في الشرق الأقصى
الهند
شريت تذكرة السفر على الباخرة اليابانية «سوا مارو» ودفعت ثمنًا لها ثلاثين جنيهًا بالدرجة الثانية، قامت الباخرة من بورسعيد تشق قناة السويس، فخليج السويس، فالبحر الأحمر بجوه الجاف المحرق، وفي أربعة أيام كاملة رسونا على عدن بصخورها البركانية المجدبة، ثم غادرناها ولبثنا نمخر عباب المحيط الهندي المائج الرهيب ثمانية أيام أخرى حتى أقبلنا على ميناء: كولمبو في جزيرة سيلان بجنوب الهند، نزلت أرض تلك الجزيرة فراعني مشهد الناس في سحنهم المختلفة وأزيائهم الغريبة، يترامون حولنا في كثافة لا تحد بقذارتهم وبؤسهم، فرأيت أن أنقذ موقفي بينهم بالهروب منهم فركبت «الركشا»، وهي عربة ذات عجلتين يجرها شخص ويجري بسرعة عجيبة وهو يلهث في هجير تلك البلاد والعرق يتصبب من جسده العاري وكأنه الدابة المجهدة، وتلك هي المطية الرئيسية في بلاد الهند، ثم كان انتقالي بالقطار إلى كاندي أقدم مدن الجزيرة وسط طرق جبلية متلوية شُقَّتْ خلال الغابات الكثيفة، وكانت القردة والفيلة تمرح طوال الطريق في غير حصر، يداعبها الصبية الحفاة في روحاتهم إلى مدارسهم.
وقد كثرت من حولنا مزارع الشاي، زرنا بعض مصانع لبتون وكانت تقوم وسط المزارع نفسها، وكان نخيل النرجيل «جوز الهند» يحمل وسقًا ثقيلًا يفوق المائة في الشجرة الواحدة، وكانت تعرض علينا الواحدة بمليم نقطع طرفها ونشرب ماءها اللذيذ كلما عطشنا، وذلك آمن من شرب الماء الذي يتعرَّض هناك للأوبئة خصوصًا الطاعون والكلرا، أما الموز فحدث عن كثرته، كنا نبتاع العرجون «السباطة» بقرشين وبعض العراجين يفوق المترين طولًا.
تخطينا الجزيرة سائرين إلى جنوب الهند في سابحة كبيرة، وكم راقني مجلسي وسط الهنود بأجسامهم النحيلة وعيونهم الغائرة ولغاتهم العدة، وكان الواحد منهم يتفاهم بالإنجليزية؛ لأن لغة بني قومه لا يفهمها أقرباؤه ممَّن يسكنون ناحية أخرى من الهند، حتى بلغ عدد لهجات الهند مائتين أو يزيد، وقد راقني منظر غني خلته سيدة؛ لأنه كان يلبس ملاءة فضفاضة، ويتزيَّن بالخواتم الثقيلة في جميع الأصابع، ويلبس في يديه سوارًا عريضًا، وفي آذانه قرطًا لامعًا، وفي رقبته عقدًا خاطفًا، وكان يرسل شعره ويتهادى في مشيته وكأنه الحسناء تتيه على الآخرين؛ لأنه ينتمي إلى طبقة راقية، والجميع هناك يسرفون في التزيُّن رجالًا ونساء، ويزيد النساء على الرجال لبس الخواتم في أصابع القدمين وحلقة في الأنف أو الشفة. والعجيب أنهم يسيرون مع تلك الوجاهة حفاة الأقدام، وكم اشمأزت نفسي من رؤية أفواههم المفتحة يمضغون فيها ورق شجر «البيتل» الأخضر ويباع في كل مكان، وبمجرد ملامسته للعاب يبدو وكأنه الدم يلوث الفم والشفاه، ولا يفتئون يبصقون ذاك السائل الأحمر فيلوثون به كل مكان، وتبدو الأسنان والشفاه حمراء في منظر منفر.
