روض الفرج
اعتدل الأسطى شلبي في جلسته، وجعل يفتل شاربه الغزير ويرفع حاجبَيه الكثيفين، ويقول للشاب الجالس إلى يمينه على الكنبة: وما الداعي إلى التعجيل بالسفر؟
فقال له صاحبه وهو شابٌّ في الثالثة عشرة من عمره تدل قوة بنيته وسذاجة نظراته على ريفيَّته القحَّة: وما الداعي إلى البقاء وقد انتهيت من أداء امتحاني؟
فقال الأسطی شلبي يتفلسف: وهل الغاية من الدنيا تنتهي بانتهاء امتحان النقل من السنة الأولى إلى السنة الثانية الثانوية؟ ينبغي أن تُروِّح عن نفسك قليلًا، فما العيشة التي أنت ذاهب إليها إلا قطعة من البادية القاسية لا أثر فيها للهو والمرح.
فقال الشاب: أخشى أن يقلق والدي لتأخُّري.
– وماذا يضيره لو تأخَّرت يومًا آخر وقد غِبت عنه عامًا مدرسيًّا كاملًا؟ تعالَ نذهب معًا هذا المساء إلى روض الفرج والعشَّاق لمشاهدة رواية «اشمعنی»، وهي كوميديا في غاية الإضحاك والبهجة .. ما رأيك؟
وضحك الأسطى شلبي وهو ينظر إلى عبد المعز بإغراء، فابتسم الشاب وقال بتسليم: فليَكن .. سأؤجِّل السفر إلى غد.
فابتسم الأسطى مسرورًا وقال له بخُيلاء: نِعمَ الرأي، وستری بعد قليلٍ عشيقتي تقوم بتمثيل الدور الأول في رواية «اشمعنى».
وارتدى عبد المعز ثيابه، وكانت تبدو على هيئة الطلبة الريفيين الذين يندر أن تنسجم «البدلة» مع قامتهم، ويبدو الطربوش غريبًا على رءوسهم. أما الأسطى فقد وقف أمام المرآة في دلٍّ وتِيه، وارتدى قفطانه الزاهي وجبَّته البُنِّية الأنيقة، وأمال الطربوش حتى مس حاجبه الأيمن، وأمسك بعصاه المُذهَّبة اليد، وتقدَّم قريبه يختال في مِشيته كالطاووس.
والأسطی شلبي هذا بدأ حياته كصبيِّ حلَّاق بسيط، ثم استقلَّ بصالون جميل أتاه منه رزقه رغدًا، ثم اشتغل بالسمسرة وصادَفه فيها توفيقٌ كبير فنمَت أرباحه، واستطاع أن يُنفق عن سعة على عشيقاته العديدات من نجوم روض الفرج.
أما عبد المعز فهو ابن أحد أقرباء الأسطی شلبي المدعو الشيخ طه، شيخ کُتاب وواعظ بالعريش. وقد جاء فتح مدرسة العريش الابتدائية مُتأخرًا؛ مما دعا وُلاة الأمور إلى التجاوز عن شروط سن القَبول، فالتحق بها عبد المعز وهو ابن ثلاثة عشر عامًا، وبعد انتهائه من تعليمه الابتدائي أرسله أبوه إلى قرية شلبي لیُتمَّ تعليمه الثانوي، مؤثِرًا بُعْد القاهرة مع الاطمئنان عليه في بيت قريبه على قُرب الزقازيق مع إقامته وحده.
