بين هضبتي الأناضول وإيران
قمنا نخترق بالقطار جبال طوروس في عقدها اللانهائية وأنفاقها العدة، ثم أقبلنا على سهل كثرت به مسايل المياه وازداد الزرع، وأخيرًا ظهرت أدنا من كبريات مدن جنوب تركيا، ثم عادت الجبال والربى ودخلنا بعدها سهول قونية، تلك البلدة الكبيرة التي يُدفَن بها أفلاطون ومولانا جلال الدين الرومي صاحب طريقة المولوية. ولم تَغِبْ مآذن المساجد عن الأنظار، ولم نلمح كنيسة واحدة، وكنا نرى الناس في حقولهم يُقِيمون الصلاة وعلى رءوسهم القبعات، والأعشاب والخراف تملأ الآفاق، وكان الصبية ينادون على اللبن الحامض يشربه الجميع بدل المرطبات. ومررنا بمنخفض في وسطه أفيون قره حصار من المدن الكبيرة، وآخَر به بلدة إسكيشهر، ثم أقبلنا على بلدة بولتلي التي سحق فيها الأتراك جيوش اليونان بعد أن كادت تقضي على تركيا كلها بمساعدة بعض الدول الأوروبية، وعند قبر الشهداء وقف القطار كالعادة ونزل جميع المسافرين ليؤدوا واجب التحية، وليقرءوا الفاتحة على روح منقذي تركيا، وكلهم يذكرون أتاتورك بكل خير؛ فلقد رفع مستوى بلادهم وقضى على الخرافات والترهات ومحا الأمية، وكنتُ أرى حتى الشيوخ من الفلاحين يتخاطفون الجرائد وقد كُتِبت بالحروف اللاتينية ليقرءوها. دخلنا أنقرة فرأينا أحياءها القديمة منثورة فوق الربى، والأحياء الحديثة في المنخفضات في طرق فسيحة نظيفة، ومبانٍ فخمة، وتماثيل متعددة، ومتنزهات يؤمها الشعب، وحتى دار البرلمان الجديدة تفتح حدائقها للجمهور، والناس على فقرهم ورثِّ ثيابهم فخورون بوطنيتهم واستقلالهم، والنساء لا يكاد يخلو منهم عمل وقد أسفرن جميعًا.
وكان يدهشني مدى التعمير والإنشاء رغم فقر البلاد، لكنه الإخلاص هو الذي جعل أولي الأمر يحرصون على إنفاق كل درهم على الصالح العام. وقد خلت كل مشروعاتهم من الأيدي الأجنبية تمامًا، وحتى لافتات المتاجر لا تُكتَب إلا بالتركية، ويحترمون يوم الجمعة فتوقف كل الأعمال تمامًا. والتركية زوجة فاضلة لا محالة وحتى في دور الملاهي تبدو رزينة وفي شيء كثير من الوقار، وعنايتهن بالأطفال فائقة، وكم كنتُ أرى الأب الفقير في ثيابه البالية يحمل طفله في هندام نظيف جميل ووجه أبيض ناصع، وقد استساغ الناس النظم الحديثة وحتى الصلاة يؤدونها بالتركية، فلا يقول الرجل «الله أكبر» بالعربية بل ترجمتها بلغتهم، وتدرس ترجمة القرآن في المدارس، وعجبت للمجهود الجبار الذي بذله أتاتورك في محو الأمية حتى بلغ عدد المتعلمين في عشر سنين ٨٩٪، ونحن لا نزال نتخبط في هذا السبيل ولم نستطع زيادة نسبة المتعلمين في ربع القرن الأخير سوى ٢٠٪ رغم الفارق في الثروة بيننا وبينهم، وحتى في المطاعم لا يتكلمون إلا التركية، ولن أنسى ربكتي عندما كانت تُقدَّم إليَّ قائمة الطعام ولم أفهم منها كلمة، فكنت أضع أصبعي على سطر من صنوف الطعام أطلبه، فيحضره الغلام دون أن أعرف ما هو، على أن الطعام التركي في جملته لذيذ شهي إلى أقصى حد.
