٢٣ يوليو والشجعان …!
في ذكرى ثورة يوليو المجيدة نرفع أيدينا إلى السماء ونسأل الله أن يغفر للبطل ويحسن إليه عمنا جمال بن عبد الناصر حسين قائد وزعيم ثورة ٢٣ يوليو، الثورة التي صحَّحت الواقع المصري، فقضتْ على مجتمع الواحد في المائة مجتمع الباشوات وأعيان الريف وأصحاب الطين، وقتلُتْ بضربة واحدة أعداء مصر الثلاثة الفقر والجهل والمرض، وأزالت استعمارًا إنجليزيًّا فشلَتْ كل التنظيمات السياسية التي سبقت الثورة في زحزحته بوصة واحدة.
ما أعظمهم من رجال أبطال الذين ضحوا بأرواحهم من أجل تخليص مصر من كل الأعداء، وما أعظمه من رجل البطل جمال عبد الناصر الذي لم يَسترِح لحظة واحدة خلال ۱۸ عامًا طويلة، ولكنه خاض كل المعارك، وحارب على كل الجبهات وانتصر أحيانًا وانهزم أحيانًا، ولكنه استطاع من خلال الهزائم والانتصارات أن يضيف إلى مصر ولا ينقص منها، انتصر على دول كان مجرَّد ذِكْر اسمها يلقي الرعب في قلوب الكثيرين، وانتصر على قوى شريرة ورهيبة ولم يهزمه إلا بعض زملائه وبعض الشجعان من أعدائه الذين مارَسوا الصَّمت طوال عهده ولزموا الصمت بعد موته بعدة سنوات طويلة ثم خرجوا من جحورهم بعد رحيله بربع قرن من الزمان، يلعنون سنسفيل أجداده ويصفونه بالحرامي الذي سرق مجوهرات أسرة محمد علي، وأحدهم اتهمه بصرف عشرة ملايين دولار منحة من الملك فيصل، قال الشجعان: إن عبد الناصر باعها في السوق السوداء وحصل على الفرق، يعني حصل على ١٠ آلاف جنيه تقريبًا يا للتفاهة والحقارة والجبن!
كان باستطاعة جمال عبد الناصر يرحمه الله لو كان يطمع في مال أن يسأل أي شيخ عربي أو أمير عربي أو حاكم عربي من ملوك البترول أن يُحوِّل له عدة ملايين وهو طريق أسهل وأسلم بدلًا من تعرض نفسه لشرطة الأموال العامة أو لمفتشي السوق السوداء! عبد الناصر الذي شغل الدنيا والناس والذي تحدَّى الدول الكبرى والقوى العظمي، عبد الناصر الذي لم يهدأ لحظة ولم يسترح لحظة، اتهمه واحد من إياهم منذ أسبوع واحد بأنه حرامي وقاتل وخائن، وعرَّض جيش مصر للإبادة لكي يتمكن من عزل عبد الحكيم عامر، وهتك أعراض نصف نساء مصر، المستشار الشجاع الذي أغلق فمه كل هذه السنين الذي لم يهمس بكلمة احتجاج واحدة ولم يصرخ بكلمة استغاثة يومًا، ثم جاء في ذكرى وفاة عبد الناصر التاسعة والعشرين فرماه بكل نقيصة، واتهمه بكل تهمة، وبصق على وجهه ووجه ثورته، وهي شَجاعة منقطعة النظير وهي تعطي الأجيال القادمة درسًا في فن الشجاعة والاحترام، فكل زعيم ميت ملعون أبوه، وكل قائد مدفون في التراب حرامي وابن كلب حتى يثبت العكس، أما كل وكيل وزارة حي يُرزَق فهو الأسد الجسور والسبع المقدام والنسر الجارح، المستشار إياه الذي وصف أحد وزراء العهد الحالي بالأسد الجسور لم يَجِد حرجًا في وصف عبد الناصر بالحرامي واغتصاب «الحرائر» من النساء، عبد الناصر الخائن الذي خان أصدقاءه، وخان وطنه، وخان شعبه وعاش ومات في مستنقع الخيانة والاستسلام، أما سعادة أي وزير حالِي فما أعدَله! وما أعظمه! وما أجمله! وما أروعه من رجل! بل وإن شئت الدِّقة فهو خير الرجال وزين الرجال، يا للشجاعة الرجال عندما تظهر في الوقت المناسب، صحيح أكل العيش مُر ولكن الرجل الكسيب هو الذي يعرف متى يُبدي الشجاعة، ومتى يتمسك بالجبن.
أغرب شيء أن كل هؤلاء الرجال الشجعان لم نشاهد أحدهم يومًا ما في السجن أيام عبد الناصر، هذا الديكتاتور المتعطش للدماء كما وصفوه كان لا يترك رجلًا حرًّا يمشي على قدميه في الأسواق، فكيف عشتم أيها الشجعان الأبطال أيام عبد الناصر آخر نغنغة، وآخر سبهللة، وآخر مزاج؟ بعض هؤلاء الشجعان يُعِيدون ويكررون كذبة كبيرة أن حادث إطلاق النار بميدان المنشية هي تمثيلية من أجهزة عبد الناصر، هؤلاء الشجعان الأشاوس هم في الواقع أعضاء في جماعة الإخوان، ولكنهم لشجاعتهم الفائقة يخفون هذه الحقيقة خوفًا مما لا يحمد «كعباه» على رأي المرحوم الفنان محمد رضا يرحمه الله.
