يا عيني على شنقيط!
ما الذي جرى في بلاد شنقيط؟ وشنقيط هو الاسم الحقيقي لقُطر عربي أصبح اسمه الآن موريتانيا، وهو قطر رقيق الحال فقير الموارد صحراوي الطبيعة، وهو في الوقت نفسه عضو بالجامعة العربية ورأسه برأس دول الخليج وليبيا والجزائر من دول البترول، ورأسه برأس مصر والمغرب وتونس والعراق من دول الأنهار، وبالرغم من ذلك لم يتحصل القطر الفقير على جزء من خيرات الأشقاء لا مشروع عربي واحد ولا رجل أعمال عربي واحد ولا شيء على الإطلاق سوى عضوية الجامعة العربية.
ولذلك كان من السهل على وزارة الخارجية الأمريكية اختراقه، لقد كانت مَعذورة في تقديم هدية لحكومة نتانياهو بعد توقيع اتفاقية «واي ريفر» وكان هناك وعد من مدام أولبرايت بأنه كلَّما تَقدَّمت حكومة إسرائيل خطوة إلى الأمام، سيتقدم العرب نحوها خطوتين، وفوجئ العالم العربي عقب توقيع اتفاقية «واي ريفر» بوزير خارجية موريتانيا يهبط بطائرته في مطار بن جوريون، وأعلن يومها أنه جاء لتهنئة الحكومة الإسرائيلية على خطوتها المُوفَّقة نحو تحقيق السلام، ولم يكن هناك أي علامة على السلام والوئام، وتصور البعض أنها شطحة من شطحات وزير الخارجية الموريتاني، ولكنهم فوجئوا بعد عدة أيام بتصعيد وزير الخارجية إلى منصب رئيس الوزراء ثم فوجئوا بعد ذلك بالإعلان عن إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين موريتانيا وإسرائيل، وكان الأمين العام لجامعة الدول العربية هو أكثر الناس اندهاشًا، وهو موقف غريب لأن أمين الجامعة العربية كان يجب أن يتوقَّع مثل هذه الخطوة لو كانت الجامعة العربية تقوم بدورها على الوجه الأكمل، ولكن الأمر الواقع يقول إن الجامعة العربية ربما لا تعرف أين تقع موريتانيا على الخريطة، بالضبط. والعبد لله يسأل سيادة الأمين العام: هل قام بزيارة موريتانيا من قبل؟ وكم عدد الزيارات التي قام بها؟ وأسأل مرة أخرى ملوك الدول العربية وأمراءها ورؤساءها، كم رئيسًا منهم قام بزيارة موريتانيا؟ وكم مرة وجَّهُوا الدعوة لرئيس موريتانيا لزيارة العواصم العربية؟ سواء في زمن ولد دادة أو ولد طايع، وبعد ذلك يُبدي الأمين العام دهشته لما بدر من حكومة موريتانيا صحيح أنها بعيدة عن مشكلة فلسطين، ولكن ما المانع من إثبات وجودها بحركة من هذا النوع، وهو الأمر الذي تحقق فعلًا بعد هذه الحركة القرعة التي قامت بها حكومة موريتانيا، والتي تَسبَّبتْ في اندهاش العالم العربي كله من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر! والأكادة — على رأي عبد العال أفندي مدرس العربي — أن جماعة الخير في أمة العرب لهم كل يوم شهقة اندهاش مما يقع في بلادهم من غرائب وعجائب، مع أنها في الحقيقة ليست من العجائب أو الغرائب، ولكنها أشياء تَمَّت ببطء، ثم أينعت وأزْهَرت، ثم طرحت ثمارها على الأغصان، ولكن لأنَّنا لا ننظر إلا تحت أقدامنا، نُفاجأ بالثمار وقد نزلَت على الأغصان فَنَشهَق من شدة الدهشة، خذ مثلًا