أنواع العدوى الفيروسية حديثة الظهور
في هذا الفصل، يقصد بمصطلح «العدوى الفيروسية حديثة الظهور» كل من ظهور المرض المعدي الذي يتسبب فيه فيروس ما جديد تمامًا على الأنواع التي تصاب بعدواه، ويقصد به كذلك العدوى التي تعاود الظهور، بمعنى زيادة تكرار الإصابة بالمرض، سواء في موقعه الجغرافي المعتاد أو في منطقة جديدة. ومن الأمثلة الواضحة على المعنى الأول أنفلونزا الخنازير وأنفلونزا الطيور، وكذلك الفيروس المكلل المسبب لمرض سارس، وجميعها أصابت الناس بالعدوى وانتشرت بين الناس لأول مرة مؤخرًا. ومن الأمثلة الجيدة على معاودة ظهور العدوى فيروس غرب النيل، الذي ظهر بالساحل الشرقي للولايات المتحدة عام ١٩٩٩، قادمًا من إسرائيل، ثم عبر القارة بأكملها خلال أربع سنوات ليس إلا. والفيروسات المكتشفة حديثًا التي تتسبب في أمراض معروفة منذ الأزل يطلق عليها هي أيضًا في بعض الأحيان اسم حالات العدوى حديثة الظهور. ومن بينها بعض فيروسات الأورام التي لن نذكرها في هذا الفصل لأننا سنغطيها بتفصيل أكبر في الفصل السادس.
ظهر الفيروس المكلل المسبب لمرض سارس لأول مرة في نوفمبر ٢٠٠٢ في فوشان بمقاطعة جوانجدونج بالصين، حيث تسبب في تفشي حالات التهاب رئوي لانمطي. في بادئ الأمر، انتشر الفيروس محليًّا، وبالتحديد بين أفراد أسر المرضى والعاملين بالمستشفيات، غير أن كل شيء تغير في فبراير ٢٠٠٣ عندما حمل الطبيب الذي عالج حالات سارس في مقاطعة «جوانجدونج» الفيروس دون قصد إلى هونج كونج. مكث الطبيب هناك ليلة واحدة في فندق «متروبول» بهونج كونج قبل أن يحتجز بالمستشفى حيث توفي بمرض سارس بعدها بأيام قليلة. وفي المستشفى، انتشر الفيروس بين العاملين بها، وهو ما أشعل شرارة وباء هونج كونج. وخلال الأربع والعشرين ساعة التي أمضاها بالفندق، نقل الطبيب الفيروس لما لا يقل عن ١٧ من النزلاء (من الواضح أنه عطس داخل المصعد)، الذين نقلوه بعد ذلك إلى ٥ بلدان أخرى، ومن ثم نشروا الوباء في كندا، وفيتنام، وسنغافورة. كان هذا الانتشار السريع للفيروس يهدد بوقوع جائحة، ولكن المدهش أنه بحلول شهر يوليو ٢٠٠٣ انتهى الوباء، وكانت حصيلته النهائية من الضحايا ما يقرب من ٨٠٠٠ حالة مرضية و٨٠٠ حالة وفاة في ٢٩ بلدًا على امتداد ٥ قارات.
ينتشر الفيروس المكلل المسبب لسارس من خلال الجو ويسبب المرض تقريبًا لكل من يصيبه بالعدوى. فبعد فترة حضانة تتراوح بين يومين و١٤ يومًا، يصاب ضحاياه بحمى، وتوعك، وأوجاع عضلية، وسعال، وفي بعض الأحيان يتفاقم المرض سريعًا ليصبح التهابًا رئويًّا فيروسيًّا يتطلب دخول العناية المركزة، وضرورة اللجوء للتنفس الاصطناعي في ٢٠٪ من الحالات. ولكن كيف مع عدم وجود علاج معروف أو لقاح وقائي، هُزِم الوباء بمثل هذا القدر من النجاح؟
لو كان فيروس سارس تُرِك دون مواجهة، فما من شك أنه كان سيستمر في إشاعة الدمار، ولكن لحسن الحظ أن العديد من خصائصه لعبت لصالح أولئك الذين تصدوا لكبح جماحه، وأسهمت في القضاء عليه سريعًا. من الأمور المهمة أن الفيروس في الغالب يتسبب في أعراض مرضية واضحة، مع قلة حالات العدوى الصامتة غير المكتشفة منه. وكان معنى ذلك أن الحالات ومن يحتكون بأصحابها يمكن التعرف عليهم وعزلهم عن بقية الناس، ولما كان الضحايا لا يصبحون ناقلين للعدوى إلا بعد ظهور أعراض المرض عليهم، فقد حالت هذه السمة دون مزيد من انتشاره. كذلك لما كان المرض في العادة حادًّا ومسببًا لوهن من يصاب به، فإن القليل من المرضى نسبيًّا، باستثناء طبيب جوانجدونج، هم من تمكنوا من السفر بعيدًا أثناء إصابتهم بالطور المعدي منه. وأثناء الإصابة بسارس، يجري إنتاج الفيروس داخل الرئتين وينتشر المرض عن طريق السعال. وهذا يولد قطيرات سميكة نسبيًّا من المخاط التي لا تنتشر لمسافة بعيدة عن طريق الجو؛ ومن هنا فإن أكثر من كانوا معرضين للإصابة به هم من كانوا يحتكون بالمريض احتكاكًا مباشرًا مثل أفراد أسرته والعاملين بالمستشفيات، وكانت تلك الفئة الأخيرة تشكل أكثر من ٢٠٪ من الحالات على مستوى العالم. وبمجرد إدراك كل تلك العوامل، صارت الإجراءات المتبعة منذ الأزل والمتمثلة في تمريض المصابين من خلف حاجز وعزل المرضى والملاصقين لهم كافية لإيقاف انتشار المرض ومنع حدوث جائحة.
