حول شواطئ البحر الأبيض
(١) إلى إيطاليا
في ثلاثة أيام بدت أرض إيطاليا ونحن مقبلون على بوغاز مسينا في ربى تكسوها خضرة أشجار الفاكهة والزيتون، ورسونا على كاتانيا واعتلينا بركان أتنا وفوهته تقذف بدخان كالسحاب من الأبخرة والأتربة، وبعد اجتياز بوغاز مسينا بمنظر شاطئيه الجذاب تنثرهما ثريات الكهرباء المتلألئة، سرنا لنرقب بركان استرمبولي الذي لفظ على غرة حممًا متأججة، ثم تدفَّقَتْ وهي تموج على جوانبه وقد أغبر لونها، وفي الصباح تكشَّفَ منظر خليج نابلي في هلال يشرف عليه بركان فيزوف بروعته وجلاله، حللنا البلدة فإذا هي في مجموعها قذرة متحدرة الطرقات يعوزها النظام، ويبدو على أهلها العوز، يدمنون شرب النبيذ لا بل ويأكلون به الخبز حتى خلته مرةً عسلًا أسود يأكله القوم، وكنَّا نشاهد باعة «لحم الرأس» والمكرونة يصيحون ترويجًا لتجارتهم في كل مكان، وهم يعلقون المكرونة بطولها في منظر منفر، والكثير منهم يصنعها في منزله، وشحم الخنزير يحل محل السمن لديهم في الطبخ، وضواحي نابلي خير منها؛ لأنها ريفية وغنية بمناظرها الطبيعية ووفرة نبتها، أذكر من بينها سان مرتينو موطن الطبقة الراقية، وسرنتو المشهورة بفاكهتها ونبيذها الأحمر، وكابري تلك الصخرة التي تعلو ٥٦٥ مترًا، وقد جوفتها الطبيعة داخلها وهي تشرف على البحر، وقد دخلنا تجويفها من فتحة بالزوارق النحيلة فعجبنا من النور الوضَّاء الذي انبعث من أعماق الماء، فأكسبها زرقة رائقة ممزوجة بلون فضي، حتى خُيِّلَ إلينا أن زورقنا يسير على زئبق خالص.
وفي أقل من خمس ساعات أشرفنا على روما، فبدت ثقيلة الظل لم يسترعَ نظرَنا إلا ميادينها المزدانة بالتماثيل، ونافورات المياه في غير حصر، على أني أكبرتها عندما زرنا كنائسها ورأينا نفائس فنِّها من هندسة وتصوير ونحت، ولعل أفخر كنائسها «سان بيترو» أكبر كنائس الدنيا، أمامها ميدان تحوطه الأعمدة المزدوجة في شكل دائرة، تتوسطه النافورات وفي قلبه مسلة مصرية وُضِع عليها صليب، أما من داخلها فآيات للفن بيِّنَات تغطيها قبة هائلة في ذروتها كرة مفرغة تتسع لعشرين شخصًا، كلفها قسطنطين عشرة ملايين من الجنيهات، ويُنفق على إصلاحها سنويًّا ٧٥٠٠ جنيه، وهناك تمثال نحاسي للقديس بطرس كادت تجاعيد قدمه تُمحَى من كثرة لمس المتبركين من الزوار، ولا يقل الحجاج إليها عن ٨٠ ألفًا في العام يباركهم البابا.
وفي جانب من كنيسة أخرى تمثال لسيدنا موسى، أعجب به صانعه ميخائيل أنجلو فخاطبه قائلًا: لِمَ لا تنطق؟ وهو الذي قام بهندسة كثير من الكنائس ونقشها، وكان له منافِس شاب أرستقراطي اسمه رافائيل. قصدنا قصر الفاتيكان مملكة البابا وله حرسه من السويسريين، وهو أكبر قصور الدنيا، به ١١ ألف حجرة وعشرون ردهة، رأينا معارض القصر ومكتبته وبعض حجراته وقبابه التي يعجز القلم عن وصفها، خصوصًا قبة «كابلاسسفيني» التي أتَمَّ نقشها ميخائيل أنجلو في أربع سنين وهو يعمل صباح مساء حتى تصلَّبَتْ عروق رقبته. ومن الهدايا المقية فازة كبيرة أهداها محمد علي باشا، ويتصل بالقصر طريق سري إلى قلعة «كاستل سانت أنجلو» يختبئ فيها البابا إن تعرَّضَ لخطر، إلى ذلك الآثار الروبانية القديمة التي لا تدخل تحت حصر وأجَّلُها «الكلوسيو»، وكان الملعب الإمبراطوري تُطلَق فيه الضواري لتفتك بالمجرمين، أو تقام فيه حفلات مصارعة الثيران.
قمنا إلى بيزا لنرى كنيستها وبرجها المائل، ففي الكنيسة قبة صِيغَت بحيث تجسِّم الصوت، فتصفيق اليد تسمعه وكأنه الرعد يتردَّد بقوة نحو عشرين ثانية، أما برجها فهو من الأعاجيب يعلو مستديرًا في سبعة أدوار إلى خمسة وخمسين مترًا، ويميل بجملته أربعة أمتار وثلثًا، رُكِّبَتْ فوقه سبعةُ أجراس تدق وفق أنغام الموسيقى السبع، والبناء كله من الرخام الأبيض الناصع، ويُعَدُّ من عجائب الدنيا.
زرنا جنوة وأجمل ما بها مساكنها ومدافنها؛ فالمساكن تعلو أدوارًا يكاد يفتح كل منها على شارع مستقل؛ لأن أغلب البلدة تقام على مدرجات جبلية، أما مقابرها فأجمل مدافن الدنيا، أُقِيمت كلها بالرخام والمرمر وسط حدائق يانعة، نُسِّقت أيما تنسيق. وفي حي فقير من البلدة بيت صغيرة حقير لخرستوف كلمب كاشف أمريكا، نُقِش عليه اسمه.
