في بلاد الشيعة
(١) العراق
دخلنا بلاد العراق من جزئها الشمالي وهو كردستان، وكنا وافدين من حلب فوصلنا نصيبين بعد ١٧ ساعة بالقطار، وسط سهول مهملة تزرع القثاء والبطيخ، ولقد سميت الجهة ببلاد البراغيث لكثرة سماع كلمة برغوث، وهو عملة تركية متداولة، وكانت القرى بالطين والناس يتكلمون أربع لغات: التركية، والكردية، والأرمنية، والعربية. وفي نصيبين تقع الحدود التركية السورية، ومظهر الناس مخيف في العيون السوداء البراقة الواسعة، والأنف الأشم، والقامة الشامخة، والشعر الأسود الغزير. والنساء يظهرن في خرق مرقعة ويدلين من الصدغين خصلتين ثقيلتين طويلتين من الشعر، ويربطن الجبهة بمنديل ملوَّن. وبعد نصف ساعة من نصيبين بالسيارة دخلنا حدود العراق عند الموصل، فبدت أبنيتها تحكي أبنية القرون الوسطى في أقبية فطساء، وكثير منها متهدم كأنها بلد أثري، وشواطئ دجلة مهملة جدًّا نرى النساء في جماعات يغسلن الثياب وبيد كل واحدة مطرقة لدقها عند الغسيل، والمقاهي البلدية متعددة يقتل القوم عليها وقتهم بدون جدوى، وعلى النهر قنطرة ترفع على الزوارق، وقد أذكرني هجير حرها بحَرِّ بلاد الهند.
والناس خليط عجيب، الأكراد بأرديتهم الفضفاضة وأسلحتهم المجهزة، واليزيديون عبدة الشيطان بقمصانهم الحمراء الغريبة، والآشوريون أهل الجبال، والكلدانيون في سراويلهم وجلهم من المسيحيين، والبدو وهم سواد أهل البلاد يلبسون العقال، والمتحضر منهم يلبس الفيصلية، ونساؤهم رشيقات، وأعجب ما في هندامهن «العبا» من الحرير الأسود يرسل من فوق الرأس على الجسم كله، وأساس نقودهم «الفلس» كالمليم، والدينار ألف فلس.
ولم تشعرني الموصل بماضيها المجيد يوم كانت من كبريات العواصم وأمهات المدن التجارية والصناعية، فلا يزال الحرير الموصلي المسمَّى موسلين يحمل اسمها مع أنه لا يُصنع فيها اليوم، وحولها منطقة عظيمة الخصب ومنابع غنية جدًّا بالبترول، ولا أدري لِمَ يهملون كل أولئك حتى يستعملها الأجانب وكان الوطنيون أولى بذلك؟ قمت في «عربانة» إلى نينوي على الضفة الأخرى لدجلة، فبدت كومة هائلة من تراب بها بعض السراديب والمغائر وذاك كل ما بقي من عظمة آشور، وزرت بجانبها تل النبي يونس الذي ابتلعه الحوت، يقام على مدفنه مسجد ذو مئذنة دقيقة، ويقال إن المدفون هناك رفات قديس مسيحي كان يقوم حوله دير قديم، وعلى جوانب هذا التل عثر المؤرخون على المكتبة الملكية لنينوي وقد كُتِبت بالخط المسماري على ألواح من طين. دخلت أحد مطاعم الموصل لأتناول الغداء قبل مغادرتي البلدة، وكان القوم من حولي يأكلون، ولما أن قمت أدفع الحساب قال الرجل: «خالص أخي.» وإذا بأحد الموصليين دفعه عني إكرامًا لي دون أية معرفة، وحاولت عبثًا أن أرده فأبى، فالعراقيون قد جمعوا بين كرم الخصب الزراعي وكرم أهل البادية، وتلك من أخص فضائلهم، وقد زاملني في السيارة من الموصل إلى كركوك طائفة منهم أوقفونا في الطريق مرات للاستراحة وتناول الشاي، ولم أستطع دفع شيء قطُّ طوال الطريق.
سرنا بالسيارة وعرجنا على قرية «نمروذ» إحدى مدن الآشوريين على اسم أحد ملوكهم، الذي لما عارضه سيدنا إبراهيم أمر بحرقه وألقي في النار سبعة أيام خرج بعدها سليمًا، وإلى جنوب هذه القرية رأينا أطلال آشور أقدم بلدانهم.