وعلى النقيض من الفيروس المكلل المسبب لسارس بدأ فيروس نقص المناعة البشري في الانتشار بين البشر منذ بدايات القرن العشرين وبالرغم من العقاقير التي تحاصر العدوى، فإنه لا يزال في ازدياد في مناطق معينة من العالم. في الوقت الراهن، يعيش ٣٣ مليون نسمة حاملين لفيروس نقص المناعة البشري، كما تسبب فيما يربو على ٢٥ مليون حالة وفاة منذ صدور أول التقارير عن مرض الإيدز عام ١٩٨١. من المهم لذلك أن ندرس أسباب هذا الغياب للقدرة على كبح المرض وأن نقارن بين هذه الأسباب وبين النجاح الذي حققه برنامج السيطرة على سارس.
أولًا، مع أن الفيروس المكلل المسبب لسارس انتشر عالميًّا في نفس توقيت التعرف عليه من قبل منظمة الصحة العالمية، فإنه لم يصب البشر بالعدوى إلا لبضعة شهور. قارن بين هذا وبين ما يقرب من ١٠٠ عام وفق التقديرات التي كان فيروس نقص المناعة البشري يزحف خلالها في صمت حول منطقة أفريقيا السمراء جنوبي الصحراء الكبرى حيث تآمرت الفاقة والحروب والخدمات الصحية المتدنية لتيسير انتشاره والحيلولة دون التعرف على الإيدز باعتباره مرضًا جديدًا.
الأمر الثاني، أنه على النقيض من فترة الحضانة القصيرة وتزامن الإصابة بالعدوى مع ظهور الأعراض الصريحة في حالة مرض سارس، فإن لفيروس نقص المناعة البشري فترة خالية من الأعراض يبلغ متوسطها من ثمانية إلى عشرة أعوام، وخلال تلك الفترة يمكن لحامل الفيروس نقل العدوى لعدد لا يمكن إحصاؤه من المحيطين به.
والأمر الثالث، أن كلًّا من الفيروسين ينتقل بطريقة مختلفة تمامًا عن الآخر. ففي حين يمكن بسهولة قطع السبيل على الفيروس المكلل المسبب لسارس المحمول جوًّا، فإن قطع الطريق على انتقال فيروس نقص المناعة البشري أكثر صعوبة. فالوسيلة الأكثر شيوعًا لانتقال العدوى بفيروس نقص المناعة البشري هي الاتصال الجنسي. ومن بين السبل الأخرى لانتقال العدوى انتقاله من الأم إلى طفلها أثناء الولادة والرضاعة من الثدي، وكذلك من الأعضاء المنقولة من شخص لآخر، وفي الدم المنقول ومنتجاته، وعبر تلوث الأدوات الجراحية وكذلك معدات حقن العقاقير. وهذه السبل غير الجنسية يمكن قطعها نظريًّا، غير أن أهميتها شبه معدومة تقريبًا على المستوى العالمي مقارنةً بانتقال المرض عبر اللقاءات الجنسية بين الرجال والنساء. يستهدف فيروس نقص المناعة البشري الشباب والنشطين جنسيًّا مستغلًا السعي اللحوح للإنسان نحو الإنجاب، فينتقل دون قصد من عائل يبدو في الظاهر سليمًا إلى آخر عبر الشبكات الجنسية. ومع أن انتقاله من الممكن إيقافه عن طريق الوسائل العازلة، فإن المقادير الباهظة من الأموال التي أنفقت على تشجيع استخدام العوازل الطبية كوسائل أكثر أمانًا في ممارسة الجنس لم تغير بقدر كافٍ من الممارسات الجنسية بحيث توقف هذه الجائحة.
تؤدي العدوى بفيروس نقص المناعة البشري التي لا تعالج إلى المعاناة من مرض الإيدز بعد فترة كمون طويلة، وقد اكتُشفت تلك المتلازمة لأول مرة عام ١٩٨١ في سان فرانسيسكو عندما توفي عدد من الرجال الشواذ نتيجة إصابتهم بحالات عدوى غير معتادة على خلفية تثبيط مناعي شديد مستحث بفيروس نقص المناعة البشري. وبعد أن اتضح مدى اتساع نطاق الوباء، ظهرت ثلاث فئات مميزة مهددة بالخطر: أصحاب العلاقات الجنسية المتعددة، سواء كانوا ممن يمارسون الجنس السوي أو المثلي؛ والمصابون بمرض الهيموفيليا (مرض النزف) أو غيرها من الاضطرابات التي تحتاج لنقل الدم أو مشتقاته بصفة منتظمة؛ وأخيرًا مستخدمو الحقن من مدمني المخدرات. وباستخدام تقنية الساعة الجزيئية في تتبع أثر المرض عودةً إلى منشأ فيروس نقص المناعة البشري عند الإنسان، حُددت مناطق من أفريقيا السوداء تحديدًا دقيقًا، ولا سيما كينشاسا بجمهورية الكونغو الديمقراطية، باعتبارها مركز انتشار الوباء. وبعد ذلك باستخدام فيروسين من أوائل الفيروسات التي عُزلت من أناس يعيشون في الكونغو الديمقراطية، أجرى العلماء حساباتهم التي أثبتت أن فيروس نقص المناعة البشري أصاب أناسًا من هذه المنطقة منذ ما يقرب من ١٠٠ عام. وحددوا سلالة من الفيروس كانت مسئولة عن نقل العدوى من الكونغو الديمقراطية إلى هايتي وسلالة أخرى نقلت العدوى من هايتي إلى الولايات المتحدة. إذن عندما اكتشف فيروس نقص المناعة البشري عام ١٩٨٣، كان الوباء ينمو بالفعل بمعدل فلكي وقد برهن على أن السيطرة عليه أمر غاية في الصعوبة.
