بن لادن والحاج شكري!
الله يرحمه ويحسن إليه عمنا الحاج حامد شكري، كان رجلًا طيبًا وفي حاله، ويقال إن الحاج لم يغادر مصر على الإطلاق ولم يحج إلى بيت الله رغم اللقب الذي اشتهر به، ولكن الشيخ أحمد شتا شيخ جامع الفتح أفتى بأن الأعمال بالنيات، ومن أضمر النية في الحج فقد استحق اللقب، وهكذا صار عمي حامد شكري حاجًّا بالنية، وإن لم يكن حاجًّا بالفعل! وكان من عادته السعي بالصلح بين الناس، والانحياز إلى جانب الضعفاء والمظلومين، كان يتدخل أحيانًا لنصرة خادم اضطهده الأثرياء الذين يعمل في خدمتهم، ويتدخل أحيانًا لنجدة رجل طيب اعتدى عليه بعض الصياع في الشارع، وكان الجميع يحبون الحاج شكري ويُثنون على سلوكه، إلى أن جاء يوم لجأ إلى الحاج شكري ولد صايع اسمه علي الجنايني كان يخدم متطوعًا لدى بعض فتوات الجيزة، يومًا عند الفتوة مرعي، ويومًا عند الفتوة مصطفى لطفي، وذات مساء تطاول الجنايني على مصطفى لطفي ورفع السلاح الأبيض في وجهه، ولم يكن الفتوة مصطفى لطفي من النوع الذي يغفر أو يعذر، خصوصًا إذا كانت الإساءة من صايع هلفوت مثل شكري؛ ولذلك قبض لطفي على الجنايني وعينك ما تشوف إلا النور، وجرجره من قفاه وحبسه في عشة كان يستعملها الفتوة في مثل هذه المناسبات، وذهب الفتوة لطفي إلى الفتوة مرعي يعاتبه لأنه حرَّض «ولد صايع» مثل الجنايني على ضربه، ودليل الفتوة لطفي هو اعتراف الولد الجنايني نفسه، ونفى المعلم مرعي هذا الاتهام، ووصف الولد الجنايني بأنه مُدَّعٍ وكذاب، وعندما أبدى استعداده لمواجهة الجنايني، اصطحبه مصطفى لطفي للعشة المحبوس فيها الجنايني ليتحقق المثل القائل … آدي الجمل وآدي الجمَّال … ولكنهُمَا اكتشفَا لحظة الوصول إلى العشة أن الولد الجنايني تمكَّن من الهرب، ثم شاع الخبر بعد يوم واحد أن الجنايني لجأ إلى الحاج شكري الشهم الذي لا يتردَّد عن إغاثة الملهوف ونجده المظلوم، وكان ذلك اليوم هو آخر عهد الحاج شكري بالشهامة والمروءة، فقد اقتحم منزله الفتوة مرعي وضرب الولد الجنايني علقة موت؛ لأنه أفشى سره للفتوة لطفي، وعندما احتج الحاج شكري ناله من الحب جانب، انكسرت ذراعه وأصيب بعاهة في قدمه، أما الولد الجنايني فقد فرَّ هاربًا من الجيزة، ولم يعرف أحد مكانه حتى الآن.
أذكر هذه القصة الآن بعد مرور ٥٠ عامًا على وقوعها بمناسبة الأخبار التي تناثرت هنا وهناك، حول محاولات لاستقبال أسامة بن لادن لمحاكمته في مصر، صحيح أنها أخبار صحفية وليست رسمية، ولكنهم يقولون في الأمثال … مفيش دخان بدون نار … ولذلك أتساءل … ما لنا نحن ومال أسامة بن لادن؟ أولًا: أسامة ليس مصريًّا، وثانيًا: أسامة لم يتعرض لمصالح مصرية أو لأشخاص مصريين، ومعركة أسامة بن لادن مع الولايات المتحدة، ولذلك … فالوضع الطبيعي إذا كانت هناك محاكمة لا بُدَّ أن تكون في ولاية نيويورك أو في العاصمة واشنطن. والعبد لله يعتقد أن حكومة أمريكا لن تجرؤ على إجراء مثل هذه المحاكمة، وأغلب الظن أن المخابرات الأمريكية ستعمل على قَتْل أسامة خارج حدودها، لكي يضيع دمه بين القبائل.
