في منزل الوحي
ما وافت الساعة الرابعة من مساء يوم السبت حتى تحركت بنا زمزم بسم الله مجراها ومرساها تختال وسط مياه خليج السويس، ولأول مرة سمعت القرآنَ الكريم يدوي في عرض البحر ويصيح المؤذن ويقوم الإمام بالناس مصليًا الأوقات الخمسة، وظل المذياع يعدِّد لنا فضائل الحج ويشرح مناسكه. وعندما قاربت الباخرة مدينة رابغ من بلاد الحجاز في الرابعة من مساء الإثنين نفخت في بوقها إيذانًا بالإحرام، فسارعنا إلى الحمامات لنتطهَّرَ، ثم لبسنا من الثياب ما ليس مخيطًا ولا محيكًا أعني لفافة بيضاء أسفل الجسد تلف حول الخصر، ويُلقَى بشكير أبيض حول الأكتاف، والرأس يترك عاريًا، والنعل المكشوف في الأقدام. وكم حذَّرنا القوم أن نحك في رءوسنا فتقع شعرة أو أن نقص شعرنا أو نحلق لحيتنا أو نقلم أظافرنا وإلا وجبت الفدية؛ لأن ذلك ممنوع في الإحرام، وسرعان ما بدا الجميع في لفائفهم البيضاء حاسري الرءوس، أما النساء ففي جلابيب بيضاء فضفاضة وطرح مهفهفة ناصعة البياض، وبدأ الجميع التلبية في صوت جهوري قائلين: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وهم رائحون غادون على سطح السفينة، وتلك يقولها الإنسان بدل التحية، بدا الجميع في زي متشابه بسيط، الغني منهم والفقير، وهنا تجلت حكمة الإحرام؛ إذ زالت فوارق الطبقات وتساوى الجميع.
وفي باكورة الثلاثاء بدت تلال جدة التي عريت عن كل نبت، ورسونا على مسافة ثلاثة كيلومترات من الشاطئ؛ لأن البحر الأحمر قليل الغور كثير الشعاب، فهاجمتنا الزوارق لتنقل الناس ومتاعهم، ولما نزلت البر سألني الشرطي: مَن مطوفك؟ قلت: عمر المداح. فتسلمني رسول هذا المطوف وحمل متاعي إلى بيته، والمطوف هو الشخص المسئول عن الحاج قبل الدولة في كل شيء، فآويت ليلتي إلى بيته العتيق الرطب، ولم أكد أغمض الجفن بسبب سحابات البعوض التي لا تطاق. وجدة بلدة صغيرة غير ذات شأن، أخص مظاهرها تبدو في مشربيات بيوتها الخشبية التي تكاد تتلاصق، وفي ناحية مستحدثة منها دور السفارات الأجنبية وبعض الفنادق ومنها فندق بنك مصر، والماء هناك شحيح جدًّا، وتباع «التنكة» بقرش سعودي ونصف، أي ستة مليمات، وأغلى الماء ما كان من الكنداسة، وهي مكثفة ماء البحر.