إن الفيروس الذي يقفز إلى نوع جديد من العوائل لأول مرة يواجه بسلسلة من العراقيل التي تتطلب منه التغلب عليها أولًا قبل أن يؤسس لنفسه مكانًا وسط المجتمع الجديد الغافل. أول عقبة يواجهها أنه يتعين عليه إصابة خلايا العائل الجديد بالعدوى، ويعني هذا أن عليه العثور على جزيء مستقبِل خلية العائل كي يلتحم به التحام المفتاح بالقفل. وكثير من حالات العدوى الفيروسية المحتملة تُوأَد عند هذه النقطة، وهي حقيقة تفسر لنا مسألة العائق النوعي أمام معظم الفيروسات. فحتى إذا تمكن الفيروس الجديد من فتح القفل والولوج إلى خلايا العائل، تظل أمامه عقبة القدرة على التكاثر بداخلها التي ربما لا يتمكن من اجتيازها، مما يؤدي إلى عدوى أخرى مُجهَضة. على سبيل المثال، لا يتمكن فيروس نقص المناعة البشري من إصابة الخلايا التائية الحاوية ﻟ سي دي ٤ لدى الفأر؛ لأن التركيب الجزيئي لجزيء سي دي ٤ لدى الفأر مختلف عن نظيره لدى الإنسان بطرق تجعل الفيروس غير قادر على التعرف عليه. وحتى إذا نقلت الخلايا التائية المأخوذة من أحد الفئران وزرعت فيها جزيئات مستقبل فيروس نقص المناعة البشري المأخوذ من خلايا الإنسان (سي دي ٤ وسي سي آر ٥)، فإن العدوى تظل مجهضة لافتقار الخلايا التائية للفأر للبروتينات الأساسية التي يحتاج إليها الفيروس من أجل استنساخ نفسه.
غير أنه في بعض الأحيان يدخل الفيروس بالفعل وينجح في التكاثر داخل خلايا نوع جديد من العوائل، لكنه بعد أن تتاح له مساحة من الفرصة تستمر حوالي أسبوع يتمكن خلالها من الاستيطان داخل العائل والتكاثر بداخله، يصبح على ذريته أن تواصل الانتقال إلى عائل جديد معرض للإصابة قبل أن تعمل مناعة العائل الأول على التخلص منه. فالفيروس المكلل المسبب لسارس وفيروس أنفلونزا الطيور «إتش٥ إن١» كلاهما تحايل حتى تمكن من إصابة البشر بعدواه ولكن بدرجتين مختلفتين من النجاح حتى يومنا هذا. ففي حين يتمكن الفيروس المكلل المسبب لسارس من التنقل بين البشر، كان فيروس أنفلونزا الطيور «إتش٥ إن١» الذي قفز لأول مرة من الطيور إلى البشر عام ١٩٩٧، عاجزًا عن القيام بذلك. فهذه السلالة من أنفلونزا الطيور لا تزال ضعيفة التأقلم مع عائلها الجديد (الإنسان)، ونحن لا نزال في خطر يتهددنا بانتشار جائحة أنفلونزا «إتش٥ إن١» فقط بمجرد أن يطور هذا الفيروس لنفسه وسيلة كفؤًا للانتشار بين أفراد البشر.
أبرز ما يتضح لنا هو أن الفيروسات الجديدة التي تصيب البشر ليست جديدة تمامًا في واقع الأمر. فهي إما فيروسات أصابتها طفرات أو أعادت تجميع نفسها بصورة كانت كافية كي لا يتعرف عليها جهازنا المناعي، أو اتبعت الأسلوب الأكثر انتشارًا، أن تجيئنا من حيوانات أخرى، منتهزةً الفرصة كي تثب من نوع حيواني إلى آخر عندما يحدث اتصال بينهما. ويطلق على تلك الأخيرة الفيروسات حيوانية المنشأ، وعلى الأمراض التي تتسبب فيها أمراض حيوانية المنشأ.
