مشاهداتي في بلاد اليابان
لا تزال ذكرياتي الجليلة عن بلاد اليابان ماثلة أمامي، لا تفتأ النفس تحن إليها حنينها إلى المثل الأعلى، فهي للشرق كله خير وقدوة.
وصلتها الباخرة اليابانية «سوامارو» في أربعة وعشرين يومًا، وما كادت تدخل بحر اليابان الداخلي حتى تجلت روائح الطبيعة في جزائرها المنثورة في غير حصر تزينها الخضرة، رصعت بالمباني الخشبية البراقة، ثم أقبلنا على كوبي وهي أكبر ثغور اليابان التجارية، وتقع في حجر جبل شاهق، وما أن حللت أرضها حتى بدت الحياة اليابانية في مظهرها العجيب الجميل: الناس يسيرون في سيل دافق وقد لبسوا جميعًا الأردية الواسعة الفضفاضة «الكمونو» التي تحكي القفطان عندنا في ألوان زاهية وبقع ملونة، لا تسمع لهم جلبة ولا ضوضاء، اللهم إلا فرقعة قباقيبهم الخشبية التي يلبسونها جميعًا نساءً ورجالًا، ويسيرون بها في سرعة عجيبة، ومن تلك القباقيب ما يزيد ثمنه على نصف جنيه وبخاصة للسيدات، فهي من خشب اللاكيه الثمين يُبطَّن بالقطيفة الوثيرة، وأجمل ما راقني مظهر السيدات وعلى ظهورهن فراشة ضخمة هائلة هي من تقابُل طرفي الحزام الذي يلبسنه جميعًا، وقماشه من حرير ثقيل ثمين وطوله أربعة أمتار، ولا أنسى خجلي ساعة أن سألت صديقًا يابانيًّا عن السبب الذي من أجله يحمل النساء تلك الوسائد الثقيلة وراء ظهورهن، فكان جوابه بأنها ليست وسائد بل هي طرف «الأوبي»، ربطه هكذا في شكل الفيونكة الكبيرة زينة وتجمُّلًا. وكان يدهشني تنوع ألوان معاطفهم وبخاصة النساء، وقد علمت أن السيدة لا تلبس من لون سبقتها إليه غيرها، لذلك تُنسَج الأقمشة لهن في قطع تكفي كل واحدة لرداء ليس غير، والنساء هناك سافرات ويزين رءوسهن تاج من شعر أسود برَّاق، أُقِيم في كور مختلفة وشُدَّ على شباك من السلك في أشكال فنية منوعة، والشعر عندهن شعار الجمال؛ لذلك قَلَّ أن يغسلن رءوسهن، بل يتخذن الأدهنة محافظة على الشعر، وتزور الماشطات البيوت كل أسبوع، وقد يبلغ أجر الماشطة جنيهًا عن كل مرة. قمت بقطار الكهرباء إلى ضاحية «أرا شياما» برفقة فوزي بك قنصل مصر في اليابان إذ ذاك، فتجلت بدائع الطبيعة في جبالها وشلالاتها وبحيراتها، وكنا قد خاطبنا فندقًا بالتليفون ليعدَّ لنا مكانين في طعام الغداء، وأقَلَّتْنا سيارة إليه بعد أن أخذنا بنصيب من جمال تلك الضاحية الساحرة، وما كدنا نقارب الفندق حتى أسرع صحبه رجالًا ونساءً وأتباعًا يتقدَّمهم الرئيس ووقفوا بالباب وصاحوا صيحة استقبال، ثم أخذوا يكرِّرون الانحناءات ونحن نردُّها بمثلها أو يزيد انحناءً حتى كادت في آخِر الأمر تلمس الرءوس الأرض، وذلك إمعانًا منهم في التأدُّب، وأنت ترى ذلك طوال الطريق كلما لاقى صديقٌ صديقَه.
رأينا إلى جانبي المدخل رفوفًا تصف عليها القباقيب والأحذية، فخلعنا نعالنا وناولتنا الفتاة خفًّا من خوص لم يكد يدخل في أرجلنا؛ لأن اليابانيين قصار القامة وأقدامهم أصغر من أقدامنا، ثم تبعناها في أزقة الدار الخشبية التي كانت تترنح تحت أقدامنا، وقد كسيت أرضها بالحصير الثمين الطري، ولما وصلنا غرفتنا خلعنا الخفاف ولم نجد بها من الأثاث إلا بعض الشلت من الحرير أمامها مناضد براقة وطيئة صغيرة، وقد أجلسونا إلى جانب مقصورة بها زهرية يطل إلينا منها زهر جميل رُتِّبَ في شكل خاص، وللزهر وتنسيقه لغة يفهمها الجميع ويدرسها الأطفال منذ الصغر، وحتى في رسائلهم يستخدمون أسماء الزهور بدل كتابة التاريخ، ولهم في ذلك تقويم معروف، ولكل أسبوع زهرة خاصة تدل عليه.
جلسنا القرفصاء على الشلت فتقدمت الفتاة بكوبين صغيرين من شراب منفر المذاق هو من منقوع مسحوق الشاي، ثم دنت فتاة أخرى وبيدها سلة من خيزران رفيع «بامبو» بها فوطة مبللة ساخنة يتصاعد منها البخار، فنظرت حائرًا ماذا أفعل فعجل صديقي بتناولها ومسح بها وجهه ويديه، فحذوت حذوه وشعرنا بعد ذلك بانتعاش كبير، وتلك الفوطة تُقدَّم في كل مكان حتى في المحال التجارية. ثم أقبلت الفتاة تحمل الشاي المر المخفَّف وقد شربناه في أكواب من خشب اللاكيه، وبعد قليل قاربتني الفتاة وهمست في أذني، فعلمت أنها تريد أن أقوم فأخلع ثيابي، وقد لازمتني وهي تساعدني وأنا أخلعها، ثم أرخت على جسدي الكيمونو وأنا خجل مطأطئ الرأس، جاء دور الحمام وأشارت إليَّ فلم أفهم، فقال لي صاحبي أن قد أُعِدَّ الحمام لي ولا يصح رفضه؛ لأنه فرض على الجميع، وهم يستحمون مرتين يوميًّا في فصل الصيف. قادتني هي وجمع من صويحباتها فدخلت غرفة صغيرة مدت بها الشلت وإلى داخلها حوض الماء وحوله الجرادل والأكواز وكلها من الخشب، وكان الماء ساخنًا جدًّا وهم يستحمون به في درجة ٥٠°م حتى في الصيف. وقفت الفتاة تنظر إليَّ وأنا أنظر إليها منتظرًا أن تخرج، فأدركَتْ حيرتي وارتباكي وانسحبت، فحاولت غلق الباب وراءها فلم أجد به شيئًا يُغلِقه، فخلعت ثيابي وإذا بها تدخل عليَّ فخجلت وجلست منكمشًا إلى جانب الحوض، فدهشت وخرجت، فأسرعت بدعك جسدي بالصابون، ولم ألتفت إلا وهي تقف حولي ومعها جمع من الآنسات، فتخلصت من ذلك الموقف بأن ألقيت بنفسي في الحوض رغم حرارته المحرقة، هنا صاح الجميع وعجلوا بالخروج وزاد الهرج، وإذا بهم يعودون مع صاحبي وصاحب الفندق، فقال لي صاحبي: أنت غطست في الحوض؟ قلت: نعم، أليس هو مُعَدًّا لي. قال: لقد أفسدت كل شيء، فهذا العمل يُعَدُّ لديهم رجسًا ونجاسة، ولقد حرمت غيرك من الاستحمام طوال هذا اليوم حتى يجف الحوض ويطهر. فأخذت أنا وصاحبي نعتذر عن جهلي بعاداتهم، فكان موقفًا مخجلًا ما كنت أحب أن أقفه أبدًا، وعجبت لما علمت أنهم لا يرون عيبًا في أن يظهر الواحد عاريًا، وكثيرًا ما كنت أرى فقراءهم يستحمون إلى جوار البيت على قارعة الطريق! ولم يكن ذلك يسترعي أنظار أحد من المارة سواي.