وفي الصباح قام بنا اللوري وبه ١٦ راكبًا يشق طريقًا وعرًا غير معبَّد، ولم تخلُ مناظر الطرق من الجمال شدت عليها الشقادف واحد إلى اليمين والآخَر إلى اليسار، والشقدف هودج كأنه السرير المسقوف، وفي كل واحد يجلس مسافر واحد أو ينام، وكانت الأرض حولنا صحراوية لا يظهر بها سوى عشب رقيق مهفهف يجدلونه في شبه حبال غليظة يطعمون منها سائمتهم طوال العام. وفي منتصف الطريق وقفنا بقرية من أخصاص اسمها «بحرة»، وهنا جلسنا في مقاهيها نشرب الشاي اللذيذ، ثم واصلنا السير وقد تلوَّى الطريق وزادت تلاله النارية المجدبة، وفي ثلاث ساعات ونصف بدت أبنية مكة المكرمة على بُعْد، ثم دخلنا بابها ونحن نصيح بالتلبية الرهيبة، وسرنا في أزقتها والجبال تطوقها تمامًا، ونزلنا بيت المطوف وكأنه الخان العتيق جمع من الناس خليطًا لا أول له ولا آخِر، والغلام يطوف على الجميع بكئوس الشاي طوال النهار. ألقينا متعانا وسارعنا إلى البيت الحرام لنتحلل من الإحرام الذي أوقعني في ربكة شديدة؛ إذ كيف يتحرك الإنسان منا بحرية وليس على جسده سوى لفافات من قماش لا ضابط لها: فكلما تحركت حركة عنيفة سقط الرداء وأصبحت عاريًا أمام الناس؟ دخلنا الحرم من باب السلام يتقدمنا المطوف، ومررنا بمقام سيدنا إبراهيم إلى يسارنا، وحاذينا الحجر الأسود الذي كان لاصقًا بركن الكعبة وقد أحيط بإطار بيضاوي من الفضة حفظًا له من التصدع، وطوله نحو متر ولونه فاحم برَّاق، وضعه سيدنا إبراهيم في هذا الركن علامة على بدء الطواف حول الكعبة.
أخذ المطوف يكبِّر ونحن نتبعه وحاولنا عبثًا تقبيل الحجر بسبب شدة التزاحم عليه، وكان الجنود ينهالون ضربًا على الناس الذين يتمسكون به مستميتين، ولمَن لا يستطيع تقبيله أو لمسه أن يشير إليه بيده ويكبِّر «بسم الله الله أكبر»، وفي هذا الحجر قال سيدنا عمر: «والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ قبَّلَك ما قبَّلْتُك!»
جعلناه إلى يسارنا وتبعنا المطوف مهرولين، ومررنا بباب الكعبة من فضة ثقيلة مزينة بالذهب، ثم مررنا بالركن العراقي، وعنده رأينا الحطيم في شبه سور نصف دائري يحجز متسعًا بينه وبين الكعبة يسمى حجر إسماعيل يكثر الناس فيه من الصلوات، ثم إلى الركن الشامي وعنده خففنا السير كما فعل رسول الله بجنوده تمويهًا على الكفار ورأفة بجنوده، ثم جاء الركن اليماني الذي مسحنا به أيدينا، ثم عدنا إلى الحجر الأسود، وهكذا كررنا الطواف سبع مرات، والرجل يقول أدعية ونحن نردِّدها وراءه، ونقطع في هذا الطواف نحو ٧٠٠ متر، ولا يقل الطواف يوميًّا عن خمس مرات، أي نحو أربعة كيلومترات، وبعض الناس يطوف سبعين مرة يوميًّا أي نحو ٦٥كم. وكم رأينا طفلًا يحمله أحد الحجاج والطفل يصيح في صوته الرفيع بعبارات الأدعية التي لا يفهم لها معنى والرجال من ورائه يرددون ما يقول! أخيرًا عرجنا على مقام سيدنا إبراهيم وفيه الحجر الذي كان يقف عليه وهو يراقب بناء الكعبة، وتغطيه قبة تقوم على أربعة أعمدة ويستحب الصلاة عندها ركعتين بعد الطواف، قال تعالى: وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، وعلى الحجر أثر قيل إنه من قدم إبراهيم، ويغطى بالحرير المقصب الذي يُرسَل من مصر مع الكسوة الشريفة، وقيل إن سيدنا إبراهيم مدفون تحته.
وإلى يساره بناء تحته بئر زمزم تنتشل مياهها بالبكر، والزمازمة يملئون صفائحهم وجرارهم وأكوازهم ويسقون الناس تبرُّكًا، وكم قال لي الكثير بأن ماءها كاللبن حلاوةً وعذوبةً، لكني ألفيته غضًّا مالحًا، والناس يشربون منها بإسراف شديد، ويرشون الماء على أجسادهم وملابسهم، ويغسلون مقاطع من الأقمشة الجديدة ليزمزموها ويحفظوها لتكون لهم كفنًا عند موتهم، وقصتها أن هاجر أثناء بحثها عن الماء في هذا المكان جاءها مَلَك وضرب المكان، فتفجَّرَ الماء وشرب قومها الذين كاد يقتلهم العطش، ولما رأى إبراهيم تدفُّقها الشديد قال لها: «زمي زمي.» فكان اسمها.