على أن الأسطی شلبي لم يكن عند حُسن ظن الشيخ طه؛ فكان يدعو أحيانًا عبد المعز إلى المقهى، واقترح عليه مرةً أن يُعلِّمه النرد ليستعينا به على تزجية أوقات الفراغ. وكان الشاب حكيمًا مجتهدًا، فلم يستسلم لإغراء قريبه، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يُسلِّمه فيها زمامه فذهب معه إلى روض الفرج، ودخلا كازينو البسفور لمشاهدة رواية «اشمعنى». وبدا الشاب بطيئًا في فهم النُّكت و«القفشات»، وأخذ يُقلِّب عينَيه بين الضاحكين في استغراب وحَيرة، ولكن جذب عينَيه إلى المسرح ظهور ممثلة قابَلها الجمهور بعاصفة من التصفيق والتهليل، وكانت امرأةً فارعة طولًا وعرضًا، مُزجَّجة الحاجبَين مُكحَّلة العينَين مُحمرَّة الخدَّين والشفتَين، تنوء بحمل ردفَين ثقيلين ولا ريب يُرهقانها ثقلًا، بل ما أحراهما أن يَمِيدا بها لولا أن وازَنتهما العناية بثديَين كبِطِّيختَين، وإن كانتا — بقدرة قادر — ناهضين، وكانت تتثنی وتتمايل وتتخنَّث في كلامها وتتكسر وكأنها تتأوَّه وتتوجع، والنظَّارة لا يكفُّون عن إبداء الإعجاب، يرقونها من أعيُن الحُساد. وفتل الأسطی شلبي شاربَيه بقوة وزهو، ومال على أُذنِ صاحبه وهمس قائلًا: هذه عشيقتي نور الحياة .. انظر!
وكان عبد المعز ينظر بعينَين جشعتين، فزاد ذلك مَسرَّة الرجل، فعاد يقول: إن بعض الظرفاء ممن يعرفون أني المالك لقلب هذه المرأة يقولون لي: «حقًّا إنك لمن كبار ذوي الأملاك.»
وقهقه الرجل ضاحكًا تيَّاهًا فخورًا.
وفي أثناء فترة الاستراحة رأى عبد المعز الممثلة الحسناء آتيةً صوب الركن المُنعزل الذي يجلسان فيه، تتبختر كأنها ترقص، وتُوزِّع النظرات الناعسة بلا عدل ولا رحمة، ثم رآها تُسلِّم على الأسطى شلبي وتقول له ضاحكةً: كيف حالك يا رجل؟
وسمع قريبه يُحيِّيها قائلًا: وما جدوى سؤالك عن حالي ما دُمت تلتهمين مالي وصحتي بلا رأفة؟
فضحكت ضحكةً مُثيرة، وجلست تُشارِب الرجل كأسًا من الويسكي، وكبر على عبد المعز أنها لم تُباله؛ ورأت المرأة ارتباكه، فمدَّت يدها المُكتنزة وقرصته في خده وهي تقول: وكيف حالك يا نونو؟
فاحمرَّ وجه عبد المعز استحياءً، وأحسَّ باستياء، وشُغِل بشعوره عما حوله فلم ينتبه إلى ما دار بين المرأة وقريبه، وجعل يختلس النظرات إلى وجهها الممتلئ فأحسَّ نحوها بانجذابٍ عجيب، والظاهر أن المرأة لم تُهمله؛ لأنها عادت تُداعبه فسألته: کم عشقتَ من النساء يا غلام؟
وكان عبد المعز يشعر بميل إلى التحدث إليها، فأغضى من سخريتها وسألها بدوره: وهل يهمُّك أن تعرفي ذلك؟
– كيف لا؟
– ولِمَه؟
– لأسبابٍ كثيرة أقلُّها أن أعرف عمرك.
– وما علاقة العمر بالعشق؟
فغمزت بعينَيها وقالت: نحن معشر أهل الهوى نُقدِّر الأعمار بحساب الحب، مِثلنا مثل العرَّافة التي تهتدي إلى معرفة الأعمار بالرمل والنجوم.
فضحك الأسطی شلبي وقال: إذَن فعبد المعز لم يُولَد بعدُ على تقديرك.