أخذت مكاني من المائدة الصغيرة ومن حولنا الفتيات يسامرننا، ولا يصح في آدابهم أن يُترَك الضيف وحيدًا لحظة واحدة. جاء الطعام يُحمَل على صواني خشبية صغيرة في أواني برَّاقة من اللاكيه، وجلها مكور كأنه «السلاطين»، ثم وُضِع إلى جانب ذلك برميل كبير نظيف مليء أرزًا مسلوقًا ناصع البياض وفي حجم كبير، ملأت الفتاة لي آنية الأرز وسلمتني إياها وفيها عصوان دقيقتان كأنهما أقلام الرصاص، وذلك الأرز يؤكل بدل الخبز، فنحمل قطع الطعام الأخرى بتلك العصى، ثم نخلطها بالقليل من الأرز في سرعة هائلة ونلقي بها إلى أفواهنا، أما صنوف الطعام فكانت غريبة لديَّ: قطع من سمك نيِّئ مثلوج، إلى جانبه سائل كأنه الخل، ثم شربة السمك الباردة، ثم شواء السمك ونوع كأنه الجمبري، وإلى جانب ذلك بعض البطاطا وأعشاب البحر والخضر المملحة. بدأ القوم الأكل في مهارة ظهرت إزاءها بمظهر الربكة والحيرة، فكنت مثارًا لضحكهم كلما حاولت رفع الطعام بالعصوين فتهوي شظاياه على ملابسي وتتناثر هنا وهناك، هذا إلى طعم ذاك الغذاء المنفر المذاق، وأخيرًا قدمت صينية الحلوى وجلها من البلوظة «العادمة»، ثم فاكهة كأنها أعواد البازلاء «البسلة»، وكان خلال كل أولئك كلما فرغ إناء الأرز ملأته الفتاة لي ثانية من البرميل، وكانت فتاة أخرى تملأ كأس الساكي وهو خمرهم المتخذ من الأرز بطعمه اللاذع البغيض، وتعيد الكرة مرارًا، وبين آونة وأخرى يجب أن يملأه الضيف لها بعد غسله فتشربه هي، ثم تعيد غسله وتقدمه لنا ثانية، ولكي ندلهم على الانتهاء من الطعام يجب أن نبقي في الإناء قليلًا من الأرز، ونصب عليه الشاي المر، ونرتشفه في صوت مرتفع. ثم يُقدَّم الشاي المر مرارًا، وهو خفيف جدًّا، وقد يُقدَّم مثلوجًا في أكواب كبيرة.
قمنا ننصرف فعجل القوم بوداعنا على الباب، وتقدَّم زعيمهم بهدية هي منديل بسيط لُفَّ في ورق لامع شفاف، ورُبِط بشريط ملون في طرفه قطعة من سمك ناشف؛ لأن السمك لديهم بشير الخير ودافع السوء.
قمت إلى يوكوهاما لكني لم أَرَ بها ما يستحق الذكر؛ فهي ثغر يحكي البلاد الأوروبية، وكانت آثار الهدم الذي سبَّبه الزلزال لا تزال ماثلة في أحيائها كلها، وقد دكَّها دكًّا. أخذتُ القطار الكهربائي إلى طوكيو، ووسائل النقل هناك متعددة وسريعة وكلها بالكهرباء التي استغلوها من منحدراتهم في أغراض شتى، وكنت أعجب لشدة عنايتهم وإسرافهم في تأثيث تلك المركبات من فرش وثيرة وشماعات من النيكل البراق وداليات من جلد وعاج، وزاد عجبي أدب الكمساري الذي كان يستأذن ويدخل العربة، ثم ينحني تأدُّبًا ويقول: سادتي نحن مقبلون على محطة كذا، ثم ينحني ثانية ويرجع بظهره إلى الباب، وكنت أسمع طوال الطريق كلمة «أرجاتوسان» أي: شكرًا سيدي، يقولها الناس بعضهم لبعض، وحتى سائقو السيارات يحيي الواحد زميله كلما مرَّ به. حللت مدينة طوكيو فراعتني عظمتها ونظافة طرقها، فهي تتخذ المدن الأمريكية مثلًا لها، وقد استرعى نظري البوليس في موقفه على رءوس الطرق، فهو مهيب الجانب وإن بدا قصير القامة غير جذَّاب الهندام، ولا أنسى يومًا باغتني فيه جندي قائلًا: أأنت المستر ثابت المصري؟ ما لي أراك حائرًا؟ تريد دار القنصلية المصرية؟ فقلت: نعم، إني إخالني ضللت الطريق إليها. وقد قصَّ عليَّ فوزي بك نبأ طلياني انتقل إلى بيت جديد هناك، ولما عاد في المساء ضلَّ طريقه إليه، فلاحظ البوليس حيرته فباغته قائلًا: تعال معي أوصلك إلى بيتك الجديد. وفي ذلك ما يؤيِّد شدة يقظة البوليس الياباني، وخاصة في مراقبة الأجانب.
مررت في جولاتي بميدان القصر الإمبراطوري، فبدا المكان فاخرًا إلى حد كبير، فأمسكت بالفتوغرافية وأخذت ألتقط ما راقني من مناظره، وإذا بفارس يتقدَّم إليَّ ويمسك بالآلة ويفسد الفيلم في رفقٍ، وقال بالإنجليزية: ذلك ممنوع يا سيدي احترامًا لابن السماء وحرمةً لداره. وهم يعبدون الإمبراطور؛ لأنهم يرونه من سلالة انحدرت عن الشمس، والعجيب أنه إذا مرَّ موكبه في الطرق، وهذا نادر جدًّا، أُغلِقت جميع النوافذ؛ إذ لا يصح النظر إليه من مكان مرتفع عنه، ويقف الناس ووجوههم إلى الأرض، وأعجب من ذلك أن رجال البوليس يقفون وظهورهم للإمبراطور ووجوههم للناس، وحتى سفراء الدول إذا دعوا في حفلة رسمية يظهر عليهم الإمبراطور من مكان مشرف ويرفع يده من بُعْد وهم وقوف في صفوف مستقيمة.