قمنا بالقطار إلى مدراس، فدخلناها بعد ٢٤ ساعة فراعني مشهد المشعوذين الذين كانوا يملئون الآفاق بأجسادهم العارية ينقشونها بعلامات وخطوط مختلفة تدل على مختلف مذاهبهم، وكنت أرى سائر الناس يحملون ترابًا مقدَّسًا يخرجه الواحد من جيبه ويمسح به وجهه وصدره وذراعيه في خطوط مختلفة، ولقد زال عجبي عندما علمت أن مديرية مدراس معقل الدين البرهمي أو الهندوسي أكثر الأديان انتشارًا، وسكان هذه المديرية ٤١ مليونًا يدينون في الغالب بتلك العقيدة، وعدد القسس هناك مليون ونصف يعيشون عالة على الغير، ولهم حقوق مالية على الناس واجبة الأداء، وكم كنت أرى من فتيات صغار يحملن أطفالًا لا يزيد حجم الواحد على الدمية الصغيرة، ودهشت لما علمت أن أولئك الفتيات زوجات لكهول من الرجال، وأن هذه الأطفال من نسلهن؛ لأن الفتاة هناك تتزوج في سن العاشرة أو قبل ذلك.
قمت إلى كلكتا فوصلتها بعد ٣٨ ساعة، وهي عاصمة بنغالة أغنى مقاطعات الهند، ولغة أهلها الهندوستانية أكثر لغات الهند انتشارًا؛ إذ يتكلمها خمسون مليونًا، ونصف أهل بنغالة من المسلمين — نحو ٢٤ مليون نفس — ولقد مررنا في دخولنا إليها بعدة مستنقعات سبَّبت انتشار الملاريا والكليرا التي تفتك بالملايين هناك، هذا إلى شدة ازدحام السكان وقذارتهم، فأنت لا تكاد تشق طريقك في الشوارع من كثافة الجماهير، وكلمة كلكتا معناها «مرسى الإلهة قالي» زعيمة آلهة البلدة؛ لذلك سارعت بزيارة معبدها الشهير، وهي زوج سيڨا إله التدمير وسفك الدماء، فوقفت بباب المعبد؛ لأنه لا يصح للأنجاس من الغرباء عن الدين أمثالي أن يدنِّسوا المعبد بالدخول — رغم ما كان يصعده من روائح نتنة ويحويه من مخلوقات مكدسة قذرة. أذكر موقفي أمام المعبد وقد أمسك القسيس بجدي وطرحه أرضًا، وسرعان ما تقدَّمَ رفيقه ففصل رأس الحيوان بضربة واحدة من سيفه سال على أثرها الدم تحت أقدام الآلهة، وصاح القسس بصوت مزعج قائلين: «قالي! قالي! قالي!» وهنا أسرع جماهير النسوة إلى الأرض يلعقن الدم كي يمن الله عليهن بمولود، والبعض أخذ يبلل منه خرقًا يضمها إلى صدره العاري، وقد علمت أن عدد الذبائح التي يقدِّمها الزوَّار في كل يوم مائتان أو يزيد.
قمت إلى دار جيلنج في سفح الهملايا، ومعناها «مكان الصواعق» لكثرة أمطارها، فظل القطار يسلك سبيله وسط الأحراش ومنابت الأرز، ثم بدأ يتسلق المنحدرات الوعرة وكان يكسوها الشاي، وعند محطة سيليجوري ركبنا قطار المرتفعات الذي علا بنا إلى ٧٠٠٠ قدم، وكانت غابات البامبو والخيزران تسد الآفاق، وكلما علونا تكشَّفَتْ من حولنا القمم تجللها الثلوج، وكنا نرى من حولنا فوق عشرين قمة علوُّها يفوق ٢٠ ألف قدم، وأبهاها منظرًا «كنتشنجنجا» ثانية ذرى العالم علوًّا «٢٨١٥٦ قدمًا»، وعند محطة «تل النمر» ظهرت قمة أڨرست أعلى جبال العالم «٢٩١٤١» في شكل مخروط معقَّد يكسوه الجليد ويحوطه السحاب الذي يخيم عليه تارة ويجلو أخرى، وقد استغرق القطار في صعوده ١٨ ساعة.
