اشتريت تذكرة السفر حول المحيطات الثلاثة ودفعت فيها ١٣٦ جنيهًا مصريًّا، وقامت
بنا الباخرة تشق البحر الأحمر في حره اللافح، وعرجنا على عدن، ثم على كولمبو في
سرنديب، واجتزنا خط الاستواء سائرين جنوبًا، وبعد خط ٢٠ جنوبًا بدأ البرد
القارس يزيد يومًا فيومًا؛ لأنه شتاء نصف الكرة الجنوبي، وبعد تمام اليوم
العشرين أقبلنا على ثغر فربمانتل في نظافته وصغره، ثم قمنا بالترام إلى پرث
فبدت وجاهة المباني والسيارات، وتجلى مظهر الغنى في كل شيء، هذا إلى وجوه جميلة
ضاحكة جذابة، وهنا زرت الجامعة في بنائها الضخم، ولأول مرة علمت أن التعليم كله
في أستراليا مجاني حتى في الجامعات، وتنفق الدولة عليه ثمانية ملايين من
الجنيهات، أي بمعدل جنيه لكل فرد، وهي أعلى نسبة في الدنيا، وهنا هالني رخص
اللحوم، فرطل الضأن بأقل من قرشين، وكان الناس فرحين لأن مطر العام كان وابلًا
غزيرًا، وفي ذلك إنقاذ لمصدر ثروتهم وهو العشب والضأن.
وقد قمت بالقطار أعبر جانبًا من الصحراء الغربية المملة المحدبة إلى كالجورلي
في عشر ساعات، وقد كان يرم صداها في أذني منذ الطفولة بسبب مناجم الذهب
الشهيرة، لكني ألفيتها حفائر منفرة، وعلمت أن قيمة مناجمها هبطت كثيرًا، وكاد
ينضب معينها، فعدت وأخذت الباخرة عبر الخليج الأسترالي العظيم باضطرابه المخيف
إلى أدليد، فظهرت وكأنها مدينة أمريكية بضخامة مبانيها، واستقامة شوارعها،
وفخامة دور السينما وكثرتها، ولا أنسى من طعامها الشهي شربة ذيل الكنجارو، ورخص
الطعام فالوجبة المثلثة Three course meal
بشلن واحد.
ثم قمت إلى ملبورن بمينائها الهائل الذي زُوِّدَ بأحدث الأجهزة والمعدات،
ووجاهة المدينة لا تحد، فهي في نظري أوجه مدن أستراليا، أقامت أبنيتها على
النظام الأمريكي وكثير منها من ناطحات السحاب، أما كرم الناس ووداعتهم وترحيبهم
بالضيف فأمر لم ألمسه إلا بين العرب، وقد زرت هناك كوخ الكبتن كوك كاشف القارة
بأدواته وأثاثه. وأفخم الطرق شارع كلدا، أما ميادين الألعاب والنوادي فحدِّث عن
كثرتها ووجاهتها، فالكل مشترك فيها، وقد استرعى نظري غرامهم بقراءة الجرائد
وكثرة هذه وضخامتها، فالجريدة الرئيسية تظهر في ٢٤ صفحة يوميًّا. والبوليس مهيب
الجانب، وحاولت أن أعثر على حي قذر فقير فلم أجد، على أن فيهم كثيرًا من التكلف
وحب الظهور، وهم يبالغون في قواعد الإتيكيت حتى إن البلاد الأخرى ترى في ذلك
ضربًا من الشعوذة، ويرمونها بقولهم Killjoys أي
هادمة اللذات، من ذلك منع بيع الخمور بعد الساعة السادسة يوميًّا، وإقفال دور
الملاهي يوم الأحد.