إلى هضبة إيران
قمت بالقطار من بغداد، وفي عشر ساعات وصلنا الحدود عند الخانقين، وهي قرية صغيرة استأجرنا منها سيارة لنوغل بها في بلاد إيران، وغالب السيارات رديئة ومن نوع اللوري القاسي الممض، خصوصًا وهي تتعثر في طرق البلاد غير المعبَّدَة، فأخذنا نعلو نحو خمسة آلاف قدم وسط ربى شبه مجدبة لا حصر لها، وكم تعطلت بنا السيارة ساعات وسط تلك الصحارى المخيفة، وبعد أربع وعشرين ساعة دخلنا كرمان شاه، فهالني بها سيل المتسولين والمتبذلات والمتسكعين والمتسكعات، والكل في قذارة وفقر مبيد، ثم قمت في سيارة أخرى صوب طهران مسافة ٤١٤كم، وكنا نقف بين آنٍ وآخَر لنستريح وسط الطريق، وسرعان ما يجلس المسافرون مفترشين الأبراش والسجاجيد، ويخرجون الغلايين يدخنون فيها الأفيون الذي يدمنونه جميعًا، وهو احتكار للدولة تبيع الأصبع بقران ونصف أي نحو ١٨ مليمًا. وعند قرية أسد آباد وقفنا نقرأ الفاتحة على روح السيد جمال الدين الأفغاني؛ لأنها بلدته ولم يكن أفغانيًّا، وفي بعض جهات من الطريق فنادق للراحة تسمى شاي خان، تطلب الشاي فيقدمه الرجل وبيده حبيبات السكر تلقي بالواحدة في فمك ووراءها جرعة من الكأس، وكان يرافقني إيراني فخور ببلاده، وكان يبالغ في عظمة طهران ويقول بأنها تفوق باريس، على أنه كان بخيلًا فلم يدعُني للشاي مرة رغم أني دعوته مرارًا، ورغم أني أنا الضيف لا هو، وحدث أن عرَّفني بأحد عظماء إيران في الطريق وقال عني بأني مصري عربي، فقال زميله: مرحبًا رغم أني لا أحب العرب أبدًا. دخلنا همدان على علو ٦٠٠٠ قدم يشرف عليها جبل ألوند، وكانت حركة الهدم والإنشاء ناشطة بفضل وطنية الشاه وحماسته للنهوض ببلاده، وفي سبع ساعات وصلنا بلدة قزوين التي كانت يومًا ما عاصمة الشاه عباس، وأخيرًا دخلنا:
طهران
فأخذنا نمر وسط بلدة شبه متهدمة، وحللت نزل جراند أوتيل في شارع لاليزار أحدث الشوارع، ثم طفت بأرجاء البلدة، فراقني بها مجموعة من بوابات جميلة زينت بالقيشاني مما أذكرني بعاصمة بلاد الصين، وأجمل شيء في البلدة أسواقها التي تقوم تحت أقبية ضيقة والناس فيها تتلاصق أكتافهم من كثرة الزحام، كذلك البيوت ذات مدخل مزركش بالقيشاني، وفي وسط الفناء حوض للماء فسيح، والقوم على رقة حالهم مؤدبون جدًّا لا تفتأ تسمع كلمة «خيلي ممنون» أي متشكر، و«سلام إليكم»، وقد لبسوا الزي الإفرنجي وعلى الرأس البهلوية كالكسكت، ورجال الدين يظهرون في عمائمهم السوداء، ولعل أجل ما يُذكَر للشاه بالفخار نشر الأمن والضرب على أيدي قطَّاع الطرق الذين كانوا مصدر فزع للمسافرين، وقد أكثر من إقامة المسافرخانات في الطرق، ولقد دهشت لما ألفيت ماء الشرب في كل البلاد وحتى في العاصمة عرضةً للتلوث؛ إذ تنزل مياه الينابيع من المرتفعات وتجري في قنوات ضيقة على جوانب الطرق، ومن هذه يستمد كل حاجته من الماء، وفي هذا خطر صحي كبير، لذلك تشتري السفارات حاجتها من مكثف السفارة البريطانية هناك.