(٢) فرنسا
دخلناها من طريق الريفيرا، وعرجنا على منت كارلو، تلك الجنة النظيفة الأنيقة في بيوتها وميادينها ومتنزهاتها وفنادقها، وحتى في سحن أهلها فهي حقًّا عروس المتنزهات، وشهرتها في فنادقها التي يؤمها سراة العالم ليلعبوا الميسر، ولقد أمضينا في الكازينو حول موائد القمار ومن ورائنا مصارف تيسِّر للمقامرين سحب النقود، وعجبت لما علمت أن الحكومة لا تبيح الدخول للفرنسيين، لذلك يحتِّمون عليك إبراز جواز السفر ليتأكدوا أنك أجنبي، ويطول سهر القوم جميعًا، فلا يبدأ العمل صباحًا إلا بين التاسعة والعاشرة، وكنتُ أسير في الطريق وحدي في الصباح وكأني في بلدٍ ميت.
(٢-١) إلى شامونكس
قمنا إلى مرسيليا ومنها إلى ليون، ثم عرجنا إلى الشرق ونحن نوغل في مناطق جبلية مناظرها ساحرة حتى وصلنا شامونكس على علو ١٢٣٠ مترًا، فكان البرد أشبه بأشد أيام الشتاء في مصر. قمنا مبكرين وأخذنا نصعد في الجبال أربع ساعات حتى أشرفنا على ثلاجة ميردي جلاس، وهي نهر من الجليد وعر المسالك قادنا إليه دليل خبير، وعبرنا سطح الثلاجة المغضن والمشقق الزلق الخطير، والثلج أزرق اللون ينتثر بركام الصخر، وتسمع دوي الماء المنصهر في أرجائه، وكلما قارب النهر نهايته رقَّتْ كتلته وأضحى منابع مائية ماؤها أزرق كثير الرواسب، وكان ارتفاعه ١٨٠٩ أمتار، وكانت الزهور البديعة تكثر على جوانب الثلاجة في ألوان منوعة، وشجر الصنوبر ينضمر من حولنا كلما علونا، وبين آنٍ وآخَر كنَّا نصادف كوخًا خشبيًّا على الجليد يُعَدُّ لنا فيه الشاي والطعام. وقد تسلقنا ثلاجة بوسون، وهي أكثر وعورةً، ودخلنا منارة من الثلج على علو ٢٩٥٥ مترًا، وكنا نرى الأبقار طليقة والأجراس الغليظة تتدلى من رقابها ليهتدي إليها رعاتها.
(٢-٢) باريس
قمنا إلى باريس، فكانت مني خيبة أمل؛ لأنها لم تتناسب مع ما صوَّره لنا المبالغون من زوَّارها قبلنا، ولعل أفخر مبانيها ميدان الكنكورد الفسيح الذي كانت تقام فيه المقصلة إبَّان الثورة الفرنسية، وبه مسلة مصرية، ومنه يتشعب اثنا عشر طريقًا رئيسيًّا، وعليه متحف اللوفر من القصور الملكية القديمة، وبالمتحف أقسام شتى للتصوير، وبه صورة الجيوكوندا التي سلبها نابليون من إيطاليا، ثم سرقها عامل إيطالي، وعيَّنت فرنسا مليون فرنك جائزةً لمَن يدل عليها، ثم رُدَّتْ إليها فيما بعدُ. وثَمَّ قسم مصري قديم وآخَر غير مصري، ومما زرنا متحفُ جريفان، وفيه تماثيل الشمع لحوادث وشخصيات عدة، ثم برج إيفل من شباك الحديد علوه ٣٠٠ متر، وفي أعلاه مقهى ومطعم ومحطة للاسلكي. ثم البانتيون الإغريقي الهندسة وهو مدفن العظماء، وكنيسة نتردام على النظام القوطي، ثم قصر الأنفاليد مدفن رفات نابليون تحت قبة هائلة، والقبر من الجرانيت المجزع يطل عليه الزوَّار من سياج مرتفع كي يطأطئ الزائر رأسه إجلالًا رغم أنفه، ويكاد احترامهم للمكان يكون جنونيًّا؛ حدث أن نسي أخي عبد الرحمن بك ولبس قبعته، وإذا بالحارس يصيح صيحة جبَّارة أن اخلع قبعتك إجلالًا يا سيدي. وتُعلَّق حوله الأعلام التي أسرها في كل وقائعه وانتصاراته، وباب القبر صِيغَ من حديد المدافع التي غنمها في موقعة أوسترلتز، وقد حرص المهندس على أن تسقط أشعة شمس الأصيل على رأس الإمبراطور تمامًا، وبالقصر متحف حربي عظيم. ومن ضواحي باريس فرساي، وبها القصر الذائع الصيت، وتكاد جدرانه تغص كلها بصور تاريخية زيتية فاخرة، وفي بعض حجراته أثاث لملوك فرنسا، مثل لويس الرابع عشر والخامس عشر، وصالة المرايا المشهورة تتوسطها المنضدة التي عُقِد عليها مؤتمر فرساي، والتي كان قد تُوِّجَ فيها غليوم الأول عقب انتصار ألمانيا في حرب السبعين. وحديقة القصر فاخرة ومزوَّدة بالنافورات التي تنعكس عليها الأنوار الملونة في مشهد رائع. وفي ضاحية أخرى قصر فونتانبلو؛ أي نبع الماء الجميل، وقد يفوق فرساي وجاهة، وبه عدة غرف من أثاث نابليون وماري أنتوانت، والمنضدة التي كتب عليها نابليون صكَّ اعتزاله المُلك.