عدت إلى كلكتا ومنها قمت إلى بنارس في ١٤ ساعة، وهي المدينة التي لم تمسسها يد التجديد في شيء قطُّ، فلا تزال في مجموعها هندية، وهي كعبة الهندوس يتمنى كل هندي أن يموت بين جدرانها كي ينتقل إلى الجنة عاجلًا؛ لذلك كنت أرى من جماهير المرضى والكهول العدد الكبير، ويزور الحجاج فيها ألف معبد، ويطوفون بأسوار المدينة التي تبلغ نحو ستين كيلومترًا في ستة أيام متتالية سيرًا على الأقدام في طريق تظله الأشجار وتحفه تماثيل الآلهة المختلفة، ويُسمَّى هذا الطريق «پانش كازي»، وأقدس ما في البلدة ضفة نهر الكنج التي رصفت في مدرجات يضرب فيها الماء المقدس، ويؤمها من الناس خلق كثير يغتسلون في النهر تحت ظلالات من خوص، كنت أنظر فأرى الجماهير تسد المكان سدًّا؛ النساء في كامل ثيابهن وحليهن يغصن في ماء النهر، والرجال عرايا في لونهم الأسمر وجسومهم الناحلة، وإلى جوار أولئك طوائف البقر المقدس والقردة والطيور التي كنتُ أرى بعضها يحط على ظهور المستحمين ورءوسهم — لأن قتل الحيوان أو ضربه محرم لديهم — وخير ما تجلى منظر القوم من زورق ركبته وسط النهر، فكانت ضفة النهر تبدو وكأنها سوق مزدحم، وكان يطفو على الماء كثير من العشب والأقذار تصعد منها روائح خانقة، وقد وقفت طويلًا إلى جوار مدرج الجثث وقد حفرت أرضه في فجوات، كل واحدة تحكي شكل جسم الإنسان، وحول كل واحدة صُفَّت كتل الخشب المختلف النوع، ثم حُمِلت جثث الموتى إليها بعد دهنها بالسمن وغمرها في ماء النهر المقدس، ثم تقدَّم أقرب الناس من الموتى بشعلة وطاف حول الجثة سبع مرات، ثم أشعل النار فيها فتصاعد الدخان وعبقت الجو رائحة اللحم الآدمي تأكله النيران، وكان يحاول كل واحد جهده ألا تطفأ النار قبل تمام احتراق الجثة، وإلا كانت تلك وصمة عار للفقيد وعائلته، وبعد ذلك تقدَّم قسيس وحمل بعض رماد الجثة ووضعه مع قطعة من ذهب في كرة من طين ألقى بها إلى اليم، ثم كنس باقي الرماد إلى الماء المقدس، منظر مفزع وقفت في جنباته ساعة كاملة وأنا لا يكاد يستقر بي المكان خوفًا وجزعًا، وكنت أشتم شيئًا من الرائحة العطرة أحيانًا وعلمت أنها لبعض الأغنياء الذين يحرقون موتاهم بخشب الصندل أو العود، رغم ما يكلِّفهم ذلك من مال كثير.