إلى خراسان
قمت بالسيارة أقطع نحو ألف كم إلى كعبتهم المقدسة «مشهد» في ثلاثة أيام بالسيارة، وكانت منذ عهد قريب تُقطَع بالدواب في أربعين يومًا، وفيها يُدفَن الإمام الرضى بن الكاظم من أئمة الشيعة، وكانت جماهير الحجاج تترى وهم مكتظون فوق اللوريات تعلو صيحاتهم مدوية قائلة: «لاهم سلي آل مهمد آل مهمد.»
وما كدنا نبعد عن طهران بساعة واحدة حتى أخذَتِ السائق سِنَة من النوم، وما نشعر إلا والسيارة تهوي بنا إلى قرار أحد وديان الطريق، على أنها ارتطمت في وسط المنحدر بصخرة عاتية أوقفتها بعد أن جُرح الكثير وأصابني كسر بسيط في ركبتي أفقدني الوعي حتى الصباح، وقد تهشَّمَ الأكس واضطر الرجل أن يعود إلى طهران ليجد عنه بديلًا، وقد عزا القوم نجاتهم من الموت إلى بركة الإمام الرضى، وكنا نرى القرى الفقيرة تقوم في بطون الأودية شحيحة الماء، أما باقي الأراضي فشبه صحراوية، وكلما أوغلنا في أرض خراسان زاد الجدب، ومن البلاد التي عرجنا عليها: سمنان ودمغان وشاروت وسابزوار، وأخيرًا دخلنا نيسابور التي كثرت حولها البساتين على غير العادة، وفيها رفات عمر الخيام تظله مجموعة من الأشجار الوارفة، وهو صاحب الرباعيات الشهيرة التي تُرجِمت إلى جميع اللغات، ويزوره من الأجانب خلق كثير كل عام.
أخيرًا أشرفنا على مشهد من ربوة، وأخذ الكل يحاول أن يرى قبسًا منها، وعندئذٍ يضع كومة من أحجار ويقرأ آيات التبريك ويقبل على السائق فيغدق عليه. دخلنا البلدة الغنية بمزارع الفاكهة وبخاصة الأنجور أي العنب، ثم الخوخ وقد حللت فندق «مهمان خان مللي»، ثم أسرعت لزيارة ضريح الإمام الرضى وقد ظهرت قبته الذهبية من بُعْدٍ فبدا الحرم فاخرًا بنيانه وزخرفه ومقاصيره وعظيم اتساع أفنيته، وفي كل صحن أقيمت أحواض الماء وقنواته يغترف منها الجميع، والباب الرئيسي للضريح يُكسَى بالذهب الخالص، وفوق الضريح قبة ومئذنتان يكسوها الذهب أيضًا. أما خليط الناس في داخله فذاك لم أَرَ مثله إلا في مكة المكرمة، هذا إلى المرضى والمتسولين الذين يلتصقون بالجدران كلها. دخلت المدفن وسط شباك الفضة والذهب والجواهر، فتسلمني على الرغم مني مطوف وطاف بي ووقف أمام الباب وقال: اركعْ وقَبِّلْ. فرفضت وقلت: كفاني قراءة الفاتحة. وما أشعر إلا والناس يظنون بي الظنون ويهجمون عليَّ، فكدت أختنق لولا أنْ قيَّضَ الله لي عالمًا عراقيًّا كان قد زاملني في السيارة، فناديته فتدخَّلَ وصرف القوم عني ولامني على تلك المخاطرة، وأشار إلى ما كتبته الدولة خاصًّا بالخطر الذي يتعرَّض له الأجانب إذا أسيء فهمهم. وجل الزوار كانوا يبكون ويندبون موت الإمام، وفي الفناء الرئيسي ألفيت عالمًا في كل ركن وحوله الناس وهو يقص عليهم أنباء مأساة علي والحسين والإمام الرضى، وينفجر يبكي والكل وراءه، وهم يُشبِعون خدودهم لطمًا ومن بينهم النساء والأطفال والرجال وحتى العلماء والمتعلمون، وما مَرَّ واحد أمام المسجد إلا انحنى وتمتم وقبَّلَ يده، وبجوار المسجد مكتبة حوت أكبر مجموعة من الكتب الإسلامية في الدنيا كما يقولون. وحول الحرم تقوم الأسواق كلها، وفي ناحية من المدخل غرفة للمأذون الذي يتولى صيغة عقد زواج المتعة لمَن أراد لأية مدة شاء، ويُدفَن إلى جوار الإمام هارون الرشيد يولِّيه الزوَّار أدبارهم، بل ويرفسونه بأرجلهم احتقارًا له؛ لأنهم يتهمونه بدس السم للإمام.