وباريس لا تتخذ نموذجًا للفرنسيين، فجُلُّ أهلها من الدخلاء المتطرفين، أما أهل سائر البلاد الفرنسية فأميل إلى أخلاق المزارعين. والفرنسي سريع الغضب، حسَّاس لكرامته إلى حدِّ الجنون، ولا أنسى زميلي حينما نادى سائق التاكسي بنغمة الآمِر كما نفعل في مصر، فصاح في وجهه باحتقار وأَبَى أن نركب عربته.
أما عن جمال الفرنسيات فإنه محدود، وإنْ كُنَّ أشهر نساء العالم في الأناقة وفن التجميل.
(٣) إلى اليونان وتركيا
رسَتْ باخرتنا على بيريه ثغر أثينا، فبدا قَذِرًا منفرًا، ركبنا منه الترام إلى العاصمة، وأول ما يظهر مشرفًا ربوةٌ هائلة كانت تقام عليها معابد القدماء وبيوت عليتهم، ويتوسطها الإكروبول، وأجمل مكان السارثنون معبد العذراء أثينا آلهة الحكمة، وبه ٩٨ عمودًا من الرخام الأبيض المجزع، ومن أسفلها معابد أخرى، ثم الإستاد القديم الذي جُدِّدَ بالرخام الأبيض، ويتسع لأربعين ألف نفس، وفيه تُعقَد الألعاب الأولمبية مرة كل أربع سنين، والمدينة قَذِرة متربة متهدمة يكاد يقتل أهلها الفقر والعوز، ولا يعتقد المرء أنهم فرع عن ذاك الأصل التالد العريق، ولا أغمط البلاد حقها في الطعام فهو أشهى ما يأكله السائح في أوروبا كلها؛ لأنه تركي شرقي.
(٣-١) إسطنبول
قمنا إلى إسطنبول، ولما ظهرت أطراف البوسفور شاهدنا المساكن ذوات السقوف الحمراء المنحدرة، وظهرت مآذن المساجد وقبابها، إلى اليمين إسكدار الأسيوية وإلى يسارنا إسطنبول الأوروبية، وبجانبها القرن الذهبي الذي نعبره بقنطرة جالاتا تصل بين بيرا الحي الحديث شمالها وإسطنبول القديمة جنوبها، ويمتد البوسفور ١٩ ميلًا في عرض ميلين، وقد بدأنا بحي بيرا بشوارعه التي تعلو وتهبط، ولا أنسى حي تاكسيم، وبه دور الملاهي والمراقص وكثير منها لا يزال على نظام التخت الشرقي، أما الحي القديم فشبيه بخان الخليلي عندنا، وبه المساجد الفاخرة منها آيا صوفيا، فهو في مجموعه صليب كبير؛ لأنه كان كنيسة لجستنيان وحُوِّلَتْ إلى مسجد، وهو في نقوشه آية فنية نادرة، وبه سجادة النبي ومهد المسيح وحوضه، وفي الجانب الآخَر من الميدان مسجد السلطان أحمد بمآذنه الست الدقيقة، وقبته الهائلة تقوم على أربعة أعمدة في حجمٍ قد يفوق أعمدة الكرنك، وغالب نقوشه بالقيشاني الأزرق، وأمامه مسلتان إحداهما مصرية، وكثير من مباني البلدة بالخشب. والتركي نشيط فخور ببلده متوقِّد حماسة وبخاصة بعد الانقلاب الحديث رغم ما يبدو عليهم من افتقارٍ للمال، على أن عزمهم الجبَّار قضى على الأمية وأرهب الأجنبي وقام بكثير من وجوه الإنشاء والعمران. أخذ البسفور ينفرج تارةً وينقبض أخرى، وعند كل انقباض تقام القلاع العاتية، والبيوت تنثر الربى، وتكاد تغطيها الخضرة الناضرة في مناظر خلَّابة مدى عشرين ميلًا دخلنا بعدها البحر الأسود.
(٤) إلى فلسطين
أقلنا القطار من مصر إلى القدس، فبدت بلدة قديمة طُرُقها أزِقَّة ملتوية تعلو وتهبط، والمدينة في غاية النظافة رغم شح الماء فيها، ويدهش المرء لكثرة الأزياء التي يلقاها هناك، والناس من مذاهب شتى فهي معقل مختلف الديانات، واللغة الوطنية عربية ممطوطة، وحول البلدة سور به عدة أبواب أجملها باب الخليل، وتحته سيقتل المسيح الدجال يومًا ما. ومن الطرق المقدسة طريق الآلام حمل المسيح فيه الصليب الكبير، فوقف من التعب متوجِّعًا اثنتي عشرة مرة أقاموا في كل بقعة منها كنيسة، وفي الأخيرة منها أقيم الصليب، وبعدها أُنزِل الصليب وسُلِّمَت الجثة لمريم التي دفنتها هناك، وقد أقيمت بها كنيسة القيامة، ويحرس الأبواب خدَّام مسلمون خشية النزاع الطائفي بين النصارى، وحول الحجر الذي كان يغطي القبر أُضِيئت المصابيح الفضية وعددها ١٥، ويقولون بأن الملائكة هي التي دفعته إلى مكانه عندما صعد المسيح ولحق به الحجر.
وإلى جانب الكنيسة الحرم الشريف أو مسجد عمر، ويشمل قبة الصخرة وقبة السلسلة والمسجد الأقصى، فالقبة مثمنة زُيِّنَتْ صفحاتها هذه بالرخام المجزع في نصفها الأسفل، والقيشاني الملون في الأعلى، ونقوشها تُعَدُّ من المعجزات الفنية العربية، وتحتها الصخرة التي عرج من فوقها الرسول على البراق فتبعته حتى دفعها جبريل، وفيها موضع أصبع جبريل وقدم الرسول، وتحتها تجويف يُسمَّى بئر الأرواح يدوي الرنين فيها عاليًا.