دخلنا كركوك فبدت مع صغرها ألطف وأخف من الموصل، جلُّ أهلها مسلمون لكنهم يتكلمون التركية والكردية، أما العربية فنادرة. أخذت «عربانة» إلى بابا جرجر لنرى ميادين البترول فوجدنا سهولًا ممتدة تنز أراضيها زيتًا أسود، وفي بعض منخفضاتها كان الزيت أشبه ببركة، وكان بعض الناس يملئون صفائحهم منها كأنها الماء. أما شباك الأنابيب الملتوية فتسد الآفاق، تدفع المضخات البترول إلى بيروت، وكان الدليل يحفر قليلًا في الأرض ويشعل عودًا من الثقاب فتلتهب الحفرة فترة من الزمن.
بغداد
قمنا بالقطار وسط سهول نصف مهملة، وترى كأنها قرى صعيد مصر، وأخيرًا في عشر ساعات بدت طلائع بغداد في شكل متهدم منفر خيَّبَ ظني، على أني لما أوغلت في البلدة ألفيت فيها بعض نواحي الجمال، وبخاصة في شارعها الرئيسي «الرشيد» الذي يحكي شارع محمد علي بمصر. ولقد هداني السائق إلى فندق هلال، وما كدت أعود إليه ليلًا حتى وجدت نفسي وسط مكان للغناء والموسيقى والرقص والمجون الذي يظل كذلك طوال الليل، فأمضيت ليلتي على مضض، ولو أني استمتعت بمناظر المرح التي أذكرتني بأقاصيص ألف ليلة، وفي الصباح عبرت جسر مود السابح على الزوارق، وتجوَّلْتُ في الرصافة في الشرق والكرخ في الغرب، وهنا تقام الملاهي والمقاهي والمقاصف، فهو مستراض الشباب عند الأصيل، مما يُشعِر بأن الشعب العراقي مَرِح ميَّال إلى الرفه والمجون، والنساء على جمال فائق وبخاصة اليهوديات بالمعاطف المهفهفة من الحرير الثمين، ويلبسها حتى صغار الفتيات وتُسمَّى «العبا»، كذلك شعورهن السوداء الغزيرة الهادلة من أخص علامات الجمال العراقي، وإن عابه طول الأنوف والمنطق المنفر الممطوط.
والمدينة غنية بالمساجد على الطراز الفارسي بمآذنها الدقيقة والقباب التي يكسوها القيشاني الأزرق، ففي مسجد الأعظمية مدفن الإمام أبي حنيفة وفيه تُدفَن رفات الملك فيصل، ولم يكن الإقبال على المسجد كبيرًا؛ لأنه للسنيين وغالب أهل العراق من الشيعة. عبرت النهر إلى الناحية الغربية لزيارة مسجد الكاظمية الذي يُدفَن فيه إمام الشيعة موسى الكاظم، والمسجد فاخر إلى أقصى حد، أقامه نادر شاه، وتُكسَى مناراته الأربع وقبتاه بالذهب الخالص، ومن داخله يزيِّنه القيشاني والبلور والمرايا، وتحوط الضريح شباك الفضة الثقيلة. والشعوذة آخذة كل مأخذ من تقبيل وتمسُّح وصياح وعويل يهز القلوب، وأسواق البلدة ساحرة جذابة، وغالب أصحاب المتاجر من اليهود والأرمن، والمقاهي البلدية تسترعي النظر، وبمجرد جلوسك عليها يحضر صاحبها بنفسه وبين يديه فنجان «بيشة» يضع فيه قطرات من القهوة السادة ويقدِّمه تحيةً واحترامًا، ويكرِّر ذلك بين آنٍ وآخَر، وغالب البلدة من أزقة نظيفة تكاد المشربيات المتقابلة تتلاصق، وهندسة البيوت بين العربية والفارسية تتوسطها الأفنية، وبها حوض الماء والأبواب مثقلة بالحديد والنحاس. تلمَّسْتُ بقيةً من عاصمة العباسيين فلم أجد سوى حائط المستنصرية على النهر وبقية من السور القديم. وقد زرت قبر زبيدة زوج هارون الرشيد في شكله المخروطي المجزع الغريب.