فضربت المرأة صدرها بيدها وقالت بإنكار: ربَّاه .. ولمَ تحرم نفسك من الحب يا بُنَي؟ .. ألا ترى الأسطی شلبي لا يُفيق من الهوى وإن رُدَّ إلى أرذل العمر؟
فتغاضب شلبي وقال محتجًّا: أيُقال عني أنا مِثل هذا الكلام؟ (وفتل شاربه واستمرَّ قائلًا) أهذا شارب رجل رُدَّ إلى أرذل العمر؟
فعبثَت أناملها المخضَّبة بالحنَّاء بشاربه وقالت: أُقسم أنك سرقت هذا الشارب من زبونٍ شارد الفكر!
ولم يكن لدى المُمثِّلة متَّسَع من الوقت لتسترسل في مُداعَباتها، فشربت كأسها وحيَّت الأسطی وقرصت عبد المعز مرةً أخرى، وسارت ترقص على نغم موسيقاها الباطنة.
واختُتم التمثيل عند منتصف الليل، وانتظر الأسطی شلبي السيدة نور الحياة حتى انتهت من تغيير ملابسها وعادت إليه، ورَكِب ثلاثتهم تاکسي انطلق بهم صوب المدينة. وفي أثناء الطريق كان عبد المعز يختلس من الوجه الممتلئ الجميل نظراتٍ جائعة، وكانت المرأة بعينَين نِصف مفتوحتين لا تخفى عليها خافية، وقد وجدت لذةً غريبة في مشاهدة قلقه وتحيُّره، وأرادت أن تُغضي عنه استهانةً فلم يُطاوِعها وجدانها، وأخيرًا أحسَّت نحوه بعطفٍ غريب لم تُحاول إخفاءه. وبلغ التاكسي ميدان المحطة فأمَر الأسطى السائق بالتوقف ريثما يُودِّعهما عبد المعز الذي قُدِّر له أن يعود إلى البيت وحده تلك الليلة، وأرادت نور الحياة أن تُحسِن تودیعه فقالت: يا عيني .. أتعود إلى البيت وحدك؟ .. خُذ هذه القُبلة لتؤنس وحشتك.
ومالت نحوه بسرعة وقبَّلت فمه قُبلةً فاضحة ذات رنين عجيب.
ووقف الشاب ينظر إلى التاكسي الذي ابتعد بهما في جوف الليل إلى حيث لا يعلم، وكان ذاهلًا محمومًا يتصاعد الدم إلى رأسه كما يتصاعد الزئبق إلى الترمومتر، ويُحسُّ بالقُبلة على شفتَيه ويُدوِّي رنينها في أُذنَيه، ويشم رائحة الفم المُعطَّر بالقرنفل، واهتاجت أعصابه تلك الليلة الفريدة في حياته، فجعلت تخلق له الأحلام وتُدني إليه الأماني، وأنامت بين ذراعَيه نور الحياة بشحمها ولحمها لتروي اشتهاءه بفنون الحب جميعًا.
ولدى ضُحى اليوم الثاني رجع الأسطی شلبي إلى بيته، وقد أدهشه أن يرى عبد المعز ما يزال قابعًا به لم يُسافر ولا تبدو عليه هيئة المسافرين، فقال له: ظننت أنك سافرت إلى العريش.
فسأله الشابُّ بقلق: أيُضايقك أن أبقى مدةً أخرى؟
– کلَّا وألف مرَّة كلَّا .. على الرحب والسعة دائمًا .. ولكن قل لي بالله ما الذي حملك على تغيير رأيك.
فقال الشاب مُبتسمًا مُرتبكًا وهو ينظر بعينَيه إلى الأرض: روض الفرج دون غيره. ليتني أستطيع أن أشبع من ملاهيه!