وفي جانبٍ من المسجد قبة السلسلة أُقِيمت كنموذج للقبة الكبرى في المكان الذي علَّق فيه سليمان الحكيم سلاسل المجرمين، ومن ثَمَّ كان اسمها، وإلى جنوب الصخرة قبة أخرى تحتها محراب فاخر، وهو أقصى مكان وصَلَه الرسول بالبراق وصعد إلى السماء وافدًا من مكة، ولذلك سُمِّيَ بالمسجد الأقصى، وبجوار السور إصطبل سليمان أشبه ببدروم تحت الحرم، وبجوار قبة الصخرة الباب الذهبي كان يحبس فيه الجن متى شاء، ويجاوره عرش سليمان، وقبالته جبل الزيتون مكان تعبد المسيح بين أشجاره، وسيُمَدُّ السراطُ بينهما يوم القيامة، يمسك به الرسول من طرف والمسيح من الآخَر.
وبجانب الحرم من خلفه الحائط أو مبكى اليهود، وهو ما بقي من معبد داود، يقصده اليهود خصوصًا يوم السبت والجمعة عند الغروب وفي الأعياد ووجوههم تولى إليه وهم يندبون مُلكهم الزائل في منظر رهيب، ويقف البوليس عنده دائمًا يفض النزاع بين المسلمين واليهود من أجله.
قمت بالسيارة إلى بيت لحم قرية المسيح، أهلها من أشراف النصارى، وبها كنيسة مريم أقدم كنائس الدنيا، يكاد يُسَدُّ مدخلها خشية هجمات العرب، وفي قلبها مغارة إلى جانبها صخرة مثقوبة كالنجم تضيء من فوقها المصابيح دائمًا، وهو مكان ميلاد المسيح ويراقبه حارس مسلم، وعلى مقربة منها بئر العائلة المقدسة التي سقط فيها النجم الذي هدى مريم إليها، وإلى يمينها مذبح الأبرياء، وإلى يسارها الغرفة التي نزل الوحي فيها على يوسف ليهرب بالمسيح إلى مصر، وفي الطريق إلى «بيت لحم» قبر راحيل أم سيدنا يوسف، وقد استردها اليهود ولا تزال ملكًا لهم، وعلى بُعْد عشرين قدمًا بلدة الخليل، وفيها مدفن إبراهيم الخليل وأولاده ويوسف الصدِّيق، والبلدة فقيرة قَذِرة متربة ويُدفَن إبراهيم داخل المسجد، ويباح دخول النصارى فيه، أما اليهود فمحرم عليهم رغم أنها من بلدانها المقدسة.
وإلى شرق القدس جبل الزيتون، علوه ٨٠٠ متر، وهو مكان تعبد المسيح، وقد خانه هناك تابعه يهوذا ودلَّ اليهود عليه، ومن ذروة هذا الجبل صعد المسيح إلى السماء وترك أثر قدمه في الحجر، وقد أُقِيمت عليه «قبة الصعود» وحولها مذابح كثيرة للقرابين إبَّان تقديس النصارى، ومفاتيحها بيد حرَّاس مسلمين، وللمسلمين مسجد صغير يجاور القبة، وقد وقفنا عند شجرة زيتون عتيقة عمرها ٩٠٠ سنة تُسمَّى شجرة الآلام.
تركنا القدس وسرنا شمالًا وعرجنا على نابلس بلدة الصابون لكثرة ما حولها من شجر الزيتون، ثم مررنا ببلدة الناصرية التي أمضى فيها المسيح طفولته، ثم تسلَّقنا ربى كثيرة تشرف على البحر الجليلي أو بحر طبرية، وهو بحيرة ماؤها عذب، يصب فيها نهر الشريعة من جانب ويخرج من الآخَر، وفي هذا النهر عمد المسيح، وهنا الحد الفاصل بين فلسطين وسوريا. ثم مررنا بربى حطين، وبعدها جبل الدروز البواسل، وهم يعتقدون في تناسخ الأرواح، وعند موت أحدهم لا يحزنون عليه؛ لأن روحه باقية، وهذا ما شجَّعَهم على لقاء الموت، وقد غالبوا الفرنسيين طويلًا.
أخيرًا أشرفنا على دمشق أقدم مدن الدنيا، وهنا أخذ الناس بنصيب من الحرية لم يكن مباحًا في القدس، ويشقها نهر بردي الصغير، ولعل أجمل جهاتها سوق الحميدية في سقفه الحديدي المحدب الشاهق، وفي طرف منه المسجد الأموي وهو مفخرة إسلامية، ففيه يهولك الزخرف والقيشاني تحت بوائكه في امتداد هائل، وفي وسطه مدفن سيدنا يحيى أقامه الوليد بن عبد الملك، وكلَّفَه عشرة ملايين من الدنانير، والصلاة فيه بثلاثين ألف صلاة. وفي ناحيةٍ من ذاك الحي قبة غير ذات بال يدفن بها صلاح الدين — وكم كان أسفي شديدًا أن يكون جزاء حامي الإسلام هكذا!
وفي المدينة كثير من البيوت الأثرية العربية الطراز، أذكر منها دار العظم. والناس أهل أدب وكرم وظرف رغم ما في منطقهم من غلظة، والمعيشة هناك رخيصة، ولن أنسى يوم طلبت في المطعم نصف رطل من الكباب، فقدَّم الرجل أمامي كومةً هائلة من اللحم هي رطلان ونصف مصري، فأكلت نحو أوقية وشبعت، على أن الغرامة لم تكن كبيرة؛ إذ دفعت ثمن كل ذلك اثني عشر قرشًا. ومن البلدان الجديرة بالزيارة: بعلبك آخِر آثار الرومان الوثنية، موقعها على نبع ماء غزير، وعلوها ١١٢٠ مترًا، وأفخم ما بها معبد «بعل» من آلهة الصابئة الذي هدمه النصارى لما رأوه أفخم من كنائسهم، ولم يَبْقَ من أعمدته الخمسين سوى ستة تشمخ في الجو ٦٠ قدمًا، وقد أقام العرب مسجدًا كبيرًا رأينا أطلاله هناك.