قمت إلى دلهي العاصمة في ٢٨ ساعة، فبدا مظهرها إسلاميًّا بها كثير من المساجد ذات الهندسة المغولية، والمآذن الدقيقة والقباب المتعددة والأحياء التي تحكي نواحي الغورية عندنا، وكانت عاصمة المغول يوم حكموا الهند، وقد أقام بها السلطان «شاه جهان» قصوره وقلعته الفاخرة التي دلتنا بقاياها على ما كان للمغول من قوة وبأس وثراء؛ فالمباني بالمرمر والرخام المرصع في إسراف كبير، وهنا كان يقوم عرش الطاووس الشهير الذي سلبه «نادر شاه» ملك الفرس، ورأيته في قصر «جولستان» في طهران يوم زرت بلاد إيران، ويقوم على قاعدة من ذهب أصم مرصع بالجواهر، ويحوطه طاووسان كبيران نشرا ذنبيهما المرصعين بالياقوت والزمرد واللؤلؤ والماس، وبين الطاووسين ببغاء نُحِت في قطعة واحدة من زمرد، ويُرفَع سقف هذا العرش على عمد من أحجار كريمة، وقد كلَّفَهم عندئذٍ ستة ملايين من الجنيهات يوم كانت النقود نادرة الوجود، وقد زرت المسجد الجامع الذي يعده البعض أكبر مساجد الدنيا، وفي إحدى مقاصيره بعض آثار الرسول ﷺ في علب من فضة وذهب وزجاج، أذكر من بينها شعرة من لحية الرسول، وقطعة من رخام عليها طابع قدمه، وحذاء من جلد الجمل في شكل الخف الذي يلبسه الأعراب عندنا، والمسجد يشرف على المدينة كلها، وكان يُبطَن داخله كله بالمرمر الأبيض، وفي ثلاث ساعات نقلني القطار إلى أجرا، وكان الحر لافحًا محرقًا، وقد تأخَّرَ هبوب الرياح الموسمية عن المعتاد قليلًا، وذلك ما زاد الحر شدة؛ لأنها إذا هبت ساقت معها السحب والأمطار من البحر فلطفت من ذلك بعض الشيء. أذكر أنني بعد أن أودعت متاعي حجرة الفندق هممت بالخروج، وإذا بالخادم يستوقفني ويشير بيده إلى الطريق ويقول: أتريد أن تنام هنا؟ فلم أفهم ما يريد واستنكرت منه تلك الإشارة وتركته وخرجت غاضبًا، ولما عدت لأنام في المساء حاولت البقاء في الغرفة رغم أني خلعت ثيابي كلها وأدرت المروحة، فلم أستطع من شدة الحر، ولقد أرقت ليلتي كلها، وفي الصباح وأنا خارج إلى المدينة ناديت الخادم ورجوته أن يفرش لي في الطريق كما يفعل سائر الناس هناك، فابتسم الرجل وقال: ذلك ما قلته لك أمس يا سيدي، فرفضتَ غاضبًا!
سارعت إلى زيارة تاج محل آية الفن الهندي، وما كدت أدخله حتى ألقيت نفسي وسط قصر أقيم من الرخام الوضَّاء، والمرمر البراق، تزينه المآذن الدقيقة والقباب العدة، وحوله الحدائق المنسقة والنافورات البديعة، والجدران كلها رصعت بالزهور والزخارف الفارسية باليواقيت والزمرد والزبرجد، تزينها آيات القرآن الكريم في خط كبير. أما النوافذ والفتحات فأشبه بشباك «الدنتلا» في دقة مدهشة، وفي قلب المكان تحت القبة الرئيسية مقبرة من المرمر رصعت بالأحجار الكريمة، وفيها تُدفَن «ممتاز محل» زوجة السلطان شاه جهان، وكان يحوط المقبرة سور من فضة، ويكسو القبة غشاء من ذهب زنته ٢٦٥٠ رطلًا، ولن أنسى زيارتي الثانية للتاج في ضوء القمر الشاحب وسكون الليل الرهيب، وهو يقوم براقًا وسط كل أولئك.
في ٣٨ ساعة دخل القطار بنا بمباي بعد أن قطعنا جزءًا من صحراء ثار بحرها اللافح وترابها الأصفر الخانق؛ فكانت أكثر البلاد الهندية جمالًا وأشدها حركة تجارية، يشرف عليها حي «ملابار» مسكن الطبقة الأرستقراطية، ومن حدائقه المعلقة الشهيرة رأيت أبراج السكون الخمسة في شكل رصيف هائل حُفِرت به فجوات يضع فيها البارسيون «وهم طائفة من المجوس» جثثَ موتاهم عارية، وسرعان ما تنقض عليها الطيور الجارحة من أشجار السرو المجاورة، فتأكل اللحم كله وتترك العظام التي توارى في بئر هناك، ويحمل الجثث وهي عارية إلى ذرى تلك الأبراج كهول بيدهم القفازات خشية أن تتدنس أيديهم، ويجب ألا تمس الجثة التراب أو الماء أو النار؛ لأنها عناصر مقدسة طاهرة في عرفهم، ومن عبدة النار هؤلاء نحو مليون جلهم في بمباي وهم من أمهر التجَّار.
