فيروسات في كل مكان
حتى وقت قريب للغاية، كانت محاولات اكتشاف العوامل المسببة للأمراض التي تصيب كلًّا من الإنسان والحيوان والنبات هي الوقود المحرك لمعظم برامج استكشاف الفيروسات، ومن أشهر الأمثلة الحديثة على ذلك مرض سارس (متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد) والإيدز (متلازمة نقص المناعة المكتسب). وقد أعطانا هذا انطباعًا بأن الفيروسات عمومًا تسبب المرض، غير أن التقنيات الجزيئية التي تهدف إلى أخذ عينات من الجينوم للكائنات على نطاق بيئي واسع تبين أن هذا الانطباع عارٍ من الصحة تمامًا. فلقد اتضح الآن أن الفيروسات تشكل كتلة حيوية ضخمة ذات تنوع وتعقيد هائلين داخل البيئة، ويمكن بسهولة أن نطلق على هذا الكل اسم «العالم الفيروسي».
فما الذي تصنعه هذه المليارات من الفيروسات داخل المحيط؟ وهل لها أي أهمية؟
دراسة شكل الحياة الميكروبية في المحيط لا تزال في مهدها ولكن من خلال الاستعانة بالآلات في جمع سلسلة من العينات من مختلف التوقيتات وأعماق المياه، والتحليل الجينومي واسع النطاق، بدأنا نلقي نظرة خاطفة على ذلك المتحف الحاشد القابع تحت الماء، ونعثر على مفاتيح توحي بأنها تلعب دورًا حيويًّا في الحفاظ على الحياة فوق كوكب الأرض. بطبيعة الحال تصيب العديد من الفيروسات البحرية الأحياء البحرية بالأمراض وهي بهذا تشكل تهديدًا للمؤسسات التجارية ومشروعات المحافظة على البيئة. ومن الأمثلة على ذلك، فيروس متلازمة البقعة البيضاء المعدي الخطير والفتاك بدرجة كبيرة والذي أدى إلى تدمير مزارع الجمبري في أنحاء عديدة من العالم، وفيروس الورم الحليمي الذي يصيب السلاحف البرية فيهدد مجتمعاتها بالفناء. وهناك فيروسات أخرى مثل فيروس الأنفلونزا الذي يصيب الفقمات والطيور البحرية ويصيب كذلك البشر، ويتنقل بين اليابسة والبحار ومن ثم ييسر انتشار العدوى من قارة لأخرى.
إلا أن الاكتشافات التي وقعت مؤخرًا تشير إلى أن الفيروسات البحرية لديها أيضًا تأثيرات خفية على البيئة البحرية، وقد أثرت تلك الاكتشافات بقوة في وجهة نظرنا حول النظام البيئي والتطور والدورات الجيوكيميائية. إن العوالق، التي تملأ المحيطات، تتكون من كائنات دقيقة الحجم من بينها الفيروسات والبكتيريا والعتائق وحقيقيات النوى، وبالرغم مما يبدو عليها من أنها تهيم على وجوهها بلا هدف منجرفة مع التيارات البحرية، فإنه قد صار من الواضح الآن أن هذا الشعب من الكائنات على درجة رفيعة من التكوين، حيث يشكل مجتمعات ومنظومات بيئية بحرية يعتمد بعضها على بعض.
العوالق النباتية مجموعة من الكائنات التي تستعين بالطاقة الشمسية وثاني أكسيد الكربون في توليد الطاقة عن طريق التمثيل الضوئي. وكناتج ثانوي لهذا التفاعل، تنتج تلك الكائنات ما يقرب من نصف كمية الأكسجين الموجود في العالم، ومن ثم فإنها تمثل أهمية حيوية للاستقرار الكيميائي على سطح الكوكب. وشكل العوالق النباتية قاعدة لمجمل شبكة الطعام البحرية، حيث تقتات عليها العوالق الحيوانية التي بدورها تكون فريسة تقتات عليها الأسماك والحيوانات البحرية الأرقى مرتبة من آكلات اللحوم. وعن طريق إصابة ميكروبات العوالق بالعدوى وقتلها، تتحكم الفيروسات في ديناميكية جميع المجتمعات الرئيسية وتفاعلها فيما بينها. على سبيل المثال، العالق النباتي الشائع بل وجميل المنظر المسمى «إي هوكسليي» يتعرض بصفة منتظمة لفترات إزهار تحول سطح المحيط إلى اللون الأزرق المعتم فوق مساحات شاسعة، حتى إنه يمكن تحديدها من الفضاء بواسطة الأقمار الصناعية. ثم تختفي تلك المناطق المزهرة بنفس سرعة ظهورها، والمتحكم في هذه الدورات من الازدهار ثم الاختفاء هي الفيروسات المتواجدة في المجتمع البحري والتي تتخصص في إصابة إي هوكسليي بالعدوى. ولما كان في مقدورها إنتاج الآلاف من نسلها من كل خلية مصابة، فإن أعداد الفيروسات تتضاعف في غضون ساعات وبهذا تؤدي وظيفة فريق الإنقاذ السريع، فتقتل معظم الميكروبات المزهرة في مدة لا تتجاوز بضعة أيام.