ثم عرجنا على لبنان فزرنا زحلة وبحمدن وعلية والأرز من بلاد الجبل، وتقع زحلة في حضن وادٍ تكثر حوله الينابيع التي أقاموا لها مجاري وشيَّدوا حولها الفنادق والمقاهي، فكنَّا أينما جلسنا نجد المياه تنساب تحت أقدامنا وذاك الجو المنعش لسبب علو البلدة ٩٠٠ متر، ولعل أجمل هذه المصايف «الأرز»، وهي أعلى البلاد، تكسو رُبَاها الثلوجُ، وتحيط بها أشجار الأرز التاريخية التي كانت عونًا على إيجاد روابط الصداقة بيننا وبين لبنان الشقيق منذ آلاف السنين، وكم تزحلقنا على ثلوجها، واستمتعنا باللعب بها، بل وبالتهام حبات ثلجها الشهي.
ثم عدنا إلى سوريا وحللنا حلب ذات المساجد العديدة، وأكبرها المسجد الجامع خامس مساجد الشرق الأدنى، ويضم رفات سيدنا زكريا أبي يحيى عليهما السلام، وأعجب ما فيه مئذنته المربعة، وأروع ما بالبلدة قلعتها فوق صخرة هائلة حولها فندق كبير، وأسواق البلدة مغلقة وكأنها السراديب تحت الأرض، ويُعرَف عن حلب شح مائها؛ إذ مستمدة من الآبار، وكان من قبلُ من نهير صغير كانت تقوم عليه نواعير حلب الشهيرة لرفع الماء، أما اليوم فكاد ينضب ماؤه.
(٥) بلاد المغرب
في ثلاثة أيام أقبلنا على أرض طرابلس في صفحة صخرية عريت عن النبت، ورسونا على «درنة» بأبنيتها الحجرية وأَزِقَّتها المنحدرة النظيفة وبيوتها التي تغشاها شباك الحديد وكأنها السجون، وبدا الناس في سراويلهم وطرابيشهم الغليظة، يسودهم الهدوء وقلة الحركة من أثر وحشة المكان، فليس مما يحوطهم سوى البحر والجبال والصحراء، ولسانهم عربي ركيك لا يكاد يُفهَم، ويؤثرون التفاهم بالطليانية ويجيدها حتى الأطفال، ثم حللنا بعد ذلك «بني غازي» فظهرت مبسوطة كالإسكندرية، مُدَّتْ شوارعها وأبنيتها الحديثة في وجاهة وحسن تنسيق، وكانت تقصد إيطاليا من وراء ذلك الدعاية الجوفاء، والقوم كرام حتى إنهم لما علموا أني غريب عدوني ضيفًا ودفعوا عني ثمن القهوة دون سابق معرفة، وأبوا أن يتسلموا ثمن الخبز الذي اشتريته من المخبز، وأينما سرت سمعت عبارة: بالك جواردا، برمسو بأذنك.
أخيرًا حللت العاصمة «طرابلس» وهي شبيهة سابقتها، إلا أنها أكبر، والحي الحديث فاخر عظيم، والقديم أزقة تسند جدرانها البوائك، ولليهود حي هائل، وبيدهم جل الثروة في البلاد.
قمنا إلى «تونس» فعرجنا على مالطة بصخورها العاتية التي تنفذ منها المدافع هنا وهناك، وأبنيتها تبدو كأنها أقيمت طبقات. واختلاف السن والأزياء من الأعاجيب وأغربها أزياء النساء في ملاءات فضفاضة، وعلى الرأس والوجه مظلة نصف دائرية متصلة بالملاءة، وكلهم مسيحيون متعصبون جدًّا، فلا تكاد ترى مسلمًا ولا مسجدًا، وهنا فهمت معنى المثل القائل: «بيدن في مالطة.»
ومن الأحياء الجميلة «بل فدير»، وكأنه الغابة تتوسطها المتنزهات تشرف على البلدة كلها في منظر بديع، ثم ضاحية «باردو» وبها قصر الباي الفاخر والمتحف، ثم «قرطاجنة» فوق ربوة تشرف على البحر، ولم يَبْقَ منها سوى أطلال بائسة، ثم «سيدي بو سعيد» وهي ضاحية إسلامية أرستقراطية، و«المرسى» وبها مساكن خليط من الإفرنج والمسلمين، ويقولون إنها ند للبنان بين المصايف ولها مستقبل عظيم، وقد حضرت حفلة مولد النبي هناك، وهم يحتفلون به جميعًا، ومركز الاحتفال مسجد الزيتونة، وقد رأيت الباي وهو يمر حتى على الحوانيت جميعًا مسلِّمًا على أصحابها في ديمقراطية حقة، وأدهشني شدة هدوء الناس حتى في هذا الزحام الهائل، وتونس تشتهر بأنها بلد الهدوء، أما الجزائر فبجمال مناظرها. وعربية القوم ركيكة تكاد الفرنسية تحتل مكانها حتى بين العامة، على أن الصحافة المصرية منتشرة في كل مكان هناك. قمت بالقطار إلى القيروان فسرنا جنوبًا وسط سهول «النعمة» كما يقولون وهي الغلال، وكانت تكثر أشجار الزيتون وهو أول منتجات البلاد تحف بمزارعه أسوار من التين الشوكي، والبلدة متأخرة جدًّا، بيوتها كالسجون البيضاء وشوارعها أزقة ملتوية وحولها الأسوار الهائلة، والمساجد لا تُحصَى وأكبرها مسجد سيدي عقبة بن نافع زعيم الدعاية الإسلامية في شمال أفريقيا، ومحرابه قطعة فنية، ويدرس به الطلاب على نمط مسجد الزيتونة، وعنده بئر «باروتة» وكأنها زمزم في تقديسها، وفي أسواقها تُعرَض الطنافس التي تزاحم السجاد العجمي، ومن الناس فئة كبيرة من المتسولين والمشعوذين والمرضى والفقراء.