وقال الأسطی شلبي لنفسه: تُرى هو روض الفرج حقًّا أم نور الحياة؟ على أنه لم يُبالِ هُيامه، واعتقد أنه عبث طفولة لا يُقابَل بغير الهُزء والسخرية؟ فاصطحبه معه إلى روض الفرج. وكان تعلُّق الغلام بنور الحياة بينًا لا يحتاج إلى دليل، أما الذي لم يَدُر بخلَد إنسان أبدًا ولا كان محل احتمال قطُّ فهو أن تعلق المرأة بالغلام، ولو أنه من المُسلَّم به دائمًا أن عالم الحب حافل بالمفاجآت غنيٌّ بالغرائب والعجائب.
وكانت الظواهر تُجمِع على حب تلك المرأة الهائلة لذاك الغلام الغرير، فكانت تأنس به وتخفُّ إلى مَحضره وتُعاطيه نظرات حنان وعطف ومودة، وكان لسان حالها ينطق بالرغبة الحارَّة في الانفراد به، وكانا يطلبان غفلة من الأسطی شلبي ليتناجيا بغمزة عين أو يُنفِّسا عن صدرَيهما بلمسة يد، وفي أثناء ذلك لا تكفُّ رُكبته عن تحسُّس فخذها المُكتنز.
وحاوَل الأسطی شلبي أن يهزأ به في حضرتها أكثر من مرة، فكانت تغضب وتنهره حتى ضاق صدره، وجعل يفتل شاربه بعنف ويقول لنفسه: «أيُغلَب هذا الشارب الذي يقف عليه الصقر؟ هيهات ثم هيهات.»
وفي أثناء ذلك استبطأ الشيخ حضور ابنه، فأرسل إليه خطابًا يحثُّه فيه على العودة بلا إبطاء. وانتهز الأسطى الفرصة الذهبية فنصح الشاب بإطاعة والده، ولكنه أجاب، أو قلبه أجاب: «لا أستطيع.» وانفجر حِقد الأسطی شلبي في کتاب حرَّره للشيخ طه کاشَفه فيه بتدهور ابنه إلى الحضيض والفساد، وصارَحه بهيامه بإحدى غانيات روض الفرج، وأهاب به أن يُدركه أو يتردَّى في الهاوية إلى الأبد.
وجُنَّ جنون الشيخ الواعظ، فشدَّ رحاله إلى القاهرة فبلغها عصرًا، واستقبله الأسطی شلبي استقبالًا يدل على الإخلاص والمحبة، ولم يتردد فمضى به إلى روض الفرج، وكان يُوسوس في صدره بما يزيد مخاوفه ويهيج بلابله، وانتهيا إلى كازينو البوسفور، وكان الستار مرفوعًا، فسار إلى مكانٍ يطَّلعان منه على الركن الأيمن الذي يجلس به عبد المعز يُشاهِد التمثيل في الظاهر وينتظر نور الحياة في الحقيقة، ومال الأسطى على أُذنِ الشيخ وقال هامسًا: ستُوافيه إلى هذه المائدة بعد قليل.
فضرب الرجل حجره بيده في حالةٍ عصبية، وقال بتأثر: ألا يكفيه أن يَغشى هذه البؤرة الفاسدة؟
فقال الأسطی شلبي بلهجة دلَّت على الحزن والأسف: إن ما ينفطر له القلب حقًّا أن عبد المعز كان شابًّا طاهر الخلق.
فتنهَّد الرجل بحسرة وقال كالداهش: ولكن من أين له المال الذي يُنفقه على مُمثِّلة؟
– أظن أن العلاقة بينهما لم تُجاوز خُطى التعارف الأولى؛ ولهذا أهبت بك أن تُدركه ولما يَهوَ.
فقال الشيخ بلوم وحزن: لقد سكتَّ يا شيخ شلبي أكثر مما ينبغي، كان يجب أن تُحذِّرني من بادئ الأمر.
فقال الأسطى بيقين: أُقسم بالله أني ما علمت بسقطته حتى بادرت إلى الكتابة إليك.
