ما هي الفيروسات؟
تطورت الميكروبات البدائية على كوكب الأرض منذ ما يقرب من ثلاثة مليارات عام، غير أن الإنسان لم يتمكن من عزلها إلا في أواخر القرن التاسع عشر، قبل أن يكتب هيلاير بيلوك قصيدة «الميكروب» بما يقرب من عشرين عامًا. ومع أن تلك القصيدة كتبت كنوع من الترفيه عن الناس، فإنها تعكس نزعة الشك التي سادت تلك الأزمنة. ولا بد أن الأمر استدعى وثبة إيمانية هائلة من الناس حتى يتقبلوا فكرة وجود كائنات حية دقيقة الحجم وكونها هي المسئولة عن الأمراض التي كانت حتى ذلك الحين تعزى إلى أسباب متنوعة مثل إرادة الآلهة، أو اصطفاف الكواكب على خط واحد، أو الأبخرة الوبائية المتصاعدة من المستنقعات والمواد العضوية المتحللة. وبالطبع، لم يتكون هذا الإدراك الجديد بين عشية وضحاها، لكن مع التعرف على المزيد والمزيد من أنواع البكتيريا المختلفة، ترسخت «النظرية الجرثومية»، ومع بدايات القرن العشرين صار مقبولًا على نطاق واسع حتى في الدوائر غير العلمية أن الميكروبات بإمكانها أن تسبب الأمراض.
كانت التطورات التقنية التي تحققت في صناعة الميكروسكوبات على يد صانع العدسات الهولندي أنتوني فان ليوفنهويك (١٦٣٢–١٧٢٣) في القرن السادس عشر من الأهمية بمكان لهذه الوثبة. كان هو أول من شاهد الميكروبات، غير أن الأمر مع ذلك احتاج إلى الانتظار حتى منتصف القرن التاسع عشر، عندما أجرى كل من لوي باستير (١٨٢٢–١٨٩٥) في باريس وروبرت كوخ (١٨٤٣–١٩١٠) في برلين أبحاثهما، التي شكلت فتوحات علمية كبرى وأكدت أن «الجراثيم» هي سبب الأمراض المعدية؛ ما أكسبهما عن جدارة لقب «الأبوين المؤسسين لعلم الميكروبيولوجيا (علم الأحياء الدقيقة)». كان باستير صاحب إسهام رئيسي في محو الاعتقاد الذي كان سائدًا في أذهان العامة وهو حدوث «تولد تلقائي»؛ بمعنى، تولُّد حياة من مادة غير عضوية. في ذلك الوقت، كان نمو الفطريات فوق أسطح الطعام والشراب المختزن يمثل مشكلة ذات أهمية خاصة. وقد شرح باستير أن بالإمكان منع هذا الأمر في حالة المرق بأن يُغلى أولًا، ثم يوضع بعد ذلك في غرفة مزودة بمرشحات تحجز خلفها أي مادة مكونة من جسيمات آتية مع الهواء. وأظهر هذا وجود «جراثيم» مجهرية الحجم يحملها الهواء. وعام ١٨٧٦، عزل كوخ أول فصيل بكتيري، «الجمرة العصوية»، وسرعان ما ابتكر وسائل لزراعة الميكروبات في المختبر.
وبدأت الأمراض التي كانت تصنع الرعب، كالجمرة الخبيثة والدرن والكوليرا والدفتيريا، تكشف عن أسرارها واحدًا تلو الآخر عندما حُددت الميكروبات المسببة لها واكتُشفت صفاتها. وصار من الواضح أن للبكتيريا تركيبًا مماثلًا لتركيب خلايا الثدييات، فمعظمها له جدار خلوي يحيط بسيتوبلازم يحوي بداخله جزيئًا واحدًا دائري الشكل ملتف حول نفسه من الحمض النووي. تعيش الغالبية العظمى من البكتيريا حرة، ما معناه أن في استطاعتها تصنيع جميع البروتينات التي تحتاجها بنفسها، وأن تمارس الأيض وأن تنقسم دون مساعدة من كائنات أخرى.