والكعبة تبنى بالحجارة الجرانيتية السوداء، علوها ١٥ مترًا، وتواجه صفحاتها الجهات الأربع، وبابها في الواجهة الشرقية، وهي من داخلها غرفة تتوسطها ثلاثة أعمدة من خشب العود الثمين، تُفتَح في الصباح ويدخلها الكثير ويصلون ركعتين في مواجهة كل صفحة، وتكسو حوائطها الداخلية ستائرُ من حرير أحمر به مربعات كُتِب عليها «الله جل جلاله»، وفي مواجهة الباب محراب كان يصلي النبي فيه كلما دخلها، وحول سطحها سور في علو قامة الرجل، ويطل منه على الحطيم الميزاب في قناة من ذهب خالص تزيد على المتر، وبواسطتها يصرف ماء المطر. أما الكسوة التي تُرسَل من مصر فتُغطَّى بها الكعبة من الخارج، وكم أراد الكفار بالكعبة هدمًا لكن الله حماها وأرسل عليهم طيرًا أبابيل ألقى عليهم حجارة من سجيل، أي طين ملوث بالميكروبات ففتك بهم، وقد رأينا هذا الطير هناك وكأنه عصفور الجنة الأسود الصغير. خرجنا من باب الصفا لكي نسعى بين ربوتين: الصفا في ناحية والمروة في الأخرى، وهما اللتان اعتلتهما هاجر بحثًا عن مورد للماء وهي تجري بينهما. كنا نكبِّر ثم نجري بين هذه وتلك سبعة أشواط، بعدها تحللتُ من الإحرام فسارعتُ إلى البيت وعدتُ إلى ملابسي الأصلية، وحلقت لحيتي وتطيَّبْتُ، فشعرت بقيمة تلك النعمة بعد أن حرمتها زمنًا وتمنيت إلى الله أن يديمها عليَّ. وقد صليت ظهر الجمعة في الحرم الشريف والناس كأنهم من الزحام في يوم الحشر يصطفون حول الكعبة ووجوههم تولى إليها، وما كدنا نتم الصلاة حتى زاد هرج الناس استعدادًا للرحيل إلى عرفات، فكانت المطايا على اختلافها تسد الطرق من سيارات وإبل وسط الغناء والزغاريد والهياج.
وجاءني المطوف يأمرني بالاغتسال والإحرام ثانيةً فاستأنفت هذا التقشف، وقامت السيارة في طريق مترب يغص بالسيارات والدواب وبالناس الذين اعتزموا قطع تلك المسافات الشاسعة مشيًا على الأقدام رغبةً في مضاعفة الثواب، وبعد ساعة أقبلنا على متَّسع رملي هائل حوله الربى الجدباء، ومن بينها جبل الرحمة وهو تل وقف عليه النبي ﷺ وأشار إلى السفح كله وقال: «كل هذا عرفات.» هنا رأينا الخيام تكاد تسد المكان وكأنها خلايا النحل، والناس من حولها رائحون غادون وقد خطت بينها طرق مستقيمة بها أسواق يعرض فيها كثير من المبيعات والأطعمة، ومن أسفل جبل الرحمة هذا تجري مياه «عين زبيدة» وافدة من وادي النعمان خلال مجرى مغلق وكأنه السور المتلوي، وبين فترة وأخرى تُترَك فتحة يملأ القوم منها جرارهم، وقد أوصلتها زبيدة زوج هارون الرشيد إلى مكة. آوينا إلى خيامنا وكل مطوف أعَدَّ منها مجموعة لحجاجه تتوسَّطها خيمة الجلوس والاستقبال، واحدة للنساء وأخرى للرجال، والمطوفون زهاء ألف يصيب الواحد نحو مائتي حاج يتقاضى على كل واحد من الحكومة جنيهًا وربعًا، وكل حاج يناوله قبل سفره مالًا يقل عن ذلك: أعني أن دخل الواحد يتراوح