طلبت من صديقي يوكوياما في وزارة المعارف أن أزور الجامعة، فطفنا بأرجائها لكنها كانت في عطلة الصيف، ولقد حدَّثني عن التعليم فقال: إنه نُقِل عن أمريكا وقد بدأت العناية به منذ سنة ١٨٦٩، يوم أقسم الإمبراطور العظيم «ميجي» ألَّا تبقى في اليابان عائلة جاهلة ولا عضو أمي، وقد تحقَّق ذلك فأصبحت لا تزيد الأمية اليوم على ١٪ من مجموع سكان الجزائر الأصلية وعددهم فوق سبعين مليونًا، ومدة الدراسة الابتدائية ست سنين، وفيها يدرس التاريخ والأخلاق واللغة القومية، وهو إجباري ومجاني للذكور والإناث. ثم التعليم المتوسط «الثانوي» خمس سنين وهو مجاني أيضًا لكنه غير إجباري؛ إذ لا تطيق المدارس أكثر من ١٠٪ من حاملي الشهادة الابتدائية، لذلك يعقد للدخول امتحان مسابقة. ثم التعليم الإعدادي أربع سنين، ثم الجامعة ثلاث سنين، ولا يتخرج الطالب قبل سن ٢٦، وسبب ذلك التأخير يعزى إلى صعوبة اللغة اليابانية التي تتطلب ثلاث سنين وحدها، وكذلك إلى أن الياباني يتلقى ثقافتين الثقافة القومية والثقافة الأجنبية، والطلبة جميعًا يلبسون أردية موحَّدة الزي، وذلك نظام نُقِل عن ألمانيا.
قمت بالقطار السريع إلى كيوتو ومعناها العاصمة الشرقية، فوصلتها في عشر ساعات، فبدت لي أكثر المدن محافظةً على القديم وأشدها اعتزازًا بكل ما هو ياباني، وأول ما يلفت النظر كثرة المعابد وروَّادها، مما دلَّني على أن اليابانيين قوم متدينون إلى حد كبير، رغم ما كان يبدو لي من سذاجة معتقداتهم، فالطبقات الراقية دينهم الشنتوية لا يعتقدون في بعث ولا نشور، وديانة العامة البوذية وكلاهما يقدِّس الأجداد ويعبد الطبيعة، ويظهر أن لجمال طبيعتهم وروعتها أثرًا في تلك العقائد، حتى إني كنت أراهم يقيمون البوابات الخشبية المقدسة عند مدخل كل بقعة جميلة، وهم رغم تدينهم ليسوا متعصبين، وكثيرًا ما كنت أرى القسيس يصلِّي في معبدين أحدهما شنتوي والثاني بوذي. أما عن متنزهات كيوتو فحدث فهي في كل مكان وفيها تكثر المجاري السريعة والصخور المنثورة والأشجار التي تتعدد وتتنوع خلف بعضها، بحيث لا يمضي أسبوع من العام دون أن ترى ألوانًا مختلفة من الزهور في كل حديقة، وحتى بيوتهم الصغيرة تُزوَّد بحديقتين أكبرهما داخلية لحرم الدار.
قمت إلى أوساكا: المركز الصناعي، ويعدونها منشستر اليابان، فبدت مداخن المصانع وكأنها الغابات من كثرتها. هنا أضافني صديق ياباني اسمه «أوتسومي»، تناولت عنده طعام العشاء ودهشت لما رأيت جمعًا من الفتيات يعنون بأمري، ويظهر أنهن من السميرات اللاتي يُستأجَرن لهذا الغرض، وكنا نجلس في البيت وكأنه كله بهو واحد جميل يطل على الحديقة، وعندما قرب ميعاد النوم بدأ الفتيات يحركن جوانب الجدران والحوائط الخشبية، فأخذت تنزلق الواحدة تجري أمام الأخرى فانقسم البهو الفسيح إلى حجرات ضيقة شأنهم في جميع بيوتهم، وحصرت أنا في واحدة منها، ثم مُدَّتِ المرتبة على الأرض وعند طرفها وُضِعت وسادة من خشب وشُدَّتْ نموسية خضراء إلى جوانب الغرفة، ولما أن هممت بالنوم بدت لي المرتبة قصيرة، فكانت قدماي تتدليان من جانب ورأسي من الجانب الآخَر، وقد حاولت أن أنام على تلك الوسادة الخشبية فلم أستطع، والعادة أنهم يضعون رقابهم عليها والرأس مدلى من الجانب الآخَر، وكنت أعجب كيف يستريح الواحد منهم، وهم يقولون بأن لهذه الوسائد الفضل في طول رقاب اليابانيات وجمالها، والذي دعاهم إلى ذلك محافظة النساء على شعورهن الجميلة من أن تعبث بها وسائدنا المألوفة. قدَّمت لي الفتاة الشاي المر الذي لا بد من شربه قبل النوم مباشَرَةً؛ لأنه يطهِّر الفم، ثم أشعلت المبخرة التي تظل تحترق طول الليل لتطرد البعوض الكثير هناك، على أن رائحة البخور كانت منفرة للغاية ولم أطقها لذلك قمت فأطفأتها، ولم أنم ليلتي؛ لأن قعقعة جوانب الدار وصفير الريح فيها كان كفيلًا بذاك الأرق الطويل.
وكم أكبرت فيهم إخلاصهم الشديد لأسرتهم وولاءهم لوطنهم، فالعائلة هناك أساس المجتمع، وللعائلة حقوق على أفرادها واجبة الأداء، والفرد يضحِّي بمصلحته الشخصية في سبيل الحرص على صالح الأسرة، فهي التي تتصرف في زواجه وتعليمه ومستقبله، ومَن لم يخضع لذلك حُرِم شرف الانتساب إلى أسرته فينبذه الجمع، ويكاد لا يوجد الولد العاق مطلقًا، فإذا أراد الشاب الزواج اختار له أهله الزوجة الصالحة، بصرف النظر عن ميول الشاب نفسه. ونظام العائلة عندهم يحتم أن يأخذ الكل يناصر مَن أصابه ضر من أفرادها، حتى ولو تطلَّبَ ذلك كل أموال الأسرة؛ لأن عجزها عن إنقاذ أحد أفرادها عار كبير، ولهذا لم تكن اليابان في حاجة إلى ملاجئ ولا شركات للتأمين، وأظهر ما يبدو هذا التعاون عند حلول النكبات العامة كالزلازل والحروب، وهنا تجد الجميع يتطوعون للخدمة والإنقاذ، كذلك في دور الصناعة حين يمتنعون عن طلب الزيادة في الأجور خشية أن يتأثَّر بذلك مركز المصنع الذين يفاخرون بنجاحه على أيديهم، وكثيرًا ما تنازل العمال عن رواتبهم عند الأزمات لكيلا تكسد التجارة اليابانية في الأسواق، وذلك يتنافى مع وطنيتهم. ولقد لمست هذا الإخلاص في موظفي القنصلية المصرية هناك، فهم رغم رواتبهم الضئيلة منكبون على عملهم في تفانٍ وإخلاص مشكور.