وبالرغم من هذا النجاح في عزل البكتيريا المسببة للأمراض، ظلت فئة من الأمراض المعدية تقاوم في عناد كافة محاولات عزل الكائنات المسببة لها، وكان من بينها حالات عدوى شائعة ومميتة مثل الجدري، والحصبة، وحمى النكاف، والحصبة الألمانية، والأنفلونزا. كان من الواضح أن تلك الميكروبات بالغة الصغر؛ إذ كانت تمر من خلال المرشحات التي كانت تحتجز البكتيريا، ولهذا أطلق عليها اسم «العوامل المارة من المرشحات». في ذلك الوقت، كان معظم العلماء يظنون أنها ليست سوى نوع من البكتيريا دقيقة الحجم.
في عام ١٨٧٦ شرع أدولف ماير (١٨٤٣–١٩٤٢)، مدير محطة التجارب الزراعية في فاخنيجن بهولندا، في إجراء أبحاثه حول مرض جديد يصيب نباتات التبغ بدأ يدمر صناعة التبغ الهولندي التي كانت تجلب للبلاد ثروة طائلة. أطلق ماير عليه اسم «مرض موزايك التبغ» بسبب الشكل المبرقش الذي يرسمه على أسطح أوراق النباتات المصابة، وكان كذلك أول من أوضح أن المرض معدٍ عندما نقل العدوى إلى نبات سليم بأن حك أوراقه بالعصارة المستخلصة من نبات مصاب. فاستنتج بذلك أن سبب المرض فصيل صغير الحجم للغاية من البكتيريا أو سم، لكنه لم يواصل أبحاثه لما هو أبعد من ذلك.
وبعدها، أجرى عالم الأحياء دميتري إيفانوفسكي (١٨٦٤–١٩٢٠) أبحاثه هو أيضًا على مرض موزايك التبغ بجامعة سان بطرسبرج في روسيا. وأطلق على المرض اسم «النيران الجامحة»، وفي عام ١٨٩٢ أوضح هذا العالم أن العامل المسبب له يمر من خلال مرشحات تحتجز البكتيريا. وافترض، مثله مثل ماير، أن المرض يحدث بسبب سم بكتيري تنتجه واحدة من فصائل البكتيريا.
ثم في عام ١٨٩٨، تابع «مارتينوس بيجيرينك» (١٨٥١–١٩٣١)، وهو مدرس علم الميكروبيولوجيا بكلية الزراعة في فاخنيجن، خطى تجارب ماير. وكرر هذا العالم، دون أن يعلم شيئًا عن أبحاث «إيفانوفسكي»، إجراء تجارب المرشحات التي أوضحت وجود عامل بالغ الصغر يستطيع المرور من فتحات المرشح، غير أنه بيَّن بعد ذلك أن هذا العامل ينمو داخل الخلايا المنقسمة، وأنه يستعيد قوته الكاملة في كل مرة يصيب فيها النبات بالعدوى. فاستنتج بذلك أنه لا بد أن يكون ميكروبًا حيًّا، وكان أول من صاغ الاسم «فيروس»، المشتق من كلمة لاتينية تعني سم، أو سم الحيوان، أو السائل الدبق.
مع بدايات القرن العشرين عُرِّفت الفيروسات بأنها فئة من الميكروبات تتصف بكونها مسببة للعدوى، وتمر من فتحات المرشحات، وتحتاج إلى خلايا حية حتى تنتشر، غير أن طبيعة تركيبها ظلت لغزًا غامضًا. وفي ثلاثينيات القرن العشرين، تم الحصول على فيروس موزايك التبغ في هيئته المتبلرة، ما أوحى بأن الفيروسات تتكون من البروتينات فقط، غير أنه سرعان ما اكتشف بعدها وجود مكون من الحمض النووي ظهر أنه ضروري لخاصية الإصابة بالعدوى. غير أن الفيروسات لم تُر رأي العين لأول مرة إلا بعد اختراع المجهر الإلكتروني عام ١٩٣٩، وتم حينئذ التعرف بدقة على تركيبها، فتبين أنها فئة فريدة في نوعها من الميكروبات.