والذي شجَّع الفرس على اتخاذ مشهد كعبة مقدسة الشاه عباس أكبر ملوك الصفويين، صرف قومه عن زيارة مكة لكرههم للعرب، ولكي يوفِّر على قومه ما كانوا ينفقون، ولقدسيتها حج إليها ماشيًا مسافة ١٢٠٠كم، وهم يحترمون كلمة مشهدي أكثر من كلمة «حجي»، وأنت لا تفتأ تسمع «مشدي أباس، مشدي هسين، مشدي ألي»، وهي أكثر الأسماء انتشارًا بينهم. وفي البلدة مدفن نادر شاه الذي فتح الهند وسلب جواهرها، ومن بينها عرش الطاووس الذي رأيته يُعرَض في قصر جولستان في طهران. وأحب الملاهي عندهم السينما والمقاهي، والموسيقى لا تزال ساذجة، وأحب الآلات الموسيقية «التارة» كالبزق عندنا، والغناء تأوهات جلها من نغمة العجم. وأكبر أعيادهم عيد النيروز، أي أول العام الفارسي، تحتفل به البلاد مدة تزيد على أسبوع، أما شهرا محرم وصفر فشهور حداد عندهم جميعًا وبخاصة يوم عاشوراء يوم مقتل الحسين.
قمنا إلى هرات من بلاد أفغانستان مسافة أربعمائة كيلومتر ذقنا خلالها الأمرين من رداءة السيارات وسوء أخلاق سائقيها ووعورة الطرق ومعاكسة عمَّال البوليس والجمارك، ووقفنا في إسلام قلعة، وهي بناء عتيق خرب به رجال الحدود من الأفغان، وكانوا يسمونها «كافر قلعة» يوم كانت في أيدي الفرس، هنا هاجمنا رجال البوليس في سراويل عليها جلابيب طويلة وعمائم منتفخة في غير تشذيب، وأخذوا يفتشون المتاع تفتيشًا قاسيًا، وكان معي خطاب توصية من سفارتنا في طهران فحملته إلى رئيس القلعة، فألفيته دميم الخلقة مخيف الطلعة أميًّا، لذلك ناول الخطاب لوكيله وطاف الغلام بأقداح الشاي وناولني بعض فتات السكر ألقي بالقطعة في فمي ومن ورائها الجرعة، وكلما فرغ الكأس أعادوه مملوءًا، وعند المرة السادسة رفضته، فبدت عليهم علامات الغضب ورموني بقلة الأدب؛ لأنه كان يجب عليَّ عند الاكتفاء أن أُبقِي بعض الشاي وأنكس القدح على الطبق. جرى التفتيش في بطء شديد، وكلما أعجب الجندي شيء من متاع المسافرين حاول أن يأخذه لنفسه، ولبثنا في تلك العملية زهاء يوم كامل، وكان قد أمَضَّني الجوع فلم أجد سوى بعض الخبز الأسود والبيض والخربوزي، أي الشمام، فأكلت على الرغم مني، ولم يفرج عن سيارتنا إلا بعد أن يسر القران لنا المسير. تقدمنا وسط المناظر المجدبة الصحراوية وكانت القرى قليلة وبين آنٍ وآخَر نقف إجلالًا «للملاه»، وهو من طبقة علماء الدين يركب بالمجان ويجله الجميع ويقبِّلون يده، وله على القرى الداخلة في نطاقه بعض الضرائب