وعند ذلك نزل الستار فوجَّه الرجلان انتباههما إلى الشاب المُوليهما ظهره. وما لبثا أن رأيا نور الحياة تسير إليه في مشية الإوزَّة العصرية وتجلس قبالته، ونظر الأسطی شلبي إلى الشيخ طه فرآه ينظر إلى المرأة نظرةً فاحصة، وسمعه يصرخ صرخةً مكتومة ويهتف بصوتٍ مبحوح مُرتجف: يا رحمة الله!
ورآه يقف مُرتعِش الأوصال زائغ البصر، فأشفق من عاقبة التهور، وقال له بتوسل: هدِّئ من روعك يا شيخ طه!
ولكن الشيخ طه لم يستطع أن يُهدئ روعه، وسار کالمُترنِّح حتی وقف خلف ابنه الذي لا يُحسُّ به، وألقى على المُمثِّلة نظرات وحش مُفترس، وألقت عليه نور الحياة نظرة احتقار عاجلة من النظرات التي تدَّخرها للمُتطفِّلين، ولكنها عَلِقت بوجهه ولم تبرح، وعبثًا حاولت أن تُحوِّل عينَيها عنه كالمستهوي، وعَجِب الأسطی شلبي لما رآها تتلبَّسها حالة دهشة وفزع كتلك التي تلبَّست الشيخ طه حين وقوع نظره عليها، فحارَ لأمرها، وقال لنفسه بقلق: «ليست هذه مسألة عبد المعز.»
وفي تلك الأثناء التفت عبد المعز إلى الوراء فوقعت عيناه على أبيه، فجمد في مكانه كالصنم، ولكن أباه لم يُبالِه كما توقَّع، واكتفى أن أمسك يده بقسوة ووضعها في يد شلبي، وقال بشدة لا تحتمل المراجعة: اسبقاني إلى البيت.
فمضى الأسطی شلبي مع الشاب المُرتعِب وهو يُتمتم: «خلصنا من الابن طلع لنا الأب.»
ولما خلا الشيخ والممثلة قال الرجل باحتقار: السلام عليك أيتها الفاجرة التي ما كنت أظنُّ أن الله سيَبتليني برؤيتها مرةً أخرى.
ولم تردَّ عليه المرأة الهائلة، بل استکانت وبدا عليها الذهول والقلق، وتعلَّق عقلها بالشاب الذي ذهب، فعاد الرجل يقول باللهجة نفسها: حقًّا هذه البؤرة التي أُعدَّت لأمثالك، لقد كنتِ يومًا ريفيةً بسيطة، ولكن نفسك كانت مُلوَّثة تبرأ منها نفوس الريفيات جميعًا. كنتِ فاجرة بالطبيعة والفطرة، فكان من المحتَّم أن ينتهيَ بك المطاف إلى روض الفرج أو إلى هاويةٍ أشد وعورة، أيتها الفاجرة.
وكانت نور الحياة تُفكر في أمورٍ أخرى ألهَتها عن الإصغاء إليه، فسألته بخوف وإشفاق وهي تُشير إلى الناحية التي ذهب إليها الأسطی شلبي وعبد المعز: هل هو …؟
ولم تَقوَ على إتمام سؤالها، فقال الرجل بوحشية: نعم .. نعم .. هو ابني .. بل هو الطفل الذي تركته في القِماط وفررت مع ذلك القصَّاب المنحوس غيرَ آبهة بالأمومة ولا بالزوجية .. هو ابنك أيتها الفاجرة، فقولي ماذا صنعتِ به.
وابيضَّ وجه المرأة، وعلاه الكُركُم، وزاغ بصرها، فقال الرجل بقسوة: هل وقعت الجريمة النكراء؟! هل حدث الإثم الأكبر؟ هل سفلت يا فاجرة إلى مرتبة الحشرات والكلاب؟ والله ما كنت أُحبُّ أن يُشارك ابني في هذه الجريمة الشنعاء، ولكنه الانتقام الإلهي الصارم أعمى بصرك، وطبع على بصيرتك ليُذيقك علقم الندامة ويضرب عليك المذلَّة والهوان إلى أبد الآبدين.