تحتوي خلايا الكائنات التي تحيا حرة، أي لا تحتاج إلى عائل، على عضيات متنوعة، وجودها ضروري للحياة مثل الريبوزومات التي تقوم بتصنيع البروتينات، والميتوكوندريا أو غيرها من العضيات المولدة للطاقة، والأغشية المعقدة المختصة بنقل الجزيئات داخل نطاق الخلية الواحدة، وكذلك عبر الجدار الخلوي. أما الفيروسات، فلكونها ليست من الخلايا، وليس لديها أي من تلك التراكيب فإنها لذلك تظل خاملة إلى أن تصيب خلية حية بالعدوى. وجسيمات الفيروس تشبه البذور التي لا يمكنها التحول إلى نبات حي إلا عندما تعثر على التربة الملائمة. غير أن الفيروسات على العكس من البذور، لا تحمل الجينات التي تنقل شفرة جميع البروتينات التي تحتاج إليها كي «تنبت» وتكمل دورة حياتها. لهذا فإنها تقوم باختطاف عضيات الخلية لتستخدم منها ما تحتاج إليه، وفي الغالب تقتل الخلية نفسها أثناء ذلك. ويعني هذا الأسلوب المتبع في الحياة أن الفيروسات مضطرة للحصول على المكونات الضرورية لدورة حياتها من كائنات حية أخرى ومن هنا أطلق عليها اسم «طفيليات اضطرارية». وحتى الفيروس المحاكي، الذي يصيب الأميبا، يضطر لاستعارة عضيات خلية الأميبا كي يتمكن من تصنيع بروتيناته حتى يجمع مكونات فيروسات جديدة من نفس نوعه.
فيروسات النباتات إما أن تدخل الخلايا من خلال ثغرة في الجدار الخلوي أو تُحقَن بواسطة إبرة حشرة ناقلة ماصة للعصارة النباتية مثل حشرة المن. ثم تنتشر بعدها في كفاءة شديدة من خلية إلى أخرى عبر «الرابطات الهيولية»، وهي المسام التي تنقل الجزيئات بين الخلايا وبعضها. وفي المقابل نجد أن الفيروسات التي تصيب الحيوان تصيب الخلايا بالعدوى عن طريق الاتحاد مع جزيئات مستقبلات خاصة موجودة فوق سطح الخلية. المستقبل الخلوي أشبه بالقفل، والفيروسات التي تحمل المفتاح الصحيح الذي يمكنها من الاتحاد مع المستقبل هي وحدها التي تتمكن من فتح القفل والولوج إلى تلك الخلية بعينها. وتختلف جزيئات المستقبل من فيروس لآخر حسب نوعه، ومع أن بعضها يوجد فوق معظم الخلايا، فإن هناك جزيئات تكون مقصورة على أنواع معينة من الخلايا. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك، فيروس نقص المناعة البشري، إتش آي ڤي، الذي يحمل مفتاح دخول القفل «سي دي ٤»، وبهذا فإن تلك الخلايا التي تحمل جزيئات سي دي ٤ فوق سطحها هي فقط التي يمكن أن تتعرض للعدوى بهذا الفيروس. هذا التفاعل بعينه يحدد نتيجة انتقال العدوى، والتي تؤدي في حالة فيروس نقص المناعة البشري إلى تدمير الخلايا التائية «المساعدة» موجبة سي دي ٤ وهي خلايا شديدة الأهمية بالنسبة للاستجابة المناعية. وهذا الأمر يؤدي إلى فشل جهاز المناعة، مع وجود خطر الإصابة بحالات عدوى انتهازية بالغة الحدة، ولو لم يقدم للمريض العلاج يكون موته محتمًا.
بمجرد اتحاد فيروس ما بالمستقبل الخلوي المناسب له، يخترق غلافه الخلية فيتحرر جينومه (سواء أكان من الدي إن إيه أم الآر إن إيه) وينطلق داخل سيتوبلازم الخلية. و«الهدف» الرئيسي للفيروس هنا أن يتكاثر بنجاح، وحتى يتسنى له ذلك يجب على مادته الوراثية أن تنزل المعلومات التي تحملها على جهاز الخلية. في أغلب الحالات، يحدث ذلك داخل نواة الخلية حيث يتمكن الفيروس من الوصول إلى الجزيئات التي يحتاج إليها كي يبدأ في تصنيع البروتينات الخاصة به. إلا أن بعض الفيروسات كبيرة الحجم، مثل فيروسات الجدري، تحمل معها جينات للإنزيمات التي تحتاج إليها في تصنيع بروتيناتها، وبهذا تكون أكثر قدرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي وإتمام دورة حياتها بالكامل داخل السيتوبلازم.