وللياباني قدرة عجيبة على العمل وكسب العيش؛ فكل فلاح يربي في بيته دود القز، ويحصل من إنتاجه على ما يقرب من نصف إيراده السنوي، وأغلبهم يستخدم واجهة بيته الصغير حانوتًا يعرض فيه بعض المبيعات، ولا يشترط أن يمكث هو يراقب حركة البيع، بل يكفي أن تكتب الأثمان على السلع فيأخذها المشترون ويلقون بالثمن المكتوب في صندوق النقود دون غش أو اختلاس. فانظر مبلغ أمانتهم وصدق معاملتهم! وكثير منهم يُقِيمون في البيوت مصانع لإنتاج بعض المنسوجات أو اللعب أو أشغال اللاكيه والخيزران، وساعدهم على ذلك استخدام الكهرباء الرخيصة في إدارة آلاتهم الصغيرة، وذلك يدر عليهم مالًا وفيرًا. ومحافظتهم على العهد مقدَّسة، فالدائن إذا أقرض أحدًا بعض المال لم يستكتبه صكًّا بذلك، بل يقول له: إن لم تدفع دينك في الميعاد، أفشيت الأمر إلى عشيرتك وجيرانك. وفي ذلك فضيحة كبرى له، ويحاول الدائن أداء دينه قبيل أول العام الجديد حتى ولو اضطره ذلك إلى بيع بعض أثاث بيته، ولذلك تكثر المبيعات في الأسبوع الأخير من كل عام، وقد يستحل بعضهم السرقة لوفاء دينه؛ لأن عدم الوفاء بالعهد جريمة أكبر من جريمة السرقة، ولذلك كانت غالب حوادث السرقة في الأسبوعين الأخيرين من السنة. وقد أصابني شيء من هذا يوم أن كنت أشاهد رواية شعبية في تياترو «تاكاراسوكا» في ضاحية من كوبي، تركتُ آلة التصوير في الفترة بين الفصلين ولما عدت لم أجدها، فأبلغت البوليس فناداني باسمي وكأنه عليم بوجودي في هذا المكان، وأخذ يعتذر لي عن حدوث هذا، وهو أمر غير مألوف في بلاد اليابان طرًّا، وأكَّدَ لي بأنه سيبحث عنها وأنه واثق من العثور عليها؛ إذ لا يضيع شيء في بلاد اليابان، وأخذ عنواني وهو مضطرب متألم؛ لأنه رأى في ذلك جرحًا للعزة القومية وخدشًا للشرف الياباني الذي يحميه الجميع.
(١) نهضة اليابان
خالفت اليابان في نهوضها سائر بلاد الدنيا، ففي إنجلترا مثلًا نهضت الصناعة على أساس المجهود الفردي والمنافسة الحرة، فكفت الحكومة عن تدخُّلها، فلم يكن للتعاون التام ولا للإشراف الحكومي أثر، أما في اليابان فقد قامت الصناعة على كواهل الدولة وذلك لعدم وجود طبقة من أغنياء التجار الذين أمدوا الصناعة في إنجلترا بالمال، إلى ذلك احتقار طبقة التجارة في اليابان وقلة خبرتهم بسبب عزلتهم عن الأجانب.
فبينا نجد النهوض الصناعي في الغرب هو الذي أثَّر في النظم السياسية إذا بالأمر على النقيض من ذلك في اليابان، حيث كان الانقلاب الصناعي نتيجة مباشِرة لتغيير نظام الحكم، فالدولة هي التي فتحت المصانع ولا تزال تديرها، وهي التي أوفدت الطلبة ليتعلموا الصناعة والتجارة في الخارج، واستقدمت الأجانب الخبراء، وحتى المصانع التي انتقلت إلى أيدي الأفراد لا تخلو من رقابة الحكومة. ومما ساعد الصناعة في اليابان أنها نجت من مقاومة فئة الممولين الأقدمين الذين تعرَّضوا للخسائر فناوءوا الصناعة في أوروبا، إلى ذلك فإن النهوض الصناعي جاء في وقت ظهر فيه فضل الإنتاج الكبير الذي لا يقوى عليه الأفراد بل الجماعات والمتعاونات، فبينما يكره الناس تدخل الحكومات في الغرب إذا الأمر في اليابان على نقيض ذلك؛ فالإشراف الحكومي في صميم نظامهم الاجتماعي الذي يحتم الطاعة للأسرة وللدولة — وعيب ذلك القعود بقوة الابتكار — فاليابان تعد المثل الأعلى للنهوض الصناعي في القرن العشرين كما كانت إنجلترا في القرن التاسع عشر، وقد خدم هذا النهوض ظروف عدة أهمها: ضم كوريا ومنشوريا الذي يطلب القيام بمشروعات كبرى كالسكة الحديد والمصارف والمتاجر، كذلك قيام الحرب العالمية قلَّل مزاحمة أوروبا لها في السفن والمنسوجات والآلات الحربية؛ فبنت سفنًا كثيرة وضاعفت مغازل القطن، وحتى القطن الراقي الذي كان حكرًا لإنجلترا، وبذلك أصبح أغلب الواردات من الخامات — عدا الحرير الخام — خصوصًا القطن والمواد الغذائية، أما الصادرات فمن المصنوعات وذلك عكس ما كانت عليه الحال تمامًا.
ونلاحظ أن ٦٠٪ من صنَّاع الإنتاج الكبير من السيدات، وهن أرخص من الرجال، ومن ثَمَّ كانت سلع اليابان رخيصة جدًّا، وجل مصانع الإنتاج الكبير تحت إشراف الدولة، وبهذا أمنت المزاحمة القاتلة، فهل لحكومتنا أن تنقذ الصناعة بشيء مثل هذا؟ وليس للبطالة خطرها في اليابان؛ لأن الرابط العائلي المتين هناك يحتم عليهم أن يموِّلوا العاطل منهم، وقد يلجأ العاطل إلى الزراعة السائدة هناك وفي هذا شبه بمصر، والمشكلة الرئيسية زيادة السكان، ففي خمسين عامًا ضوعف العدد تمامًا، والزيادة مليون كل سنة، والزراعة هناك لا تمون سوى النصف فقط، لذلك كثرت الواردات من المواد الغذائية، ولا سبيل إلى ابتلاع زيادة السكان سوى الصناعة وهي نفس المشكلة عندنا.
وثانية المشاكل اعتماد البلاد على غلتين: الحرير الخام ٤٥٪، والقطن المنسوج ٢٠٪ فهما ثلثا الصادرات.