وكانت المرأة في حالةِ ذهول شدید حجَب من حواسها إدراك العالم المُحيط بها ومنه الشيخ طه، فغلبت هواجس ضميرها صوت الرجل المُرغي المُزبد، وجعلت تُحدِّث نفسها: ابني .. ربَّاه .. أهذا إذَن سرُّ حبي له وعطفي عليه؟ .. ابني .. لكأنه حُلمٌ بعيد التحقيق.
فقال الرجل الغاضب: فلتموتي كمدًا جزاء إثمك الشنيع.
فأشارت المرأة إليه بيدها إشارة غضب واحتقار، وقالت: کفی هذيانًا؛ فإنه لم يقع بيني وبين ابني ما يخجل منه أحدنا أو كلانا.
فاشتدَّ غضب الرجل للهجتها، وصاح بصوتٍ انفجاري: إياك وأن تقولي ابنك، لقد ماتت أمه حين ولادته. أفاهمةٌ أنتِ؟
ودوَّى صوته فالتفت النظَّارة إلى ناحيتهما من كل صوب، وكادت تفقد المُمثلة صوابها، ولم ترَ بدًّا من الانسحاب السريع، وغادَر الشيخ مكانه ورجع إلى بيت الأسطی شلبي، ولم يطمئنَّ به المكان فأخذ ابنه ومضيا إلى محطة مصر، وفي أثناء الطريق قال له: لن ترى القاهرة مرةً أخرى إن شاء الله .. وسأُحوِّلك إلى مدرسة الزقازيق والله المستعان.
وصمت عبد المعز فلم تنفرج شفتاه عن كلمة، وظل جامدًا كالتمثال حتی أوى إلى حجرته، وكان في قرارة نفسه غاضبًا على أبيه. ولعله لو رأى الشيخ وهو يختم صلاته ذاك المساء فيَبسط يدَيه ويدعو ويتوسل ويذرف الدموع الساخنة، لربما سكت عنه الغضب، وأجبرته حناياه على الذَّهاب إليه ليستغفره ويسترحمه، ولكنه كان لا يرى من الدنيا جميعًا سوى وجه مُمتلئ مُستدير، حُلو الابتسامة، جمِّ المحبة والحنان، يراه في النور والظلام، ويراه حين ينظر وحين يُغمِض جفنَيه؛ فهو لا يبرح مخيِّلته ولا يدع له فرصة للراحة أو الاطمئنان. ولم يُفكر قطُّ في النسيان أو التعزِّي، ولكنه كان يبتغي الوسيلة إلى الفرار إلى القاهرة مهما كلَّفه الأمر.
ولاحت الفرصة المطلوبة بعد أسبوع من وصوله إلى العريش حين اضطُرَّ أبوه إلى سفرٍ يقتضيه التغيب بضعة أيام، ولم يدَع الفرصة تفلت؛ لأنه كان عازمًا عزمًا أكيدًا أمات ضميره وهزم نوازع الخير في نفسه، ففتح صوان والده وبعثر ما فيه من الثياب، فعثر — كما قُدِّر — على خمسة جُنيهات دسَّها في جيبه وفرَّ من البيت.
وبلغ القاهرة ظُهرًا، وكان مُضطرِبًا مُتعَبًا، فاستراح في مقهًی حتی العصر، ثم ركب إلى روض الفرج فإلى كازينو البوسفور، وقصد إلى الركن المعهود، ولكنه لمح عن بُعدٍ الأسطی شلبي جالسًا إلى المائدة في اطمئنان ودعةٍ ينتظر الحبيبة، فغلى الدم في عروقه، وودَّ لو يخسف به الأرض، وحارَ لحظةً قصيرة ثم لم يتردد، فقصد رأسًا إلى حجرات المُمثلات، وبحث عن حجرة نور الحياة، ولم يصبر حتی يُؤذَن له فاقتحم بابها.