قمت إلى سدني
فكانت روعة الخليج وفجواته ومنحدراته مضرب الأمثال، ثم مررنا تحت قنطرة
سدني الهائلة التي كلَّفتهم ١٠ ملايين جنيه، والمدينة فاخرة شوارعها تعلو
وتهبط، والناطحات كثيرة وتحمل أسماء لا أرقامًا، والمنافسة بينها وبين
ملبورن حادة جدًّا، وتمتاز البلدة بشواطئ الاستحمام البديعة، وبأن كل
أسرة تملك بيتها وسيارتها، والنساء ساحرات الجمال وعلى رشاقة وجاذبية
يرفعن التكليف ويصبحن صديقات منذ أول لحظة. قمت برحلة إلى الجبل الأزرق
وهناك استمتعت بمناظره وبعجائب مغاراته، وفي ناحية من الجبال قرية لاپروز
بها عدد كبير من الأستراليين الأصليين، وهناك تمرَّنْتُ على رمي سلاحهم
المسمَّى «بومرانج» الذي يُرمَى رمية فنية، فإن أصاب الفريسة قتلها، وإن
لم يُصِبْها دار وحده وعاد وسقط تحت قدميك، والناس هناك متيسرون جميعًا
ولا يقل أجر أصغر عامل عن ٥٠ قرشًا يوميًّا، ولكل أسترالي ٤٤ جنيهًا في
بنوك التوفير على الأقل، وهم يفاخرون بعدم وجود فوارق بين الطبقات،
فالخادم يمزح مع سيده، وإذا استنكرت ذلك قالوا أليست بلادنا حرة؟ ونزعة
الإلحاد متفشية جدًّا، يهزءون بالدين ورجاله والمبشرون يطوفون حتى في
الطرقات، والمعيشة هناك رخيصة جدًّا إلا في الكماليات، أما الطعام
فالأكلة المتواضعة بقرشين — صنفان 2 course
meal — ومستوى البلاد الثقافي مرتفع جدًّا، و٨٥٪
منهم سكان مدن، ولكل ٤٠٠٠ نفس دار للسينما، ففي البلاد ١٥٠٠ سينما،
وللصحافة فضل كبير على البلاد على أن نفقات البيت الفقير لا تقل عن ١٥
جنيهًا شهريًّا، وهم دائمًا متفائلون أبدًا بفضل جوهم المشمس ورخاء
بلادهم، ونسمعهم دائمًا يقولون givet ago
«مشيها»، والدولة هناك تشرف على كل شيء، وأكبر المشاكل علو الأجور
وارتفاع الضرائب وندرة العمال، ومع ذلك يمنعون الهجرة إليهم، وهم دائمًا
يفاخرون بقولهم: تعيش أوروبا على ماضيها، وأمريكا على حاضرها، أما
أستراليا فعلى مستقبلها. ويترفعون عن الأوروبيين وحتى عن الإنجليز،
ويتخذون أمريكا خير مثل يحتذونه في نهضتهم وتفكيرهم.
(٢) نيوزيلندا
في خمسة أيام نقلتنا الباخرة عبر بحر طمسان إلى زيلندة، وأشرفنا على أوكلند
العاصمة التجارية فظهرت أقل وجاهة وغنى عن أستراليا، تقام أغلب البيوت من خشب
لوفرته ولكثرة الزلازل، ويعنون بالملاعب عناية فائقة، والمقامرة أحب شيء لديهم،
وتحاط البلدة بنحو ٦٣ مخروطًا بركانيًّا خامدًا؛ لذلك كانت تربتها سوداء
بركانية.
أقلنا القطار السريع إلى ولنجتون في ١٥ ساعة مسافة تعادل ما بين القاهرة
وأسوان، والأرض كلها مموجة يكسوها العشب وتقسمها الأسوار إلى مزارع لرعي الضأن،
وللشاة الواحدة فدان كامل، وقد تصل المزرعة ٣٥ ألف فدان، والغنم أبيض عديم
الذنب، وأجود لحوم الدنيا من الضأن هناك، أما الصوف فأجوده في أستراليا، أما عن
الجو فحدِّثْ، فهو عاصف ماطر عابس، وهم يعترفون بسوء اختيار عاصمتهم هناك.
والبلدة الحكومية والتجارية في المنخفضات، أما المساكن ففوق الجبال، وقد زرت
المكتبة وبها ٦٠ ألف مجلد، منها ٣٢ ألف على الباسفيك وقد أهداها أحد
الوطنيين.
