في مجاهل أفريقيا
في جولتي الأفريقية التي قمت بها في صيف سنة ١٩٣٣ قطعت ما يزيد على عشرة آلاف ميل وخمسمائة بين بحر وبر، وكنت أرمي إلى زيارة البلاد الساحلية من أفريقيا، وفي مدينة الرأس أبرح الباخرة وأقوم برًّا مخترقًا القارة كلها من الجنوب إلى الشمال بما في ذلك وادي النيل كله، فعرجنا على بور سودان، ثم عدن في أربعة أيام كاملة، وفي ستة أيام أخرى وصلنا ممباسا التي تحفها هالة من صخور المرجان أكسبتها اسم ملكة الجزائر، نزلنا أرضها التي بدت غابة كثيفة مغلقة اجتث الناس منها بقاعًا أقاموا فيها أخصاصهم الساذجة، وأكبر شوارعها طريق كلنديني، وقد شُقَّ وسط الغابات تمامًا فكنت أسير فيه وثمار المانجو تكاد تفرش جوانبه، والناس يأكلون منها ما يشاءون، أذكر أنني قبل أن تغادر الباخرة المكان شريت من بائع المانجو ما يزيد على الثلاثين بسعر مليم ونصف للواحدة، ووضعتها في غرفتي وأخذت آكل منها بشهية؛ لأن نوعها لذيذ جدًّا وحجمها كبير، وفي اليوم التالي قمت من النوم مسرعًا لأتناول منها شيئًا، ولشد ما كان أسفي عندما ألفيتها كلها تالفة منتنة من أثر الحرارة، فألقيت بها جميعًا إلى المحيط.
أما أهل البلاد فمن السود الذين مازجهم الدم العربي، ويكادون يفهمون العربية المحرفة، أما لغتهم السائدة فيسمونها السواحلية، وهي خليط من العربية والزنجية، وهي اللغة الرسمية لبلاد شرق أفريقيا كلها، وتكاد تسود إلى فكتوريا نيانزا في داخل القارة وإلى آخِر تانجانيقا جنوبًا، مما يؤيد ما كان للعرب من نفوذ يوم كانوا يملكون تلك الأصقاع وكانت تجارتهم منتشرة هناك، ومن الكلمات التي تسمعها في كل مكان «أصبر، ماج، بريدي، كرتاس، سفار، مبارك … إلخ.» ولما أن أبطل الرق في تلك الجهات لم يجد الملاك من العرب مَن يخدم أرضهم، فافتقروا وتدهوروا، وكذلك الزنوج فقدوا سادتهم فخملوا أيضًا فانحطَّ السيد والمسود، وقد حل الهنود محل العرب في التجارة؛ إذ كنتُ أرى بيدهم كل شيء، وممباسا أكبر منفذ لتجارة أوغندا.
قمنا نمخر عباب المحيط الهندي وإلى يميننا شريط من جزائر مرجانية، وفي خمس ساعات وصلنا ثغر تانجا ونزلنا نجوب غاباتها المغلقة، وكم أكلنا من ثمارها الغريبة، وكانت القردة تعاكسنا طوال الطريق، وفي الجهات التي قطعها الناس وزرعوا مكانها الذرة كانت القردة تهاجم حقولها وتسلب أكواز الذرة، وقد فطن أحد الأهالي إلى حيلة بها ابتعد القردة عن المكان: أتى بقرد وحلق شعره كله، ثم طلاه بدهان أزرق وتركه يعود إلى عشيرته، ومن العجيب أن القردة لما رأته لم تُقدِم على حقول الذرة مرة أخرى.