ودعامات المدنية هناك لا تزال شرقية في الفلسفة والاجتماعيات والدين والسياسة، أما في الماديات فغربية، فلقد جمعت بين النقيضين الشرق والغرب، وكانت حكيمة فيما نقلته عن الغرب، فلم تتعصب لدولة دون غيرها، بل نقلت من كل دولة أحسنها، وبذلك جمعت بين الحضارتين الشرقية والغربية مع الاحتفاظ بقوميتها، فهل لنا أن نفعل ذلك؟
ولم تستطع فلسفة أوروبا أو أمريكا التأثير على الياباني، فهو في نظره يقول ما لا يفعل، ويعتقد أنه صادق نظريًّا مارق عمليًّا؛ لأنه مسيحي لكنه لا يعمل وفق تعاليم دينه، على أن انتشار اللغة الإنجليزية وأفلام السينما الأمريكية سيكون لهما أثر ولو بعد حين.
أخلاقهم واجتماعياتهم
يحقد الأوروبي على الياباني، ويتهمه بالغدر وحب السيطرة والتجرد من الضمير، ولكنه مخطئ؛ إذ يحاسبه كما يحاسب بني جنسه، فهو لا يفهمه كما نفهمه نحن المصريين، فمثلًا يرى الياباني النقد الصريح قلة ذوق وسوء أدب، ويجب أن يكون تلميحًا، كذلك لا يصح أن ترفض له طلبًا أو تبلغه نبأً مؤلمًا إلا إذا ألقيته إليه مخفَّفًا، كذلك يتهمهم الأجانب بالغش والتقليد، وذلك كان يحدث في الغرب عند بدء النهوض الصناعي، وينفي ذلك أنهم كثيرًا ما يتركون متاجرهم مفتوحة ويضعون الثمن على السلع، وعليك أن تضع الثمن المكتوب بنفسك وتأخذ السلعة دون أن يراك أحد. وهو يفضل التراضي والتسامح على المخاصمة حتى ولو كان صاحب حق، ولا يصح في آدابه أن يظهر مقطب الوجه مهما كان لديه من هموم، لذلك امتاز على سائر الشعوب بالقدرة على ضبط النفس، ومن هنا جاء احتقارهم للغربيين الذين يهتاجون لأقل شيء. والأجنبي يرميه بقلة الذوق لأنه مثلًا يرتشف الماء عند الشرب بصوت مرتفع، ولأنه لا يقف للسيدة، بل للطفل وللمسن فقط، وهذا متفق مع تقاليدنا نحن وليس فيه عيب. وهو حَذِر جدًّا لا يظهر ما يكِنُّه، وتلك صفة أهل الجزائر بسبب عزلتهم ولأنه يعتقد أنه يمثِّل بلاده وهو يتكلم، وهم لا يقبلون النصح من الأجنبي خشية أن يتهموا بالجهل والضعف، وتعوزه الروح الرياضية فالمباريات عندهم تشبه الحرب، خصوصًا إذا كانت ضد الأجانب. وهم في التضحية للصالح العام أرقى شعوب الدنيا، وكذلك حبهم للجمال الذي يحرصون عليه في كل ناحية؛ فهو يفضل جانب الجمال ولو كان ذلك على حساب راحته، وذلك مستمد من بيئتهم الصغيرة التي تفاجئهم بالمناظر الأخاذة حتى في المسافات القصيرة.
وشتان بين الغربي الذي هجر تقاليده وعاداته وأصبح طليقًا يفعل ما يشاء، وبين الياباني الذي يتمسك بتقاليده القومية إلى أقصى حد، فينكر ذاته ومصلحته الشخصية أمام الصالح العام وصالح الأسرة حتى في زواجه، ولا يوجد الولد العاق هناك مطلقًا، حتى خفَّف ذلك على الدولة والقضاء؛ لأن الفصل في أغلب الخصومات للأسرة دون حاجة إلى الالتجاء إلى القضاء — وذلك ما بدأ يتلاشى في مصر لسوء الحظ بسبب التقليد الأجنبي الأعمى عندنا — وهو لا يرى أن الحب هو أساس العلاقة الزوجية كما هي الحال في الغرب؛ لأن الحب في نظره له خطره وأثره الضار، والطلاق مباح لكن بعد موافقة العائلة، ونظام التبني شائع لضرورة وجود رجل يمثِّل العائلة، وكثيرًا ما يكون ذلك بين الرجل وأكفأ عماله، وذلك سبب من أسباب نجاح الأعمال هناك، وقد يخيل للغريب أن المرأة محتقرة خصوصًا وأنه لا يتاح للرجل أن يصحبها معه إلى الملهى مثلًا ولا يراقصها مطلقًا، لكنها سيدة منزلها والمشرفة الحقيقية على تربية بنيها، ورغم ما خلفه الخضوع للعائلة من ضعف الاستقلال الشخصي وقوة الابتكار، فإنه منع التسول والتشرد والبطالة؛ لأن العائلة مكلَّفة أن تعول كل أفرادها، لذلك لم تكن اليابان في حاجة إلى ملاجئ أو شركات تأمين فالعائلة تكفل لأفرادها جانبًا من الرخاء، لذلك شبَّ الياباني على التعاون الصحيح؛ لأنه جزء من المسئولية الاجتماعية، لذلك يشعر العامل في أي جهة بأن معاونته على إنجاح العمل الذي هو فيه من أقدس واجباته؛ لأن فيه ربحًا من النواحي المادية والأدبية والقومية، فالياباني خاضع لرؤسائه الذين تجب لهم الطاعة، ولأنداده لأنه فرد منهم، ولمَن هم دونه مقامًا مخافة الرأي العام، فكثيرًا ما يتنازل عن حقه ليحسن جيرانه الرأي فيه.
وهم كرام لكن في غير إسراف خشية نقد الرأي العام. حدث أن أضافني رجل موسر أيامًا فكنا في بلده نركب أرخص وسائل النقل، وإذا ما بعدنا عنها أعد لي أفخر العربات وأغلاها؛ وذلك لأنه أمن نقد معارفه في بلدته، هذا ما يوقف استبداد الغني بالفقير هناك، ولقد زاد هذا الرباط الاجتماعي الدين الشنتوي الذي يتلخَّص في تقديس الآباء وعبادة الطبيعة، فأنتج ذلك استمساكهم بأرضهم وقوَّى رباط القومية، ولقد أثَّر ذلك في ميلهم للألفة والاجتماع؛ فهو يخالط أفراد عائلته ويوقفهم على جميع أسراره — رغم أنهم حذرون جدًّا مع الأجنبي — لذلك ترى الياباني إذا عرفته يسألك عن تفاصيل شخصية قد تراها فضولًا منه، لكنه يعد ذلك شدة اهتمام بشأنك. ذلك مثل من نظامهم الاجتماعي الرصين البديع الذي بدأ يفتر قليلًا بسبب زيادة عدد العمال وانتشار سبل المواصلات العالمية، وقد يقضى عليه قضاءً تامًّا بعد هزيمة اليابان المنكرة بسبب اندفاعها الجنوني وراء إشباع الروح العسكرية، وفي ذلك لا شك خسارة كبرى لليابان خاصة وللعالم كافة.