يتقاضاها بنفسه بالطواف عليهم، وكنا نرى قطارات البغال والحمير والجمال وهي وسيلة النقل القديمة تسير طوال الطريق. أخيرًا وبعد لأي دخلنا هرات؛ فبدت بلدة حقيرة مبانيها ساذجة وباللبن، وطرقها في غير نظام، وأظهر ما بالبلدة بقايا قديمة لقباب مآذن تدل على شيء من العظمة الماضية، بحثت عن فندق آوي إليه فلم أجد، وقيل لي أن أطلب إلى أحد من علية القوم أن يضيفني فلم أقبل، ورجوت صاحب مطعم ساذج أن يسمح لي بسجادتين إحداهما للنوم والأخرى للغطاء، وأن يبيح لي أن أنام إلى جوار حانوته على أن آكل من عنده، ولبثت نحو أسبوع أنام في العراء مرة خارج الباب وأخرى من داخله، وأخيرًا فضلت حجرة خربة بدون أبواب فوق المطعم نمت فيها ليلتَيَّ الأخيرتين، والطعام الذي كنت أتناوله الأرز بدل الخبز تُدفَن فيه قطع «الجوشت» أي اللحم، وإلى جانبه بعض الباذنجان يسبح في الزيت أو «الروغان» كما يسمونه. والنساء هناك محجَّبَات لدرجة كبيرة، فالإزار الخارجي يحكي الكيس، قد زُرَّ عند الرأس، وأمام العينين قطعة منه مثقوبة، وتحت الإزار سروال محبوك فوق الحذاء، وغالب القوم سنيُّون على عكس الإيرانيين فغالبهم من الشيعة، وجل ثقافتهم فارسية يتكلمون الفارسية أكثر مما يتكلمون لغتهم، ولقد زرت قلعة المدينة وفي مكان منها يلقى بالزاني أو الزانية ليُرجَم حتى يموت، وقد سمعت مناديًا فسألت عما يقول، فعلمت أنه يعلن الناس عن محاكمة لص أمام السوق، فذهبت في الميعاد المحدَّد وقضى القاضي بقطع يده، فربط ساعده بحبل وضغط الرسغ بين قطعتين من خشب، وضرب الجلاد اليد فطارت، ثم غُمِر طرف الذراع في زيت يضطرب غليانًا.
وهرات تُعَدُّ أخصب بقاع أفغانستان في الزراعة، وهي أكبر المدن التجارية وبها أغنى أهل البلاد، تصدر القطن والأفيون والفستق والجوز واللوز والبندق ومنتجات المرعى، ووحدة النقود القران الأفغاني سك من الألومنيوم، وكان يعادل القران الإيراني، أي اثني عشر مليمًا، وليس بالبلاد نقود ورقية؛ لأنهم يحرمون إقامة المصارف، لذلك كنتُ أرى التاجر يحمل أكياسًا ضخمة تملأ بالقرانات، وتلاحظ على أبواب الحوانيت أشخاصًا منهمكين في عد تلك النقود. وأصل منشئ البلدة الإسكندر المقدوني، ثم عُنِي بها هارون الرشيد، ويقولون بأن عددًا كبيرًا من الأولياء يُدفَنون فيها من بينهم الفخر الرازي وقد زرت قبره، والحجة عبد الله المصري، ويبالغون بأن عددهم اثنا عشر ألفًا لذلك أسماها البعض بلدة الأولياء.