ولقد استرعى نظري في تلك البلدة كثرة البقر الطليق الذي يسير في الطرق دون أن يتعرض له أحد، وقد كنت مرة أركب الترام فوقف فجأةً وظل هكذا طويلًا، ولما نزلت لأتعرف الخبر ألفيت بقرة تنام على شريط الترام والسائق ينتظرها حتى تقوم، ولما طال بنا الوقوف نزل «وطبطب» على ظهرها حتى قامت واستأنف سيره، وهذا البقر مقدَّس منهم جميعًا ولا يجرؤ أحد أن يضربه أو يمسه بأذى، ويقدسون في البقرة: اللبن والسمن والجبن والروث والبول، تمزج هذه كلها وتوضع في آنية ساعة الصلاة ويشربها القوم تبركًا، ويسمون هذا المزيج المقدَّس «پانشا جاڨيا»، ودهشت لما علمت أن البول أكثر هذه الأشياء طهرًا لديهم، فكثيرًا ما كنت أرى الناس يتعقبون بقرة ليتلقوا بولها في أيديهم ويمسحوا به وجوههم على قارعة الطريق، أو يأخذونه في آنية ويسرعون به إلى دورهم ليشربوه قبل أن يفسد، وهم يعدوننا أنجاسًا؛ لأننا نأكل لحم البقر، ولذلك فهم لا يسلمون علينا باليد، فكم من مرة مددت يدي أسلم على بعض مَن تعرَّفت بهم في القطار أو الطريق، وكثير منهم من المتعلمين، فكانوا لا يمدون اليد بل يضمونها إلى صدورهم لرد تحيتي. وحدث مرة وأنا في القطار إلى بمباي أن تقدَّم إليَّ خادم القطار بالطعام وفيه صنوف من اللحم، فما كاد رفقاء القطار الذين كنت أتحدث إليهم من الهنود يرون ذلك حتى اشمأزوا وتنحوا عني بعيدًا، وبعد عناء نجحت في استئناف الحديث معهم، وعلمت أنهم يستنكرون أكل اللحوم، وكان الواحد إذا تناوَلَ طعامه أخرج «عمودًا» به زهاء خمس طاسات وإلى جوارها طيات من ورق الموز، يفترش الرجل ورقة موز على مقعد القطار، ثم يفتح الطاسة بجهد لأن غطاءها محكم «بقلووظ» ويتناول الأرز بكامل يده، ويضعه على الورقة ويرش عليه بعض الدهن أو الزيت، ويلتهمه سريعًا محاولًا ألا يراه أحد؛ لأن نظر الأجانب لديهم نجس، فإن شك في أني رمقت طعامه ألقى به من النافذة وأخرج غيره، ولذلك فهمت سبب حمل عدة طاسات كلها من صنف واحد هو الأرز؛ ذلك لأنه معرض لنظرات الغير وعندئذٍ يصبح غير صالح للأكل. كذلك الماء فهم لا يشربون مطلقًا إلا من جرتهم الخاصة، وكلٌّ منهم يحمل جرة من نحاس محكمة القفل، ولقد أعدت لهم الحكومة في المحطات «حنفيات» خاصة يملئون منها جرارهم بأيديهم، خشية أن يمسها غيرهم من الغرباء أو ممَّن ينتمون إلى طبقة أحط من طبقتهم. وعدد طبقات الناس في الهند يناهز ثلاثة آلاف، كل واحدة تنظر للطبقة التي هي دونها باحتقار ولا تختلط بها ولا تصاهرها.