قمنا إلى زنجبار فوصلناها في أربع ساعات، وأول ما استرعى أنظارنا دار الحكومة ويسمونها «بيت العجائب»، وكان يقوم عليه علم البلاد الأحمر، وأظرف ما في البلدة طرقها المختنقة الملتوية، رصفت أرضها بالحجارة النظيفة وأقيمت في مفارقها الساعات الكبيرة، وعجبت لما ألفيتها تسير على الزمن العربي، فعند الغروب تكون الساعة ١٢. وأنت لا تكاد تبعد قليلًا عن المساكن حتى توغل في حقول من أشجار القرنفل أكبر غلات البلاد، فهي تصدر منه ٨٨٪ من إنتاج العالم، وكان ثمره يبدو في عناقيد من براعم يعلوها زهر كالوبر، والفدان يغل خمسة أرطال، وتتقاضى الحكومة عليه ضريبة قدرها ٢٠٪ من ثمنه، وفي أسواق البلدة كانت تُعرَض الكبرا وهي من هشيم لباب جوز الهند وفاكهة الخبز، في شكل يحكي الكلية وعليها عقد كثيرة ويُتَّخَذ منها دقيق للخبز، وقيل: إن ست شجرات منها تكفي عائلة كاملة طوال العام. ثم الماهوجا أو الكساڨا وتبدو كقطع البطاطا اليابسة إذا سُحِقت أعطت دقيقًا صالحًا للخبز، وهي من أهم مواد الغذاء يزرعونها بكثرة.
في خمس ساعات وصلنا دار السلام عاصمة تانجانيقا، فلاقاني البوليس الأسود في هندام جميل إلا أن الطربوش بالغ الطول، وله زر غليظ طويل يتدلى أمام الرأس في شكل مضحك، ويلف على الساقين شريط أصفر، أما الأقدام فعارية وهم جميعًا يسيرون حفاة. ولكثرة الهنود هناك يُخيَّل إلى الإنسان أنه يسير في بلد من بلادهم وبيدهم جل الأملاك والأراضي والمتاجر، ويرى البيض فيهم أخطر مزاحِم لهم؛ لذلك يفكرون في الخلاص منهم ويحاولون مساعدتهم على العودة إلى بلادهم، وكم كانت دهشتي كبيرة لنشاطهم الذي لا يحد رغم أني رأيتهم وهم في بلادهم «الهند» خاملين منصرفين عن العمل يكاد يقتلهم الفقر، لكن يظهر أن مجال العمل في الخارج كان أفسح أمامهم منه في بلادهم؛ لذلك قبرت مواهبهم في الهند وظهرت خارجها، وذلك يؤيد ما للنزوح عن الأوطان من أثر في الاعتماد على النفس وحفز الكفاءات.
دخلنا المياه البرتغالية «شرق أفريقيا البرتغالية» بعد يوم، ومررت بثغر بورت أميليا، وفي يوم آخَر رسونا على موزمبيق فهاجمنا الباعة بأقفاصهم الصغيرة ملئت بالطيور الجميلة والببغاوات والقردة، يعرضونها للبيع بقيم زهيدة جدًّا — فدستة الطيور بأربعة قروش، والقرد بخمسة، وكذلك الطاووس أو الببغاء — والبلدة على جزيرة صغيرة تشرف عليها القلعة التي يفاخر البرتغاليون بأن علمهم ظل مرفوعًا عليها منذ فتحوها سنة ١٥٠٨، أما مساكنها فكأنها السجون الوطيئة بأبوابها الحديدية الثقيلة وطلائها الأبيض، ويلفت النظر السيدات بوجوههن القبيحة، وقد زدنها قبحًا بأنهن يلطخن كل الوجه ما عدا الأنف بعجين أبيض ثقيل، ويرتدين ملاءات من أسفل الثديين إلى القدمين، أما أعلى الجسد فيُترَك عاريًا.
قمنا إلى بيرا فوصلناها بعد يوم، وعندما قاربناها تعكَّرَ ماء المحيط، فحاكى ماء النيل إبَّان الفيضان؛ وذلك من أثر نهر الزمبيزي رغم أن البلدة تبعد عن مصبه بنحو مائة ميل.
ولقد كتبت كثيرًا من الاحتجاجات عند عودتي لمصر لرؤساء حكومتهم ولكبريات جرائدهم، وقد ردوا يعتذرون عما حدث ويقولون بأن تلك مسألة تحتمها قوانينهم.