وكما سبق أن رأينا، تحدث لفيروسات آر إن إيه طفرات أكثر بكثير من فيروسات دي إن إيه، فتنتج ذرية متنوعة، وبسببها يتمكن البعض من مراوغة مناعة العائل بصورة أكثر كفاءة من أخواتها ومن ثم تزدهر حياته على حسابها. وفي نهاية المطاف، يبزغ فيروس مختلف بقدر كاف عن أسلافه بحيث لا تتمكن أجهزة المناعة من التعرف عليه. وبعدها يصبح كل من ينتمي إلى مجتمع العائل عرضة للإصابة بعدواه وقد يتسبب بذلك في وباء. الأنفلونزا هي أبرز مثال على فيروس تصيبه الطفرات مرارًا وتكرارًا، في عملية يطلق عليها انحراف المستضد. يدور فيروس الأنفلونزا على نحو دائم في المجتمع، مراكمًا تغيرات جينية ومسببًا نوبات تفشي شتوية منتظمة وأوبئة أكثر حجمًا كل ثمانية إلى عشرة أعوام. غير أن قصته في حقيقة الأمر أكثر تعقيدًا بكثير من ذلك. فهناك ثلاثة سلالات من الأنفلونزا، وهي أ وب وج، وأنفلونزا «أ» هي التي يتسبب فيها فيروس حيواني المصدر. وبمساعدة الطيور البرية، يتمكن هذا الفيروس أيضًا من الخضوع لعملية إعادة ائتلاف أو انحراف مستضد، منتجًا بذلك سلالة جديدة تمامًا من الأنفلونزا دفعة واحدة عن طريق تبادل شظايا من جينومه مع سلالات أخرى. ومن شأن هذا الأمر أن يتسبب في حدوث جائحة.
إن العوائل الطبيعية لفيروسات أنفلونزا «أ» هي الطيور المائية، وتحديدًا البط، غير أن الفيروسات تصيب بالعدوى كذلك أنواعًا مختلفة من الحيوانات الأخرى من بينها الدجاج المنزلي، والخنازير، والخيول، والقطط، وكلاب البحر. وتصنع فيروسات أنفلونزا «أ» من نفسها نسخًا داخل أمعاء الطيور ثم تخرج من أجسامها مع البراز دون أن تسبب أي أعراض، غير أنها تنتشر بنجاح إلى مجتمعات أخرى من الطيور. ولدى فيروسات الأنفلونزا ثمانية جينات مقسمة إلى قطاعات، ما يعني أنه بدلًا من أن يكون جينومها عبارة عن شريط مستمر من الآر إن إيه، فإن كل جين منها يشكل شريطًا مستقلًا بذاته. جينا «إتش» (الحرف الأول من كلمة هيماجلوتينين) و«إن» (نيورأمينيديز) هما الأهم في تنشيط مناعة العائل الوقائية. وهناك ١٦ جين إتش مختلفًا و٩ جينات إنْ مختلفة، وجميعها يمكن العثور عليها في جميع التوليفات من فيروس أنفلونزا الطيور. ولما كانت تلك الجينات عبارة عن أشرطة آر إن إيه منفصلة عن بعضها داخل الفيروس، فإنها في بعض الأحيان تختلط معًا، أو يعاد تجميعها معًا. وهكذا إذا أصاب فيروسان من فيروسات أنفلونزا أ يحملان جين إتش مختلفًا أو جين إن مختلفًا أو كليهما معًا، نفس الخلية بالعدوى، فإن ذريتهما سوف تحمل تجميعات متباينة من الجينات الآتية من الفيروسين الأبوين. ومعظم تلك الفيروسات لن تكون قادرة على إصابة البشر بالعدوى، لكن في بعض الحالات تنتج سلالة جديدة للفيروس يمكنها الوثوب مباشرةً إلى البشر والتسبب في جائحة، كما شهدنا مؤخرًا في وباء أنفلونزا الخنازير.
على امتداد القرن المنصرم، وقعت خمس جوائح أنفلونزا: في أنفلونزا عام ١٩١٨ «الإسبانية»، جاءت جميع الجينات الثمانية من الطيور؛ واكتسبت الأنفلونزا الآسيوية عام ١٩٥٧ ثلاثة جينات جديدة، من بينها جين «إتش» وجين «إن» من الطيور؛ واكتسبت أنفلونزا هونج كونج عام ١٩٦٨ جينين جديدين من البط البري. أما الأنفلونزا الروسية التي ظهرت عام ١٩٧٧، والتي ربما جاءت فارة من أحد المختبرات في روسيا، فكانت عبارة عن نسخة الخمسينيات من فيروس «إتش١ إن١»؛ في حين يوجد بفيروس أنفلونزا الخنازير «إتش١ إن١» التي ظهرت عام ٢٠٠٩ بالمكسيك ستة جينات مأخوذة من الفيروسات الأمريكية الشمالية وجينين من فيروسات أنفلونزا الخنازير الأوروبية.
في المتوسط، تقتل أوبئة وجوائح أنفلونزا «أ» حوالي واحد من كل ألف يصابون بعدواها، ويكون الأطفال الصغار جدًّا والطاعنون في السن وكذا المصابون بأمراض مزمنة هم الأكثر تعرضًا للخطر بوجه خاص. كذلك كثيرًا ما تستهدف الجوائح الشباب: ففي جائحة الأنفلونزا الروسية عام ١٩٧٧، كانت الفئة الأكثر تعرضًا للإصابة هي فئة الشباب لأنه لم تكن هناك لديهم مناعة مسبقة، في حين نجا معظم كبار السن لأنهم كانوا محصنين بالفعل. وبالمثل، في جائحة أنفلونزا الخنازير التي وقعت مؤخرًا كان المرض أكثر حدة عند الشباب تحديدًا وكذا لدى النساء الحوامل. ولكن أكثر فيروسات الأنفلونزا توحشًا وبفارق كبير في سجل أوبئة الأنفلونزا كانت سلالة وباء عام ١٩١٨ التي استهدفت الشباب فقتلت ما يتراوح بين ٤٠–٥٠ مليون نسمة على مستوى العالم، وهو عدد يمثل نسبة تقترب من ٢٫٥٪ من إجمالي من أصيبوا بالعدوى.