حكاية دولة قطر، حدث فيها تغيير للسُّلطة وهي حرة بالطبع لا سلطان لأحد عليها، ولكن العرب لم يحسنوا قراءة ما جرى هناك، وعندما انكشفَت الأوراق أبدي العرب دهشتهم، ولا يزالون في حالة اندهاش إلى هذه اللحظة، خذ عندك مثلًا ما حدث للمصريين في خيطان بالكويت، اندهشْنَا جميعًا وكأن ذلك حدث بالأمس فقط، مع أنه يحدث مثله كل يوم منذ ثلاثين عامًا، في العراق دهسوا المصريين تحت عجلات السيارات أثناء احتفالهم في بغداد بالتعادل مع بطل أوروبا «هولندا» بكأس العالم، وقَتلوا منهم الألوف وأرسلوهم في نعوش طائرة ولم نهتم … وحدث الشيء نفسه في الأردن، وفي لبنان وفي بعض دول الخليج ولم يهتم أحد، مع أن المصريين كانوا موضع التقدير والاحترام في كل مكان حتى منتصف السبعينيات، ثم بدأت حالة الانهيار والتدهور، تَركْنا للمصريين الحبل على الغارب يخرج متى يشاء ويعود أحيانًا مطرودًا أو مكبلًا بالكلبشات، ولو كنا انتبهنا منذ البداية، لو وضعنا الضوابط وأقمنا الحدود، لما حدث شيء من هذا على الإطلاق.
وكم من جرائم ومآسٍ حدثتْ هنا في مصر نتيجة رواية لا أساس لها من الصحة خلاصتها أن كل من يَعبر الحدود إلى بلاد النفط يعود ومعه الدولارات بالكوم، وكان يجب علينا توعية أبناء وطننا بأن سوق العمل في تلك البلاد أسوأ من سوق العمل في بلدنا؛ لأن المنافَسة هناك على ودنه بين أبناء عشرين جنسية على الأقل؛ الهندي، والصيني، والتايلاندي، والفليبيني، والأندونيسي، والأفغاني، إلى جانب العرب الفقراء، وأضيف إليهم أخيرًا أبناء دول الجمهوريات السوفياتية سابقًا، ولكننا تركنا الأمور تمضي في أعِنَّتها، ثم عندما تقع كارثة في أي مكان نرعش حواجبنا من شدة الدهشة، وكأننا لم نكن نتوقَّع شيئًا مما وقع بالفعل.
أقول لكم يا جماعة الخير، لا تلوموا أحدًا إلا أنفسكم؛ ﻓ:
لقد كان يجب علينا أن نتعلم من درس فيتنام، فبالرغم من قلة الموارد وضيق الحال، أتحدَّاك أن تعثر على فيتنامي واحد في سوق عمالة في أي مكان، فإذا كانت فُرص العمل قليلة في فيتنام فليشترك اثنان في عمل واحد، وليقتسم الاثنان أجر الواحد حتى يأتي فرج الله، ومنطق حكومة فيتنام أن المواطن الفيتنامي الذي جرَّع الهزيمة للإنجليزي والفرنسي والأمريكي، لا ينبغي له أن يتجرَّع الذُّل في سوق العمل في الخارج.
سأقول لكم شيئًا خطيرًا للغاية: إن فكرة الوحدة العربية تم القضاء عليها نهائيًّا ولمدة مائة عام على الأقل، والسبب هو المُعامَلة السيئة التي واجهها العمال المصريون في العالَم العربي، في الستينيات عندما رفعت حكومة مصر شعار أمة عربية واحدة، استبَدَّ الفرح بالمصريين إلى حدِّ الرقص في الشوارع، وأنا واقف فوق الأهرام وقدامي بساتين الشام، واليوم … لو رفع أي حزب مصري هذا الشعار فسيكل ضرب ما ياكلوش حرامي في مولد، وإذا حدث ذلك ذات يوم … فأرجوكم لا تندهشوا ولا تُلقوا باللوم على إسرائيل … فنحن العرب وراء كل مشكلاتنا … والله من وراء القصد!