يا عيني على الأكراد!
لم يظلم التاريخ أمة من الأمم كما فعل مع أمة الأكراد، والأكراد للعلم شعب من الآريين شأنه شأن الألمان، حقيقة أثبتتها عظام الجمجمة والملامح، فالشعر سايح ونايح والعيون ملونة، ومجموع الشعب مُوزَّع على أربع دول متجاوِرة؛ هي: العراق، وتركيا، وإيران، وسوريا، وفي سوريا لا حس ولا خبر عن المشكلة الكردية، يبدو أنهم ذابوا في الشعب السوري، ويبدو أن النظام العاقل في سوريا استطاع أن يرتفع إلى مستوى المشكلة، فلم تَعُد مشكلة على الإطلاق، وفي إيران المشكلة الكردية ليست ساخنة، ربما لأن إيران نفسها تضم عددًا من القوميات … فُرس على تركمان على عرب على بلوشي، ولكن الوضع يختلف في تركيا وفي العراق، الموقف في العراق أفضل، وأكراد العراق يتمتعون بالحكم الذاتي، وفي حكومة العراق على مستوى الجمهورية يوجد نائب لرئيس الجمهورية هو الكردي طه معروف، وهو الذي اشترك في جنازة الملك حسين مندوبًا عن العراق، ومنذ زمن كان يشغل المنصب نفسه كردي آخَر هو محمود عثمان، ولكن أحيانًا وبالرغم من اعتراف العراق بالقومية الكردية كثيرًا ما تنشب الخلافات بين حكومة بغداد ورعاياها من الأكراد، وفي بداية السبعينيات احتدمت المعركة بين حكومة بغداد وأكراد الشمال، ووقفت إيران الشاه إلى جانب الأكراد وأنهكت المعركة حكومة بغداد وأفلست خزانتها، واضطرت حكومة بغداد إلى عقد صلح مع الشاه، وتم الصلح برعاية الجزائر وفي عاصمتها، وعاد الأكراد الهاربون إلى العراق، ولكنهم لم يعودوا إلى قراهم المتناثرة على رءوس الجبال، ولكن تم ترحيلهم وتسكينهم في جنوب العراق في محافظات البصرة والناصرية وذي قار، مع اختلاف المناخ والعادات والتقاليد، ففي جنوب العراق الحرارة صيفًا طاقة من طاقات جهنم، بينما الجو لطيف صيفًا في الشمال، والأرض تغطيها الثلوج شتاء، كما أن الكردي أوربي في تصرفاته وسلوكه، فلا حجاب للسيدات ولا فصل بين الجنسين، بينما الجنوب تسوده تقاليد البادية وتعاليم الدين وقيود المذهب.
ومع ذلك هدأت الأمور بعد ذلك وعاد الأكراد إلى منطقتهم في العمادية وصلاح الدين وأربيل وسرسنك، ولكن الهدوء لم يستمر على الدوام، فقد هَبَّت عدة انتفاضات كان أخطرها ما حدث في قرية حلابشة، حيث استعمل العراقيون النابالم في ضرب الأطفال والنساء لقمع التمرد الذي حدث هناك، ولا يفوتنا أن نذكر أن إسرائيل لعبت دورًا خطيرًا في ثورة الأكراد ضد العراق، وقد اعترف بذلك الزعيم التاريخي للأكراد مصطفى البرزاني.
نأتي بعد ذلك إلى مربط الفرس … إلى أكراد تركيا، والسياسة التركية مشهورة بعدم المرونة، وهي كما وصفها الفنان الخالد صلاح جاهين: تركي بجم سكر انسجم لاظ شقلباظ اتغاظ هجم، فلا اعتراف بالقومية الكردية ولا اعتراف بالتمايز بين الكردية والتركية، ولكن حتى الحديث بالكردية يُعتبَر خيانة، وأي حركة من جانب الأكراد هي تمرُّد، وأي اجتماع للأكراد هو مؤامرة، والسجون التركية مكتظَّة بالأكراد على كل لون! ولذلك استمرَّت الحرب بين الفريقين على مدى سنوات طويلة، ولكن أخطرها هي التي نظَّمها وقادها حزب العمال الكردستاني بقيادة الزعيم أوجلان، وعبد الله أوجلان ليس إرهابيًّا فلن يهاجم في حياته سفارة أو يهدم عمارة، ولكنه محارِب قاتَل برجاله في الجبال والوديان، ولكن الذي حدث أن الحدود والسدود انهارت تمامًا بين البطولة والإرهاب في ظل النظام العالمي الجديد، ومن حُسن الحظ أن رجالات من أمثال الخميني، وياسر عرفات لم يتحرَّكَا في زمن النظام العالمي الجديد، ولو فَعلَا لمات الخميني في أحد سجون طهران، ولكان عرفات يقضي أيامه الأخيرة الآن في أحد سجون لندن، إن نهاية عبد الله أوجلان هي إحدى مآسي هذا العصر، والطريقة التي تَمَّت بها عملية اختطافه من كينيا هي الدليل الدامغ على أخلاقيات وسلوكيات النظام العالمي الجديد.