وعندما لاحت في الأفق أنفلونزا الطيور الشرسة «إتش٥ إن١»، شهدت فترة أواخر التسعينيات نشاطًا محمومًا استهدف معرفة السبب الذي جعل «إتش١ إن١»، وهو فيروس أنفلونزا عام ١٩١٨، مميتًا على هذا النحو. والمدهش، أن الباحثين تمكنوا من إعادة تركيب الفيروس مستخدمين في ذلك عينات مأخوذة من جثمان أحد ضحايا الأنفلونزا الذي كان مطمورًا أسفل طبقة الجليد القطبي في ألاسكا، ومن عينات من رئة جثة حفظت في مختبر باثولوجي لمجند أمريكي لحوالي ٨٠ عامًا. بالمقارنة بفيروس «إتش١ إن١» الذي لم يتسبب في جائحة، كانت سلالة ١٩١٨ تحمل عدة طفرات شجعتها على ارتفاع قدرتها على الإصابة بالعدوى وزادت من معدل نموها داخل خلايا الإنسان. وتحديدًا، هناك طفرة في أحد الجينات الذي يسمى «إن إس ١» تمنع الخلايا المصابة بالفيروس من إنتاج الإنترفيرون، وهو السيتوكين الرئيسي الذي يمنع انتشار الفيروس ويستحث بدء سلسلة أحداث المقاومة المناعية. ويسمح هذا للفيروس بانطلاقة سريعة، وفي بعض الحالات يستجيب الجسم بإطلاق كميات هائلة من السيتوكينات بصورة غير خاضعة للتحكم، وتسمى هذه العملية «عاصفة السيتوكين». ويلي ذلك استجابة التهابية هائلة وغير ملائمة للجسم تسبب الوفاة للمريض نتيجة لحدوث هبوط في التنفس حيث تمتلئ رئتا الضحية بالسوائل. وتوجد هذه الطفرة فعلًا داخل فيروس أنفلونزا الطيور «إتش٥ إن١»، وهي التي تتسبب في ارتفاع معدل الوفيات في أوساط المصابين بها. ولحسن الحظ، أنه لم يتعلم حتى الآن طريقة الانتشار بين بني البشر.
من الممكن أن تؤدي سلوكيات معينة أو ممارسات ثقافية ما إلى تيسير عملية انتقال الفيروسات «الجديدة» حيوانية المصدر من عوائلها الأولى إلى البشر، ونحن نعلم الآن أن هناك خطرًا يكمن تحديدًا في تعاملنا مع الحيوانات البرية، والتي يحمل الكثير منها فيروسات من المحتمل أن تصيبنا بالعدوى. فكلٌّ من فيروس نقص المناعة البشري والفيروس المكلل المسبب لسارس دخل المجتمع البشري عندما صيدت عوائله الطبيعية وقُتلت من أجل الاستهلاك.
وصار من الواضح الآن أن الفيروسات التي على شاكلة فيروس نقص المناعة البشري وثبت من الرئيسيات إلى البشر في أفريقيا الوسطى في مناسبات عديدة، وأن واحدًا من تلك الفيروسات، وهو فيروس إتش آي ڤي-١ نوع «إم»، نجح في الانتشار في جميع أنحاء العالم. واقتُفي أثر سلف هذا الفيروس وصولًا إلى فصيل من الشمبانزي (الشمبانزي الأوسط)، الذي يسبب الفيروس لأفراده أعراضًا تشبه مرض الإيدز. ولما كانت تلك الحيوانات تتعرض للقنص على يد الصيادين من أجل لحومها، فإن الأرجح أن عدوى الإنسان وقعت عن طريق تلوث الدم أثناء عمليات القتل وتقطيع اللحم. وحدث هذا الانتقال منذ ما يقرب من مائة عام، وربما كان ذلك في جنوبي شرق الكاميرون حيث تعيش أنواع الشمبانزي التي تحمل الفيروس الأكثر شبهًا بإتش آي ڤي-١ نوع «إم». ويفترض العلماء أن الفيروس (داخل البشر) انتقل من الكاميرون عبر نهر «سانغا»، وهو أحد روافد نهر الكونغو، ليصل إلى مدينة «ليوبولدفيل» (واسمها الآن كينشاسا)، التي كانت حينئذ عاصمة ما كان يعرف سابقًا باسم الكونغو البلجيكية، ومن هناك انتشر إلى باقي أنحاء العالم.
كذلك انتقل الفيروس المكلل المسبب لسارس إلى المجتمع البشري آتيًا من مصدر غذاء حيواني، ولكن هذه المرة في أسواق الحيوانات الحية في الصين. فهناك، يعرض للبيع عدة أنواع من الثدييات صغيرة الحجم، وأبرزها قط بري اسمه سنور نخيل الهيمالايا الحامل لفيروسات تشبه فيروس سارس. وبعد أن عرف الآن المستودع الطبيعي لفيروس سارس وهو وطواط الفاكهة، فإنه يفترض أن الفيروس انتقل إلى أنواع حيوانية أخرى في الأسواق حيث تشحن معًا في أقفاص شديدة الاكتظاظ بها، ومن ثم قفز إلى تجار السوق.
