الأوحد في تونس!
لحسن الحظ أن العبد لله كان الصحفي العربي الوحيد الذي وضع قدميه على أرض تونس بعد جلوس بورقيبة على دِكَّة الحكم، وكان بورقيبة قد مَهَّد لهذا الحدث التاريخي بعزل باي تونس وإعلان الجمهورية. والحق أقول إن بورقيبة كان أحق الناس بمنصب رئيس الجمهورية، فهو الوحيد من بين زعماء تونس الذي بدَّد شَبابه كله في المنفى وفي المراقبة والمطاردة والسجن، وكان قبل ذلك قد عاد إلى المنفى ومعه وثيقة استقلال تونس، ولكنه فوجئ بمعارضة شديدة من بعض الزعماء الذين اعتبروا الاستقلال الذي جاء به بورقيبة إنما هو استقلال منقوص، وأنه مُجرَّد لعبة فرنسية لتنفرد فرنسا بثورة الجزائر لتقضي عليها. ولكن بورقيبة دافَع بشدة عن الاستقلال الذي جاء به وتَعهَّد بأنه سيحقق الاستقلال التام، ولكن بأسلوب الخطوة خطوة. وأكَّد أن تونس في ظل هذا الاستقلال المنقوص ستكون مَقرًّا ومَمرًّا للثورة الجزائرية. وكان صالح بن يوسف هو أخطر الزعماء المعارِضين لبورقيبة وكان يتميز بثقافة واسعة وموقف مبدئي، كما كان يجيد الحديث في القاعات المُغلَقة والصالونات المخملية، بعكس بورقيبة الذي كان يجيد الحديث مع رجل الشارع وكان يسيطر بشدة على قواعد الحزب وكوادره، وكان باستطاعته اشعال النار في الشارع بإشارة وباستطاعته أيضًا إطفاء النار بإشارة، وفجَّر بورقيبة قنبلة حين دعا لعقد مؤتمر سياسي حضرته عدة وفود عربية، ودعا إليه صالح بن يوسف وجماعته لعرض وجهه نظره علنًا على الجماهير والدخول مع بورقيبة في مناقشة علنية، ثم الاحتكام إلى الجماهير، ولكن صالح بن يوسف رفض عرض بورقيبة وغادر تونس في اليوم السابق على انعقاد المؤتمر ولجأ إلى القاهرة. وانعقد المؤتمر في صفاقس، وشرح بورقيبة وجهة نظره للجماهير، كما شرح وجهة نظر صالح بن يوسف، واحتكم إلى الحزب فَصوَّت الحزب إلى جانب بورقيبة.
وكان مؤتمر صفاقس هو الحد الفاصل في حياة بورقيبة وفي حياة تونس، فقد حصل بورقيبة من المؤتمر على تفويض كامل يفعل في تونس ويفعل بها ما يشاء، وقد نفذ بورقيبة رغبة مؤتمر صفاقس وحكم تونس على هواه، واستكمالًا للشكل رَتَّب لنفسه جولة شاملة في أنحاء تونس ومن حدود ليبيا إلى حدود الجزائر، وكان من حُسن حظ العبد لله مرافقة الحبيب بورقيبة في هذه الجولة التي مسح فيها تونس شبرًا شبرًا، وخاطَب فيها كل فرد من أفراد الشعب التونسي. كان بورقيبة الذي عاش فترة في مصر أثناء كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي قد تأثَّر تأثرًا شديدًا بالزعيم مصطفى النحاس. وقد لاحظتُ هذا التأثر في حركاته، وفي أسلوب خَطابَته، وفي تعامُله مع الجماهير خصوصًا في المؤتمرات الشعبية التي عقدها أثناء الجولة.
ولكن بعد استماعي إلى عدد من خطبه التي ألقاها على أسماع الجماهير اكتشفتُ أن تأثره بالنحاس كان من ناحية الشكل وليس من ناحية الموضوع، وأن بورقيبة يُشبه النحاس باشا في الشكل ولكن هناك فرق. لقد كان النحاس فوق كونه زعيمًا جماهيريًّا، زعيمًا وطنيًّا من أعلى طراز، وكلنا نذكر أن النحاس باشا رفض قبول النقطة الرابعة الأمريكية ورفض إرسال فرقة من الجيش المصري للاشتراك مع القوات الأمريكية في حربها ضد كوريا الشمالية، وبحسه الوطني الرفيع عقد معاهدة ١٩٣٦م مع الإنجليز ثم قام بإلغائها عام ١٩٥١م، ودعا الشعب إلى الكفاح المُسلَّح ضد قوات الاحتلال في منطقة القناة.
