كلاهما يزعم أنه أحق من صاحبه بقلب الدفاع، فكان مُدرِّس الألعاب يُعاقِب بينهما فيه حتى بدا تفوق جلال للجميع فاستأثر به، فكان آخر عهد الآخر بلعب الكرة .. يا لله! .. كانا يستبقان كأنما الدنيا تضيق عنهما معًا، وكأنما كان مستقبلهما يُنذر بحربٍ مستمرة تشمل ميادينَها الجدُّ واللعب والإدارة والوزارة. فكيف شالت کفته بعد ذلك؟ كيف سقط من عيون الغربال وضاع في الحثالة؟ .. كيف صار رفيقا المقعد الواحد أحدهما وزيرًا والآخر مُراجعًا للحسابات ينوء صدره بآلام الحاضر ووساوس المستقبل.
ثم تمتم قائلًا وهو يُطفئ سيجارته ويرمي بالعُقب إلى المنفضة: تالله ما يستحقُّ أن يكون وزيرًا ولا وكيل وزارة ولا شيئًا من هذا، وخشيَ أن يكون مُتجنيًا عليه أو مائلًا مع عواطفه القديمة فتساءل باهتمام وجدٍّ كأنما يُزمع كتابة ترجمة له: كيف اعتلى كرسي الوزارة؟ .. لقد انفصلا في نهاية الدراسة الثانوية، فاضطُرَّ هو لأسباب إذا ذكرها جرَت المرارة في فمه إلى الانقطاع عن الدراسة، والتحق صاحبه بمدرسة الحقوق، ثم حصل على الليسانس، وكان أبوه محمد باشا شامل وزيرًا للحقَّانية فعيَّنه سكرتيرًا له في الدرجة الخامسة فكانت القفزة المُوفَّقة الأولى، وقرأ بعد ذلك في الصحف أنه اختير لبعثة في فرنسا لا يعلم كم أمضى بها وما حصل عليه فيها من الإجازات، ولكن كثيرين يعلمون بزواجه بعد ذلك بسنوات من كريمة المرحوم حامد باشا حامد الذي تولَّى الوزارة مرَّات، فارتقى فجأةً إلى الدرجة الثالثة مُديرًا لإدارة التشريع، وانقطعت عنه أخباره فترةً وجيزة حتى علم بتوليته مديرية أسوان، ثم بترقيته مُحافظًا للقنال بعد ذلك بقليل، ثم باختياره وزيرًا للمعارف. ومضى على توليته الوزارة أسابيع والمجلات لا تكفُّ عن الإشادة بمواهبه القانونية ومقدرته الإدارية ومشروعاته عن إصلاح التعليم، وكاد جلال أفندي أن يُصدِّق ما يُقال لولا أنه قرأ مقالًا عن تفوق الوزير في عهد الدراسة — في العلم والرياضة البدنية معًا — وكيف أن مُفتشًا من مُفتشي الوزارة تنبَّأ على أثر مناقشته بأنه سيكون يومًا وزيرًا، فأغرق الرجل في الضحك وقال ساخرًا: «الآن فهمت سر المواهب القانونية والإدارية.»
وتنهَّد جلال أفندي رغيب وتمتم قائلًا: «دنيا!» وأراد أن يُريح نفسه من أفكاره فتناول مجلة يُقلِّب صفحاتها المصورة. والظاهر أن ذكريات الوزير كانت تأبى أن تُفارِقه، فرأى صفحة من المجلة مُخصَّصة للوزير تتوسطها صورةٌ كبيرة، ما إن بصر بها حتى صاح في دهشة وغرابة: «ربَّاه هذه صورة فصلنا القديم.»