وكانت مُفاجأةً غير مُتوقَّعة، فقامت نور الحياة واقفةً تاركةً أدوات المكياج والتواليت تسقط من يدَيها، ويبدو على أسارير وجهها فرحٌ قهري، وكادت تفتح له ذراعَيها وتضمُّه إلى صدرها الخفَّاق وتُعاطيه قُبَل الحنان والأمومة، ولكنها تنبَّهت إلى نفسها فتصلَّبت في وقفتها، وجمدت أسارير وجهها، وبدت عليها الحيرة والذهول، ولم يكن لديها متَّسَع للتفكير والتقدير، ولكنها أحسَّت بأن الطريق التي تدفعها عواطفها إليه ليس الطريق الذي ينبغي لها سلوکه.
ولم تُرِد عيناه أن ترى في وجهها سوى الفرح الذي كساه لأول وهلة، فأقبل عليها مفتوح الذراعَين، ولكنها أغضت عنه وسألته بلهجةٍ غريبة: عبد المعز .. ما الذي أتى بك إلى هنا؟
فقال بلهجة المُستغيث وهو يُشفِق من تغيُّرها إشفاقًا: أنت تعلمين بما أتى بي، فكيف تتجاهلينه؟!
ونفَذت لهجته التوسلية إلى سُويداء قلبها فخفق بشدة، وكاد يطير من بين يدَيها، ولكنها ضغطت عليه بقسوة لم تعهدها في نفسها من قبل، وسكتت هُنيهةً لتضبط عواطفها كي لا يظهر اضطراب وجدانها في نبرات صوتها، ثم قالت: لا أفقه لما تقول معنًی.
فتنهَّد الشاب بحُرقة، وترك ذراعَيه تسقطان إلى جانبه، وقال: أتيت لأني لا أحتمل البعد عنك، وليس بي من قوةٍ أستطيع بها التصبر أو التعزي، فعبثًا حاولت أن أقيم لرجاء والدي وزنًا، وعبثًا حاولت أن أصرف نفسي عن التفكير فيك، وانتهزت فرصة سفر والدي لألوذ بالفرار، ولم أُحسن التدبير؛ إذ كانت ظروفي في غاية القسوة، فأخذت نقود أبي.
وأسكته عن إتمام حديثه صرخةٌ فرَّت من فم المرأة الخائفة المُشفِقة، وسمعها تسأله بألم: هل سرقت؟
فلم يُحسِن فَهْم الباعث لها على سؤالها، وقال بتأثرٍ شديد: نعم سرقت، ولست آسفًا على ما فعلت لأنه كان سبيلي الوحيد إليك، ولن أتردَّد عن أي تضحية في سبيل أن أحظى بقربك، وها هي نقودي فافعلي بها ما تشائين.
ولكنها أشارت إليه بيدها فأسكتته، وسألته بجفاءٍ يعلم الله كم كلَّفها من جهد وعذاب: هل يعود أبوك من سفره سريعًا؟
– بعد يومَين أو ثلاثة.
فتنهَّدت المرأة ارتياحًا وقالت: ينبغي أن ترجع في الحال إلى بلدك لتردَّ النقود إلى مكانها فلا يعلم أبوك بجريمتك.
ولكنه قال بجزع وخوف: هذا مُستحيل، أنا لا أستطيع مفارقتك أبدًا.
– هذا كلامٌ فارغ وعبثٌ طائش، والحب سريع الزوال، أما أثر الجريمة فلا يزول.
فقال بإصرار: لن أُفارقك أبدًا.
وخشيَت إن هي لانت له وطاوعت قلبها أن تقضيَ عليه، فقالت بصرامة: ينبغي یا هذا أن تذهب سريعًا، وإلا وجَّهت إليَّ تهمة تحريضك على السرقة.