عمنا جمال عبد الناصر الذي فجر ثورة ٢٣ يوليو، تأكد يا سيدي أن ذكراك ستبقى حية بيننا وستبقى متوهجة في تاريخ بلادنا إلى ألف عام، اغفر لهم يا أبتاه … اغفر لهؤلاء الشجعان النشامى الذين يجيدون عملية الارتزاق في كل عصر. حِرْفتهم سبُّ الموتى من الزعماء والأبطال، ومدح أصحاب النفوذ من الأحياء من وكيل وزارة ونازل حتى الفراش، إنهم مجرَّد حشرات وهَوام، وهم لا يستعرضون شجاعتهم إلا في قرافة الإمام الشافعي، إنهم فتوات جَبَّانة البساتين، وقرافة الغفير، ومدافن سيدي النخال.
ويا حضرات السادة الشُّجعان أنتم أتْفَه من نملة تُحاوِل هَدْم الهرم الأكبر، وأنتم أحقر من ذبابة تُحاوِل أن تنال من معبد الكرنك، ويا عمنا عبد الناصر لا تحزن لسفالة بعض هؤلاء الشجعان من ماركة الأسد الهصور، فَهُم مجرَّد أكيلة عيش، وشتيمتك مجرَّد سبوبة ولقمة عيش وأحسن من السرقة والتبكيش وكل شيء يغضب الرحمن.
•••
في أحيان كثيرة أفكر طويلًا في اعتزال العمل الصحفي والاستمتاع بما تبقَّى لنا من الحياة بعيدًا عن الكتابة والقراءة ووجع الدماغ، والسبب أننا نكتب ولكن لا أحد يقرأ، وإن قرأ لا يستفيد، وكأننا نَستعرِض ألعابنا في ساحة الفنا بمراكش، منذ أيام أعلَنوا في التليفزيون عن قرب عرض حلقات «حارة المحروسة» وكتب العبد لله كلمة حذرتهم فيها من عرض هذا المسلسل البشع الذي هو في واقع الأمر عبارة عن بصقة في وجه المجتمع المصري، ومؤلِّفه الذي لم يسعدني الحظ بمعرفته أحد حكماء هذا الزمان، كما أنه فيلسوف شرب فلسفته من المنابع نفسها التي شَربَت منها المرحومة خالتي عديلة فيلسوفة كفر أبو جاموس، والحلقات تعرض نماذج من البشر: واحد مهندس طيب جدًّا وظريف جدًّا وأمين جدًّا، وصديقه مهندس أيضًا ولكنه شِرِّير جدًّا وشرس جدًّا وخائن جدًّا، ورجل أعمال طيب وعلى نِيَّاته وزوجته من طراز هبلاء اليمامة، أضاعت نفسها وأضاعت ثروة زوجها فمات بالذبحة الصدرية، ورجل نجار طيب جدًّا، ومتسامح جدًّا وحلو خالص، وله صديق قهوجي نصاب جدًّا، وحرامي جدًّا وبهلوان جدًّا، وهو يتاجر في كل شيء، أراضٍ منهوبة، ومسروقات من كل نوع، أما المهندس الشرير فقد تمكَّن من خلع صديقه المهندس الطيب، وحل محله في الإدارة، وخطف خطيبته واستولى على ثروتها، أما المهندس الطيب فقد استسلم وقرَّر أن يهاجر من مصر فذهب إلى الخليج وغاب هناك عدة أشهر، ثم عاد مليارديرًا ولا محمد الفايد بتاع هارودز عليه رحمة الله، وهي فكرة بعض الناس عن الخليج وثرواته، كانت إحدى قناعات زوج عمتي شفاعات، إذ يكفي أن يهبط الإنسان — أي إنسان — على أرض الخليج ليجد عشرات الملايين في جيبه، وكيف ولماذا؟ ليس من حقك أن تسأل، يكفي أنك في الخليج، لتجد الملايين في انتظارك سواء كنتَ من الصياع أو من العباقرة فكنوز الخليج لا تفرق بين أصناف البشر، المهم «حارة المحروسة» ليست رواية وليست حكاية ولكنها «حكم واتعلمناها من حارة المحروسة»، وطبعًا حارة المحروسة يعني مصر، وهذه النماذج التي عرضَتْها الحلقات هم أهل مصر، أما المنتِج فقد عرفتُ أنه أحد مقاولي أعمال الكهرباء، وما علاقة الكهرباء بالفن، يبدو أن هناك علاقة وثيقة؛ لأنه نازل إنتاج مسلسلات حَمْري جَمْري، كما يقولون، وهو حُر طبعًا ينتج ما يروق له من السهرات والحلقات، ولكن عرض هذه الأعمال ينبغي أن يخضع لميزان كميزان الذهب، ولكن يبدو أن المسئولين عن التليفزيون من طائفة الكهربائية أيضًا، فأي شيء مثل كل شيء، ونجيب محفوظ مثل سعد برعي، ورمسيس نجيب مثل الكهربائي … ولا شيء يهم في تليفزيون بلدنا، المهم أن نعرض «حكم واتعلمناها من حارة المحروسة».
المهم أيها السادة أنهم عرضوا الحلقات، ولكن في القناة الفضائية، وعرضوها سرًّا مع أنها عرضت قبل ذلك من خلال قناة «الأوربت»، يعني حلقات بايتة، ولكن فلاسفة ماسبيرو يُؤكِّدون أن الحلقات كالملوخية تؤكل بايتة خصوصًا لو كانت باللحم الضاني، ويبدو أن في الأمر سرًّا وأن هناك لحمة ضاني في الموضوع.
وسبحان الله … هل تحوَّل تليفزيون مصر إلى مقلب لكل أنواع الأعمال الفنية الزبالة؟
ويا رب … هَوِّن عليهم واحنا يصبرنا!