بين ٥٠٠ و١٠٠٠ جنيه في موسم الحج. هنا في رحاب عرفات جبل التعارف والصفاء، تعارَفَ المسلمون على اختلاف طبقاتهم وأجناسهم، ومن قبلُ تعارَفَ عليه آدم وحواء بعد نزولهما من الجنة، وقد مرت بنا قِطْعان الخراف لنشتري منها فديتنا، وكان الخروف بخمسة ريالات سعودية، أي أربعين قرشًا مصريًّا، وما كدنا نصلي الظهر حتى شُغِل الجميع بالدعوات والتضرُّع إلى الله أن يغفر لنا ما تقدَّم من ذنبنا وما تأخَّر، وظل ذلك بين الظهر والفجر وهو وقت عرفات الحقيقي. وكم حذَّرنا القوم أن نقتلع عشبًا أو نقتل حشرة؛ لأن ذلك محرم، وحتى البعوض والذباب الذي كنا نهشه برفق وإلا وجبت الفدية إن ماتت إحداها.
وعند الأصيل أعدت السيارات وقامت بنا إلى حدود عرفات عند مسجد «نمرة»، وهناك وقفنا نرقب غروب الشمس حتى إذا ما حان بدأت النفرة من عرفات إلى مزدلفة لجمع الجمار، والطريق بين عرفات ومزدلفة يُسمَّى بالمشعر الحرام، هناك افترشنا الأرض جميعًا وأخذنا ننبشها طوال الليل لنخرج منها مجموعة من الحصى لها حجم بين الحمصة والفولة، وعددها ٤٩ جمرة لا فرق بين غني وفقير، مرفَّه وحقير، وكم من مرة ظهر في الحصى بعر الغنم أو الخنافس والجميع منكبون على الأرض وقد حفيت أصابعهم من التنقيب في ذاك الظلام الموحش، فقلت في نفسي: سبحانك ربي أليس في ذلك ترويض للنفس وإذلال لكبريائها! وعند الفجر ركبنا زهاء نصف ساعة أوصلتنا إلى «منى»، وكان المطوف قد أعَدَّ لنا فيها خيامًا خشنة، وقبل الشروق قادنا الغلام لنرمي الجمار: أولًا جمرة العقبة عند عمود ضخم، قال لنا: إنه يمثِّل الشيطان الكبير فارجموه سبع مرات وكبِّروا عقب كل رمية، وهو يرمز للمكان الذي وسوس الشيطان فيه لإبراهيم ألَّا يذبح ابنه وأن يعصي ربه. ثم ذهبنا نرجم إبليس الأوسط حيث وسوس لهاجر زوجته، ثم إبليس الأصغر حيث وسوس لإسماعيل أن يعصي أباه. ولبثنا نكرِّر ذلك كل يوم مدة ثلاثة أيام، ثم زرنا هناك المغارة التي أخذ إبراهيم يذبح ابنه فيها، فأنزل الله الكبش له من السماء ليفديه به، ومن هنا كانت عادة الفداء في عيد الأضحى.
وهناك زرنا مسجد الخيف الذي تتوسَّطه قبة ومئذنة، وفيه أقام الرسول خيمة لما أن هرب من كفَّار قريش فتعقَّبوه ورموا عليه صخرة من فوق الجبل وهو قائم يصلي، ولما أن كادت تصله أوقفتها القدرة الإلهية، وقد رأيناها في مكانها، وسمي الخيف تحريفًا عن الخوف؛ لأن المسلمين كانوا يخافون الكفار أن يلحقوا بهم هناك. ولوزارة الأوقاف المصرية هناك سبيل فخم عظيم كنا نرتوي بمائه العذب النقي، وقلما تجد في منى ماء نظيفًا تطمئن إلى شربه؛ هذا إلى العفونات التي تصعدها آلاف الجثث من الذبائح التي تُلقَى لكثرتها ولا ينتفع القوم بها، وغالب العرب يعفون عن أكل لحم الفدو على أن بعضهم يقطعه شرائح يقدِّدها على وهج الشمس والحجارة ليأكل منها يومًا بعد يوم.