بمجرد دخولها الخلية، تتخفى فيروسات الدي إن إيه ببساطة في صورة قطع من الدي إن إيه الخلوي، وتُنسخ جيناتها وتُترجم باستخدام أكبر قدر متاح من آليات الخلية تحتاج إليها من أجل خط إنتاج الفيروس الخاص بها. وتُنسخ شفرة الدي إن إيه الفيروسي إلى رسائل آر إن إيه تُقرأ وتترجم إلى البروتينات الفيروسية واحدًا واحدًا بواسطة ريبوزومات الخلية. وبعد ذلك تُجمَّع أوصال المكونات المنفصلة للفيروس لتتحول إلى الآلاف من الفيروسات الجديدة التي كثيرًا ما تكون محتشدة ومكتظة داخل الخلية، حتى إن تلك الأخيرة تنفجر كي تطلق سراحها، فتموت الخلية لا محالة. أو بدلًا من ذلك تغادر الفيروسات الجديدة الخلية بأسلوب أكثر هدوءًا بأن تتبرعم من خلال ثغور الغشاء الخلوي. وفي تلك الحالة الأخيرة، ربما تنجو الخلية من الموت وتؤدي وظيفة مخزن للعدوى الفيروسية.
أما فيروسات آر إن إيه فإنها تسبق فيروسات دي إن إيه بخطوة في امتلاكها بالفعل شفرتها الوراثية الخاصة بها في صورة آر إن إيه. ولما كانت تحمل معها الإنزيمات التي تمكن الآر إن إيه الخاص بها من أن يستنسخ ويترجم إلى بروتينات، فإنها لهذا السبب ليست شديدة الاعتماد على الإنزيمات الخلوية، وكثيرًا ما تتمكن من إتمام دورة حياتها داخل السيتوبلازم دون أن تتسبب في خلل مؤثر بالخلية.
داخل خلايا الثدييات، تخضع عملية نسخ الدي إن إيه أثناء الانقسام الخلوي لتنظيم رفيع المستوى، بوجود نظام «تصحيح وتنقيح» إضافةً للعديد من نقاط التفتيش الموجودة بهدف اكتشاف الدي إن إيه التالف أو الذي حدث خلل في نسخه ولتصحيح الأخطاء. فإذا كان حجم التلف هائلًا بدرجة يستحيل معها تصحيحه، فإن الخلايا تمتلك برنامجًا «للتدمير الذاتي» يسمى «الموت الخلوي المبرمج» يحفز الخلية على الوفاة بدلًا من أن يترك الخلية تمرر لخليفتها دي إن إيه تالفًا. وبالرغم من كل تلك المراجعات، تفلت الأخطاء مع ذلك، مسببة استنساخًا للطفرات وإمرارها للأجيال التالية (انظر مربع ١).
يعتبر تحليل الطفرات في جينوم الفيروس وسيلة نافعة لتتبع تاريخه. تنص فرضية الساعة الجزيئية، التي توصل إليها العلماء في ستينيات القرن العشرين، على أن معدل التحور للجيل الواحد ثابت لأي جين بعينه. بعبارة أخرى، إذا طبقنا هذا على الفيروسات، فإنه إذا عُزلت عينتان لفيروس من نفس النوع، لكن آتيتين من مصدرين مختلفين، في نفس التوقيت فسوف تتطوران على مدى نفس الفترة الزمنية التي تطور فيها سلفهما المشترك. ولأن كليهما تعرض لتراكم الطفرات بمعدل ثابت، فإن درجة الاختلاف بين تسلسلي جيناتهما تقدم لنا مقياسًا للفترة الزمنية التي مرت منذ توقيت عزلهما من سلفهما المشترك. وقد تم التحقق من أسلوب قياس الزمن