والنصيحة … ضبط النفس!
يا ميت حلاوة يا ناس على النظام العالمي الجديد، ها هي إسرائيل تطلب من الحكومة اللبنانية إخراج مقاتلي حزب الله من الجنوب، وهي صفاقة لم يشهد العالَم لها مثيلًا في أي عصر، وأفراد ميليشيات حزب الله لبنانيون منذ سيدنا آدم حتى الآن، والجنوب اللبناني أرض لبنانية، يعني بالعربي … مواطنون يعيشون على أرض بلادهم، ومع ذلك فإسرائيل لا تَتردَّد في مطالبة لبنان بإخراج هؤلاء المواطنين من أرضهم، لكي تتاح الفرصة لعساكر إسرائيل بالإقامة في الجنوب والاستمتاع بمناخه الطيب وإنتاجه الممتاز من الفاكهة وشفط الأنفاس من حشيشه الجيد، إنها عملية تُشبِه إلى حد كبير أن تطلب حكومة السودان من حكومة مصر إخراج الصعايدة من الصعيد … ولكن … إذا كان كله عند العرب صابون، فكله عند صنف اليهود مشروع.
وفي ظل النظام العالمي الجديد كل شيء ممكن حتى تهجير جميع اللبنانيين من لبنان لكي ينعم اليهود بهدوء الحال وراحة البال، فلا مقاوَمة، ولا صواريخ كاتيوشا، ولا كمائن على الطريق، في الوقت نفسه ولتوضيح صورة النظام العالمي الجديد، وقف المندوب الأمريكي — شكر الله سعيه — ليدعو لبنان وسوريا وإسرائيل إلى ضبط النفس، يا سبحان الله، وهل كانت نفس لبنان مفلوتة؟ وهل كانت نفس سوريا أمَّارة بالسوء؟ إن الذي حدث يا عمنا المندوب الأمريكي أن بعض الأفراد من جيش إسرائيل كانوا يَتمشَّون أفرنجي على الأرض اللبنانية حين انفجر لغم تحت أقدامهم، فهل سأل المندوب الأمريكي نفسه … وما الذي جاء بهؤلاء الإسرائيليين إلى لبنان؟ هل كانوا هناك للسياحة؟ هل كانوا في رحلة لنشر السلام والوئام بين أمم الأرض؟ إن الذين قتلهم اللغم الأرضي هم جنرالات إسرائيل وثلاثة جنود، والجميع كانوا يرتدون ملابس الميدان، ولكن المندوب الأمريكي لم يجد أي غضاضة في دعوة جميع الأطراف إلى ضبط النفس، القاتل والقتيل والجاني والمجني عليه والجَزَّار والضحية.
إن موقف المندوب الأمريكي يشبه إلى حد كبير موقف عم متولي عندما شاهد خناقة حامية بين مصطفى لطفي فتوة الجيزة ومحمود الحكيم المواطن الضعيف المُعاق، وبينما انهال مصطفى لطفي على الحكيم طعنًا بالمطواة، اكتفى الحكيم بالتَّشبُّث بقميص الفتوة، وصاح عم متولي في الرجلين … يا جماعة عيب وبطلوا ضرب في بعض، ضرب في بعض! يا للعهر! وهل ما يقوم به محمود الحكيم الغلبان نوع من الضرب؟! ولكن نقول إيه للنظام العالمي الجديد، وهذه هي قوانينه وهذه هي أخلاقياته، وهي قوانين تسمح لأي جهة بتوجيه نداء بضبط النفس لكل من الحكومة التركية والمناضل عبد الله أوجلان! وهل لا تزال هناك نفس من أي نوع عند أوجلان؟ ولكن في النظام العالمي الجديد لا خوف ولا خشا، لا عيب ولا أخلاق قرية … المهم أن يكون لديك القوة وأن تجيد استخدامها، وأن تتولَّى الحوار مع الآخَرِين بعضلاتك، وأن تفرض إرادتك بكل وسيلة وأي وسيلة، وستجد دائمًا من ينصحك أنت وضحاياك بضبط النفس! ولا تقلق ولا تهتم، فضبط النفس هنا يعني … بقاء الحال على ما هو عليه، يعني أنت تُواصِل الضرب وضحيتك تواصل الصراخ.