وفي أصيل اليوم الثالث أسرعنا بالعودة إلى مكة، وطفت بالكعبة طواف الإفاضة سبع مرات، ثم سعيت بين الصفا والمروة، وكم ديست أقدامي ووُكِزت جوانبي، وبخاصة من شعوب أعراب النجديين الذين يسمون «عرب الغطغط» بشعرهم المنفوش الهادل القذر وجسومهم العارية وجلودهم تُطلَى بالأدهنة المنتنة، وأنوفهم تسد بصمامات من قطن غمست في زيت المر وربطت بخيط في الرقبة، وكان الرجل إذا وصل ركن الكعبة أو صخرة الصفا أمسك برأس زوجته أو أمه وضربها في الصخر قائلًا: يا رب البيت جبت المرة وجيت حجي يا مرة حجي. في سذاجة مضحكة وجهل عميق.
بعد ذلك تحلَّلْتُ من إحرامي وطفقت ألازم الحرم وأكرِّر الطواف وأحاول لمس الحجر الأسود، ولم أستطع إلا بعد أن أبرقت بالريال للجندي، فأفسح الناس ضربًا ومكَّنَني من ذلك، وكان يلفت نظري الحمام الكثيف الذي يرفرف حول الكعبة ويُسمَّى حمام الحمى، وخُيِّل إليَّ أنه يقدسها فلا يقف عليها قطُّ، ويقولون إنه من نسل الحمامة التي عششت على النبي في الغار.
قصدت إلى زيارة ناحية من مكة اسمها «شعب علي» وفيها مكان مسقط رأس رسول الله، رأيته متسعًا مهملًا من الأرض أنيخت به الإبل، وقد كان من قبلُ بناءًا فخمًا هدمه ابن السعود جريًا وراء عادته في هدم المزارات والقباب جميعًا لإنكاره فضلها، وهناك مسقط رأس علي بن أبي طالب وقد هدم أيضًا، وكان الأجدر بقاؤهما آثارًا طاهرة.
قمت على رويكب «حمار» إلى جبل النور في منتصف الطريق إلى «منى»؛ فبدا مخروطًا، قمته تحكي قلنسوة كبيرة، تسلقناه في ساعتين كاملتين لوعورته، وفي القمة متسع في وسطه شق وإلى جانب منه غار حراء الذي كان يتعبَّد فيه الرسول وفيه نزل الوحي فشق صدره وناجاه أن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ لذلك يسمى أحيانًا غار اقرأ، فذعر النبي وعجل إلى داره وقال: «زملوني دثروني.» فنزلت الآيات يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ويَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. ثم سرنا في اليوم التالي زهاء ساعة على المطايا وأخذنا نعلو جبلًا مجدبًا ساعة ونصفًا حتى أتينا «غار ثور» الفسيح، وفيه اختبأ النبي وصاحبه أبو بكر وخيم العنكبوت وعششت اليمامة على مدخله، ولما تعقبهما الكفار أشكل الأمر عليهم ولم يلفت هذا الغار نظرهم، وكان النبي قد نام من التعب على فخذ أبي بكر، وما هي إلا فترة حتى خرجت أفعى من جحرها، فسَدَّ عليها المنفذ بعقب رجله فلدغته، وظل يكظم ألمه حتى سال الدمع من عينيه وسقط على خد النبي فاستيقظ وسأله ما به، ولما علم أمسك برجله وتفل عليها فشفيت.