قمت وفي القلب حسرة؛ إذ لم تفدني عربيتي بقدر الفرنسية في التفاهم حتى مع الأطفال، ومن لغتهم: ياسر أي كثير، وخاطركم أي الوداع، ومن غادي أي من هناك. وتحدي فرنسا الديني بالغ الحد؛ إذ تقيم تماثيل القديسين والصلبان حتى في الأحياء الوطنية وعلى بعض المساجد القديمة، وهي تحاول تجنيس الناس بالجنسية الفرنسية كما فعلت في الجزائر، وحتى الجرائد ترى الفرنسية فيها هائلة، أما العربية فقصاصات صغيرة لا شأن لها، ومستوى التعليم منحط جدًّا، والتدريس كله باللغة الفرنسية، وحتى التعليم العالي مقصور في بعض نواحيه على الفرنسيين دون الوطنيين، ويشارك الفرنسيون الناس حتى في وظائف السعاة والخدم، على أن تونس لا تزال تفاخر بأنها زعيمة التعليم الديني، يَفِدُ إليها طلاب المغرب جميعًا، أما التعليم الحديث ففي جامعة الجزائر، ونساء تونس يظهرن في ملاءاتهن البيضاء المهفهفة وكأنهن الملائكة. والزواج هناك متأخر بعد العشرين للفتاة والثلاثين للفتى، وذلك لغلو المهر ولانصراف الشبان إلى مصادقة الخليلات من الفرنسيات، وقد كثرن من أيتام الحرب الماضية.
(٥-١) إلى الجزائر
ما كدنا نجتاز الحدود حتى انتقلنا إلى جنة ساحرة المناظر، جبال وغابات وزهور ووديان ومساقط وأنفاق، وأخيرًا دخلنا المدينة وهي درجات فوق بعضها، أذكرتني في جمالها وتنسيقها بباريس، فمظهرها إفرنجي بحت وقد أغفلت الأحياء الإسلامية إغفالًا تامًّا وهي إلى طريق الفناء، وحتى الزي الوطني ندر جدًّا وهو سروال فوقه برد أبيض يلف حول الكتف، وعمامة كالقمع المقلوب عليها شاشة تغطي جوانب الوجه والقفا وتُلَفُّ عليها جدائل كالحبال، وحتى أولئك يتخاطبون بالفرنسية ولا يكاد يؤم المساجد أحد إلا حفنة من المتسولين القذرين والفقراء البائسين، كل ذلك من أثر قرن واحد للاستعمار الفرنسي. أما تونس فلا يزال للإسلام فيها بقية؛ لأن أمد الاحتلال خمسون عامًا، وفي الميادين الرئيسية تماثيل كبار الفرنسيين. دخلت الجامع الكبير الذي بناه المرابطون ومكتبته بها ٤٠ ألف مجلد ليس فيها كتاب واحد من عمل أهل المدينة؛ لذلك عُرِفت «بمدينة الجهل والأمية»، والبلدة تُعَدُّ الميناء التجاري الثاني لفرنسا على البحر الأبيض، وأحياء المدينة ثلاثة: مصطفى الأعلى وهو للطبقات الراقية والإفرنج، ومصطفى الأدنى للتجارة ولمساكن الطبقة الوسطى، والكاسبا «القصبة» وهو الحي الوطني الفقير بأزقته ومطاويه، ينتهي بالقلعة القديمة ومسجد قديم رُفِع على منارته الصليب، ويخالط الفرنسيون الناس في كل الأحياء، وقد تشارك فرنسية وطنية في المسكن حتى في الأحياء الفقيرة، وقد تراهما يعدان الكسكسي أمام الباب معًا، وقد لمست أن انتشار البؤس والعوز هناك أكثر منه في تونس؛ لأن توزيع الثورة متعادل في تونس دون الجزائر.
(٥-٢) إلى مراكش
قمنا نخترق شبه سهول مملة فقيرة بنبتها ومناظرها، ودخلنا فاس، وحللنا الحي الإفرنجي خارج الأسوار، أما داخلها فالمدينة قديمة تحكي تحت الربع عندنا لا نرى بها كنيسة واحدة وبها ٢٧٠ مسجدًا، والأسوار هائلة وبواباتها بالغة الضخامة والجمال، وهندام الناس الجلباب كالعباءة المقفلة، ولها كبود كبير يتصل بها، والبلغة من جلد أو قماش مزركش يلبسها الجميع نساء ورجالًا، ويصعب التمييز بين النساء والرجال في الزي، وأشهر المساجد مسجد قيروان ومسجد سيدي إدريس وهو ولي يستولي على أذهان الجميع هناك وأبوه يُدفَن في مكناس. وهم يسيئون الظن بالغريب جدًّا؛ حدث مرة أنهم هاجموني وأنا في المسجد وأمروني بالخروج لأني كافر أدخل المسجد حاسر الرأس، وعبثًا حاولت إقناعهم بأني مصري مسلم، وأخيرًا اضطررت إلى الانسحاب، وكراهتهم للأجنبي شديدة جدًّا لكن التأخر بينهم شديد لسوء الحظ، وجل بيوتهم في سراديب تحت الأرض، والبلدة تستقي من مياه العيون التي تجري مختبئة تحت قدميك في كل مكان وأنت تسمع خريرها، وسحن القوم بيضاء جميلة.