وركبت عربة مدة ساعتين إلى طاق كسرى أو إيوان كسرى، ولم يَبْقَ منه إلا جانب من الواجهة والبهو الأوسط في عُلُوٍّ هائل، ومن الآجر الأصفر، وكان يضم من آيات البذخ والغنى لملوك الفرس الأقدمين وقعت كلها غنائم في يد سعد، وزَّعَ أربعة أخماسها على جنوده، وعددهم ستون ألفًا، فخص الواحد ما قيمته ٣١٢ جنيهًا، أما الخُمْس فأُرسِل إلى بيت المال. قمت بالقطار إلى الحلة وسط أرض خصبة يسقيها سد الهندية الذي يروي ثلث مليون فدان، والذي أُقِيم على نهر الفرات، وأخذت سيارة مسيرة ساعة إلى بابل التي بناها الكلدانيون على الضفة اليمنى للفرات، فوجدتها أطلالًا من الطين من بينها بقايا الحدائق المعلَّقَة إحدى عجائب الدنيا السبع، وكانت تقام من مساطب فوق بعضها كالهرم المدرج من الصخر ترفعه البوائك، ترويها مضخة هائلة ترفع الماء إلى الدور الأعلى، ومنه يجري فيروي الحدائق كلها، ولاتقاء الرطوبة بُطِّنَتِ الأقبية بطبقة من الرصاص. وإلى شمالها قليلًا رأينا أطلال قصور «نبوبولصار» وبجانبها أسد بابل الشهير الذي يطأ تحته رجلًا، وهنا جرت أكبر موقعة بين سعد بن أبي وقاص وجيوش الفرس سنة ١٦ﻫ حينما فتح العرب المدائن. قمنا بالسيارة إلى الكوفة، وكانت تكثر من حولنا أنقاض القدماء في تلال منثورة، وزرنا مدفن ذي الكفل الذي يقدِّسه المسلمون واليهود على السواء.
والكوفة قرية صغيرة زرنا بها المسجد الجامع الذي وقف فيه الحجاج الثقفي يهدِّد القوم بخطبته المشهورة، والمسجد كالقلعة بسوره الشاهق تدعمه تكآت البناء الضخمة، وبه قبتان إحداهما لرفات مسلم بن عقيل، والأخرى لهانئ بن عروة، وفي وسطه فتحة قيل إن الطوفان نبع منها، وفي الركن الأيمن مقصورة مغلقة قُتِل فيها سيدنا علي، ومن وراء المسجد كانت تقوم قصور الإمارة والخلافة الأموية، ولم يَبْقَ منها أثر اليوم — والحمد لله كما يقول القوم هناك — والكوفة في نظر الشيعة أكثر البلاد نحسًا.
أخذنا الترام إلى النجف، فبَدَتْ وضَّاءة وسط البادية، فقباب حرم الإمام علي التي تُكسَى بالذهب تُرَى على بُعْد أربعين ميلًا. وقصة البلدة أن جثة سيدنا علي حُمِلت على جمل من الكوفة، وتخَيَّرَ الجمل وحده هذه الربوة وبرك فيها، فأخفى القوم الجثة هناك إلى أن جاء هارون الرشيد يصيد الغزال، فتعقَّبَ مرة غزالًا إلى أن وصل الغزال هذه الربوة ووقف متحديًا، فشحذ الرشيد قوته فتصلبت ذراعاه ثلاث مرات، فذعر الرشيد وسأل عن خبر هذا، فأسرَّ إليه رجل هناك أن ههنا جثة الإمام يا سيدي، فأمر بإقامة المسجد، وامتدت المدينة من حوله. أما عن زخرف المسجد والإسراف في تأثيثه وتجميله فذلك ما لا يستطيع القلم وصفه، يقف الإنسان أمامها ذاهلًا لولا ما يوقظه من الولولة والبكاء والنحيب مما يُشعِر بمأساة قتل الإمام كاملة، فلا يتمالك الإنسان نفسه من البكاء، وتقوم مدافن البلدة حول الحرم ولا ينقطع سيل الجنازات تفد من أقصى الأرض وبخاصة من العراق والفرس، وفي ذلك أهم مورد لأهل البلدة من ثمن الأرض ونفقات معدات الدفن.