قمنا نودِّع مكة ولم يكد أولو الأمر يأذنون لنا بالفسح — أي الرحيل — إلا بعد شق الأنفس، وهم يحاولون التلكؤ في ذلك لكي يقيم الحجاج هناك أطول وقت ممكن لينفقوا كل ما معهم من نقود، ووصلنا جدة بعد جهد، ثم قمنا إلى المدينة المنورة في طريق أوله رملي يجاور البحر، ثم أضحى الطريق صخريًّا وكثرت التلال حوله في تعقيد مخيف، وفي وسط هذه التلال الدرب الطويل الذي كان محطَّ فزع الحجاج قديمًا؛ لأن قطَّاع الطرق كانوا يفاجئون الناس من وديانه اللانهائية ويعملون فيهم قتلًا ونهبًا، أما اليوم فقد أمَّنَ ابن السعود الطريق فكان هؤلاء البائسون يخرجون علينا في حالة رثة يستجدون في لجاجة وإلحاف ممل، ويعلقون بأرجلنا ويحاولون تكبيسنا حتى نعطيهم «هللة أو هللتين». أما الثلث الأخير من الطريق فينتثر بهشيم الصخر وتكثر به الحفر، وقد لبثنا في قطع الطريق كله بالسيارة يومين كاملين، وطوله ٤٥٠كم، وكان خيرًا لنا أن نقطعه بالطيارة في ساعتين ونصف نظير أجر قدره ١٥ جنيهًا، لكني لم أجد بها مكانًا.
أخيرًا لمحنا جبل أُحد على بُعْدٍ، ثم اعتلينا ربوة يسمونها جبل التفريحات؛ لأننا فرحنا من فوقها برؤية أول قبس للمدينة المنورة، وأخذنا نفرح سائقنا بالمنح والهبات، ثم نزلنا وادي العقيق الذي كان يتريض فيه رسول الله، ودخلنا باب العنبرية عند الغروب ولو تأخرنا قليلًا لاضطررنا للمبيت خارج الأسوار كما كان يفعل أهل البلاد منذ عهد الرسول. هنا إلى جوار محطة سكة الحديد الألمانية التي تربط البلدة بدمشق، والتي تعطلت مؤقتًا، هاجمنا جموع المزورين والمدعين يسألوننا من أي البلاد ومن أي المديريات، ولكل قطر مطوفون، بل ولكل مديرية من مصر مدعون. وآويت إلى فندق «أوتيل المدينة» بثلاثة ريالات سعودية للنوم في الليلة، ولم نستطع زيارة الحرم ليلًا؛ لأنه لا يفتح إلا نهارًا، وعند الفجر قمنا نصلي في الحرم وبشق الأنفس استطعت أن أصل إلى الحجرة الشريفة، وفيها يُدفَن سيد الخلق في مكان الحجرة التي كان ينام فيها من بيته يحوطها الوقار والرهبة، وحولها أسوار متعددة من نحاس دُهِن باللون الأخضر يزيِّنه الذهب، وتتدلى من سمائه الستائر الخضراء الثقيلة، وإلى يسار الرسول يُدفَن أبو بكر يليه عمر بن الخطاب.
وكان في الحجرة الشريفة ثريات من ذهب وفضة مرصَّعَة عددها ١٠٦، وأمام القبر الشريف ماسة في حجم بيض الحمام، حولها إطار من ذهب مرصَّع ثمنها ٨٠٠٠٠٠ جنيه تُسمَّى الكوكب الدري، بها ٢٢٧ قطعة من الأحجار الكريمة ونفائس وتحف أخرى قُدِّرت بسبعة ملايين من الجنيهات، ويتهم السعوديون في سلبها الأتراكَ وأبناءَ الشريف. وإلى يمين القبر محراب النبي ومنبره الذهبي الذي قال فيه رسول الله: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة.» لذلك كان التزاحم على الجلوس في تلك الروضة لا يحد، والأغوات وقوف يرجون الناس أن يخففوا المكث ليعطوا فرصة لغيرهم، والروضة مزيَّنة بفاخر الأثاث والرياش والنفائس.