الغالبية العظمى من الفيروسات البحرية من النوع الملتهم الذي يصيب تجمعات البكتيريا البحرية بالعدوى ويقوم بتحجيمها. لكن هذا ليس الشيء الوحيد الذي تفعله. فالملتهمات تشتهر بأنها تدمج بداخلها عن طريق الخطأ شذرات من جزيئات دي إن إيه من أحد العوائل وتنقلها للتالي، ومن ثم تنشر المادة الوراثية سريعًا بين أفراد البكتيريا التي تعولها. وهذا السلوك داخل البيئة البحرية، والذي يطلق عليه اسم «ممارسة الجنس الفيروسية»، فيما يبدو ظاهرة واسعة الانتشار، إذ تقتنص الفيروسات جينات العوائل وتنقلها في جميع أنحاء المجتمع الذي تعيش فيه. خلال هذه العملية العشوائية، نادرًا ما تكون الجينات المقتنصة مفيدة للعائل الجديد، لكنها عندما تكون كذلك، يمكنها أن تنتشر على نحو مذهل، فهي على سبيل المثال قد تساعد عوائلها على التكيف سريعًا مع التغيرات التي تحدث في مستويات المغذيات أو مع الظروف القاسية مثل درجات الحرارة المرتفعة أو الضغوط العالية أو التركيزات الكيميائية الموجودة عند الفوهات البحرية العميقة، ومن ثم تسمح لها بتكوين مستعمرات في موضع جديد.
وبالإضافة إلى لعب دور بنوك جينات متنقلة، تحمل بعض الملتهمات جينات تمنح فرائسها دفعة أيضية. مثال ذلك أن العديد من «الملتهمات الزرقاء» التي تغزو الزراقم، وهي الأفراد البكتيرية الوحيدة الموجودة في العوالق النباتية، تحمل جينات التمثيل الضوئي الخاصة بها. وهذه الجينات تبطل تأثير الجينات الفيروسية الأخرى المصممة من أجل إبطال عمل جينات العائل حتى تنتج بروتينات الفيروس بدلًا من بروتينات العائل. ولكن إحباط عملية التمثيل الضوئي مبكرًا عن موعدها من شأنه قطع دورة حياة الخلية ومنع اكتمال دورة حياة الفيروس، وهكذا تزود الملتهمات الزرقاء تلك العملية بالمكونات الرئيسية اللازمة لها. ولقد عملت تلك الفيروسات على نشر جينات التمثيل الضوئي الخاصة بها على نطاق بلغ من الاتساع حدًّا صار عنده ما يقدر ﺑ ١٠٪ من عمليات التمثيل الضوئي التي تتم في العالم تقوم به جينات مصدرها الملتهمات الزرقاء.
إن الفيروسات عندما تقتل الميكروبات الأخرى، فإنها تحول بذلك كتلتها الحيوية إلى كربون عضوي في شكل جسيمي أو مذاب حيث يعاد استخدامه من جديد على يد المجتمعات الميكروبية. وهذا يزيد من حيويتها ومن إنتاج ثاني أكسيد الكربون على حساب تلك الكائنات الواقعة عند مستوى أعلى من شبكة الطعام. وبدون تلك الدورة الفيروسية الجانبية، فإن كثيرًا من الكربون العضوي الجسيمي كان سيغرق نحو قاع البحر ليكون طبقة عازلة. والمحصلة النهائية لذلك النشاط الفيروسي تتمثل في إطلاق حوالي ٦٥٠ مليون طن من الكربون على مستوى العالم سنويًّا (يقال إن حرق الوقود الحفري يطلق حوالي ٢١٫٣ مليار طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًّا)، وبهذا فإنها تسهم بصورة مؤثرة في التزايد التدريجي لثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.
ومع أنه قد صار من الواضح الآن أن المحيطات هي العائل لما لا يعد ولا يحصى من الفيروسات، فإننا لم نبدأ في استكشاف هذا المخزون الهائل إلا منذ عهد قريب. ومع اكتشاف وفرة الفيروسات البحرية وتنوعها، فإن من المحتمل أن تكون هناك مستودعات مماثلة داخل مساكن ميكروبية أخرى، مثل أمعاء الإنسان، حيث تعيش البكتيريا بأعداد هائلة حتى إن عددها داخل جسم الإنسان يفوق عدد خلايا الجسم البشري نفسه بنسبة ١٢ : ١. وبالرغم من حجمها الدقيق، فإن الفيروسات برهنت على أنها ذات أهمية قصوى في المحافظة على استقرار الأنظمة البيئية في أنحاء المعمورة.