فبُغِت الشاب، وأحسَّ بخيبةٍ مريرة، وسألها: أهذا كل ما يهمُّك من أمر عودتي؟
– طبعًا.
– أتجدِّين في القول؟
– وهل هذا وقتُ هزل؟!
– وفيمَ كانت مودَّتك لي؟
– وأي مودة هذه التي تُهوِّن على النفس ما تُهدِّدني به جريمتك؟
فقال الشاب بانفعالٍ شديد: ولكني ارتكبت هذه الجريمة من أجلك أنت!
– لقد جئتَ أمرًا نُكرًا. إن عشَّاقي الكثيرين ليتودَّدون إليَّ بغير ارتکاب الجرائم.
فتنهَّد عبد المعز تنهُّد اليائس المَغِيظ وقال: وإذا كنتِ تكذبين؟
فقالت وكانت في حالة من الإعياء شديدة: أنت الذي أخطأت فهمي .. نعم إني لا أُنكر أني ذكرت في حدیثي معك الحب، ولكنه كان حبًّا بريئًا كحبِّ أمك مثلًا.
وكان دم عبد المعز يغلي في عروقه غليانًا، وكان الغضب يفور في قلبه وينفث أمام عينَيه سحائب من دخانٍ كثيف، فصاح بصوتٍ مُرتعِش النبرات: لا تُشبِّهي نفسك الآثمة بأمي الطاهرة فتُقلِقي رقدتها الآمنة أيتها العاهرة.
ولم يشفِ الكلام غليله فلطمها على وجهها — في غيبوبة الغضب — وبصق عليها.
ثم ولَّى الأدبار فلم يُقدَّر له أن يرى بشاعة الألم الذي قلَّص أساريرها، ولا الحزن الذي طفر بالشيخوخة على وجهها، ولا رآها تمسح بَصقته بيدها ودمعُها ينهمل.
ومضى في طريقه لا يلوي على شيء هائجًا ثائرًا كالزوبعة، وركِب الترام ونزل منه، واستقلَّ القطار وهو يُحدِّث نفسه ويتهدد ويتوعد ويتجرع غُصَص الندم والأسف.
وأراد الله ستره فأعاد النقود إلى مكانها، ومحا أثر الجريمة بيدَيه، ونجا من شرٍّ عظيم.
وقد ظنَّ أن الدرس القاسي الذي تعلَّمه كفيلٌ بأن يجتثَّ من نفسه كل ما كان من ميل أو عاطفة نحو نور الحياة وأمثالها جميعًا، ولكنه حين عاوَدته طمأنينته وسكونه وجد عقله ينزع به إلى روض الفرج، وقد غالَط نفسه وقاوَم نزوعه، ولكنه وجد عقله مُجبَرًا على التفكير والتذكر، فساءل نفسه: ماذا فعلَت نور الحياة مما استحق من غضبي؟ ألأنها تودَّدت إليَّ؟ فهذه صناعتها وفنها، أم لأنها أشفقت على نفسها من عواقب جريمتي؟! فهذا ما يُنتظر من أي إنسان مهما كان أدبه وكان تهذيبه. وربما كان من الطبيعي أن أغضب بعد أن مُنِيت بالخيبة وذهبت تضحيتي هباءً، ولكن لم يكن طبيعيًّا قطُّ أن أصبَّ عليها جامَ غضبي، وماذا فعلت هي تلقاء ذلك؟ لا شيء، لقد لطمتها وبصقت عليها، فماذا فعلت وهي القادرة على «البهدلة»؟
ومضت الأيام تلو الأيام، وانتظر على رجاء أن يمحو الزمن من نفسه تلك الذكرى المؤلمة. وكان يجد في أعماقه عاطفةً غريبة لم يعترف بها قط، وطالما غالَط نفسه فيها، ولكن ربما غلبته على أمره أحيانًا فيتنهَّد حزنًا ويقول لنفسه آسفًا محسورًا: «ليتني لم أمدُد لها يدي بسوء.»