قمت لزيارة جبل أُحد وفي سفحه قبر سيدنا حمزة عم رسول الله الذي استشهد في الموقعة، وكانت تقوم حوله القباب التي هدمها السعوديون، وعلى الجبل زرنا المغارة التي كان يشرف منها النبي على القتال، وتبدو كالشق المستطيل، وفي موقعة أحد هذه هُزِم المسلمون وأصاب النبي شج في فمه وكسر في أسنانه. وإلى ناحية قريبة مسجد القبلتين؛ القبلة الأولى نحو المسجد الأقصى بالشام، وكانت الصلاة إليها من قبل، والأخرى نحو الكعبة وهي القبلة الحالية. ثم زرنا مسجد قباء أول مسجد بُنِي في الإسلام وبجواره قبة تحتها بئر الخاتم، وفيها وقع خاتم النبي من يد سيدنا عثمان؛ لذلك قدَّسَها الناس جميعًا.
ثم قمت إلى البقيع، وهو مكان فسيح فيه مقابر المسلمين منذ عهد النبي، وبه يُدفَن عشرة آلاف من الصحابة، وقد هدم السعوديون القباب كلها وأبقوا الأضرحة والشواهد فقط.
وأهل المدينة على ظرف وأدب ووداعة لكنهم فقراء مدقعون، يُخَيَّل إليك أنهم متسولون، وهم في جملتهم ألطف من أهل مكة. كنا نُقبِل على أطعمتهم الشهية وبخاصة «الظلاطة» وهي السلطة، ثم «الشكشوكة» وهي البيض باللحم، «والمختومة» وهي الباذنجان باللحم المفروم، على أنَّا كنَّا نشتاق إلى «الحبحب أو البرطيخ» البديع الذي نعمنا به في مكة، وإلى «الفسفس حب الحبحب»، ولهجة أهل الحجاز غريبة ركيكة، أذكر من بينها: داحين «حالًا»، وغلقت «انتهت»، وحقتي «ملكي»، وطاحت «وقعت»، وبذورة وبذران «أطفال»، وما تهرجني «لا تكلمني»، وألا «نعم».
عدت إلى جدة وحللت «أوتيل جدة» وأجره ثلاثة ريالات سعودية بالدرجة الأولى، وفي اليوم التالي أقَلَّني اللانش إلى زمزم التي وقفت في عرض البحر وقامت في الثانية مساءً وسارت ليلتين، وفي باكورة اليوم الثالث أقبلنا على الطور التي آوينا فيها إلى المحاجر الصحية بعد أن بخر الرجال متاعنا، ولكل ٢٥٠ نفس من الحجاج مكان ينزلون به اسمه «حزا» وهو بناء منعزل بأسوار من الأسلاك، وعدد هذه «الحزاءات» عشرة، وبكل منها حجرات ذات أَسِرَّة ندفع أجورها، وهناك مقصف لبيع المأكولات، وقد حُكِم علينا أن يظل كل فريق في «حزاه» لا يخالط الآخَرين ثلاثة أيام.
وفي عصر اليوم الثالث جاء البشير يعلن طهارتنا من الأمراض، وحمل متاعنا إلى الباخرة كوثر التي أقلعت بنا، وهي تسير في بطء شديد كي تدخل ميناء السويس في الصباح المبكر، وهنا كانت جموع المستقبلين هائلةً، ونزلنا وسط عناقهم وتقبيلهم، والموسيقى والزغاريد لم تنقطع لحظة، ثم انصرف كلٌّ منَّا إلى عربته ولسانه يلهج شكرًا لله أن وفَّقَه لأداء فريضة الحج، وسرعان ما نسي ما قاسى من عناء وراح يدعو الله أن ييسِّر له الحج في أعوامه المقبلة حتى تستزيد نفسه من المتاع الروحي الذي يحسه الإنسان، وهو يستظل بسماء تلك الأرض المقدَّسَة الطاهرة.