(٢) كوريا ومنشوريا والصين
نقلتنا السابحة من شيمونوزيكي في طرف اليابان الغربي إلى فوزان في طرف كوريا الجنوبي الشرقي في ليلة كاملة، وحللنا أرض كوريا ويسميها اليابانيون شوزن أو أرض الصباح الهادئ، وأقَلَّنا القطار إلى العاصمة سيول في عشر ساعات وسط أرض شبه مجدبة يندر بها الشجر، وقراها أخصاص فقيرة من الخشب يكسوها الطين وسقوفها كأنها النواقيس أو الأهرام، وأساس طعام الفقراء الذرة، أما الأرز فللأغنياء، وبدا الناس أطول قامات وأفقر حالًا، وندرت الأردية اليابانية وبدت أسوار المدينة القديمة ببواباتها الهائلة، ورأيت هناك ناقوسًا ضخمًا كان يدق لتتفتح أبواب المدينة كل يوم، أو لتغلق ليلًا، أو ليفسح الرجال الطريق للنساء كي يتريضن، ومن أجمل ما زرت هناك قصر الشمال منذ القرن الخامس عشر بمقاصيره وحدائقه ومتاحفه، ثم معبد شوزن الذي نرتقيه بدرج شاهق ناصع البياض، وأعجب ما يسترعي النظر الأزياء؛ فالأحذية من قماش أبيض تُلبَس على جوارب بيضاء يعلوها بنطلون وصدار، وفوق كل هذا عباءة من قماش انتفخ وتصلَّب بالتنشية والكي، ويضع النساء حزامًا في الوسط، وعلى الرأس قبعات كالقمع المقصوص تحته قلنسوة، ويرسل الرجال لحاهم وشواربهم، وهي نادرة الشعر تتدلى في شكل مضحك.
قمنا إلى منشوريا في أرض سهلة خصبة قيل إن الصالح للزراعة منها لا يقل عن ٧٠ مليون أيكر، وكانت الحقول تُزرَع فول الصويا كثير الزيت والبروتين، هذا إلى غاباتها ومراعيها ومعادنها التي لا تُعَدُّ، وقد أعان الخط الحديدي التقدم الاقتصادي، والناس كلهم من الصينيين إلا البلاد المجاورة لسكة الحديد. وصلنا مكدن العاصمة في ثلاثين ساعة وهي ثلاثة أقسام: البلدة الحديثة وهي التي أسَّسها اليابانيون، وإلى شرقها المستعمرة الأجنبية، ومن شرقها المدينة الصينية يحوطها سور عظيم لم تُفتَح أبوابه للغرباء إلا في سنة ١٩٠٦م، وهي مسقط رأس أسرة مانشو، والبلدة قذرة جدًّا ومهملة للغاية، والناس حانقون على اليابانيين والأجانب على السواء، أما القسم الياباني فحديث نظيف.
(٣) إلى بيكين
ومعناها عاصمة الشمال، سار بنا القطار السريع وهو قذر غير منتظم السبل، وكانت المناظر سهولًا زراعية، وكلما أوغلنا في البلاد زاد البؤس وهاجمتنا سيول المتسولين، وبدا الجفاء في الطبع والوجوه التي يعوزها الجمال، وشتان بينهم وبين اليابانيين في الشكل والهندام والآداب. وبعد أربع وعشرين ساعة دخلنا العاصمة مخترقين سورين من أسوارها الضخمة، وأقلتني الركشا إلى الفندق، والبلد قسمان: المدينة التتارية والمدينة الصينية، يفصل بينهما سور ضخم ويطوقهما سور آخَر، وكان التتار هم السادة يترفعون عن الصينيين أهل البلاد ولا يسكنون معهم، وعلى الصينيين وهم الخدم العمل والكد لتموين هؤلاء، وقد ظلوا خاضعين قرونًا حتى بدأت حركة المقاومة عندهم سنة ١٩١١، حين هاجموهم وقتلوهم عن آخِرهم، ومدينتهم على شكل حدوة الفرس احترامًا لخيلهم؛ لأنهم وفدوا من صحاري منغوليا، ويتوسط المدينة القائد وتتفرع الشوارع كلها منه، وتتوسط المدينة التتارية مدينة أخرى يسمونها الإمبراطورية خاصة بالأسرة المالكة وحاشيتها وكبار رجال الدولة، وفي قلب هذه أيضًا دخلنا المدينة المحرمة مركز الدنيا ومقر عرش التنين، وتحاط بسور من الخزف الأصفر البراق، دخلتها فبدت مجموعة مقاصير صينية الهندسة تكسى سقوفها المتحدرة بالخزف الأصفر، ويزين حدائقها البحيرات والقناطر المحدبة من الرخام الأبيض، وكانت محرمة على الجمهور إلى سنة ١٩٠٠ حين دخلها الأوربيون عنوة، وهي اليوم معرض لمخلفات ملوك الصين، وبها من التحف ما قيمته ستة ملايين من الجنيهات، وفي جانبٍ هناك المدينة المستديرة التي كانت مسكن كوبلاخان، والمكان كله ساحر جذاب، زرنا معبد كونفوشيوس وهو مكان للتعبُّد وطلب العلم يتوسطه بيت الحكمة بأعمدته الممتدة، وفيه ألواح الصخر التي نُقِشت عليها أقوال كونفوشيوس حكيم الصين بل ومعبودها منذ سنة ٥٠٠ق.م. قام يبشر بالفضائل، وأخص تعاليمه الطاعة العمياء لمَن هم أكبر سنًّا ومقامًا، وقد صرفهم عن التفكير في ثواب الآخرة؛ إذ لم يعترف بشيء من هذا، وقد أفادت تعاليمه كثيرًا إلا أنه قتل في الناس الطموح والنظر إلى المستقبل.
على أن المعابد البوذية أكثر انتشارًا، وبوذا ظهر في القرن الأول الميلادي محاولًا علاج النقص الذي أهمله كونفوشيوس، خصوصًا جانب إقامة الشعائر والإيمان في ثواب الآخرة، على أن القسس قد أفسدوا هذا المذهب فأضحى الشعوذة بعينها — والقسس يلبسون أردية صفراء عجيبة — لكنه دين العامة والأغلبية، وعيب هاتين الديانتين تقديس الماضي وتراثه، وقد شجَّع ذلك الزواج المبكر كي يعقب الواحد أكبر عدد من الأبناء يحيون ذكراه بعد الموت، ويسرون عن روحه بما يقدمونه من قرابين، ومَن لم يعقب يتبنى من أولاد الغير، وتعجب إذ تعلم أن تابوت الدفن للوالد يحضر مقدمًا ويوضع في أظهر مكان بالبيت ويزاد زخرفًا وترصيعًا، وعند موت الوالد تُوضَع الجثة أيامًا في البيت حتى يتخير القسس يومًا سعيدًا للدفن، ويجب أن يكون مظهر الجنازة فاخرًا، ومن أعجب الشعائر أشباح مخيفة تحمل أمام الجنازة، وذلك ليطردوا الجن، واعتقادهم في العفاريت راسخ حتى إنهم لا يقيمون سقوف البيوت إلا وأطرافها ملتوية إلى السماء، ولا يبنون القناطر إلا محدبة تعجيزًا للجن وتخويفًا، ورغم كثرة الخرافات التي قامت حول دياناتهم فإن مبدأ تقديس الأجداد هو الذي ساعَدَ على حفظ كيان الأسرة، وبالتالي كيان الصين كلها رغم ما جر عليها من صروف ونكبات.