وإذا كانت أمريكا بجلالة قدرها تشاهد وتبارك وتدعو إلى ضبط النفس، فلماذا نقف نحن العرب ونكتفي بالمشاهدة على المباراة الدائرة منذ فترة بين دولة إسرائيل وحزب الله اللبناني؟
لماذا لا يسارع العرب بمساندة حزب الله بالسلاح وبالأفراد؟
لماذا لا تكفُّ أجهزة الإعلام العربية عن وصف حزب الله بأنه الموالي لإيران، مع أنه ليس مواليًا لأي جهة إلا للعرب وقضيتهم؟
ثم … كيف ننفي عن أنفسنا هذا الشرف وننسبه إلى إيران؟ وهل مقاوَمة الاحتلال عيب؟ وهل التصدِّي للعدو الغازي لا يتفق مع أخلاق القرية؟ فهمونا يا خَلْق … أين الخطأ؟ وأين الصواب؟ هل نستقبل الغزاة بالأحضان؟ أم نقتلهم ونتولَّى دفنهم في الطين والتراب؟ وحتى نتلقَّى جوابًا عن هذا السؤال، العبد لله يعلن بكل صراحة أنني بالرغم من ضعفي وهزالي وهواني على الناس، واستعدادي لخدمة مقاتلي حزب الله، أطبخ لهم طعامهم، أنظف لهم أوكارهم، أُلمِّع لهم أحذيتهم، أطبع قبلاتي على أصابع أيديهم كل صباح وكل مساء … وأعدكم بأن أستمر خادمًا لهم، ولا أتوقف حتى لو دعاني المندوب الأمريكي إلى ضبط النفس.
•••
ومرة أخرى تتأكد صفات النظام العالمي الجديد في المؤتمر الذي انعقد في فرنسا لحل مشكلة كوسوفا، وقد تمخض الجبل في نهاية المؤتمر فولد فأرًا، حِلف الأطلنطي هدَّد وتوعَّد، ثم هز طوله وكشف عن معدنه فإذا به لا يستقوي إلا على الغلابة والذين انكسر جناحهم. وأذكر بالخير عمنا الكبير الدكتور طه حسين؛ وصف ذات مرة بعض مقالات الحنجوري قائلًا: يوناني فلا يفهم، وكنتُ أتصور أن أحدًا لن يستطيع إضحاكنا كما فعل الدكتور طه حسين، ولكن أخيرًا جاءت مدام أولبرايت بعد حوالي نصف قرن لتضحكنا بطريقة، ربما بطريقة أفضل مما فعل طه حسين، فقد خرجت من اجتماع المؤتمر الدولي لتعلن على العالم كله «لن يكون هناك قصف لمواقع عسكرية يوغسلافية إذا رفض ألبان كوسوفا المشروع الغربي للسلام.» وأكاد أقول لحضراتكم … إن العبد الفقير إلى الله تعالى كان يَتوقَّع هذه النهاية لهذا المؤتمر الدولي؛ لأن يوغسلافيا القديمة أو صربيا الكبرى الجديدة، دولة أوربية على كل حال وفي النظام العالمي الجديد … الأوربي للأوربي كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، وكما قال أستاذنا وسيدنا الدكتور طه حسين: «يوناني فلا يفهم.» ترجمته السيدة أولبرايت بأسلوبها «أوربي فلا يهان» ولو كان المؤتمر إياه بخصوص إقرار السلام في دولة آسيوية أو أفريقية لانتهى المؤتمر في موعده المحدَّد تمامًا ولَقامَت الطائرات بالتحليق على الفور وبالتأكيد كانت ستنهال القنابل والصواريخ على أهدافها بالتمام والكمال؛ لأنه في النظام العالمي الجديد لا يمكن التسامح مع دول المستعمَرات القديمة، وكل مَن يلعب بذيله هناك، فلا بُدَّ من قطع ذيله على الفور، وكل من يحتج فلا بُدَّ من مواجهته بطريقة غَطَّاس، أما غَطَّاس مبتكر هذه الطريقة فهو عسكري شمروخ في معتقل الفيوم ويبدو أنه كان مؤمنًا بالنظام العالمي الجديد حتى قبل ظهور النظام العالمي الجديد نفسه، حدث عند دخولنا معتقل الفيوم وكان الدكتور عبد الرازق مقيدًا بسلسلة واحدة مع العبد لله، وسألنا الشاويش غطَّاس: اسمك ايه يا وله؟ وقال الدكتور عبد الرازق حسن: أنا مش ولد أنا الدكتور عبد الرازق حسن … وأنا محتج! ورد الشاويش غَطَّاس: وكمان بتبجح، طب خد وعينك ما تشوف إلا النور، أكلها أجوازًا وأفرادًا ونال العبد لله من الحب جانبًا، وهذا بالضبط هو موقف النظام العالمي الجديد من الدول الغلبانة، أما موقفه من دول أوروبا فحَدِّث ولا حرج … وأراهن حضراتكم على أي مبلغ … مهما حدث من الصرب فلن يتحرك أحد لضرب قواعدها العسكرية، حتى لو تم إبادة شعب كوسوفا كله، وكل ما سوف يحدث، هو دعوة حلف الأطلنطي لجيش صربيا الكبرى ولشعب كوسوفا الغلابة بضبط النفس، ضبط النفس هو شعار النظام العالمي الجديد حتى لو كانت المعركة الناشبة بين بطل العالم تايسون والعبد لله بعد أن وهَن العظم مني، واشتعل الرأس شيبًا.
ويا حضرة النظام العالمي الجديد، العبد لله هو الجهة الوحيدة المنضبطة النفس، والسبب أنني فقدتُ نفسي ومنذ وُلِدتُ وحتى اليوم.