ولكن الزعيم بورقيبة كان على عكس ذلك تمامًا، كان أمريكيًّا مخلصًا حتى قبل أن يتفتت الاتحاد السوفييتي وتنفرد أمريكا بحكم العالم، وكان يهزأ بكل القيم الوطنية من أول الوحدة إلى العروبة إلى الحياد الإيجابي. وبعد أزمة السويس وإعلان مبدأ أيزنهاور ورفض مصر لهذا المبدأ أعلن بورقيبة قبوله لمبدأ أيزنهاور حتى قبل أن ينتهي أيزنهاور من عرض برنامجه في أجهزة الإعلام. ووصف فرنسا بأنها الوطن الأم ولكن تونس كَبرت وتريد أن تستقل بشئونها مع الاحتفاظ بطاعة الأم والاستماع إلى نصائحها دائمًا.
ما أبعد الفارق بين بورقيبة وبين مصطفى النحاس، الشبه الوحيد بينهما كان في الخطابة وطريقة إجراء الحوار مع الجماهير. في أحد المؤتمرات الشعبية وبينما كنا نسير في الشارع وبورقيبة مُحاط بالألوف من الناس، توقَّف بورقيبة فجأة وجذب نحوه سيدة عجوزًا واحتضنها وقبَّلها وصاح بأعلى صوته مناديًا على عامل المدينة وهو منصب يشبه رئيس المدينة، وجاء عامل المدينة فجذبه بورقيبة إلى جانبه ووقف يخاطب الجماهير قائلًا … هذه المرأة لها فضل على الزعيم «ديالكم» هي التي أخفت الزعيم «ديالكم» في دارها عندما كنتُ مُطاردًا ومطلوبًا وهي التي أطعمَت الزعيم «ديالكم» عندما كنتُ جوعان ولا أجد ما أسد به رمقي، وكانت شُجاعة عندما خانت الشجاعة الرجال. ثم نظر إلى عامل المدينة قائلًا … هذه المرأة المناضلة العظيمة … أنا أطلب إليك أن تعمر لها بيتًا وأن تُجري عليها راتبًا مناسبًا حتى الممات … مفهوم … وانحنى العامل عدة مرات وظل منحنيًا حتى غادر بورقيبة المكان وصار بعيدًا عن المرأة … وبالطبع كانت هذه الحركة هي إحدى الحركات البورقيبية الشهيرة، فكان يتوقف في كل شارع ويصدر عدة أوامر للمسئولين في المدينة برفع المَظالم ورَد الحقوق ومراعاة العدل، ولم يكن يتحقق أي شيء من هذه الأوامر على الإطلاق ولكنها كانت تترك أثرًا عظيمًا في الشارع التونسي، وفي أثناء تلك الجولة التي استغرقَت شهرًا لم يكفَّ في أي مرة اجتمع فيها بالجماهير عن سبِّ جمال عبد الناصر واصفًا إياه بأنه تلميذ صغير في مدرسة الديكتاتورية. وأنه ليس من صنف المناضلين؛ لأن أحدًا لم يسمع به في الشارع قبل وصوله إلى السُّلطة، وقال في أحد الاجتماعات … لقد أردتُ أن أنصحه ولكنه لم ينتصح، ولذلك توقفتُ عن نصحه. إنني لن أخسر شيئًا ولكنه هو الخاسر.