ولعل أفخم معبد زرته: معبد السماء، يقوم على مساطب مستديرة مدرجة من الرخام، وفي وسط أعلاها قبة في شكل باجودا من الخشب المخروط يتوسطها موضع العرش، وقسم المعبد الثاني وهو مذبح السماء شبيه بالأول لكن من غير قبة، وهنا كان يركع الإمبراطور ويعترف بأخطاء شعبه ويرجو لهم الغفران ويقدم القرابين والذبائح، وهذا المعبد وحده خير مبرر لزيارة الصين لضخامته وروعته وفخامته.
وإلى مقربة منه معبد الزراعة في ردهة رخامية فسيحة حولها الحقول، كان يجيء فيها الإمبراطور بنفسه ويبدأ الحرث في أوائل الربيع من كل عام، وكان كلما أكمل ثلاثة خطوط تبعه ولاة الأقاليم وألقوا الحب لينمو.
ومن أجمل ما يروقك في المدينة الوطنية أقواس الطرق بشكلها البديع وزخرفها الجميل، كذلك وسائل النقل كالركشا والعربات الغريبة من عجلة واحدة في الوسط يجرها الرجل المسمى «كولي»، والحمالون يستدرون العطف؛ لأن الأحمال تكاد تقصم ظهورهم، ويغلب أن يعلق الواحد حملين على طرفي عصا تُحمَل على كتفه، ومظاهر الفاقة هناك لا حَدَّ لها.
وقد أحدث الفقر أثره في إفساد الأخلاق من جميع النواحي: التبذل النسوي، وطموح الكثير إلى المال غير المشروع، والغش، ولا أنسى ألمي طوال الطريق للسيدات اللاتي كن لا يستطعن المشي حتى ولا الاتزان وهن وقوف، بسبب تشويه أقدامهن بتصغيرها إلى حجم قد لا يفوق طول إصبع اليد؛ لأن ذلك من أخص علامات الجمال في النساء، حتى إن الزوج كان يرى حذاء العروس قبل أن يعقد عليها ليطمئن على صغر الأقدام.
لذلك كانت تعمد الأمهات إلى غسل أقدام البنات كل ليلة بالماء الساخن، ثم لفها بالكتان عدة طيات في شدٍّ لا يُطاق، وتعاد هذه العملية كل ليلة لمدة ثمانية عشر شهرًا، وقد حرمت الحكومة الحالية ذلك، لكن كثيرًا ما يمارس خفية.
ومن القصور الفاخرة هناك قصر الشتاء وقصر الصيف، ومَن يتفقدهما يؤمن بأن الملوك كانوا كل شيء والشعب من دونهم بائس لا يؤبه له، وقد زرت مرصد كوبلاخلان أقدم مراصد الدنيا، أقيم منذ سنة ١٢٧٩، وبه مجموعة قليلة من الأجهزة الفلكية القديمة في أحجام هائلة.
(٤) إلى السور الأعظم سد يأجوج ومأجوح
قمت بقطار الضواحي، وفي ثلاث ساعات وصلت إلى محطة السور وركبنا حمارًا وسرنا في وادٍ كأنه وادي الملوك في الأقصر في جدبه وصخره، وعند مكان متهدم من السور نزلنا وتسلقناه فبدا ممتدًا إلى الآفاق يعلو ويهبط في عرض من أعلاه يتسع لعربتين متجاورتين طوله ١٥٠٠ ميل، وعلوه عشرة أمتار، وعرضه في أعلاه خمسة أمتار، وبه ٢٥ ألف برج للدفاع، و١٥ ألفًا للحراسة، بناه شي وانج تي سنة ٢٢١ق.م. بعد أن رأى منامًا أنذره بضياع ملكه من الشمال، ويعده العلماء أضخم عمل قام به الإنسان يفوق حتى الهرم، لذلك عُدَّ من عجائب الدنيا السبع، ولكثرة من مات في بنائه سُمِّي بأطول مقابر الدنيا، وقد يعلو مستوى البحر في بعض بقاعه بنحو ١٢٠٠ متر، على أن السور لم يردَّ عنهم غوائل المغيرين، فلقد اخترقه جانكيز خان وكذلك سلالات المانشو، وقد أحاطوه بالكثير من الخرافات والأقاصيص السحرية التي لا تزال قائمة هناك إلى اليوم.
قمت إلى تينتسن فلم ترقني كثيرًا، ثم تستانفو على هونجهو أخطر أنهار الصين لكثرة ما أغرق من قرى، وكانت المدينة غارقة في مستنقع عَمَّها جميعًا، وكان المزارعون يسيرون وعلى رءوسهم مخاريط من الخوص، وعلى أجسامهم رداء من القش المنفوش، والناس هناك يأكلون كل ما صادفهم بسبب فقرهم، حتى الكلاب والقطط والفيران والضفادع والثعابين، ويطبخون السمك بزعانفه وأحشائه، لكن أحب شيء لديهم لحم الخنزير وشحمه، فقد يشرب الرجل منهم ثلاث «سلاطين»، وعند الطعام تقطع كل هذه شظايا وتُمزَج بالحساء وتؤكل بواسطة العصي الرفيعة، وقد يضاف إليها بعض الخضر والأعشاب الجافة، وأحب الحلوى الكريز يطفو في عصيره من القصب، والأواني كلها من السلاطين الصغيرة، وفي نهاية الطعام تُقدَّم فوطة مبللة يمسح فيها الجميع أفواههم، وهم يكثرون من وضع التوابل في الطعام.