وألقى عليها نظرة سريعة فثبت بصره على صورته، وكان يقف في الصف الأول وراء المدرسين مباشرةً إلى يمين الوزير ينظر إلى عدسة المصور في ابتسام وثقة، وكان الوزير كالعابس وعلى حاجبه الأيمن ذبابة، فضحك جلال طويلًا وذكر قصة الذبابة. وكانت في الأصل من نصيبه هو وتنبَّه لها والمصور يهمُّ بالتقاط الصورة فهشَّها بسرعة فطارت عنه إلى حاجب قرينه وحطَّت عليه، وقد أحسَّ أسفًا لذبِّه الذبابة؛ فلعلها كانت ذبابة الحظ السعيد سكنت إلى وجه الوزير المدَّخَر، ورنا إلى الصورة بعينَين حالمتين فهامت روحه في آفاق الماضي حتى شعر بأن روح الطفولة تحلُّ فيه مرةً أخرى، وأن شعيرات قذاله البيضاء تسود، وتجاعيد جبينه وما حول فمه تلين، ونظرة عينَيه تصفو وترق، ويمسح على ما فيها من هم وبَلبال .. أحسَّ قلبه يخفق مرةً أخرى بالأمل والطمأنينة، وجرى بصره على الوجوه الصغيرة وهو يتساءل: تُری کیف صار هؤلاء جميعًا؟ .. وعايَن أول صورة في الصف الأخير فعرف صاحبها بوضوحٍ غریب، وذكر اسمه (عبد الملك حنا)، وذكر كيف كانت تنتابه نوبات الصرع في الفصل حتى انقطع عن المدرسة .. أما بقية الصف فتذكَّر وجوههم وغابت عنه أسماؤهم ومصائرهم، وعرف في الصف الثاني وجهًا كأنما ترکه بالأمس؛ كان ابنًا لأحد كبار المستشارين، فكان يتمتع لذلك بنفوذ وصَولة فيُحيِّيه الناظر إذا بصر به، ويُلاطفه المُدرِّسون، وقد عُلِم فيما بعدُ أنه عُيِّن وكيلًا للنيابة وترقَّى قاضيًا، ولعله يتأثر الآن خُطى أبيه الكبير. أما من يليه من الصغار فجلُّهم من المغمورين، وبعضهم معه في المعارف، وهو يعرفهم حق المعرفة. وأما آخر هذا الصف — الذي ينظر إلى المصور بتحدٍّ غريب ويشبك ذراعَيه على صدره — فكان من أشقياء التلاميذ المُولَعين بالشجار والتصادم، وقد طُرِد من المدرسة لاعتدائه على أحد المدرسين. ومن العجيب أنه احترف فيما بعدُ «البلطجة» وطاف بالسجن مرَّات.
وألقى نظرةً أخيرة على الوجوه الأخرى فلم يعرف عنها شيئًا إلا الدكتور المعروف «حنا عبد السيد»، وإلا هذا الذي يتوسط الصف الأول، كان من أنبغ التلاميذ جميعًا، وكان أول الابتدائية ثم أول البكالوريا، والتحق بمدرسة الحقوق كبير الهمة سخي المواهب، ولكنه أُصيبَ أول عهده بداء الصدر فاضطُرَّ إلى ترك المدرسة والكف عن التحصيل، واشتغل بعد ذلك بعامَين كاتبًا في الصحة .. فلا يقل حظه شذوذًا عن حظ الوزير نفسه.
نال كلٌّ منهم نصيبه وخضع لحكم حظه وسعيه. كانت تجمع بينهم جدران واحدة، لا يكاد يتميز وراءها إنسان إلا بجده وخُلقه، ففرَّقت بينهم الحياة، فرفعت وخفضت، وأحيت وأماتت، وأذاقت الفقر، ومتَّعت بكرسي الوزارة، وكلٌّ بما قُسِم له غير راضٍ ولا قانع.
ونظر جلال أفندي عند ذاك في الساعة فوجدها تدور في الرابعة، فعلم أن موعد الصغار آن واقترب، وأنهم عما قليل يملئون البيت حياة وقلبه نورًا، فرمی المجلة بعيدًا وطرد من عقله الوسواس ليستقبلهم أجمل استقبال، وقال لنفسه مُتعزيًا: من الخطأ أن يفكر الإنسان في شئون الناس ما دام هذا لا يورث إلا الضيق، وحسبي أن معاليه قال لي «اطمئن».