(٣) رتوروا
قمنا بالسيارات وسط مناظر جميلة ساحرة، ومررنا على وادي الفوارات في قرية
وايراكي، وهو مجموعة من الحدائق والشلالات والجنادل تغص بمياه الفوارات
الساخنة، وعند قرية واكا «واكاريوا ريوا» قادتني السيدة كيري «كيري ويكي ريوي»
وجزنا البوابة المنقورة من الخشب الملون، وقد كُتِب عليها مرحبًا «هايري ماي»،
فألفينا البيوت من الخشب يقطنها الماوري، ولا تكاد تستبين من بخار الفوارات
والأرض ترتجف وهي ساخنة، وكنت أراهم يطهون البطاطس بغمرها في الماء الساخن
فترة، ويعدون الشاي ويشوون السمك ويغسلون الثياب في هذه المياه أمامنا،
والأطفال يمرحون حولها، وشاهدت طفلًا اصطاد سمكة من نهير بارد وسرعان ما غمسها
بسنارتها في الماء الساخن هنيهة، ثم قشَّرها وأكلها. وأكبر الفوارات
«بوهوتو Pohutu»، ويقولون إن تلك
الفوارات هي التي أنقذت البلاد من انفجار البراكين، فكأنها لهم صمام
الأمن.
أما السكان فمن الماوري المرحين، وهم على جمال فطري فائق وخفة روح وبساطة،
يعيشون في بيوتهم الخشبية، ويلبسون ملابس من الكتان الغفل الملون تتدلى أهدابها
أسفل الجسد وكأنها عيدان الغاب أو القش، والأجسام ممتلئة والوجوه باسمة جميلة
والشعر أسود هادل، ولهم مخصصاتهم ومدارسهم وأعضاؤهم في البرلمان، وعددهم ٧٤
ألفًا، واستعدادهم للرقي مدهش وكثير منهم من كبار العلماء، أذكر من بينهم
العلَّامة Ti Rangi Hirowa، وهم كلفون بالرقص
والموسيقى، ولكل مناسبة رقصة يجيدونها جميعًا، ولعل أعجبها «الهاكا» في حركات
عنيفة وليات وتقاطيع للوجه مخيفة.
وقد مررنا ببحيرات وايمانجو التي لا تكاد تُرَى من كثرة البخار فيها، وكذلك
مغارة اليراع «وايتومو»، دخلناها في ظلام حالك وأطفأنا مصباحنا وأوقفنا الحركة
حتى كدنا نوقف التنفس، وسرعان ما أضاء سقف المغارة بنجيمات تلقي بخيط يستطيل
ويقصر لكي تلتهم فريستها من الحشرات، وتلك يراعات عجيبة، وإذا أحدثت حركةً
انطفأت جميعها.
بلاد رائعة جمعت كل بدائع الطبيعة في نطاقها الضيق: جبال وبحيرات وحدائق
وشلالات وفوارات وثلاجات، وسكانها مليون ونصف نهضوا إلى الذروة في قرن واحد،
والدولة تكاد تدير كل شيء والموظفون خُمْس السكان، وجوها صحي، ففيها أقل نسبة
للوفيات في الدنيا، ومتوسط العمر سنة، وهو أعلى متوسط في العالم، وهم مؤدبون درجوا على إيناس
الغير بفضل بيئتهم البحرية، ومستوى المعيشة مرتفع، وتوزيع الثروة متعادل وجلها
من الأغنام؛ إذ تصدر بنحو ٤٠ مليون جنيه في العام، ومتوسط ثروة الفرد ٤٣٥
جنيهًا، والزيلندي أكثر آكل للحم في العالم، فلكل فرد رطل من اللحم ونصف من
السكر يوميًّا، ونصف من الشاي شهريًّا.
(٤) جزائر فيجي وساموا
في أقل من ثلاثة أيام أقبلنا على حواجز مرجانية ترغي عليها الأمواج، والجزائر
نحو ٢٥٠ يسكن منها ٨٠، وحللنا العاصمة سوڨا في مجموعة أكواخ وأخصاص، والناس من
السود ضخام الأجسام منفوشي الشعر حفاة الأقدام مرحين ذوي سحن منفرة، والهنود
يديرون كل شيء، وكنا نظن أننا وصلنا يوم الثلاثاء، وإذا بالثلاثاء غدًا فكأننا
ربحنا يومًا؛ لأننا كنا نسير إلى الشرق فنستقبل الشمس مبكرين، وحدث أن دخلت
معنا سفينة وافدة من الشرق إلى الغرب وكان يومها الإثنين، فظهر أنه الثلاثاء
وقد خسروا يومًا، وذلك لأن الجزائر تقع على خط ١٨٠ طولًا وهو خط التاريخ
الدولي، وثروة الجزائر في النبات مدهشة، خصوصًا النرجيل والموز والمانجو
والأناناس والباباز والتارو، وهما شبيهان بالقلقاس أو البطاطا.