التطوري هذا لدى أشكال أرقى من الحياة عن طريق مقارنة توقيتات الأصل المقدرة بواسطة الساعة الجزيئية بتلك المقدرة عن طريق سجلات الحفريات، غير أن الفيروسات للأسف لا تترك وراءها سجلات مثل هذه. ومع ذلك يستعين العلماء بالساعة الجزيئية في حساب زمن أصل فيروسات معينة، ويرسمون أشجارًا تطورية (أو نشوئية عرقية) توضح درجة قرابتها للفيروسات الأخرى. ولما كانت الفيروسات تملك معدلًا عاليًا لتكوين الطفرات الوراثية، فإن هناك تغيرًا تطوريًّا واضحًا، يمكن تقديره بأنه بالتقريب ١٪ سنويًّا لفيروس نقص المناعة البشري على مدى مقياس زمني قصير. ولما كان معدل التغير لأي جين بعينه ثابتًا إلى حد لا بأس به، فإنه كلما طال زمن تطور الجين، زادت طفراته التي سيكتسبها. لهذا فإن تاريخ فيروسين يتصل أحدهما بالآخر بصلة قرابة من الممكن تتبعه زمنيًّا عودةً إلى سلفهما المشترك باستخدام ما يسمى بالساعة الجزيئية. وقد استخدمت هذه التقنية في إماطة اللثام عن تاريخ فيروس الحصبة. كما استخدمت كذلك في الكشف عن أن فيروس الجدري البشري هو أقرب الأقرباء إلى الفيروسات الجدرية المختلفة التي تصيب الجمال واليرابيع، ما يشير إلى أن الثلاثة جميعها نشأت من سلف مشترك منذ ما يقرب من ٥٠٠٠ إلى ١٠٠٠٠ عام مضت.
لما كانت جسيمات الفيروسات خاملة، لا تملك القدرة على توليد طاقة أو تصنيع بروتينات دون الاعتماد على الغير، فإنها بصفة عامة لا تعتبر كائنات حية، ومع ذلك، فإنها قطع من المادة الوراثية التي تتطفل على الخلايا، فتستغل في كفاءة متناهية الآليات الداخلية للخلايا في التكاثر. فكيف ومتى إذن نشأ هؤلاء الخاطفون الخلويون؟
هذه المسألة محل جدال ولم نعثر لها على إجابة شافية بعد، إلا أنه صار من المتعارف عليه عمومًا أن نشأة الفيروسات تعود إلى زمن بالغ القدم. أما مسألة أن الفيروسات التي تتقاسم سمات مشتركة تصيب بالعدوى كائنات تنتمي لأشكال الحياة الرئيسية الثلاثة — العتائق والبكتيريا وحقيقيات النوى — فتوحي بأنها تطورت قبل انفصال تلك الأشكال الثلاثة للحياة عن سلفها المشترك، والمسمى «آخر سلف خلوي مشترك». وهناك ثلاث نظريات رئيسية تفسر نشأة الفيروسات.
تفترض النظرية الأولى أن الفيروسات كانت أولى الكائنات التي نشأت في «الحساء البدائي» قبل ما يقرب من أربعة مليارات عام مضت. وإذا علمنا أن الفيروسات المعاصرة طفيليات اضطرارية مرغمة على إصابة خلية ما بالعدوى واستخدام عضياتها من أجل التكاثر، فإن هذه النظرية بذلك تفترض أن فيروسات دي إن إيه كبيرة الحجم، مثالًا لذلك فيروسات الجدري، ربما كانت تمثل فيما مضى شكلًا حرًّا من أشكال الحياة فقد الآن قدرته على التكاثر مستقلًّا عن الأحياء الأخرى.