والأفغاني طيب القلب ولو أن به بعض الجفاء والغلظة يبدو على فطرته، والأمة فقيرة وحتى دور الحكومة ليس بها من الأثاث شيء يُذكَر، وغالبها تفرش بالسجاجيد ويجلس القوم القرفصاء عليها. لبثت على مضض مني أنتظر مرور سيارة لتعود بي صوب إيران، وفي اليوم السادس بشَّرَني الرجل بلوري مسافر، فتهللت بشرًا ودخلنا الحدود الإيرانية وصادف أن تعطلت السيارة، فتقدمت إلينا عجوز من البدو وأضافتنا في خيامها وأعدت لنا الفطير والسمن والرقاق والكعك الأسود، فأكل الضيوف، ثم أكل وراءنا أفراد عائلتها، فعجبت من كرم البدو حتى في تلك البلاد الشحيحة النائية، وأكثر من ثلث أهل الأفغان من أولئك البدو المتنقلين، وقد استمتعنا طوال الطريق بالعنب «أنجور» والشمام «خربوزي» مفرط الحلاوة والرخص، فكنا نشتري الأقة بخمسة مليمات، وقد كان يضايقني استهتارهم بالزمن، يلقى السائق صديقًا فيقف بنا ساعات وأنا أستحثه، فيبتسم ويقول: «صبر كون أغا.» أي: تمهَّلْ سيدي. دخلنا مشهد ومن بعدها طهران، وكنت أحصي نحو مائة لوري يحمل الحجاج صوب مشهد في اليوم الواحد، أي نحو ألفي شخص مع أنَّا لم نكن في موسم الزيارة، فأدهشني هذا الإيمان العجيب في الإمام الرضى وقدسيته عندهم، وكنا نسمع الصبية يصيحون «آب ياخ» أي الماء المثلوج ويجلبون كتل الثلوج من القمم المجاورة تلف في الخيش، وتحبس في سراديب تحت الأرض يستمدون منها مرطباتهم في الصيف، خصوصًا من ذرى جبل دماوند المشرف على طهران.
قمنا بالسيارة إلى ثغر بهلوى وكانت السهول الزراعية متسعة حولها، وكان النساء دائبات على العمل في الحقول وجمالهن فاتن؛ ذلك لأن السكان اختلطوا بالروس فنقلوا عنهم كثيرًا من تقاطيعهم ولونهم الوردي. والمدينة صغيرة أنيقة خفيفة الروح نظيفة، وقد استغل شاطئ البحر في الاستحمام والمقاهي والمتنزهات، وقد ركبتُ زورقًا بخاريًّا يومًا بأكمله أجوب أرجاء بحر الخزر بمائه الأملس الذي يكاد يكون عذبًا بفضل كثرة مياه الأنهار التي تصب فيه، لذلك كان مورد السمك منه هائلًا، وهو الغذاء الرئيسي مع الأرز لسكان تلك الجهة من إيران: من مازندران شرقًا إلى أذربيجان غربًا، وكثير من مباني الرشت وبهلوى من الخشب بفضل كثرة الغابات. رجعنا إلى طهران وقمنا إلى الجنوب، ومررنا بقرية قم مدفن السيدة فاطمة أخت الإمام الرضى ويسمونها «المعصومة»، ثم بلدة قاشان المشهورة بعمل السجاد من الحرير، وقد رأيت قطعًا منه صغيرة ثمن الواحدة مائة جنيه، واعتزمت المبيت بها لكن المسافرين أبَوْا خوفًا من عقاربها التي تهدِّد الجميع، فواصلنا سيرنا الليل كله حتى وصلنا «أصفهان» بعد أن قطعنا خمسمائة كيلومتر، فظهرت في حجر جبل وسط تربة سوداء خصبة. حللت فندقًا في أهم شوارعها ويسمونه «خيابان جهارباغ» أي طريق الحدائق الأربع لكثرة ما يحفه من أشجار ومزارع، وهو على اتساع عظيم ويشق المدينة كلها إلى قنطرة «جلفا» الضخمة الغريبة الأثرية، تقام على نهر «زنده رود» الذي يزخر بالماء إبَّان الشتاء، وقد اتخذ الشاه عباس هذه المدينة عاصمةً يتوسطها ميدان شاه