سارس ليس الفيروس الوحيد المحتمل أن يكون مهلكًا الذي تحمله الوطاويط؛ فهناك العديد من أنواع الوطاويط التي تمثل مستودعات للفيروسات التي وثبت مؤخرًا إلى البشر. والحقيقة أن الوطاويط على نحو شبه مؤكد تنقل فيروس الإيبولا المسبب للذعر الشديد والقابل بشدة للإصابة بالعدوى وفيروسات مشابهة له. وتضرب أوبئة حمى الإيبولا النزفية الفيروسية المناطق الريفية في أفريقيا الوسطى من حين إلى آخر، وقد زادت مرات تكرار تلك النوبات من تفشي الوباء في بلدان الكونغو الديمقراطية، والجابون، والسودان منذ منتصف التسعينيات. اكتُشف فيروس إيبولا بعد تفشي وباء بصورة رهيبة في يامبوكو، وهي قرية نائية تقع شمالي زائير (وتسمى الآن جمهورية الكونغو الديمقراطية)، عام ١٩٧٦، وأطلق عليه اسم نهر إيبولا المحلي. بدأ هذا الوباء في الانتشار عندما أصيب معلم بإحدى المدارس بصداع وأعراض حمى عقب عودته من رحلة في الأدغال. وعولج المدرس من أعراض الملاريا في مستشفى محلي يتبع إحدى البعثات، غير أن الأعراض التي ألمت به تفاقمت حتى صارت حمى نزفية فيروسية كاملة الأوصاف مع ارتفاع رهيب في درجة الحرارة، وألم شديد بالبطن، وإسهال، وقيء، وتقلصات عضلية، ونزيف من عموم الجسم. وتوفي الرجل خلال بضعة أيام. وانتشر الفيروس عن طريق الاتصال المباشر بالمريض وسوائل جسمه، إلى أسرته، وغيره من مرضى المستشفى والعاملين به، وأخيرًا أصاب بعدواه ٣١٨ شخصًا في القرية فقتل ٢٨٠ منهم.
على عكس المتوقع، تعد السيطرة على نوبات تفشي الإيبولا عملية غاية في البساطة بمجرد التعرف على المرض. فلما كانت العدوى شديدة الإنهاك للمريض، فإن القليل من ضحاياها يتمكن من الابتعاد عن موقع تفشي الوباء، وبمجرد قطع سلسلة انتقال عدواه من شخص إلى آخر عن طريق التمريض من خلال حواجز وعزل الحالات والمخالطين للمرضى، يمكن السيطرة عليه سريعًا. للأسف وثب الفيروس مؤخرًا إلى القردة كبيرة الحجم، وتحديدًا أنواع الشمبانزي وغوريلات الأراضي الخفيضة التي تعيش بأفريقيا الوسطى. وهذا لا يهدد فحسب وجود تلك الأنواع المعرضة للخطر وحسب، وإنما يوفر كذلك وسيلة انتقال إضافية إلى البشر عندما يقع اتصال بينهم وبين تلك الحيوانات، ولعل هذا ما يفسر ما ورد في التقارير مؤخرًا عن الارتفاع في أعداد نوبات الوباء.
وفي عام ١٩٩٧ ظهر فيروس خطير آخر ينتقل عن طريق الوطاويط، عندما ذكرت مجموعة من المزارعين الماليزيين شيئًا عن مرض تنفسي متفشٍّ بين خنازيرهم، وبعدها سقط العديد من مربي الخنازير والعاملين في حظائرها مرضى بالالتهاب الدماغي. ولحسن الحظ أن المرض لم ينتشر مباشرةً من شخص إلى آخر، وتمت السيطرة عليه لاحقًا بذبح مليون خنزير عام ١٩٩٩. والمؤسف أنه في ذلك الحين كانت هناك ٢٦٥ حالة التهاب دماغي توفي منها ١٠٥ أشخاص. وعزل أحد الفيروسات من فصيلة «الفيروس المخاطاني» من مخ أحد الضحايا وأطلق عليه اسم «نيباه» على اسم القرية التي كان يعيش فيها. واقتُفِي أثر الفيروس عودةً إلى وطاويط الفاكهة، ولعل انتقاله إلى البشر بدأ عندما تُرِكت مستعمرة من الوطاويط بلا مأوى نتيجة لعمليات إزالة الغابات. فأعادت الوطاويط توطنها في أشجار بالقرب من مزارع الخنازير وانتقل الفيروس إلى الخنازير عن طريق روث الوطاويط، وبعدها انتقل من الخنازير إلى المزارعين والعاملين في الحظائر.
نتيجة لغزونا لأراضيها، تصبح الوطاويط والبشر في حالة اتصال بمعدل آخذ في الازدياد. وتبين أن فيروس «نيباه» مشابه للغاية لفيروس هندرا الذي تحمله الوطاويط وعُزل عام ١٩٩٤ من ضحايا مرض تنفسي حاد تفشى في مزرعة هندرا ببريسبان بأستراليا، حيث قتل ١٤ جوادًا وواحدًا من مدربيها. وتفشت نوبات مماثلة في البنغال الغربية عام ٢٠٠١ وفي بنجلادش عامي ٢٠٠١ و٢٠٠٤ وعزيت أيضًا إلى فيروسات الوطاويط، ما يشير إلى أن تلك الحيوانات اللطيفة المكسوة بالزغب لا تصلح مطلقًا لأن ترافقنا بأمان.