تفترض كلتا النظريتين الثانية والثالثة أن الفيروسات نشأت قبل مجيء جزيء دي إن إيه إلى الوجود، عندما استعملت خلايا آخر سلف خلوي مشترك، وهي خلايا بدائية، جزيء آر إن إيه كمادة وراثية لها. إحدى النظريتين تفترض أن الفيروسات انحدرت عن شظايا فارة من هذا الآر إن إيه ثم اكتسبت غلافًا بروتينيًّا وصارت قادرة على الإصابة بالعدوى. أما النظرية الأخرى فتفترض أن الفيروسات تمثل خلايا آر إن إيه أولية اختُزلت إلى نمط حياة طفيلي من خلال تعرضها لمنافسة من خلايا أخرى أكثر تعقيدًا فاقتها في القدرة والتطور. وتصير كلتا النظريتين أيسر فهمًا عند تطبيقهما على فيروسات آر إن إيه لا على فيروسات دي إن إيه، وهكذا طرح العلماء فكرة أن فيروسات دي إن إيه تطورت من نظرائها الأقدم، فيروسات آر إن إيه. وما يؤيد هذا الطرح وجود فيروسات قهقرية، بقدرتها على نسخ آر إن إيه لتحويله إلى دي إن إيه. وهي بعملها هذا، تعكس اتجاه سير المعلومات الوراثية المألوف لنا؛ والمتجه من الدي إن إيه إلى الآر إن إيه إلى البروتين. لم يكن هناك من يؤمن بإمكانية هذا الطرح إلى أن اكتشف إنزيم «النسخ العكسي» لدى الفيروسات القهقرية عام ١٩٧٠. وربما كانت الفيروسات القهقرية تمثل الحلقة المفقودة بين عالمين أحدهما عتيق وهو الآر إن إيه، وآخر حديث هو الدي إن إيه. ويعد تطور الفيروس ميدانًا جاذبًا للأبحاث العلمية لا يزال يمثل موضوعًا ساخنًا يحتل قمة قضايا الجدل العلمي، ولكن إلى أن تحل تلك المسألة، سيظل السؤال عن الموضع الملائم للفيروسات على شجرة الحياة دون إجابة.
-
نوع الحمض النووي (هل هو دي إن إيه أَمْ آر إن إيه)؛
-
شكل القفيصة الفيروسية؛
-
قطر القفيصة الفيروسية و/أو عدد القسيمات القفيصية؛
-
وجود «المظروف» من عدمه.
منذ بدايات ثمانينيات القرن العشرين، وهي الفترة التي تعرف الإنسان فيها لأول مرة على تسلسل جينات الجينوم الفيروسي بأكمله، صارت هذه تقنية روتينية توفر لنا معلومات ثمينة لتصنيف الفيروسات. والحقيقة أنه مع ظهور المزيد والمزيد من الوسائل بالغة التعقيد لاكتشاف الفيروسات، صار الكثير من الفيروسات يكتشف الآن قبل أن يشاهد تركيبها المادي الفعلي بوقت طويل. وفي تلك الحالات تجرى مقارنة التركيب الجزيئي لكل من الدي إن إيه والآر إن إيه بنفس التركيب لدى الفيروسات الأخرى المعروفة من أجل تحديد عائلة هذا الفيروس الجديد.
وكان اكتشاف فيروس الالتهاب الكبدي «سي» عام ١٩٨٩ هو أول ما استخدم فيه المسابر الجزيئية. فبعد عزل فيروسي الالتهاب الكبدي «أ» و«ب»، ظل يتردد على عيادات الأطباء بصفة منتظمة أناس يعانون من أعراض مميزة للإصابة بالالتهاب الكبدي الفيروسي غير أنهم لم يكونوا مصابين بعدوى من أي من نوعي الفيروس هذين. وسمي هذا المرض «التهاب كبدي لا أ ولا ب»، مما أدى بالضرورة بالعلماء إلى التكهن بوجود فيروس آخر يسبب الالتهاب الكبدي. وعزم العلماء على العثور على ذلك الفيروس المراوغ، وهكذا قاموا باستنساخ قطاعات من آر إن إيه مباشرةً من دماء شمبانزي أصيب بعدوى بمادة مأخوذة من مريض بالتهاب كبدي لا أ ولا ب وذلك في المختبر. وعثر العلماء على سلسلة من تتابعات آر إن إيه الفريدة من نوعها جعلت طول الجينوم، وتركيبه وتنظيمه، مماثلًا لعائلة الفيروسات المُصفرة، غير أنه متميز في الوقت نفسه عن أي فيروسات أخرى معروفة في ذلك الوقت. وأطلق العلماء على هذا الفيروس الجديد اسم فيروس الالتهاب الكبدي «سي».
مع ظهور تلك التقنيات الحديثة في التعرف على الفيروسات، قطعت عملية اكتشاف الفيروسات شوطًا طويلًا في البحث عن أسباب المرض بحيث تحوي في طياتها بيئة أوسع نطاقًا يمكننا العثور فيها على الفيروسات بوفرة. وسوف نبحث في الفصل القادم مدى اتساع وتعقد هذا «العالم الفيروسي» الذي نعيش فيه.