مكناس
دخلناها من مجموعة أسوار هائلة بعضها داخل بعض، وكانت مقر مولاي إسماعيل، والناس على جهل وقذارة يحلقون رءوسهم ويرسلون ذؤابة طويلة جدًّا في وسط الناصية وقد تكون في جانبها، ويكثرون من ارتياد المقاهي البلدية، ويشربون الشاي يصب على حزمة من النعناع الأخضر تكاد تسد الإناء، وفي الميادين يقف المدَّاح والناس حوله في حلقة هائلة، وبالمدينة من الخارج قسم فرنسي صغير.
أما رباط
فبيوتها وطيئة بيضاء، وتحكي سالفتها في كل شيء إلا أن طوابيها تطل على البحر، والحكومة بدأت تتدخل بحجة إصلاح التعليم الديني وهم يقاومونها، وقد فشل التغلغل الأجنبي هناك، إلا أنهم يحاولون الإكثار من الإفرنج في الريف رغم ما في ذلك من كراهة لهم وخطر عليهم، وفيها مقر السلطان والحاكم الفرنسي ولو أن العاصمة هي:
الدار البيضاء
ويسمونها «كازا»، وهي سهول بجانب البحر تتخللها بعض الأودية المختلفة الملتوية، والحي الإفرنجي هناك هائل رائع في قصوره وشوارعه ومتنزهاته ونظامه فكأنه بلد أوروبي عظيم، وبمجرد اجتياز «باب مراكش» ندخل الحي الوطني على النظام الشرقي الأندلسي المألوف، وبيوتها القديمة بيضاء لذلك حملت البلدة هذا الاسم، أذكر أنني رأيت في الصور ناحيةً بيوتُها غريبةُ الهندسة جذَّابة تحمل اسم درب السلطان، فسألت كي أصل إليها فكانت سخرية مني لم أفهم معناها، ولما أن وصلتها ألفيت تلك المباني البديعة يحلها البغايا اللائي أحطن بي وسط الطريق، ولم أنجُ منهن إلا بأعجوبة. قمنا بالسيارات الفاخرة إلى مراكش: ولما قاربناها بدت غابات نخيل البلح لأول مرة، ونزلنا في الحي الجديد واسمه لجليز — أي الكنيسة — وسارعنا إلى البلدة القديمة يتوسطها ميدان هائل يطل عليه المسجد الكبير بمئذنته الهائلة واسمه مسجد الكتبية، ويسمون الميدان «جامع فناء» وصحته فناء الجامع، وتزاحُم الناسِ هناك شديد، وكثير منهم من الفقراء والمشعوذين، وكم أشبعوني شتمًا وهم يشيرون إليَّ قائلين: «النصراني النصراني اليهودي اليهودي.» وسحنهم منفرة وهندامهم غير جذَّاب، يحملون جميعًا الخناجر وبعضهم يحمل جعبًا من جلد، ومنطقهم سقيم، فمثلًا: چوچ أي اثنين، وخسًّا أي نعم، بالزاف أي كثير، كاين أي موجود، آش خبارك فيقول لباس أي لا بأس.
وتحوط البلدةَ أسوارٌ هائلة، وإلى الجنوب منها ضاحية أسني وسط جبال الأطلس على علو ١٢٠٠ متر، والجبال تشمخ من ورائها إلى ٤٠٠٠ متر، وأهلها يمقتون الأجانب، ولم تستطع فرنسا إخضاعهم في أية ناحية، فتركت لرؤسائهم حكم البلاد من قلاعها العاتية. وبلاد مراكش كلها أقل الجهات تأثُّرًا بالأجنبي؛ لذلك رماها الإفرنج بأنها «الغرب الهمجي من بلاد الشرق»، ولكي أصل إلى طنجة لا بد من اختراق الريف؛ لذلك اضطررت إلى تأشيرة إسبانية، ثم دخلت الريف في سهول شبه مجدبة، وكلما قاربنا الشمال زادت الربى والجبال، وزاد الشجر وبخاصة الفلين والزيتون والكافور، وبدت القرى أقل تهذيبًا وأفقر ناسًا، مبانيها أخصاص من القش متحدرة السقوف، وفي المباني الرئيسية زادت الهندسة الأندلسية من بوائك وقيشاني، والإسبان أكثر تسامحًا من الفرنسيين؛ لذلك قلَّ كره الناس لهم، وجل الناس يجيدون الإسبانية. دخلت المنطقة الدولية ويحكمها مندوب عن سلطان المغرب مفوَّض في كل شيء بالاتفاق مع سائر الدول، وليس للسلطان قبله إلا الدعاء في المساجد، أما المنطقة الإسبانية فحاكمها خليفة عن سلطان المغرب ومن أقاربه، يحكم تحت الحماية الإسبانية.
دخلنا طنجة على مدرجات تشرف على البوغاز وكلها أزقة منحدرة وأسوار وبوَّابات، وأعلى بقاعها «القصبة»، وفيها حي إفرنجي نظيف جديد، وهالني اختلاف السحن والأزياء، وأية لغة تكلَّمْتَ فهمها القوم وردوا عليك بها، لكن اللغة السائدة هي الإسبانية. والبوليس مختلف؛ ففي هذا الطريق إنجليزي، وفي ذاك فرنسي، وفي ثالث إسباني وهكذا، كذلك فإنهم يقبلون أي نوع من النقود العالمية، ولكل دولة بريد ومصارف، ولك أن تستخدم ما تشاء، وللأجانب محاكم شبيهة بالمحاكم المختلطة، والمسلمون يحكمهم بوليس المندوب في دار المندوبية، ومظهر البلد إسلامي بحت بالمساجد والأسبلة والقباب والصوامع، والمساجد غاصة بالمصلين على الدوام، أما المجون في الأحياء الإفرنجية فلا حدَّ له ويستهوي من الأهلين الكثير وبخاصة في ميدان إسبانيا كثير المراقص والمواخير. قمت إلى تيطوان في طرق جبلية والبلدة على مدرجات صخرية، وأفخر ما بها ميدان إسبانيا، وعليه بيت الحاكم وقصر الخليفة، أما الحي الوطني فظريف جذَّاب لا تزيد سعة الأزقة فيه على مترين، وبعضها مظلم رطب نظيف، وأهل الريف أنظف كثيرًا من أهل المغرب، والناس أكثر تقوى يدأبون جميعًا على تلاوة القرآن حتى في الحوانيت والطرق، وبها ناحية لليهود، وأحياء اليهود في جميع بلاد المغرب تسمى «الملاح»، وهي منعزلة تمامًا عن مساكن المسلمين، وإذا أقبل الليل زادت الحركة جدًّا في الميادين المنسقة التي تُعزَف فيها الموسيقات كل يوم على غرار بلاد إسبانيا، ويزيدها جمالًا كثرة الينابيع في كل مكان.
