نصبة القرن الجديد!
وهكذا انتهى القرن العشرون وبدأ القرن الحادي والعشرون «بنصبة» هي بالتأكيد «نصبة» جميع القرون، فلا حدث مثلها من قبل ولن يحدث مثلها من بعد. إنها مشكلة الصِّفْرَين التي هدَّدُونا بسببها بالويل والثبور وعظائم الأمور، فالطائرات سوف تَتساقَط كالذُّباب، والصواريخ سوف تنطلق وحدها، والأرصدة في البنوك سوف تنكمش، والعالم كله مقبل على خراب ولا خراب مالطة. وفَتحَت الدول الكبرى خزائنها وأنفقت المليارات، ليس بالعشرات ولكن بالمئات لمنع الخراب المستعجل الذي سيلحق بالبشرية، الولايات المتحدة أنفقت مائة مليار تقريبًا، وفعلت أوروبا الشيء نفسه، وكذلك فعلت اليابان، ولم يتضح بالضبط ما الذي فعلته روسيا على وجه التحديد. ولكن كل المؤشرات تُؤكِّد أن كل دول العالم أنفقَت مَبالغ لا بأس بها، وهي مَبالغ ذهبت كلها إلى خزائن شركات الكمبيوتر، وهي شركات لا تُوجد بالطبع في الكونغو، أو في موريتانيا، ولكنها موجودة في الدول الكبرى التي أطلقت إشاعة الصفرين، ونَشرَت معها وفي أعقابها التهديدات بسقوط الطائرات، وانطلاق الصواريخ الحاملة للرءوس النووية. وصدَّق العالَم شائعة الصِّفْرَين وما سوف يتبعها من حوادث وكوارث. وعندما جاء الوقت الذي حددوه لوقوع الكارثة لم يحدث شيء على الإطلاق، لا الطائرات هَوَت من السماء، ولا الصواريخ انطلقت على هواها، ولا حسابات البنوك أصابها التلف. مر اليوم الموعود كما مر غيره من الأيام، وتَبيَّن للناس أن حكاية الصِّفْرَين هي مجرَّد شائعة، وأنها مجرَّد «نصبة» ثقيلة، تتضاءل إلى جانبها نصبة شركات توظيف الأموال. ولكن إذا كانت الحكومات قد وقفت بحزم في وجه أصحاب شركات توظيف الأموال، فمن يجرؤ على الوقوف في وجه الذين أطلقوا شائعة الصِّفْرَين؟ ومن يتصدَّى لمحاسبة الذين أشاعوا الخوف في نفوس البشر، وأجلسهم على سطح صفيح ساخن عدة أشهر قبل أن يحل الموعد الذي حددوه؟ وهو اليوم الذي ثبت للجميع أنه يوم مثل كل الأيام، وأن حكاية الصِّفْرَين هي نتيجة لقعدة مزاج استعملوا فيها كميات ضخمة من مسحوق وارد دولة كولومبيا، وأن العملية كلها لا تخرج عن نطاق المثل الشعبي … رزق الهبل على المجانين. أما الهبل فهم شركات الكمبيوتر، أما المجانين فهي حكومات الدول القوية الغنية المفترية، التي منحَتْها الأقدار كل شيء … الثروة والقوة، ولكنها في الوقت نفسه سَلبَتْها راحة البال ونعمة الاطمئنان والشعور بالأمن والأمان.
•••
للمرة الأولى شاهدتُ بيوتًا شعبية تحيط بها حدائق غَنَّاء، متناثرة في حدائقها مقاعد ليجلس عليها المتنزهون. والمساكن الشعبية نفسها حماماتها مبطنة بالرخام، وأرضياتها مكسوة بقيشاني فاخر، ونوافذ الشقق تطل كلها على الحديقة، والتكلفة بالنسبة للشقة ٢٨ ألف جنيه لا غير.
بعد جولة في المساكن الشعبية إياها قلت لرجل الأعمال ابراهيم كامل … هذا المشروع هو فتح جديد في مجال المساكن الشعبية؛ لأن المساكن الشعبية كانت حتى قيام هذه المساكن التي نتجول فيها اليوم، كانت حوائط أسمنتية تحيط بها مستنقعات وكهوف وحفر تسكنها زواحف. ولكن هذه أول مرة يعامل فيها سكان هذه المساكن معاملة آدمية. أجاب إبراهيم كامل … هذا هو هدف الذين شاركوا في إقامة هذا المشروع.
قلت … يبقى هناك خطوة لتحديد الوصف الذي يمكن أن نطلقه على هذا المشروع.
هذه الخطوة هي لمن سيجري تأجير هذه الوحدات السكنية؟
وأجابني إبراهيم كامل … من رأى الذين ساهموا في إقامة المشروع أن تكون الأفضلية للناس الذين كانوا يقيمون في أكواخ على أرض المشروع نفسه. لو سلمنا الشقق لهم فسيكون المشروع خطوة مهمة جدًّا لرفع مستوى هذه الطبقة التي تحالفت ضدها كل الظروف وكم من مساكن أقيمت باسمها، ولكن بعد انتهائها تم تَسليمُها إلى فئات أخرى لا علاقة لها بالناس الذين أُقيمَت المساكن باسمهم.
سألتُه … ولماذا لا تَقومون بتسليم الشقق للناس الذين كانوا يُقيمون على أرض المشروع قبل بنائه، أجاب بأن الرأي استقرَّ على تسليم المشروع للمحافظة، وهي التي تتولَّى توزيع المساكن على المُستحقِّين.
قلتُ: لا بأس من الانتظار حتى يتم التوزيع على المستحقِّين، ثم نطلق الوصف المناسب على هذه المساكن، وهل هي مساكن شعبية بالفعل؟ أم هي مساكن شلبية؟ سألني … ومن هي شلبية؟
قلتُ … امرأة من بلدنا كانت تبيع الفول والطعمية عند الجسر الذي يؤدي إلى قريتنا. ولما كانت خالة شلبية ست طيبة ومؤمنة بالله، فكانت تخصص من الطعام الذي تبيعه كمية للفقراء وأبناء السبيل. ولكن هذه الكمية من الطعام التي كانت خالة شلبية تخصصها كل يوم للفقراء وأبناء السبيل، لم يذهب منها شيء في أي وقت لهؤلاء الذين كان من المفروض أن تذهب إليهم، فقد كان الخفير النظامي عبد الصبور يحضر كل صباح لتناول فطوره، وكانت خالة شلبية تضطر لإخراج إفطاره من نصيب الفقراء. وكان الولد البلطجي أبو ليلة الأقرع يطلب إفطاره من خالة شلبية، وكانت تعطيه ما يطلبه من نصيب الفقراء والمحتاجين. وبالرغم من عدم وصول شيء من طعام خالة شلبية إلى الفقراء والمحتاجين، فقد ظلت النية متوفِّرة لديها، وهي مأجورة على ذلك باعتبار … أن الأعمال بالنيات!