ركبت باخرة ألمانية وحاولت النزول في عدة ثغور، ولكن كلما علم رجال البوليس بأني مُنِعت من دخول جنوب أفريقيا رفضوا دخولي عندهم، وخشيت أن تضيع الرحلة سدى، لكن لما أن رسونا في ممباسا أقنعت رئيس البوليس بأن المنع بُنِي على أسباب شكلية، وكان الرجل حر الفكر فقال: أأنت مستعد أن تدفع تأمينًا لنا؟ قلت: نعم. قال: هات خمسين جنيهًا. فدفعتها في الحال ونزلت البلاد وركبت القطار إلى كنيا قلب أفريقيا، ولم يصادفني هذا اليوم إلا قطار بضاعة فركبته، وسار بنا وسط جنة ساحرة من الغابات الكثيفة المغلقة مسافة ١٥ ميلًا، ثم أخذنا بعدها نعلو فوق هضبة البحيرات، وكنا كلما علونا ندر النبت، ولما أن وصلنا سطح الهضبة تغيَّرَ المنظر وأصبحنا نسير وسط أرض شبه مجدبة لا يكسوها إلا الكلأ اليابس، ولا يكاد يسكنها من الناس أحد، أما الجو فكان باردًا رغم أنَّا كنَّا قريبين من خط الاستواء؛ وذلك لأن الارتفاع هناك زاد على خمسة آلاف قدم.
والعجيب أن الرجال يفعلون ذلك أيضًا، والنساء يحلقن رءوسهن بالموسى، ويحملون جعبًا بها غذاؤهم، وكانوا يقدِّمون إليَّ منه وجله من التابيوكا كالبطاطا الكبيرة، يأكلونها نيئة وأخصاصهم منثورة وسط الغابات، وكانوا ينفرون من الفوتوغرافية خوفًا من أثر السحر، وكلما أعوزهم الزرع لجئوا إلى مساحة من الغابات، فأتلفوها وأحرقوها لكي يزرعوا التبيوكا مكانها. والمساي يعدون أنفسهم سادة أفريقيا كلها، وهم نذير الفزع للغير، فنظامهم العسكري دقيق وشبانهم يُمنَعون من الزواج حتى يمضوا مدة العسكرية، ولا يعدون شجعانًا إلا إذا خضبوا حرابهم بدماء الغير مرارًا، وهم رعاة متنقلون، وقد كان دليلي في نيروبي من المساي، وقد صادَفَ مرة وهو يمشي معي جمجمة، فعرف أنها لمساي مثله لنقص السِّنَّيْنِ الأماميتين فيها، فرفعها باحترام وعمد إلى العشب وبصق عليه وحَشَا تجويفها، وقد دهشت لما أن لاقاه صديق بدره بالبصق في وجهه، وتلك تحيتهم بعضهم لبعض. ولمقاومة الحكومة لنظامهم نزعوا إلى الخمول، وهم يترفعون عن المصاهرة مع الكيكويو رغم تشجيع الحكومة لذلك، ولهم شهرة في صيد السباع، ولا يُحترَم الشاب إلا إذا صارَعَ ثورًا، والعادة أنهم يجيعون الثور، ثم يسقونه الخمر فينازله الغلام ويلقيه أرضًا ويسلخه حيًّا، ثم يمزِّق جلده شرائح يلبسها الشاب تفاخرًا، وهم يقدسون البقر ولا يذبحونه، ويأكلون اللبن ممزوجًا بالدم، ولهم طريقة مدهشة في الحصول على الدم طازجًا دون أن يموت الحيوان، فيعمدون إلى وريد يضربونه بسهم فينفجر الدم ويستمدون منه القدر اللازم، ثم يضمد الجرح.
استرحنا يومًا كاملًا على شواطئ بحيرة ناكورو «٦٠٠٠ قدم» في قرار الأخدود، وفي الصباح أخذنا نعلو جانب الأخدود الأيسر، فكان أقل روعة وأندر سكانًا، وقد عبر القطار ٢٧ قنطرة، وهنا عبر القطار خط الاستواء ثلاث مرات في أقل من نصف ساعة لكثرة لياته، ثم هبطنا ٣٧٠٠ قدم إلى سهول فيكتوريا نيانزا التي كان بريق مائها يخطف الأبصار على بُعْد.