أذكر أن حكومة مصر وقفتْ موقفًا «شهمًا» ذات يوم أيام المرحوم أنور السادات فاستقبلَت شاه إيران المطرود بعد أن رفضت أمريكا استقباله في أراضيها كما رفضتْ علاجه في مستشفياتها، وبعد موته نظَّم له الرئيس السادات جنازة فخيمة بعربة مدفع بينما فرقة موسيقات الجيش تعزف في المقدمة ألحانًا جنائزية، والرئيس السادات نفسه على رأس جموع المشيعين بالملابس العسكرية وفي يده «إيد الهون» الذي كان يمسك به السادات في يده تشبهًا بفراعنة مصر في الأسرة الرابعة، هذا الموقف الشهم هو في حقيقته خطأ شنيع لعدة أسباب؛ أولا: لأن مصلحة الدولة يجب أن تكون فوق كل مصلحة، ولم يكن من مصلحة مصر الدولة استقبال حاكم مطرود بعد ثورة شعبية دامية، ولم يكن من الحكمة تحدِّي النظام الجديد في طهران الذي أعدم كل رموز النظام القديم في إيران، وثانيًا: لأن شاه إيران شخصيًّا لم يكن صديقًا لمصر أو للعرب في أي وقت، وفي ذروة الصراع العربي الإسرائيلي كان الشاه الصديق المخلص لإسرائيل، فتح لها أبواب إيران، وأمَدَّها بالبترول الذي تحتاج إليه وبأسعار أقل من أسعار السوق، ولعب دور البلطجي في منطقة الخليج، وعند أي خلاف مع دول المنطقة كان يُهدِّد دولها بالحرب ويسارع بالمناورات البحرية، وكان يتعمَّد انتهاك المياه الإقليمية بالبوارج والقوارب المسلحة، ولم تكسب مصر من وراء هذه الحركة القرعة إلا بعض تصريحات الثناء على موقف حكومة مصر من بعض صغار المسئولين الأمريكان، بينما ساءت العلاقات بين القاهرة وطهران في ذلك الوقت، ولا تزال يشوبها بعض الفتور حتى الآن.
وسلوك حسني مبارك يؤكد أنه لن يسمح بإجراء محاكمة لأسامة بن لادن أو غيره على أرض مصر، وهو الذي يضع مصلحة الدولة فوق أي مصلحة، ولكن التزام الحكومة المصرية الصمت إزاء هذه الأخبار التي نُشِرت في الصحف المصرية وأذاعتها بعض الفضائيات العربية، هو عمل غير طيِّب، وكان يجب أن يسارع وزير الخارجية عمرو موسى إلى تكذيب هذه الأنباء، أو وزير الإعلام صفوت الشريف، وحتى يكون موقف مصر الرسمي واضحًا للجميع، وحتى يعلم الجميع أن مصر لا تُفرِّط في الحق، ولا تجامل على حساب مصلحة الدولة.
وبعدُ … فالعبد لله يرجو أن تستجيب إيران للدعوة التي وجَّهَها الشيخ خليفة بن زايد لحل مشكلة الجُزر العربية المحتلَّة بالطُّرق السلمية وعن طريق الأمم المتحدة، وحتى تنتهي الغمة التي تُخيِّم على العلاقات الإيرانية - العربية؛ لأن الوضع الطبيعي أن تسود العلاقات الطيبة بين إيران والعرب؛ لأنه الطريق الوحيد لتحقيق مصلحة العرب ومصلحة إيران، في الوقت نفسه، أما توتُّر العلاقات أو فتورها فهو لا يفيد أحدًا إلا أعداء العرب وإسرائيل على وجه الخصوص، وشكرًا للأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد السعودي الذي مدَّ جسرًا بمبادرته التاريخية للتقارب العربي-الإيراني، ورحم الله الحاج شكري الذي دفع ثمن شهامته ذات يوم منذ أكثر من نصف قرن!