وهناك فيروس آخر تنقله الحشرات وهو فيروس اللسان الأزرق وللإصابة به عواقب اجتماعية واقتصادية وخيمة حيث إنه يصيب الحيوانات المنزلية وبالتحديد الأغنام، وينتشر بينها عن طريق الذباب الصغير المعروف باسم البرغش. وبمجرد انتقال العدوى إليها، تصاب الأغنام بالحمى التي تعقبها حالة إفراز زائد للعاب وتساقط رغاء من الفم، وإفرازات أنفية، وتضخم بالوجه واللسان. أما الصبغة الضاربة إلى الزرقة التي يكتسي بها لسان الغنم فسببها انخفاض مستوى الأكسجين بالدم، وهي التي منحت هذا المرض اسمه. ومن أعراضه أيضًا الهزال، وربما يصاب الخروف بالتهاب رئوي قد يؤدي إلى الموت. وفي أغلب الحالات، يتبع ذلك تعافٍ بطيء الخطى، غير أن إعاقة نمو الصوف يعد من العواقب التجارية المهمة.
سجلت أول حالة لمرض اللسان الأزرق في جنوب أفريقيا وكانت مقصورة فقط عادةً على المناطق الاستوائية والمدارية حيث تصيب أيضًا الماشية والماعز، إلا أن أعراض المرض تكون أخف وطأة مما يحدث للأغنام. إن توزيع المرض جغرافيًّا يعكس حقيقة أن ذباب البرغش الأفريقي لا يمكنه العيش في الأجواء الشتوية قارسة البرودة. غير أنه بفضل ظاهرة الاحتباس الحراري، توسعت الذبابة مؤخرًا في الأقاليم التي تقطنها لتصل إلى جنوبي أوروبا، حيث التقط البرغش الأوروبي الأكثر قدرة على احتمال البرودة عدوى الفيروس. وفي كل عام تزداد أعداد الحشرات ازديادًا هائلًا مع بدايات الصيف، وعندها تصل عملية انتقال فيروس اللسان الأزرق إلى ذروتها. كان مرض اللسان الأزرق يتحرك جهة الشمال بمعدل منتظم وسُجِّل وجوده في ألمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا عام ٢٠٠٦ حيث نجا من برودة الشتاء، ووصل إلى المملكة المتحدة والدنمارك عام ٢٠٠٧، وإلى السويد عام ٢٠٠٨، والنرويج عام ٢٠٠٩. إذن هل سيتحمل الفيروس الذي يمتطي ظهر الذباب عنوة تلك الأجواء الشمالية ويجعل منها موطنًا له ويصيب الحيوانات المنزلية هناك؟ علينا أن ننتظر لنرى ما تَخْبَؤه لنا الأيام.
عندما نضع تلك الأمثلة على أنواع العدوى الجديدة التي عاودت الظهور، في الحسبان، يمكننا تناول قضية السبب الذي جعلها في ازدهار في الوقت الحاضر لدى كل من البشر والحيوانات المنزلية.
إن العديد من العوامل المتعلقة بأسلوب الحياة المعاصرة تزيد من تعرضنا لخطر العدوى بالأنواع التي ظهرت حديثًا من الفيروسات ومعظمها مرتبط بازدياد التعداد السكاني. كان تعداد سكان العالم يتضاعف تقريبًا كل خمسمائة عام بين بداية التقويم الميلادي وحتى عام ١٩٠٠، فبلغ حينئذ ١٫٦ مليار نسمة. ولكن خلال القرن العشرين، ارتفع متوسط طول العمر المتوقع ارتفاعًا حادًّا فصار سكان العالم أربعة أضعاف ما كانوا عليه، وكسروا حاجز الستة مليارات نسمة بحلول عام ٢٠٠٠. وإذا استمر معدل النمو هذا دون أن يوقفه شيء، فإننا نكون مؤهلين للوصول إلى رقم من ٩ إلى ١٠ مليارات نسمة بحلول عام ٢١٠٠.
إن تعدادًا سكانيًّا بهذا الحجم كفيل بإيقاعنا في مشكلات عديدة، ليس أقلها تناقص الموارد الطبيعية وارتفاع نسبة التلوث وفقدان التنوع الحيوي وظاهرة الاحتباس الحراري. لكن طالما أن ما يعنينا الآن في هذا الفصل أنواع العدوى الفيروسية حديثة الظهور، فإن أبرز المشكلات الحادة التي تواجهنا في هذا الصدد هي تحديدًا نقص المساحة. لقد سبق ورأينا كيف أدى غزو الأقاليم التي تعد موطنًا طبيعيًّا للحيوانات البرية، سواء بقطع أشجار الغابات المطيرة أو عمليات الصيد بهدف الحصول على طعام أو التوسع في رقعة مدننا، إلى تعريضنا لخطر الإصابة بفيروسات مجهولة بعضها فتاك. فمع كون أكثر من ٥٠٪ منا يعيشون الآن في مدن كبرى مثل طوكيو التي يربو تعداد سكانها على ٣٥ مليون نسمة، تجد الفيروسات — بمجرد إصابتها لنا — طريقها مفروشًا بالورود كي تنتشر وتتوغل بيننا. ويصبح هذا الوضع أوضح ما يكون بين سكان المدن الفقراء داخل بلدان فقيرة الموارد، حيث يعيش ساكنو البلدات المكونة من أكواخ متواضعة الحال في عشش مزدحمة تفتقر بشدة إلى النظافة العامة كما تفتقر إلى الهواء المتجدد والمياه النظيفة، وتغيب عنها خدمات التخلص الآمن من مياه الصرف الصحي وتوفر لجميع أنواع الميكروبات والجراثيم وصولًا ميسورًا إلى ضحاياها من بني البشر. وكما اتضح لنا من أمثلة فيروسات نقص المناعة البشرية وسارس وأنفلونزا الخنازير فإن الانتشار المحلي الناجح سرعان ما يؤدي إلى انتشار بين الدول وبعضها. فهناك ما يربو على مليار مسافر يركبون الطائرات في جميع أنحاء العالم كل عام، وبذلك تمتلك الفيروسات الجديدة آلية كفئًا لبلوغ الطرف الآخر من العالم في خلال ٢٤ ساعة لا أكثر.