ثم قمنا إلى جزائر سموا فوصلناها بعد يومين، وحللنا مدينة بانجو بانجو، وزرنا
قرية Nuuuli وكلها أكواخ على الشواطئ يكاد
يغطيها شجر النرجيل الذي يحيط بالجزائر وكأنه السوار، والناس هناك من الجنس
البولونيزي لونهم خمري وتقاطيعهم عريضة، وهم على جانب كبير من الرشاقة والجمال،
وهم أطول قامات الدنيا، يلبسون شرائح من قشر الشجر.
(٥) هنولولو
في أربعة أيام بدت الجزائر بمخاريطها، وعددها ١٢، المسكون منها ٨، وأكبرها
هواي، وقد هالتني قطع الأسطول الأمريكي، ومن ثَمَّ علمت حقًّا لِمَ تُسمَّى
«جبل طارق الباسفيك»، ودهشت اليوم كيف باغتها اليابانيون في هذه الحرب رغم
مناعته. استقبلنا الأهالي كعادتهم مع كل سفينة بالموسيقى والترحيب، وكتبوا على
برج الميناء كلمة ألوها؛ أي مرحبًا، وما كدنا ننزل البر حتى هاجمنا الفتيات
يلبسننا عقودًا من الزهر الجميل تحيةً لنا، ولا تخلو منها رقبة إنسان هناك،
ويغيِّرونها كل يوم ويبدعون في تنسيقها، وقد تباع بشلن للعقد، ويربحون من ذلك
مليون شلن سنويًّا، والمدينة فاخرة في مبانيها وسياراتها ومتاجرها وأضوائها
وفنادقها، والناس خليط عجيب لكن أجملهم فريقان الأمريكان والوطنيون، فالجزائر
جمعت بين أفخر أزياء أمريكا — إذ هي مصطاف نجوم السينما من هوليوود — وأجمل همج
الدنيا بملابسهم من القش. وهل أنسى جلستي في فندق وايكيكي على الشاطئ والجمال
النادر من حولي، وقد أخذ القوم يلعبون بالزوارق على حافة الأمواج وبعضهم يرقص
رقصة هولا العجيبة الرشيقة، ويغنون أغنية أوكوليلي المشجية. أما عن الزهور
فتعدها هناك بالآلاف أينما سرت، ففي حديقة هاو واحد ٢٥٠٠ نوع من زهر الهبسكس،
ومن أعجب الزهور عباد القمر لا تتفتح زهرته إلا ليلًا، وفي خارج البلدة أغنى
مزارع للأناناس في الدنيا يتوسطها أكبر مصنع له، يلي ذلك قصب السكر الذي يُزرَع
في كل الشهور ويُصنَع منه السكر، فهي تقع بعد كوبا وجاوه بين البلاد المنتجة
للسكر في الدنيا، ويصدرون من الأناناس والسكر سنويًّا بمائة مليون ريال؛ أي
بعشرين مليون جنيه. ومن أعجب عاداتهم إعداد عصيدة من نبات اسمه التارو، وصيد
السمك هناك بالحراب وعلى ضوء المشاعل ليلًا، وهناك شجرة تاپا يُنزَع قشرها
ويُعَدُّ قماشًا في حجم ملاءات السرير، ولغتهم موسيقية وبسيطة تُركَّب من ١٢
حرفًا، والحرف المتحرك منها يُنطَق، ومن أجمل كلماتها «الوها = مرحبًا، هي لي
ماي = تعال هنا، هو هو = غضبان، ويكي ويكي = أسرع، آ إي = نعم، ما إي كا إي =
حسن»، والجو هناك ربيع دائم، ولا تمطر السماء إلا ليلًا، ومستواهم التعليمي
مرتفع ففي مدارسها ٩٢ ألف طالب، وفي الجامعة ٤٠٠٠، وما كادت تقلع الباخرة بنا
حتى هاجمني جمع من الفتيات ونزعوا عن رقبتي عقود الورد ورموها في البحر خشية
ألَّا أعود إليها مرة ثانية، كما تقضي بذلك خرافاتهم.