زحمة يا مصر زحمة
شاهدت كوبري الإسكندرية الجديد الذي يربط بين عروس البحر الأبيض والطريق الصحراوي والطريق الزراعي في الوقت نفسه.
والحق أقول إنه منذ تولَّى الرئيس مبارك السُّلْطة وحكوماته المتعاقبة لم تقصر في إنشاء شبكة طرق لم يكن لمصر عهد بها من قبل … طرق ريفية، وطرق علوية في المدن، ومترو أنفاق، وجسور على مجرى النيل أهمها كوبري إمبابة، وكوبري المنيب، وطريق دائري في القاهرة، وآخر في الإسكندرية. وبالرغم من ذلك فالمشكلة لم تحل. الدنيا زحمة والشوارع مزدحمة بالناس، وبعض المناطق لا فرق فيها بين الليل والنهار، مثل شارع الملك فيصل، وشارع الأزهر، في الوقت نفسه نجد مدينة مثل لندن مزدحمة بالسكان، الزحمة فيها تتركز في صرة المدينة، أما خارج هذه الدائرة فليس هناك زحمة ولا يحزنون. منذ أيام خرجتُ في الصباح الباكر في طريقي إلى مطار القاهرة، وكدتُ أتخلَّف عن ركوب الطائرة بسبب الزحمة المجنونة، وفي كل مرة أعود فيها إلى بيتي بعد منتصف الليل، أجد نفسي في يوم الحشر، ليه؟ لا أعرف ولا أعتقد أن أحدًا غيري يعرف. هل هناك نوع من الموظفين عملهم الوحيد هو التجول في الشوارع؟ هل هناك مدارس تقوم بتعليم التلاميذ في الطريق العام؟ هل نحن شعب من الصياع يقضي أغلب وقته هائمًا على وجهه في الطرقات. هذه المسألة في حاجة إلى دراسة حقيقية لمعرفة السبب.
خلال رحلة قصيرة إلى كوبنهاجن عاصمة الدنمارك، تجوَّلْت في شوارعها في الحادية عشرة مساء مع الصديق المهندس علي والي وزير البترول الأسبق، وتَصوَّرت أن هناك أمرًا بحظر التجوال، ولكني عرفتُ من سعادة السفير المصري أن كوبنهاجن تبدو خالية من السكان في مثل هذا الوقت. ولكني عدت إلى التجوال في أنحاء المدينة ظهرًا واعتقدتُ أن حظر التجوال لا يزال مفروضًا على المدينة. لماذا عاصمة مصر هي التي تبدو وكأنها مدينة هندية، لا أستطيع أن ألوم الحكومة؛ لأنها مَدَّت شبكة طرق وحفرت أنفاقًا في خمسة عشر عامًا أضعاف ما حدث في المدينة لمدة مائة عام سابقة … صحيح أن هناك أخطاء هندسية في عملية إنشاء القاهرة. الدليل على ذلك أن أحدث شارع في العاصمة هو شارع فيصل بالجيزة، ولكن عرضه لا يزيد كثيرًا على عرض شارع المعز لدين الله الفاطمي الذي تم فتحه منذ ألف عام، إن القاهرة والجيزة في حاجة إلى مجلس أعلى لإعادة تخطيطهما للوصول بهما إلى المستوى الذي تستحقه كعاصمة كبرى ليس في الشرق الأوسط فقط ولكن في العالم كله. وحرام أن نترك أمر القاهرة لمهندس في المحافظة مشغول بالرشاوى وبإصدار تصاريح البناء وملاحَقة المخالفين، ثم هو في النهاية مربوط من قفاه بالسيد رئيس الحي والسيد رئيس المدينة، القاهرة أكبر من ذلك وأكثر أهمية. ولا بُدَّ من إنشاء هذا المجلس الأعلى على أن يضم أكبر المهندسين وبعض أساتذة الجامعات وبعض المفكرين والأدباء، وأن يكون المجلس إياه تحت إشراف مجلس الوزراء مباشرة، وأن تكون علاقته مقطوعة تمامًا بالمحليات. فيكفي ما في المحليات من كوارث وفواجع وجرائم يَشيب لها الولدان. وأن نطلق يد المجلس إياه في فعل ما يراه مناسبًا لكي نظفر في النهاية بعاصمة جميلة وجليلة تتفق مع دور القاهرة ووضعها في التاريخ، حتى ولو أدَّى الأمر إلى ازالة أحياء بأكملها.