ولعل أعجب ما كان يثير دهشتي في بلاد الهند عامةً وفي بمباي والدكن خاصةً، طائفة المنبوذين الأنجاس، وهم فريق من الناس يناهز عددهم ستين مليونًا — أي نحو خمس سكان الهند — هؤلاء يعدهم الهندوس على اختلاف طبقاتهم أقل من الجنس البشري، ويعاملون باحتقار ولا يمنحون حقوقًا تُذكَر، فإن لمس فرد منهم إنسانًا أو طعامًا أصبح نجسًا، وحتى نظراتهم نجسة ولا يباح لهم دخول المحال التجارية ولا السير في الطرق العامة، فهم يشترون حاجاتهم بواسطة قوم يؤجرون على ذلك، وظلهم إذا سقط على شيء وجب إتلافه، وكم من مرة رأيت رجلًا أو امرأة من المتسولين يضعون وسط الطريق ورقة شجر وعليها كومة من تراب، ولما سألت عن ذلك علمت أنهم من المنبوذين الذين يجب عليهم أن يدلوا القسيس على وجودهم بتلك العلامات، فإذا رآها البراهما — وهو القسيس — وقف غاضبًا وصاح، فيجري الرجل المنبوذ مسافة مائة خطوة بعيدًا عن تلك العلامة، ثم يقف ويصيح معلنًا البراهما بأنه ابتعد القدر الكافي الذي لا تؤثر معه نجاسته، وكثير من المنبوذين يفوقون أفراد الطبقات الأخرى الراقية في شكلهم وهندامهم، ومع ذلك فإن المنبوذين لا يرون في تلك المعاملة ضيرًا ولا ألمًا؛ لأنها من أوامر الدين. وكنت أتحدث إلى بعضهم بالإنجليزية فيقول بأن الآلهة هي التي قضت عليهم بتلك الذلة والمسكنة، وعليهم أن يطيعوا ويصبروا ولهم أجرهم في الآخرة، على أنه بلغني أن كثيرًا من مثقفي المنبوذين بدءوا يحتجون على ذلك اليوم، ويقاومون هذا النظام وكثير منهم يعتنقون ديانات أخرى أو يلجئون إلى الإجرام والتشرُّد هروبًا من تلك المعاملة القاسية، وقد حاوَلَ غاندي في حركته الأخيرة أن يخفِّف من تلك الفوارق ويؤلِّف بين تلك الطبقات، فلم يفلح كثيرًا؛ لأن الأمر يمس صميم الدين في زعمهم، وكان ذلك أكبر عقبة في سبيل إصلاحاته.
قمت أتسلَّق جبال غاتة الغربية لأعبر هضبة الدكن عائدًا إلى مدراس، فاستغرق القطار في ذلك ٢٥ ساعة، وكانت مناظر الغابات والشلالات ونحن نصعد الهضبة ساحرة الجمال، أما سطح الهضبة فأرض مهملة في الغالب لا تشعر بشيء من الخصب الذي كنا نسمع عنه، وجل تلك الأراضي داخل في نفوذ «نظام حيدرباد» أغنى أمراء الهند الذي تُقدَّر قيمة جواهره وحدها بأربعين مليون جنيه، وهو مسلم مع أن تسعة أعشار رعاياه من الهندوس، وفريق ممَّن يخضعون له يدينون بمذهب «الجانية» الغريب. أذكر مرة وأنا في القطار أن حشرة كالنحلة ضايقتني بطنينها فوق زجاج النافذة، فقمت أضربها فأسرع رجل من آخِر العربة وأمسك بيدي وقال: لا تفعل. ثم تناول الحشرة بمنديله في رفق وألقى بها من النافذة وقال: إن مذهبهم يحرِّم قتل الحياة أيًّا كانت حتى الحشرات الضارة، لذلك فهم يكنسون الأرض قبل الجلوس، ولا يرشون الأرض بماء غزير خشية قتل بعض الأرواح الطاهرة، وهم يغطون أفواههم بشاشة أو قطعة من حرير خشية أن تدخل فيها بعوضة فتموت، وهم يكرهون الزراعة؛ لأن المحراث يُمِيت كثيرًا من الحشرات، وهم يرون أن روح الإنسان بعد موته تحل أجسادًا أخرى قد تكون لطائفة من الحيوان بعضها راقٍ والبعض خسيس؛ فالرجل الخبيث تحل روحه حشرة خبيثة، لذلك تراهم يقفون في سبيل مصلحة الصحة عندما تأمر الناس بقتل الفيران تخلُّصًا من براغيث الطاعون مثلًا، ولم ينجحوا في ذلك إلا بعد أن وعدوا الناس بأن الفيران ستُحبَس حتى تنقضي أزمة الطاعون، ثم تُطلَق الفيران ثانية.
