إصلاح القبور
قضى من بيده القضاء أن يكون ليل ١٦ أغسطس تاريخًا فاصلًا تهتزُّ له جوانحها ويتصدع به فؤادها، فلم يعد مجرد وحدة من الزمان الذي لا ينتهي، ولكن شيئًا من ذكرياتٍ سُود يجمع بينها غشاء من الحزن واللوعة، وشاهَد ذاك الليل صدرًا ضعيفًا يعلو وينخفض ورأس صاحبه مُسنَدًا إلى صدرها، وسمع حشرجةً ما يزال صداها يُمزِّق مسمعَيها، وفي لحظةٍ رهيبة كأنما جفَّت فيها ينابيع الرحمة في السموات والأرض صارت أرملة في نضارة الصِّبا وشرخ الشباب، فأُغمضت عينان ألِفت أن تطالع في نظرتهما الحنان والمودة، وسكت لسانٌ جعل يُناغيها عامًا وبضع عام المناغاةَ الحُلوة السعيدة، ويُدلِّلها فيُناديها نعُّومة مرةً ونعمات أخرى، وجمد الساعدان اللذان كانا يضمَّانها إلى مرتع الوداد والهوى. انتهی تاریخ وبدأ تاريخ على عجز منها ورغم؛ لأنه كان قد قُدِّر لها أن تلقی نصيبها الكثيف من الحزن والبكاء والحسرة، وأن تُجلِّل شبابها النضير بسواد الحِداد أو سواد اليأس، ثم هجرت البيت الذي كانت سیدته وربَّته فأُخليت لها حجرة وعاشت عيشة لا تجد فيها أسباب الترحيب إلا ما تقضي به تقاليد المجاملة الظاهرية.
استوحشت دنيا الأحياء، ولاحت لها معالمها غارقةً في ظلال الكآبة والقنوط، فأغلقت دونها نفسها، وولَّت عنها بقلبٍ يأبى حبه أن يستسلم للموت، ورمَت بناظرَيها بعيدًا إلى حيث ترقد القبور في سكون الأبدية ووحشة الفناء؛ فعند ذاك القبر سحَّت عيناها دمعًا غزيرًا ساخنًا فروَت جفاف قلبها ورطَّبت حرارته، ولكن أي قبر كان ذلك القبر؟
قبرًا قديمًا انتبذ ركنًا من فناء واسع مُوحِش خالٍ، وعلاه البِلى فتهدَّم «شاهده» وتشقَّق بنيانه .. وا أسفاه كان المرحوم في نضرة الشباب فلم يُعنَ يومًا بهذا القبر الذي لم تُمدَّ له يد بإصلاحٍ ما يقرب من نصف قرن من الزمان، حتی تواری بین ركامه شبيبة ناضرة في حفرة شائخة .. فكانت إذا رأت الفناء المُعفَّر والشاهد المُهدَّم راحت زائغة البصر مكلومة الفؤاد، وأفحمت في البكاء. ووجدها التُّربي يومًا تندب القبر المهدَّم وتبكي بكاءً مُرًّا فانتظر حتى رآها تهمُّ بالانصراف، فدنا منها وقال لها برقة ولباقة: ألا ترَين يا سيدتي أن هذا الفناء مُترامي الأطراف، فهلَّا بعت نصفه أو بعته کله وجدَّدت بماله القبر وأصلحت حجرته؟
واستهواها قوله فأصغت إليه برغبة ولهفة، وقد تفتَّحت لها سبل الأمل، ولكنها ذكرت أن مكافأة زوجها لم تُصرَف بعد، فما الداعي إلى التفريط في الفناء؟ .. كلا، لتبقَ المقبرة على ما هي عليه، وحين تأخذ المكافأة — ولو بعد ستة أشهُر کما قيل لها — تُجدِّد القبر وتُصلح الفناء وتغرس في أرضه شجيرات يانعة تستدرُّ الرحمة وتطرد الوحشة. وعادت يومئذٍ وقد تخايل لعينَيها في الأفق حُلمٌ من أحلام العزاء؛ فغدًا عندما يُجدَّد القبر وتُطلى الجدران ويفرح المكان بشذا الريحان يتنسَّم قلبها المحزون نسائم العزاء البارد، وتجد في الأنس بالوفاء سلوى عن وحشة الوجود.