كذلك فإن الفيروسات الحيوانية تنتعش في وجود الاكتظاظ السكاني. فبالنسبة لها تعد الحيوانات التي تربى في مزارع ضيقة محتشدة بها أمرًا يعادل المدن المزدحمة بالسكان وتوفر لها فرصة سانحة للانتشار بسهولة بين عوائلها. ولعل من أبرز الأمثلة الدرامية الواضحة على ذلك تفشي فيروس مرض القدم والفم (الحمى القلاعية) في بريطانيا عام ٢٠٠١ وهو ما نتج عنه حرق أكوام من حيوانات المزرعة المذبوحة في جميع أنحاء الريف البريطاني. فالفيروس، وهو شديد العدوى في أوساط الماشية والأغنام والخنازير والماعز والغزلان، واسع الانتشار في آسيا، وأوروبا القارية وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية، غير أنه بصفة عامة غير موجود في منطقتي أستراليا وما يحيط بها من مناطق آسيا، والولايات المتحدة، وكندا والمملكة المتحدة. وهو يستهدف الجلد المحيط بالفم والحوافر، ما يؤدي إلى عرج الحيوان. ومع أنه ليس قاتلًا عادةً، فإن الهزال الذي يسببه للحيوان المصاب والحالة المزرية التي يجعله فيها تسبب خسائر اقتصادية مرتفعة للمربين.
عادةً ما تعبر الفيروسات الحيوانية الحدود بين الدول دون أن يلحظها أحد مختبئةً داخل عوائلها، وفي بعض الأحيان تثب إلى البشر عند بلوغها محطة وصولها الجديدة. وكما رأينا من قبل، وثب فيروس حمى غرب النيل من إسرائيل إلى الولايات المتحدة عام ١٩٩٩، مع أن أسلوبه في الانتقال لا يزال سرًّا غامضًا إلى الآن. ويصيب هذا الفيروس الطيور في العادة وينتشر بينها عن طريق البعوض، الذي يمكنه بعد ذلك إصابة الإنسان بالعدوى بواسطة لدغاته. وعادةً ما تخلو العدوى من الأعراض غير أنها ربما تسبب مرضًا أشبه بالأنفلونزا وفي أحيان قليلة الالتهاب الدماغي. وحتى وقتنا هذا، لم يحدث أن انتقل الفيروس من شخص إلى آخر مباشرةً (باستثناء ما ورد في التقارير عن طريق نقل الدم أو زرع قلب)، لذا فإن إصابة البشر بالعدوى تعد بصفة عامة طريقًا مسدودًا بالنسبة للفيروس. ولما كان الحال هكذا، فإن الفيروس لا بد أنه امتطى ظهر طائر أو بعوضة كي يصل إلى الولايات المتحدة، ومن ثم وجد بعوضًا أمريكي الموطن جاهزًا لنقله إلى الطيور المحلية عند وصوله.
غموض كهذا لا يحيط بقصة وصول فيروس جدري القرود المفاجئ إلى الولايات المتحدة عام ٢٠٠٣. فعلى النقيض من اسمه، يصيب هذا الفيروس عادةً القوارض الأفريقية وفي بعض الأحيان قد يثب إلى البشر مسببًا حمى والتهاب الحلق والزور وتضخم الغدد وطفحًا جلديًّا مميزًا أشبه بطفح الجدري. ومن حسن الحظ فإن المرض بصفة عامة لا يهدد حياة من يصاب به، على الرغم من أن الطفح الجلدي قد يخلف ندوبًا تذكرنا بما كان يحدثه الجدري. وقد اقتُفي أثر جدري الولايات المتحدة الذي أصاب أكثر من سبعين حالة قبل أن يتم السيطرة عليه، وصولًا إلى الفئران الجامبية العملاقة المستوردة من غانا. في أحد متاجر الحيوانات الأليفة كانت تلك الفئران تُقتَنى إلى جوار كلاب البراري (نوع من القوارض) التي التقطت الفيروس ونقلته إلى أصحابها الجدد.
يلقي هذا المثال الضوء على المخاطر التي يكتنفها نقل الحيوانات عن طريق الطائرات النفاثة من مكان إلى آخر من العالم كجزء من التجارة الدولية في مجال الحيوانات الأليفة. إننا لا نعرف الكثير عن الميكروبات التي تعيش في أجساد الحيوانات الأليفة ناهيك عن تلك التي تعيش داخل الحيوانات البرية. فمن المهم بداهةً أن نعرف المزيد عن تلك المستودعات التي تختزن الفيروسات، وكثير منها قد يتأقلم سريعًا مع مجتمعه الساذج الجديد وقد يكون مهلكًا له بحق.