لقد كشفَت عملية اختطافه أن الإنسان الفرد سواء كان صعلوكًا أو زعيمًا هو مجرَّد فأر تطارده مئات من القطط السمان. إذا نجح في الهروب من مخابرات أمريكا وجَد خلفه مخابرات بريطانيا، وإذا حالفه الحظ في الإفلات من مخابرات بريطانيا وجد وراءه مخابرات بلجيكا، ومخابرات هولندا، ومخابرات تركيا، ومخابرات ألمانيا، وصولًا إلى مخابرات كينيا، ومخابرات سيراليون، ومخابرات سيريلانكا.
في أيام القوتين العظميين كان شعار الغرب يا أنصار الديمقراطية اتَّحِدوا، ولكن الآن سقطَت كل الشعارات ولم يَعُد هناك سوى شعار واحد … يا مخابرات الغرب اتَّحِدوا.
في هذا العصر لم تَعُد هناك فرصة لظهور جومو كينياتا جديد، ولا نكروما آخَر، ولا مانديلَّا صغير أو كبير، ولا أمل حتى في رؤية مثل هذه النماذج مرة أخرى، ففي ظل النظام العالمي الجديد … الأدب فضلوه على العلم وعلى الثورة وعلى طلب الحرية، والسلوك الأمثل لأحرار العالم الآن هو المشي جنب الحيط، فلا احتجاج ولا اعتراض، ولكن المسموح به هو طلب الرحمة وطلب العفو، ونحمد الله لأننا عشنا فترة طويلة في ظل النظام العالمي القديم، وأسعدَنا الحظ برؤية رجال من أمثال: جمال عبد الناصر، والأسقف مكاريوس، ولومومبا، وسوكارنو، وأحمد بن بللا، وهواري بومدين، وغاندي، والبانديت نهرو، ويا أسفي الشديد؛ لأننا من هنا وإلى زمن طويل قادم لن يرى أحفادنا إلا رجالًا مُهذَّبِين مطيعين متمسكين ومُتشبِّثين بخط النظام العالمي الجديد؛ أمثال: بينوشيه دكتاتور شيلي، ويلتسين مريض الإمبراطورية الروسية، وبلير وريث الإمبراطورية البريطانية.
عصر النضال والقتال من أجل الأوطان. وداعًا للرجال من طراز … ولله رجال إذا أرادوا أراد، وداعًا لزمن الجُود بالنَّفس أسمى غاية الجود.
أما المناضِل عبد الله أوجلان فقد ضاقت به الدنيا بما رحُبَت، انطبق عليه قول الشاعر البائس عبد الحميد الديب:
وحظه أسود من أسفلَت الطريق؛ لأنه رجل واحد في مواجَهة النظام العالمي الجديد، وعلى رأي المطربة خضرة … والحظ لو مال مين يعدله تاني؟ … مين؟ إلا رب العباد. وسلام عليك يا أوجلان في سجنك، وطبت حيًّا وميتًا يا رفيق!
•••
الله يرحمه ويحسن إليه أخونا المرحوم طارق المؤيد وزير إعلام البحرين السابق، المثقف العربي الواعي بقضايا قومه صديق مصر في كل المواقف والأحوال، فوجئتُ بوفاته من نعي نَشرتْه الصحف المصرية باسم السيد صفوت الشريف وزير الإعلام، مع أن الرجل كان في أتم صحة وعافية ولم أسمعه يشكو من مرض خطير على الإطلاق، ولكن يا سبحان الله، الموت لا يحتاج إلى أسباب، ولكنه كأس على البني آدميين دوَّار، وقد يموت السليم الصحيح ويعيش السقيم المرضان، حكمته سبحانه وتعالى ولن تَجِدُوا لحكمته تبديلًا، ولكن ذكرى المثقف العربي طارق المؤيد ستبقى إلى الأبد عند أصدقائه ومُحبِّيه حية ونابضة إلى زمن طويل، فهو لم يكن مثقفًا عروبيًّا له موقف وله وجهة نظر، وكان يرى أن عربًا بدون مصر أشبه بجسد بلا رأس، ولذلك كانت البحرين أول دولة عربية تذيع برامج القناة الفضائية المصرية من خلال التليفزيون البحريني وبدون رقابة من أي نوع. وكان يحلم بيوم يتم فيه توحيد البرامج التليفزيونية العربية، وكان يحلم بامتداد العمر حتى يتسنَّى له رؤية هذا اليوم.
وداعًا أخونا طارق المُؤيد، وعزاء من القلب للسيدة حرمه ولأسرته الصغيرة ولحكومة البحرين.
ووداعًا أخونا طارق المؤيد، وعزاؤنا الوحيد أننا كلنا سنموت.