وكنت أرى طائفة من الحيوان على اختلاف أنواعه تمرح طليقة وتمر إلى جوار الناس في الطرق وهي آمنة، فمثلًا لما كنت في كولمبو كانت صيحات الغربان المنفرة تقلقني وأنا في الفندق وتعشِّش في جوانب الحجرات، رغم ما بها من أثاث فاخر. وفي محطة مغول سراي عند أجرا رأيت مرة سربًا من الطاووس يفوق عدده المائة يمشي إلى جوارنا لا يزعجه أحد، وفي سوق دلهي رأيت قردًا يسرق الفاكهة ويأكلها من البائعين وهم يرونه دون أن يتعرضوا له. وقد زرت في بنارس معبدًا للقردة المقدسة تمرح في أعداد هائلة، وتُقدَّم لها القرابين والهدايا تبركًا، ولعل أعجبها معبد الأفاعي الذي رأيت به مائتي ثعبان يقدِّسها الناس ويطعمونها البيض يوميًّا، وقد ذعرت لما أن دخلت المعبد وأخذت الأفاعي تتدلى من الجوانب وتعلق بكل شيء، وبعضها كان يلقي بنفسه على الزائرين، وهي لا تلحق بهم أذى رغم أن أسنانها لم تُنزَع عنها، ويُطلَق سراحها لتزحف في الغابات المجاورة أثناء الليل، ولا يكاد الصبح يتنفس حتى تسرع بالعودة إلى مقرها من هذا المعبد.
وصلنا مدراس، ومنها عدت إلى جزيرة سيلان، ومن ثغر كولمبو ركبت الباخرة عائدًا بعد أن استغرقت زيارتي للهند ما يزيد على شهر ونصف قاسيت خلاله الأمَرَّين من بعد الشقة وهجير الحر اللافح والخوف من الأمراض المنتشرة، وقد بلغ مجموع الساعات التي ركبت فيها قطار سكة الحديد في طوافي بالهند تسعة أيام وخمس عشرة ساعة كاملة، مما يدل على المساحات الشاسعة التي قطعناها في تلك البلاد؛ ولذلك لا تعجب إذا علمت أنني دفعت واحدًا وعشرين جنيهًا ثمنًا للتذكرة التي طفت بها تلك الأرجاء في الدرجة الثانية.
غادرت الهند، تلك البلاد التي زهد أهلها في الدنيا رجاء الخير في الآخرة على ما يقولون.
بلاد تعدَّدت عقائدها ومعبوداتها حتى ملأت آفاق الهند معابدهم، مما أذكرتني بعهد أجدادنا الفراعنة، لذلك كانت شعائر الديانات تبدو في حركاتهم جميعًا، وعقلاؤهم يمضون وقتهم في التفكير العميق، ويفنون أجسادهم في سبيل تغذية أرواحهم ونفوسهم، فتقتصر أمانيهم على خرقة تستر العورة، وطعامهم لا يتجاوز سد الرمق وغلاتهم يسمون «الفقراء» ويقدسهم مواطنوهم؛ لأنهم نبذوا الدنيا، فكنت أرى بعضهم يعذب نفسه وينام على الشوك أو «المسامير»، والبعض يخزم ظهره «بسنانير» تُربَط في حبال، ويُعلَّق الواحد منهم في الهواء استرضاءً للآلهة، والبعض يدفن نفسه حيًّا أو يرفع ذراعه إلى السماء حتى تتصلب عضلاته، أو يقف طول حياته وهو يرعش جسده ولا يتكئ على شيء ليخفِّف من آلامه.
تلك لمحة عن الهند وأهلها الذين لا يسع مَن يراهم إلا أن يعطف عليهم ويتألم للسعادة الموهومة التي هم فيها.