انتهى بنا القطار إلى مدينة كيسومو الصغيرة، وهي مرسى هام من مراسي البحيرة، أمضينا بها يومًا وسط قبائل «الكافرندو» الذين يلبسون جلاليب القطن البيضاء لكثرة زراعته حولهم، وفي الغداة قامت بنا الباخرة تشق مياه فكتوريا نيانزا وتمر بجزائرها العديدة، هنا وأنا أمتع النظر بجمال مناظرها وبخاصة مغرب الشمس بألوانه الساحرة، تحقَّق حلم طالما مرَّ بالخاطر فخلته خيالًا، وهو أن أرى تلك البحيرة التي منها نستمد حياتنا. وصلنا مرسى بورت بل ثغر كامپالا التي وصلناها بقطار صغير سار بنا وسط أعشاب البردي والبشنين والغاب، والبلدة تقوم على سبعة تلال، تفصل ما بينها وديان تسدها الغابات الكثيفة، ومن التلال التي استرعت نظري تل كاسوبي، وبه مدافن ملوك أوغندا الأقدمين: موتيزا وابنه موانجا والد الملك الحالي، زرتها في مقاصيرها المخروطية من الغاب في جدل جميل، وكانت تعلق الأسلحة وجلود السباع فوقها، وكان موتيزا طاغية جبَّارًا له ٧٥٠ زوجة و١٥٠ ولدًا، ويوم وفاته قُدِّم على قبره خمسمائة من الضحايا الآدمية، وأمام المقابر تقوم طبول عالية يدقها رئيس الجلادين إرهابًا، وكان من قبلُ يدقها عند تقديم الذبائح البشرية ويسمونه «موجا جازو» أي الطبل الأعظم، ثم تل منجو مقر الحكومة وقصر الملك حوله سور من الغاب، وقد رأيت عند مدخله نارًا قيل إنها لا تخمد أبدًا إلا يوم يموت الملك، وكانت تذكيها الذبائح الآدمية منذ خمسين عامًا، وإلى جوارها طبول تدق في صوت مزعج إعلانًا بوجود الملك داخل القصر، هناك في جانب من القصر مكان الساحرة «مووا موزا»، وهي عجوز يعتقد الجميع في سحرها، وهي التي تأمر بالقتل وشن الحروب، ولخطرها استرضتها الحكومة وأحلتها قصرًا وتكفَّلَتْ لها بالرواتب الضخمة اتقاءً لشرها.
رغبت في أن أحقِّق حلمًا آخَر هو أن أرى جبال القمر «الرونزوري»، فقمت بالسيارة ست ساعات ووصلت بلدة فورت بورتال، وبت ليلتي في كوخ خشبي؛ إذ ليس بالبلدة مكان للراحة، وفي باكورة الصباح حاولت تسلُّق ذلك الجبل فأعجزني من نواحٍ عدة: صخوره وعرة جدًّا، والغابات تسده سدًّا، والسحاب يكاد يغطيه، والمطر منهمر في كثرة لا تطاق فعدتُ أدراجي، وقد كلَّفَني ذلك وحده فوق عشرين جنيهًا.
وعند الأصيل كنا نرى التماسيح تمرح على الشواطئ، وكثيرًا ما تودي بحياة الناس، وفي ناحية بين كامبالا وجنجا مكان به تمساح مفترس اسمه «لوتمبي» زرته ووقف الحرَّاس ينادونه بأصوات منكرة «ياد يا لوتمبي يا نجوكو»، فسمع النداء وأقبل يشق الماء، ثم زحف على الشاطئ وأخذنا نلقنه السمك، ثم تركنا وعاد إلى موطنه، ويقولون إنه حارس البحيرة منذ مائتي سنة، وهو مقدَّس لديهم جميعًا، وكثيرًا ما يحج الناس إليه ويقدِّمون له الهدايا، والعجيب أنه لا يجيب إلا نداء هذين الرجلين.