دخلنا قرية شيشوان التي آوى إليها فلول مسلمي الأندلس وغرناطة بعد طردهم من إسبانيا واحتموا بجبالها، وظلت سرًّا مكتومًا لم تطأها قدم مسيحية إلى سنة ١٩٢٠ حين دخلها الإسبان عنوةً، والتعليم متأخِّر وروح المقاومة للإسبان عنيفة، وحدث أن مررت في بعض أزقة حي القصبة فهاجمني النساء وأشبعوني سبًّا بقولهم «النصراني النصراني» فنجوت بنفسي على الفور، ويحاول المحتلون التفريق بين العرب والبربر، ويشجعون البربر قائلين لهم بأن الحضارة هناك بربرية وليست عربية، لكن عقلاء الطائفتين لا يعيرون ذلك اهتمامًا.
قمت إلى سبتة أو سيوتا على البحر الذي يوغل فيها بألسن لا حصْرَ لها، ومظهرها إفرنجي، وقد اختفى الأثر الإسلامي تمامًا فليس بها مسجد واحد، ومنها نقلتنا الباخرة في ساعة ونصف وسط ماء مضطرب مخضر اللون إلى اليمين، صافي الزرقة إلى اليسار «الأطلنطي»، وبدت صخرة جبل طارق من بُعْد كالهرم الهائل، ومن قُرْب كأبي الهول الرابض، ورسونا على الجزيرة «الجزيراس» وكأنها الجزيرة حقًّا؛ لأن صلتها بالبر نحيلة وتكاد تكون صناعية.
قمنا إلى غرناطة بالسيارات وسط الأرض المموجة المخضرة البديعة وجبال سيرانيڨادة على بُعْدٍ، ثم أخذنا نهبط إلى سهول غرناطة الشهيرة بالغلال فلم ترقني البلدة كثيرًا؛ إذ يعوزها النظامُ في مبانيها وشوارعها والنظافةُ في أهلها، وإنْ بدت فيهم جميعًا الملامح العربية. أقبلت على قصر الحمراء في حدائق وغابات هائلة، فذهلت مما رأيت: نقوش وأقبية وبوائك وعمد ومقصوص الرخام وخرط الخشب والخط الكوفي والقيشاني والنافورات والمشربيات، خصوصًا في بهو السباع وفي مسجد القصر وبهو العدل ومقصورة الحريم والحمام؛ آيات للفن بيِّنَات، وكلما طوحت ببصري قرأت «لا غالب إلا الله والملك لله وحده»، فكأنهم كانوا يتنبئون بما يخبِّئه الحظ لهم من طرد وتشريد وقتل. وأسوأ ما في القصر الجزء الذي زاده شارلمان وكأنه الوصمة، وذلك من شدة التعصب، وفي بهو الشعراء سلم العرب لجنود فرديناند، ومن الآثار العربية قصر الصيف البديع فوق المرتفعات، وبالمدينة عدة كنائس أكبرها الكاتدرائية التي يُدفَن فيها الملوك الكاثوليكيون ومن بينهم فرديناند وإيزابلا. وكان حر البلدة لا يطاق أشد من حر شمال أفريقيا لانحدارها إلى الشمس جميعًا.
قمنا بالقطار إلى قرطبة في طريق قذر مترب محطاته مهملة، وكان باعة الماء يصيحون عليه في القلل الفخارية الحمراء قائلين: «أجوا أجوا»، وما أكثر المتسولين هناك، وفي ثماني ساعات دخلنا المدينة فبدت خفيفة الروح، مساكن الأغنياء قصور فاخرة، والهندسة العربية بالقيشاني في الأرض والجدران تتوسطها النافورات والمصابيح التي تحكي مصابيح المساجد، والأحياء القديمة أزقة نظيفة جدًّا، أما الكنائس فلا تُحصَى وكثير منها مساجد رُفِعت عليها الصلبان، وأفخرها الكاتدرائية أو المسجد الجامع، مساحته ٢٣ ألف متر مربع، ظاهره كالقلاع العاتية تعلوه بدرج هائل وأبوابه لا تُحصى ولا يزال يزينها الخط العربي الرشيق، ومن الداخل غابة من الأعمدة بقي منها ٩٠٠، وكانت من قبلُ ١١٠٠ تقوم عليها بوائك مزدوجة، والسقوف بخرط الخشب الثمين والمحراب بُولِغَ في زخرفه من مقصوص المرمر والرخام، بناه عبد الرحمن الأول في القرن الثامن على أنقاض كنيسة، ولما فتحه فردناند هدم وسطه وأقام فيه كنيسة هائلة، لكنها لم تَنَلْ من جلال المسجد، وجاء شرلكان فأمر بإخفاء كل أثر إسلامي، فكُسِيت السقوف بالجص، وردمت الأرض نصف متر، لكن حكومة الجمهورية بدأت تكشفه اليوم من جديد، وكان يتصل المسجد بالقصر «الكازار».