وأمر اللغة هناك عجيب؛ فالكل يفهمونها لكنهم ينطقونها بشكل مختلف بين مقاطعة وأخرى، لذلك فهم يتفاهمون عن طريق الكتابة، أما لهجات الكلام فمتعددة لا يفهم الواحد لهجة غيره، فتبدأ الكتابة من اليمين وفي أسطر رأسية، والتأدب في الكتابة ضروري، فاسم الأب لا يُكتَب وسط الكلام بل في أعلى الصفحة إلى اليمين، وكلما تكرَّر تُرِك له سطر كامل احترامًا، والهوامش تُكتَب في أعلى الصفحات، وقد أخذت الحكومة تنشر لغة واحدة هي لغة «المندرين» في المدارس والأعمال والوظائف جميعًا، وهي أبسط لغات الصين لها ٤٢ حرفًا تركب الكلمات منها، أما سائر اللغات فصعبة لا بد أن يحفظ المتعلم أربعة آلاف رمز منها كي يستطيع القراءة والكتابة. وصلنا پوكاو على نهر يانجتسي في خمسين ساعة، ثم ركبنا سابحة عبر النهر إلى نانكين التي طفنا بشوارعها الغارقة في فيضان النهر بواسطة الركشا، وزرت مقبرة زعيم الوطنية الدكتور سن يات سن، ثم قام بنا القطار إلى شانغهاي في ثمان ساعات. والبلدة مقسمة إلى أحياء أجنبية أكبرها القسم الفرنسي ويسمى البوند أو شارع البحر وفيه الجاليات الأخرى، وتلك الأحياء تشبه البلاد الأوربية الحديثة في نظامها وفخامتها، والبوليس فيها من كل دولة بجانبه البوليس الصيني، أما الحي الصيني فيحكي خان الخليلي عندنا، وسيول الناس دافقة في سحنهم الغريبة وأرديتهم الموحدة رجالًا ونساء بسروال يُربَط فوق القدم، تعلوه چاكتة قصيرة وفوقها جلباب فضفاض طويل الأكمام مفتوح من جانبيه وله ياقة عالية، ويغلب أن يكون من الحرير، والحذاء من القماش الطري، وفوق الرأس قلنسوة من حرير، وللفقراء رداء كالبيچاما من قماش أسود لامع، ولا أنسى جلستي في مقصف الشاي بطرقه الملتوية وقناطره المحدبة، والشاي هناك من النوع الأخضر يشربونه بغير سكر، وحياة الليل ومجونه من الأعاجيب لا ينقطع سيل المتسكعين حتى بعد منتصف الليل وسط أضواء خاطفة ورقص وخلاعة فاقت الحد؛ لذلك سميت البلدة «باريس الشرق أو مدينة الشيطان»، والبلدة هائلة رغم حداثة عهدها، فسكَّانها يزيدون عن مليون ونصف، وتعتبر العاصمة التجارية للصين.
في ثلاثة أيام رست بنا الباخرة على هونج كونج في صخرة سامقة يوغل البحر فيها بألسن عدة، وتكسى الربى بالخضرة تنثر وسطها البيوت والحصون المنيعة، ويقابل الجزيرة من ناجية القارة حي كولون، وأعلى ربوة في الجزيرة ڨيكتوريا تكثر بها تماثيل عظماء الإنجليز، وعلى رأسهم الملكة فيكتوريا، والأهلون من الصينيين، والبوليس من الهنود، وقسم كبير من السكان من الهنود أيضًا، أذكر موقفي مع هندي غني عندما دخلنا معًا أحد المطاعم الفاخرة، فاعترضنا الغلام قائلًا: كلا، لا يباح دخول الهنود هنا! فخرجنا وكنا جياعًا ويمَّمنا شطر فندق متواضع، وما كاد الرجل يمنعنا حتى اندفعت رغم أنفه ودخلت، فتفادى الموقف بأن انتقى لنا جانبًا غير ظاهر ودعانا للجلوس فيه، وهكذا يُعامَل الهنود هناك حتى ولو كانوا من علية القوم.
وجو هنج كنج حار دائم المطر لكن ما أبهى منظر الأضواء ليلًا وهي تنقش المرتفعات كلها! ومن السكان نحو خمسين ألفًا يقطنون في زوارقهم بعائلاتهم ومتاعهم وطعامهم في أقبية يقيمونها في مؤخر زوارقهم، ويتسلى أطفالهم بصيد السمك ليكون غذاءهم اليومي الرئيسي، وهي مكتظة بالسكان يقرب عددهم من ٧٠٠ ألف، نصفهم في العاصمة وهي مدينة ڨيكتوريا أو هونج كنج.
غادرت الصين التي يعرفها العالم برجعيتها الشديدة وكرهها للتجديد؛ فالأسلاف عندهم هم المثل العليا، ونظام العائلة يُبنَى على الرهبة بحكم الدين والعرف حتى أضحى الإخلاص للعائلة دون غيرها فرضًا، مما قضى على التعاون بين العائلات والتضامن للصالح العام، لذلك لم يتفقوا ضد الأجنبي مرة واحدة — وهنا الفرق بينهم وبين اليابانيين — فالأب سلطان مطلق التصرف من حقه بيع أولاده أو قتلهم، أما الأم فمهملة، والزواج مبكر طلبًا في زيادة النسل خصوصًا من الذكور، وللزوج اتخاذ أي عدد من الخليلات، وذلك مقياس الجاه عندهم، فقد يصل عددهن عشرًا، والثروة تُقسَّم بين الذكور دون الإناث، ولا يصح للزوج أن يجلس مع زوجته على مائدة الطعام، وفي ذلك خطر إهمال تربية النشء، وعند إحصاء أفراد العائلة تهمل البنات، وعند ميلاد الطفل يدثر بملابس آبائه لمدة شهر ليتشرب فضائلهم، وقد يتخلص الفقراء من بناتهم برميهن في أبراج خاصة بذلك، وقد خلف الفقر فيهم الأنانية والفساد والقسوة، ويعجب الناس كيف لا تسد البلاد على سعتها حاجة السكان من الطعام والخامات رغم خصبها الهائل في كل ذلك، فهي أوسع من أوروبا وأغنى كنوزًا، ومع ذلك يكاد يموت أهلها فقرًا وجوعًا، والسبب هو خمول الصيني واعتماده على زراعة الأرز وإغفاله الصناعة التي يحتقرها الجميع، فهو يفضِّل أن يعمل حمَّالًا «كولي» على أن يكون صانعًا، و٨٥٪ منهم يعتمدون على الزراعة ويندر أن تزيد الملكية على خمسة أفدنة، وعامة الفلاحين يسكنون القرى، فالصينيون لا يرتادون المدن إلا نادرًا، يبذل الصيني كل ما عنده على مقابر أجداده ونعش والديه، وقد ساعد على تدهوره نظام الطبقات؛ فالحكَّام والأدباء هم السادة والباقون يحتقرون حتى أنفسهم، ولذلك فُقِد الرأي العام هناك؛ لأن السواد الأعظم من الجهلاء، وانعدمت الطبقة الوسطى وهي خير كابح لجماح الأرستقراطية في كل البلاد. وكم كنت أرى الوجيه منهم لا يكاد يكلِّم تابعه إلا همسًا وبالإشارة في كلفة وامتعاض واحتقار، حتى إني رأيت مرة تابعًا يمسح لسيده وجهه بفوطة مبللة في القطار وهو لا يكاد يتحرك فيها وعجبًا. فعلى تلك الطبقة الممتازة تقع مسئولية تدهور البلاد؛ لأنهم بترفعهم طوال السنين عاونوا ذلك التأخر الذي أضحى مضرب الأمثال. ولعل ظروف الجمهورية الحديثة والتخلص من الأجنبي والانضمام إلى زمرة الأمم الديمقراطية، تكون علاجًا شافيًا يأخذ بيد تلك الدولة الكبرى البائسة.