ووصف حركة عدم الانحياز بأنها حركة لا معنى لها؛ لأن سر الحياة في الانحياز، حركة عدم الانحياز التي كانت تضم نهرو، وتيتو، وعبد الناصر لم تكن تعجب بورقيبة؛ لأن الانحياز في رأيه هو سر الحياة، وتولَّى هو شرح هذا المعنى قائلًا … هل تستطيع أن تستمتع بمباراة كرة قدم دون أن تكون منحازًا لفريق؟! وكان بورقيبة يتصور بأنه بهذه العبارات الإنشائية الساذجة أحد عباقرة العالم في دنيا السياسة. وفي آخر يوم في جولتنا جلسنا بعد انتهاء الجولة في أحد المقاهي الشعبية وكنا مجموعة من الصحفيين كلهم من تونس والعبد لله هو الغريب الوحيد. وكان معنا مسئول صغير في الحزب الحر الدستوري التونسي وكان مستواه كمستوى أمين مكتب الاتحاد الاشتراكي في مركز العياط ولكنه كان يجلس وسطنا كأنه المارشال مونتجمري بعد حركة العلمين، وراح يشرح لنا الحكمة وراء كلمات بورقيبة. ثم ختم حديثه قائلًا: لو أراد الله خيرًا للأمة العربية فسيتحد العالم العربي كله تحت رئاسة الزعيم بورقيبة؛ لأنه هو وحده الذي سيقود العرب إلى قمة المجد.
أذكر أنني علَّقتُ بكلمات ساخرة قبل أن نقوم من مجلسنا ونرجع عائدين إلى العاصمة تونس. وفي الصباح الباكر كان سفيرنا في تونس على الخط الآخر في التليفون يُعاتبني بشدة على الكلام الذي قُلته في القهوة ليلة الأمس. نفيتُ له أن أكون قد قُلتُ ما سمعه وأن ما قُلتُه في القهوة لم يكن أكثر من مداعبة وسخرية في مواجهة سبِّ مباشر لحكومة بلدي ورئيسها ونظامها دون أن يكون هناك داعٍ على الإطلاق.
قال لي السفير استعد وسأَمُرُّ عليك بعد دقائق. وارتديتُ ملابسي وانتظرت السفير على باب الفندق وعندما وصل ركبتُ معه في سيارته وبعد دقائق كنا في قصر الرئاسة، وفي حضرة الرئيس بورقيبة وقف السفير يشرح للرئيس أنني ما جئتُ لتونس إلا لكي أنشر قصة كفاحه وجهاده ونضاله على صفحات الصحف المصرية، وأنني من أشد أنصار بورقيبة ومن أشد المُتحمِّسين له. وقال له … سترى سيادتك بعد عودته إلى القاهرة الصفحات الطوال التي سيكتبها عن نضال وكفاح سيادتكم.
وقال بورقيبة كأنه يخاطب الجماهير في الشارع … أنا زعيم باعتراف العالم كله ولا أحتاج إلى اعتراف من أي جهة كانت … وطَيَّب السفير خاطره بكلمات كثيرة حتى هدأ روعه … فنظر إلى العبد لله ومد يده نحوي وصافحني بشدة وقال … سأضمك للحزب الدستوري لتكون على مَقرُبة مني ولكي تتعلم في مدرستي السياسية … وعندما خرجنا من مكتب بورقيبة قال لي السفير … عاوزك تَبيَّض وِشي بقى. ووعدتُه خيرًا وانطلقتُ عائدًا إلى القاهرة.
كنتُ قد كتبتُ سلسلة مقالات عن الرحلة بعنوان الرجل الأوحد في تونس، وقلت في مقدمة السلسلة … إن بورقيبة هو الرجل الذي لم يترك أحدًا إلى جواره واقفًا على قدميه والحريص على سد كل الثغرات التي حوله حتى لا تكون هناك فرصة لمرور أحد من الجيل الجديد حتى لا يكون خطرًا عليه في المستقبل. وهذا الوصف الذي صكه العبد لله وانتحله عبد الكريم قاسم بعد ذلك بعدة سنوات. وبعد نشر السلسلة على صفحات جريدة الجمهورية صدر قرار بمنع دخول العبد لله إلى تونس، وكان ذلك في عام ١٩٥٦م، ولا يزال هذا القرار معمولًا به حتى هذه اللحظة.
رحم الله الحبيب بورقيبة الرجل الأوحد الذي حكم تونس لمدة ٣٢ عامًا أصاب وأخطأ خلالها كثيرًا، ولكنه وفَّى بوعده فحقق استقلال تونس بأسلوب الخطوة خطوة، وحقَّق مكاسب كثيرة للمرأة في تونس وكان لا يؤمن بالوحدة ولا بالقومية، ويؤمن بأن فرنسا هي الوطن الأم، ولكن تونس كبرتْ وتريد أن تستقل بأمورها مع الطاعة والاستماع إلى النصيحة.