وأظرف شيء في البلدة سراديبها تحت الأرض، تلك التي تئويهم من لفح الحر وتؤمنهم من غارات عدوهم، ونحو نصف البلدة كذلك في خمس طبقات بعضها تحت بعض، وقد خُيِّل إليَّ أن كل أهل النجف من رجال الدين بعمائمهم الخضراء، وحتى التعليم كله ديني، فهناك نحو ثلاثين مدرسة تضم ستة آلاف طالب، زرت بعضها وكان الطلبة يدرسون حول مشايخهم، وعند الاطلاع أو المذاكرة يأوون إلى تلك السراديب التي كانت في برودتها كأنها المثالج، وقد قدَّموا إليَّ بطيخًا كأنه خارج من الثلاجة رغم هجير الحر فوق سطح الأرض هناك، ويبيح مذهبهم زواج المتعة وهو زواج موقوت لمدة معينة، ويكثر إبَّان موسم الزيارة، وكان يبيحه الإسلام في زمن الحروب فقط، والسواد الأعظم بغداد إلى البصرة — أعنى في جنوب العراق — من الشيعة، على أن أغلب الملاك وأصحاب الأعمال والأموال من السنيين.
في ثلاث ساعات وصلت بنا السيارة إلى كربلاء، فبدت شبيهة بالنجف في أزقتها ومشربياتها، وهي ثانية معاقل الشيعة، فالنجف الرأس المفكِّر وكربلاء القلب النابض، وهي أكثر قدسيةً من النجف، فيها يبكي القوم على الدوام موت الحسين الذين يُدفَن تحت قبة من ذهب خالص، وهناك مسجد آخَر يُدفَن فيه العباس أخو الحسين من أبيه، ويقدس خصوصًا في أيمانهم؛ لأنه عُرِف بالصراحة والدقة والقسوة أكثر من الحسين.
(٢) إلى البصرة بلدة السندباد البحري
دخلتها وافدًا من البحر عند عودتي من فارس، فدخلت بنا الباخرة الخليج الفارسي، ثم شط العرب باتساعه الهائل، وعلى جوانبه غابات من النخيل يصدر من بلحه بمليون جنيه كل عام. والثغر بدا هائلًا كثير الحركة والبواخر والأرصفة، وتُعنَى به إنجلترا كثيرًا، وقد قمنا من الميناء بسيارة نحو عشرة كيلومترات إلى البصرة نفسها، وكانت لا تزال تُرصف في هذه الجهةِ الشوارعُ وتخطط الأحياء الحديثة، أما البلدة فقذرة منفرة ليس بها من جمال سوى فروع شط العرب التي تُرَى أينما سرت، وفيها الزوارق النحيلة التي تحكي جندول البندقية، وتُعَدُّ وسيلة هامة للنقل هناك ويسمونها «البلم»، وقد أقَلَّتْني ساعة إلى القرنة عند ملتقى النهرين ويسمونها جنة عدن، ولو لم أجد بها ما يعزز ذلك؛ فهي حقيرة فقيرة حولها المستنقعات، تقوم عليها أخصاص السكان من الغاب ويتصلون بالزوارق، وهم سبَّاحون مهرة، غذاؤهم الأرز والسمك، على أن البيئة المائية خلقت فيهم انحلالًا خلقيًّا شنيعًا. وإلى الشمال منهم حول قرية عمارة قوم من الصابئة من الموحدين المغالين في أمور الطهر والغسل، يحرِّمون خدمة الغير لهم، ويخالهم المسلمون أهل سبأ والنصارى من شيعة القديس حنا، وزعيمهم يُسمَّى الشيخ جودة يحرِّم القهوة والشاي والطباق والسكر والخمر.
قمت بالقطار من البصرة إلى بغداد مسافة ٥٥٠كم قطعناها في يوم كامل وسط جو مترب لافح الهجير، ومنها إلى الشام فمصر، وودعت العراق بذكريات الماضي العظيمة التي لم ألمس من قوتها شيئًا اليوم، اللهم إلا في حماسة القوم ونعرتهم القومية التي لا شك ستصل بهم إلى المستوى الذي يليق بكرامتهم، وإلى نبذ ما تخلف عن الماضي من خيالات وخرافات وسحر تسرَّب إلينا نحن في مصر منها الكثير.