الهائل، يزينه حوض الماء الكبير ويطل عليه قصر «آلي كابو» أو الباب العالي مسكن الشاه الخاص من سبعة أدوار بولغ في نقشها، وأمام القصر من الجانب المقابل مسجد الشيخ لطف الله أقامه الشاه إحياءً لذكرى ذاك العلَّامة، وواجهة المسجد وقبته آية فنية هي في نظري أجمل ما رأيت في إيران، يكسوها القيشاني البديع من الداخل والخارج، وإلى يمين قصر الباب العالي مسجد شاه أفخر مساجد إيران طرًّا بعظمة امتداده وإتقان نقوشه، ومئذنتاه الدقيقتان يكسوهما القيشاني الأزرق وكذلك واجهة المسجد، فكأن أغلب جدران هذا الميدان العظيم تزدان بالقيشاني البرَّاق، وما أروع منظره إذا جلست ترقبه من الشرفة الملكية! منظر يذهب بخيالك كل مذهب ويذكرك بعظمة الفرس إذ ذاك، وكانت تقام به الحفلات والألعاب خصوصًا لعبة كرة البولو التي كان الشاه يتقنها بنفسه، وقد حكم الشاه عباس ٤٣ سنة نهض بالبلاد خلالها في كل شيء، ولا تزال أصفهان محتفظة بطابعها القومي القديم، فهي أجمل مدن إيران طرًّا، أسواقها أزقة ملتوية مغلقة لا يزهد الزائر المقام فيها أبدًا.
قمت إلى شيراز مسافة خمسمائة كيلومتر وسط أرض مغضنة مجدبة، ومررنا بقرية برسپولس ويسمونها تخت جمشيد، وتفقدنا آثارها فأعادت لذاكرتي ناحية من الكرنك، وقد تخيرها دارا الأول في القرن الخامس ق.م مقرًّا لقصره، ثم جاء أجزرسيز وشاد له قصرًا آخَر كان آية الفن الفارسي، ويطلقون عليها أحيانًا «تشهيل منار» أي ذات العماد، وقد شعرت أن القوم إذ ذاك اقتبسوا الكثير من حضارتنا المصرية القديمة، وهم يقولون بأن العرب بدورهم اقتبسوا من هذه الآثار الفارسية الشيء الكثير في فنهم.
أخيرًا دخلنا شيراز عاصمة مقاطعة فارس من باب فخم قديم، فوقه غرفة فيها مصحف بخط الإمام علي نفسه، والبلدة فقيرة في جزئها القديم وتحكي حلوان في جزئها المستحدث، على أن البلدة تفاخر بأنها عاصمة العلم والأدب، هناك فيها قبر سيبويه وقبر حافظ وسعدي وهما أشهر شعرائهم، كان حافظ زاهدًا متصوفًا أما سعدي فإباحي ماجن، ويقيم القوم لهما قبرين في غاية الفخامة أمضيت فيهما بعض الوقت. أقلَّتْني سيارة صوب بوشير مسافة ثلاثمائة كيلومتر فاخترقنا من المفاوز الجبلية المجدبة ما يروع القلب لوعورته، ففي بعضها كان الطريق يبدو في عشرات الطيات من فوق الجبل، وقد أدهشني أن الجبال بدأت مجدبة، ثم لما علونا في الوسط كُسِيت بالثلوج والغابات وكثر قطع الخشب في القرى، ثم رجعت الجبال مجدبة كلما قاربنا شاطئ الخليج الفارسي حتى دخلنا بوشير، فإذا بها بلدة صغيرة فقيرة حرها لافح لا يُطاق، وأهلها يعوزهم كل شيء الجود والنظافة والظرف، فهم في منتهى الخشونة والشح. ركبت باخرة هندية مرت بشواطئ الخليج الفارسي، ورسونا على عبادان مقر شركة البترول الفارسية البريطانية وكأنها مدينة أوروبية صناعية جديدة، ثم دخلنا شط العرب، ورسونا على المحمرة التي تحكي بوشير سذاجة، أما الشاطئ المقابل فللعراق، وكانت غابات النخيل تسد الآفاق لذلك لم نعجب لما علمنا بأن هذه المنطقة أعنى مناطق الدنيا بتصدير البلح.