فلفل
في قهوة السعادة أشياء كثيرة تستثير الاهتمام، منها فلفل، وهو غلام في الثانية عشرة أو جاوَزها بقليل، اسمه الحقيقي طه سنقر، ولكنه اشتهر بفلفل، وهو يسعی بجمرات النار إلى مُدخِّني النارجيلة والجوزة من طلوع الصباح حتى انتصاف الليل. على أن الاصطلاحات لا تُخلَق اعتباطًا؛ فللغلام من اسمه الجديد نصيب. كان خفيف الحركة مُتحفِّز النشاط، فما إن يُدعی حتی يندفع نحو داعيه كالنحلة ويقطع النهار كله ونصف الليل لا يقرُّ له قرار أو يسكت له صوت، وقد اشتغل في القهوة منذ عام نظيرَ قرش في اليوم غير جوزة وفنجان شاي يُقدَّمان له في الصباح ومثلهما بعد الغداء، وكان بذلك جِدَّ سعید، يتيه فخارًا كلما ذكر أنه صار قوَّامًا على نفسه وصاحب قرش وأخا «كيف ومزاج»، وفوق ذلك لم تكن حياته مُنحصِرة في الحاضر، كان يرمق بعين الطموح ذلك اليوم حين يأذن له «المعلم» بتقديم النارجيلة والجوزة أسوةً بالنار والماء، فينتقل من درجة غلام إلى درجة صبي، ومن يعلم بعد ذلك أين يقف به الترقي؟! وهو في سبيل طموحه لا يكفُّ عن تمرین حنجرته بالهتاف والنداء على الطلبات؛ لأن أهمية الحنجرة في القهوة البلدي تُضاهي أهميتها في نادي الموسیقی.
ومن أعجب ما رأى فلفل في قهوة السعادة جماعة من طلاب العلم، تجتذبهم القهوة في أماسي العُطَل والإجازات، فيأوُون إلى ركن منها يسمرون ويلعبون النرد ويحتسون الشاي والزنجبيل، وكانوا كبقية رُوَّاد القهوة من جمهور الشعب الفقير، ولكن المدرسة سمَت بهم إلى طبقةٍ معنوية عالية، فانتبذت الكبرياء بهم رکنًا مُنعزلًا وإن كانوا يرتدون عادةً الجلابيب، بل وينتعل بعضهم القباقيب؛ فإذا اجتمع شملهم وفرغوا من احتساء الشاي والزنجبيل قرأ أحدهم جريدة من جرائد المساء وأنصت له الآخرون، ثم يندفعون إلى المناقشة والتعليق فيحتدم الجدل وتستمر المناقشة.
وجاء مساء فاستطاع أن يفهم ما يقولون لأول مرة، بل سُرَّ به سرورًا لا مزيد عليه، في ذلك المساء قرأ قارئهم — فيما يقرأ — خبر قضية رشوة موظف كبير، ثم أخذ الصحاب كعادتهم في النقاش والتعليق، فقال واحد منهم مُتحمسًا: هذا واحدٌ أمكن يد العدالة أن تصل إليه مصادفة، ويوجد غيره كثيرون لا ينأی بهم عن غيابات السجون إلا أن العدالة ما تزال ضالَّة عنهم.
وقال آخر أشدُّ تطرفًا وأبعد عن وزن كلامه: ليس الداء قاصرًا على الموظفين؛ فغيرهم — وأنتم تعلمون من أعني — أفظع وأضل سبيلًا. هذا بلد لو أُقيم به ميزان العدالة كما ينبغي لامتلأت السجون وخلت القصور.
واستبق الناقدون وتناولوا أسماءً كثيرة فمزَّقوها إربًا ولوَّثوها بكل منکر بأصواتٍ مرتفعة لا تُبالي شيئًا، فقال بعضهم: أضرب لكم مثلًا بفلان .. أتدرون کیف جمع ثروته الطائلة؟
ثم جعل يُعدِّد وسائل الإجرام التي ابتزَّ بها أموال الناس كأنه كان كاتم سِره أو مَرجع رأيه، ثم تتابع النُّقَّاد والمُشرِّحون واختار كلٌّ شخصية من الشخصيات الكبيرة يروي تاريخها كما يشاء، ويكشف عن مثالبها مُفتتحًا كلامه بهذه العبارة المُثيرة: «وفلان هل تدرون كيف جمع ثروته الطائلة؟» وما زالوا في حملتهم حتی صاح أحدهم غاضبًا: هذا بلدٌ السرقة فيه حلال.
فهم فلفل هذا الحديث، فلم يعقه عن فهمه لفظٌ غريب أو تعبيرٌ معقد، وكان بما يُتقن من أنواع القذف والسباب أشبه، فطرب أيَّما طرب ووافَق منه هوًى دفينًا؛ فما أجمل أن يُقال إن هذا بلد لصوص! ما أجمل أن يُقال إن السرقة في هذا البلد حلال! فهو لص بحكم نشأته، تربَّى بين أحضان السرقة فعرفها في المهد؛ فأمه — وهي بائعة دوم — تُنفِق أوقات الفراغ في اصطياد الدجاج الضال، أما أبوه عم سنقر بائع الفول السوداني فمُولَع باختلاس القمصان والسراويل من أسطُح البيوت، وله في ذلك حِيَل يُخطئها الحصر، ولكن ماذا أفادت أسرته من جهادها؟
وانتهت تلك الليلة بغير ما يُحبُّ فلفل؛ فحين عودته إلى بيته، أو إلى الحجرة التي يبيت بها أبواه وأخواته، وجد أمه لا تزال مستيقظةً يعلوها الوجوم والانكسار، وأخواته من حولها باكيات، فانزعج الغلام وتولَّاه الخوف، ورأته أمه فقالت له قبل أن يسألها: «أخذ الشرطي أباك.» فأدرك الغلام ما هنالك، وتحوَّل إلى أخته الكبرى فقالت له إنهم اتَّهموه بسرقة بعض الثياب وساقوه إلى القسم، ثم استدركت بعد لحظة سكوت قائلةً إنهم لن يردُّوه قبل أشهُر أو أعوام. وكان فلفل في العادة لا يلتقي بأبيه إلا نادرًا؛ لأنه كان ينام قبل أن يرجع من تجواله، ويخرج إلى القهوة صباحًا قبل أن يصحو، ولكنه على رغم ذلك تأثَّر بالجو الحزين فداخَله الحزن وبکی، ثم ذكر ما سمعه في المساء فجعل يقول لأمه إن البلد كله لصوص وإن السرقة فيه حلال، وقصَّ عليها نحوًا مما بلغ مسمعَيه، فلم ترتَح المرأة إلى ثرثرته وأعرضت عنه ونهرته أن يسكت .. ثم لطمته على وجهه .. في صباح اليوم الثاني استيقظ فلفل وقد نسي أمس كله وكأنه وُلِد من جديد، فانطلق إلى القهوة بخُطاه الواسعة لا يحمل بين جنبَيه همًّا، والواقع أنها لم تكن أول مرة يُساق فيها أبوه إلى السجن.