إن منظر مدينة الرباط الذي ظهر على شاشة التليفزيون أثناء تشييع جنازة الملك الحسن الثاني جعلني أبكى ألمًا على منظر عاصمة مصر الذي لا يسر عدوًّا أو حبيبًا. وليست الرباط وحدها ولكنَّ هناك مدنًا عربية أخرى؛ أبو ظبي والشارقة في الخليج، وجدة في السعودية، وعَمَّان في الأردن، وهل من المعقول أن تكون أبو ظبي أكثر اخضرارًا من القاهرة؟ القاهرة التي يحتضنها النيل تبدو لمن ينظر إليها من الطائرة كصخرة جامدة. هل هي قلة مياه؟ هل هي قلة طمي؟ هل هو عدم إحساس بالجمال؟ هل هو سلوك موظَّفين، مشي إيدك وقول يا باسط، يا عم دا كده رضا وربنا يديمها نعمة.
العبد لله يؤكد أنه لا بُدَّ من المجلس الأعلى لإعادة تنظيم القاهرة، ولا بُدَّ من إلحاق مدينة الجيزة التي تضم الدقي، والمهندسين، وشارع فيصل، وشارع الهرم، إلى مدينة القاهرة، واختيار عاصمة أخرى للجيزة تضم الحوامدية والبدرشين، ولا خوف من هذا الإجراء؛ لأنه أمر طبيعي وإجراء ضروري للنهوض بالقاهرة كلها بضفتيها الشرقية والغربية على حد سواء. والدليل على أنه أمر طبيعي أن جامعة الجيزة اسمها الرسمي جامعة القاهرة.
•••
أخطر ما حدث في الفترة الأخيرة هو هروب بعض الرياضيين المصريين وانضمامهم إلى الفريق القَطري. الهدف طبعًا هو الفلوس. وكان تمثيل البلد في المحافل الدولية واللعب تحت رايته هو أغلى أمنية يمكن أن يحققها الإنسان في الحياة. ولكن الآية انقلبت الآن، فأصبحت الأمنية … هي التردد على البنك وتحرير الشيكات والبحث عن شقة أوسع وسيارة أفخر وأكلة أدسم. حتى لو لعب الكابتن للشياطين. إن الهارب أشرف السعد الذي ذقنه ولا المقشة لم يخجل من الظهور على قناة الجزيرة الفضائية، وزمان كان أي إنسان في وضع الأخ المقشاوي يلجأ إلى الظل ويختفي عن الأنظار. حرامي ونصَّاب وهارب من العدالة ولكن هذه الصفات في عصر العولمة وآليات السوق أصبحت نياشين يعلقها البعض على صدره. وزمان كانت السيدة البطلة هي أم صابر، وأصبحت الآن المرأة الحديدية، وعلية العيوطي التي خرجت من مطار القاهرة نهارًا وبالسلامة وفي أمان الله. والسؤال الآن … كيف خرجَت بتأشيرة من النائب العام؟ وهناك خلاف حول … هل من حق النائب العام السماح لها بالسفر، أم من حق المحكمة؟ وهي نقطة لا تستحق أن نتوقف عندها، فسلطات النائب العام واسعة وتحتمل كل شيء. ولكن السؤال الذي يجب طرحه. هل كان يسمح بسفر المواطن علي برعي المتهم بسرقة حبل الغسيل من فوق السطوح حتى ولو كان مريضًا بأخطر أنواع السرطان؟ ولكن علية العيوطي يُسْمَح لها بذلك حتى ولو كانت مريضة بالزكام، الذي سمح لها ليس النائب العام ولا المحكمة، ولكن الذي سمح لها هو الجو العام، وأما الذي معه فلوس يسمح له بكل شيء، أما المفلس الجربان فلا يسمح له حتى بالبكاء. إنه الجو العام الذي جعل بعض الكباتن تهرب من الفريق الوطني المصري والانضمام إلى فريق وطني آخر واللعب تحت علم مختلف. ولم لا؟ ما دامت المسألة فيها هبرة محترمة ولقمة طرية، وهي الأشياء التي أصبحت الهدف والمنى والطلب. وأتساءل الآن … لماذا الحبَّاك وحده هو الذي يعاني في السجن في هذا الحر اللعين؟ أفرِجوا عنه هو الآخر واسمحوا له بالسفر، فيكفيه «شرفا» أنه أعاد لنا ۲۰ مليون دولار من مجموع منهوباته، وهو موقف يفرض علينا أن نشكره عليه!