ونعود من جديد إلى اليابسة، حيث وجد أن للفيروسات أعمالًا مذهلة تؤديها هنا أيضًا. وقد جرى مؤخرًا إماطة اللثام عن دورها المباشر في العلاقة التكافلية التي تبدو في الظاهر بسيطة بين فصيل بكتيري وعائله. تحمل العديد من أنواع الفقاريات داخل أجسامها بكتيريا تكافلية ربما كانت تزودها بعناصر غذائية تفتقر إليها أغذية تلك الحيوانات أو تحميها من أعدائها الطبيعيين التي تسعى لافتراسها. ومن بين الأمثلة على ذلك حشرة مَنُّ البازلاء التي تحمل بكتيريا تقيها من الدبور المتطفل، «أفيدياس إرفي»، الذي يضع بيضه في القيلة الدموية (مساحة مملوءة بالدم) الموجودة بجسم الحشرة. وبدون هذا الفصيل البكتيري هاميلتونيلا ديفينسا تموت حشرة المنِّ أثناء نمو يرقات الدبور، غير أن السموم التي تنتجها البكتيريا تقتل الدبابير النامية. وقد أميط اللثام عن تلك القصة بسبب الاكتشاف الذي حدث مؤخرًا وهو أن فيروسًا ملتهمًا في واقع الأمر يصيب بكتيريا إتش. ديفينسا بالعدوى هو الذي ينتج السم القاتل للدبابير. ومن هنا نجد أن ثلاثة كائنات مختلفة عن بعضها تمامًا تتعاون معًا للقضاء على عدوها المشترك، ألا وهو الدبور المتطفل.
وهناك قصة مشابهة تتعلق بالضمة الكوليرية، وهو الميكروب حلزوني الشكل المسبب للكوليرا عند الإنسان، إن هذه البكتيريا تقطن مياه دلتا نهر الجانج بجانب مجموعة متنوعة من سلالات الفيروسات الملتهمة التي تصيبها بالعدوى. بعض من تلك الملتهمات تقتل الخلية البكتيرية (بأسلوب الالتهام التحللي) بينما تحمل غيرها جين سم الكوليرا (الالتهام المكون للسم). فبكتيريا الكوليرا المصابة بالملتهمة المكونة للسم هي وحدها التي تسبب المرض للإنسان، مما يتسبب في إسهال الكوليرا المعروف الذي يدمر صحة الإنسان بل ويميته في كثير من الأحيان.
ولا يمكن لفصل يتحدث عن تواجد الفيروسات في كل مكان أن يكتمل دون مناقشة احتمال وجود الفيروسات في الفضاء الخارجي. فبطبيعة الحال، لا يمكن للفيروسات باعتبارها طفيليات اضطرارية، أن توجد إلا في مكان به حياة، لهذا يصبح السؤال كالتالي: هل توجد حياة من أي نوع، سواء أكانت ميكروبية أم غيرها، على سطح الكواكب الأخرى؟ في الوقت الحاضر، لا نعلم إجابة عن هذا السؤال، إلا أنه في سبعينيات القرن العشرين، تصور سير فريد هويل، الفلكي وكاتب الخيال العلمي المشهور نظرية «التبذر الشامل». وتنص هذه النظرية على أن الحياة بدأت على كوكب الأرض بظهور البكتيريا والفيروسات بعد أن وصلت بذورها إليها قادمةً من الفضاء الخارجي عن طريق المذنبات. وآمن هويل وأتباعه بأن تلك الميكروبات لا تزال تصل إلى الأرض حتى يومنا هذا، وبذلك تسهم في تطور الميكروبات وظهور أنواع جديدة من العدوى. من الناحية الظاهرية فإن باطن المذنب يوفر ظروف الدفء والرطوبة اللازمة لازدهار حياة الميكروبات. ومع ذلك فإن جهودًا بحثية مضنية أجريت على مواد آتية من المريخ لم تقدم أي دليل مقنع يؤيد هذه النظرية.
الماء شرط أساسي لوجود الحياة التي نعرفها. ويؤمن كثير من العلماء بأنه في ضوء اتساع الكون، والعدد الذي لا يعد ولا يحصى من النجوم به، فلا بد أن تكون هناك حياة بالفضاء الشاسع في مكان ما. فإذا كانت ثمة حياة، فلا بد أن هناك احتمالات أن تكون هناك فيروسات كذلك، غير أنه سوف يكون علينا الانتظار لنرى ما ستكشف عنه الأيام.
في الفصل القادم، سوف نبحث في المعركة التي تنشب كل يوم بين الفيروسات وعوائلها من نبات وحيوان. في هذا الصراع من أجل البقاء، طورت العوائل آليات لديها كي تحمي نفسها من هجمات الفيروسات، لكن الفيروسات تطور باستمرار استراتيجيات جديدة تشن بها هجمات مضادة. إن سباق التسلح هذا، والمستمر منذ ملايين السنين، ساعد في توجيه جهاز المناعة البشري نحو المزيد من التعقيد الشديد وبذلك عمل على تأمين بقاء نوعنا على ظهر البسيطة.