ومضى يوم ويوم وأسبوع فأسبوع وشهر ثم شهر والقبر غايتها وسلوتها وأجمل موعد يُتيحه لها الزمان، إلا أنها كانت تتغير — بطبيعة الحال — ككل شيء في الحياة في بادئ الأمر، كانت تبكي ليلًا ونهارًا، ثم مضت تبكي سحابة النهار وتهدأ بالليل، ثم صارت تبكي كلما خطرت ذكراه على فؤادها الحزين، ثم انشغلت بالحياة طوال الأسبوع، واستأثر بها الحزن كل صباح جمعة. وكانت أول عهدها تمضي إلى المقبرة لا تلوي على شيء فلا ترى من الدنيا شيئًا، أما بعد الأشهُر الأولى فلم يمنعها الحزن من أن تسير كبقية الخلق بعينَين مفتوحتين، وفي ذاك الهدوء النسبي استطاعت أن تری — في ذَهابها إلى المقبرة وعودتها منها — رجلًا يجلس عادةً كل صباح جمعة أمام الفيلا التي تُشرِف على مبدأ الطريق الصاعد إلى المقابر يرتدي جلبابًا ومِعطفًا، ويقطع الوقت بقراءة الجريدة وتدخين غليونه. كانت تراه دائمًا بمجلسه هذا؛ فإذا مرَّت به صعَّد إليها عينَين ثاقبتين وحدَجها بنظرة يلوح فيها الاهتمام الشديد. هكذا يستقبلها وهكذا يودعها، ولعله كان يُطاردها بنظراته منذ أول عهدها بهذا الطريق الموحش. وعلى أية حال لم يُغيِّر من عادته ولا وهنت مثابرته، وبرمت بعينَيه، وكرهت تفحُّصه لها .. لماذا ينظر إليها هكذا .. وهل هو يُتابع كل زائرة لهذا الطريق بهذا النظر العنيد .. أيتسلَّى الرجل بهذا النظر الوقح إلى الثاكلات والأرامل؟ .. إلا أنها وجدت نفسها — بمُضيِّ الأيام — كلما شارفت مبدأ الطريق مُضطرَّة إلى تذكره وتمثل نظراته العابرة التي سيلقاها بها .. بل جعلت تتذكره بعد ذلك صباح كل جمعة وهي تتلفَّع بسوادها وتأخذ أُهبتها لمغادرة البيت؛ فقد صار هذا الرجل العنيد وكأنه جزء لا يتجزَّأ من طريق القبر، ولم ينفعها الغضب ولا أغنى عنها السخط ولا وجدت عن سبيله حِولًا. ويومًا رأته مُرتديًا فحسبت أنه مزمع المسير إلى بعض شأنه، وأملت ألا تجده عند إيابها، ولكنه كان بمجلسه حين عودتها كأنه ينتظر في صبر وأناة، وما كادت تُجاوزه بخطوات حتى نهض قائمًا وتبعها مُتمهلًا .. وحسبت أنها أخطأت الظن ولكنه انعطف وراءها إلى شارع البراد .. ثم إلى شارع الجميل .. ودخلت البيت مُضطربةً لاهثة، فمرَّ به في خُطاه الوئيدة وألقى عليه نظرةً جامعة .. تبًّا له .. ماذا يبغي من وقاحته هذه .. أمَا يحترم السواد الحزين الذي يُجلِّل وجهها؟! وفي الزيارة التالية لم تجده بمكانه المعهود! وكانت توعَّدت وجوده بما شاءت من السخط المكتوم .. فلما لم تجده لم ترَ بدًّا من الارتياح والسرور .. لكنها تساءلت: تُرى هل اختفى لأن شاغلًا قطعه عن رؤيتها أم إنه عدل عن سيرته الأولى؟!
وجاءها شقيقها وزوجه يومًا، وكان مضى على تاريخ الوفاة — ١٦ أغسطس — خمسة أشهُر، وقال لها الرجل برقة: أرى أنه ينبغي أن ينتهيَ هذا الحزن بمشيئة الله.
فنظرت إليه بعينَيها الصافيتين مُتسائلةً حيرى، فقال لها الرجل باقتضابٍ مُفيد: جاءك رجلٌ يطلب يدك.
وذكرت لتوِّها رجل الفيلا، ودقَّ قلبها بعنف، ولاحت في عينَيها نظرة ارتياع، فهتفت به مُنكِرةً: يا خبر .. كيف تُفاتحني بهذا يا أخي؟!
فقال الرجل بهدوء ووقار وحزم: ولمَ لا؟! .. أصغي إليَّ .. أين أبونا وأين أمُّنا؟ الحزن إذا زاد عن حده صار معصية لإرادة الله، فلينظر الأحياء إلى حياتهم، أما الأموات فلهم رحمة الله عِوض عن الدنيا وما فيها؛ فليس هو في حاجة إلى حزنك. کلا ولن يغني عنه وفاؤك، فتدبَّري أمرك بعين الحكمة.
وضمَّت زوج شقيقها صوتها إلى صوته، وتكلَّمت بمثل حماسته وأكثر، فقالت نعيمة لنفسها: لقد تحالفا معًا، ولعلهما يُرحِّبان بالرجل کي يُريحهما منها؛ فما من شك في أنها عالةٌ ثقيلة عليهما وأنها ضيَّقت عليهما البيت، فاستمسكت بهذا الخاطر وأدارته في نفسها حتى ملأها، وكانت في الحقيقة اقتنعت بكل ما قاله أخوها من أنها لن تقيم على الحزن إلى الأبد، وأن حياتها أولى بالرعاية من موت الآخرين، ولكنها أبَت أن تفكر في غير هذا الخاطر الذي توهَّمته توهمًا أو فرضته فرضًا وآمنت به بعناد، بل جعلت — فيما بينها وبين نفسها — تلوم أخاها على برمه بها؛ الأمر الذي ربما أجبرها على اختيار ما لا تود، أما شقيقها فاستدرك يقول: ولا تخشي لومة لائم؛ فالرجل على استعداد تام لتأجيل الزواج حتى ينتهي العام.
وتركها بلباقة إلى أفكارها ثم كرَّ عليها مرةً أخرى صباح اليوم الثاني وسألها عما ترى .. ورأت نعيمة أن تلوذ بالصمت، فطاب أخوها نفسًا وأدرك أنها وافقت، وسارت الأمور في مجراها الطبيعي. ولما جاء يوم جمعة بعد الخطوبة ذكرت القبر والزيارة المعتادة وتساءلت حيری: هل يجوز أن يراها في الطريق الذي تعوَّد أن يراها فيه .. أليس الوفاء للقبر خيانة له؟ .. لشدَّ ما يشقُّ على الإنسان قطع عادة عزيزة، ولكن ما جدوى الزيارة الآن؟ .. لقد رضيت باستقبال حياة جديدة؛ فأولى لها أن تأخذ نفسها بالرضاء والقَبول. نعم حسبت يومًا أن ذاك القبر سيكون قِبلتها إلى الأبد، ولكنها لم تعمل حسابًا للزمن؛ الزمن الذي يُذيب الصخور ويُفتت الصروح ويُغيِّر وجه البسيطة، أليس بقادر أن يمسح عن قلبها شُجونه؟ وقرأت هذه المرة الفاتحة على البُعد، وقالت لنفسها إن البعد لن يمنع رحمة الله من أن تؤنس الثاوي في قبره، ومضت الحياة في يسر فانتصف العام وتوجَّه قلبها وجهةً جديدة، فاطَّرح الحزن وأشرق بنور أمل جديد، وتطلَّع للغد بعينٍ ملؤها الرجاء والحب. وجاءتها المكافأة وهي على تلك الحال فلم تُفكِّر في تجديد القبر المُهدَّم ولا في غرس الفناء المُعفَّر، ولا عاتبتها نفسها على إهمالها. والحق أنها كانت عن ذلك في شغل من أمر جهازها الجديد وإعداد ثياب الحياة الزوجية الجديدة، وزاد من انشغالها عجزُ أخيها عن مساعدتها المساعدة الجدية التي تريدها، فناءت بحملٍ ثقيل رفعت المكافأة عن كاهلها بعضه لا كله، حتى ذكرت يومًا فناء المقبرة الذي اقترح الدافن عليها مرةً أن تبيعه أو تبيع نصفه.
وغلبها الوجوم للذكرى العابسة إلا أن الوجوم ذهب لحال سبيله، ولبثت تفكر في ذاك الاقتراح القديم، وتمنَّت لو تستطيع أن تسرق خُطاها إلى الدافن وتُحدِّثه بأمره .. ولكنه كان تفكيرًا عقيمًا لأن المدفن لم يعد ملكًا لها فلا تستطيع التصرف في قرش من ثمنه .. ولعل هذا ما ملأ نفسها أسفًا، إلا إنها التمست أسبابًا أخرى لهذا الأسف فجعلت تلوم نفسها على قسوة أفكارها وتلعن الحياة التي تقضي سنتها بأن يكون موت الوفاء عين الحكمة أحيانًا.
وقبل أن ينتهي العام بأربعة أشهُر قال لها الرجل الصبور وقد اطمأنَّ إلى ظفَره بقلبها: ما جدوى الانتظار هذه الأشهُر الأربعة؟! ألا ترَين أننا في أواسط الصيف وأنه يحسن بنا أن نُمضي شهر العسل في رأس البر؟
فخفضت عينَيها كي لا يقرأ فيهما ما أرادت کتمانه، وصمتت لحظات كأنها مُغرِقة في تفكيرٍ عميق، ثم تمتمت بصوتٍ خافت: ليكُن ما تشاء.