وزير الداخلية … برافو!
اللواء حبيب العادلي رجل أمن منضبط، يجيد العمل في صمت وفي هدوء، لا يحب الفشخرة ولا زفة الإعلام، ولا حفلات التنطيط والتبليط، كما أنه محظوظ وسكته سالكة ودعاء الوالدين يرعاه، ولذلك لم تقع حادثة واحدة في مصر منذ جلوسه على مقعد وزير الداخلية، وهناك أسباب موضوعية لهذا الهدوء الذي نشهده هذه الأيام، على رأسها السياسة التي اتبعها الوزير العادلي بفتح أبواب السجون ومنح الحرية للمئات والألوف الذين تابوا أو أَبْدَوا ندمهم على ما فات، وهي سياسة صح ألف في المائة، والخطوة الثانية التي تُحْسَب للوزير العادلي هو ضَبْط النَّفس والتفكير ألف مرة قبل اعتقال المشتبه فيهم بالحق وبالباطل، والخطوة الثالثة هو احترام الناس في أقسام البوليس، واحترام آدمية المواطنين الذين جرى التحقيق معهم في عمليات لها صلة بالإرهاب.
أما ضربة الحظ الكبيرة التي هبطَتْ عليه من السماء، فهي سقوط عدد من قادة الإرهاب في قبضة الشرعية، وكان للمعلومات التي توصَّلَت إليها أجهزة الأمن من خلال اعترافات هؤلاء القادة الفضل في كشف الكثير من الأسرار والأوكار، وهناك سبب آخَر هو الخط الجديد لفكر الجماعات إياها، فقد اتَّفقَت قيادة الجماعات على تحريم ضرب السُّيَّاح وقَتْل الأفراد، ويبدو أن هناك اتجاهًا جديدًا لنشاط هذه الجماعات، وهو موقف يجب تشجيعه بشدة، لكي تتجه هذه الجماعات إلى نبذ العنف بجميع صوره وممارَسة العمل السياسي وكما ينبغي أن يكون.
شيء آخَر يُذكَر للوزير العادلي أنه أعاد النظر في عملية توزيع المكافآت على ضباط الشرطة، فَشملَت المكافآت عددًا أكبر من الضباط الشباب، وهي عملية تركت أثرًا طيبًا بين رجال الأمن عمومًا، كما نجح الوزير في إعادة الهدوء إلى أجهزة الوزارة المختلفة، فاختفى الصراع بين رجال الأمن الجنائي والأمن السياسي، وأصبحَت الممارَسة الأمنية تَصُب في قناة واحدة بمساعدة الجميع ولمصلحة أمن مصر، هذه هي الأسباب التي أدَّت إلى تغيير الأوضاع الأمنية إلى ما وصلت إليه الآن، وهو جهد مشكور للوزير العادلي، نسأل الله أن يستمر حتى نحقق المناخ المناسب لمزيد من التنمية، ومزيد من الاستثمار، من أَجْل رفع المستوى العام للمصريين، وخلق فرص عمل جديدة للشباب لكي نصل إلى المجتمع الذي نحلم به والذي يستحقه شعب مصر بكل تأكيد. ولكي نحقق هذا الحلم فهناك مجالات أخرى تستحق اهتمام وزير الداخلية، وعلى رأسها استمرار المعامَلة الحسنة في أقسام الشرطة، ووضع القواعد والأسس التي ينبغي أن تحكم العلاقة بين رجال الشرطة وأفراد الشعب؛ لأن الأساس في أي نهضة هو احترام الناس وحفظ كرامتهم، فلا يلزق مصري على قفاه، ولا يحبس مصري بدون تهمة وبدون أمر من القاضي، ولا يمكن التفكير في أي نهضة أو أي صحوة قبل تحقيق هذا الشرط أيضًا … تحتاج مصلحة السجون إلى نفضة بعد أن ساءت أحوال السجون إلى درجة لا يمكن تجاهلها … ومن العجيب أن السجون المصرية شَهدت خلال الأربعين عامًا الماضية نوعًا جديدًا من النزلاء، كلهم كانوا يومًا ما من رموز السُّلطة، رجال من أصحاب النفوذ من مستوى نائب رئيس الجمهورية، ونواب رئيس الوزراء، ورؤساء جهاز المخابرات، وجهاز المباحث العامة، ووزراء حربية، وداخلية، وإعلام، ومسئولين كبار في التنظيمات السياسية، وذات يوم كان العبد لله في السجن مع اثنين من وزراء الحربية، واثنين من وزراء الداخلية، ونائب رئيس جمهورية، ونائب رئيس وزراء، ووزير إعلام، وعضو مجلس رئاسة وغيرهم، ومع ذلك لم يحدث أي تغيير في نظام السجون المصرية، ولا تزال اللوائح التي تنظم العمل بالسجون هي نفسها التي وضعتها الإدارة الإنجليزية عندما أنشأت سُلطات الاحتلال هذه السجون التي هي نسخة من السجون البريطانية بالرغم من اختلاف الظروف والمناخ … وأكبر مشكلة تعاني منها السجون الآن هي عملية التكدس، وهناك سجن مثل سجن القناطر الخيرية يتسع لحوالي ۸۰۰ سجين، ولكن نزلاءه الآن يصلون إلى أكثر من ألفي مسجون، والشيء نفسه ينطبق على كل السجون تقريبًا.
وأمامي الآن وأنا أكتب هذه السطور عدة خطابات من نزلاء في سجون مصر أمضوا أكثر من عشرين عامًا، وعندما حان وقت الإفراج عنهم، رفضت جهات الأمن الإفراج عنهم بدعوى أنهم خطر على الأمن العام، وأسأل السادة أباطرة الأمن العام. ماذا يَتبقَّى من رجل أمضى عشرين عامًا في زنازين أشبه بالمقابر؟ وكيف يكون الإنسان خطرًا على الأمن العام مع أن الأمن العام نفسه سمح لهذا الرجل الخطر بالخروج من السجن لزيارة أهله بدون حراسة؟ ومن هو هذا الشخص الذي منحوه سلطة الإفراج عن سجين بعد عشرين عامًا أو استمرار حبسه؟
هل هو من رجال القضاء؟ وكيف يكون من حق ضابط شرطة أن يحكم باستمرار حبس بني آدم أمضى في السجن عشرين عامًا كاملة؟ وهو حكم أقسى ألف مرة من الإعدام، ما أحوجنا الآن إلى تفريغ السجون المصرية من بعض نزلائها، أحداث تحت السن، وشيوخ أصيبوا بجنون الشيخوخة، ونزلاء ارتكبوا جرائم بسيطة، وكان يكفي معاقبتهم بأحكام بسيطة يؤدونها خارج الأسوار، مثل كنس الشوارع أو الخدمة في أقسام الشرطة وغيرها من الأعمال، ولو كان الأمر بيدي لقمتُ بتشكيل لجنة من بعض الرجال المشهود لهم بالكفاءة وحسن التدبير لفحص أحوال نزلاء السجون، والعبد لله واثق من الوصول إلى نتائج باهرة بتحقيق العدالة والإفراج عن النزلاء الذين لا توجد أسباب لسجنهم ولا جدوى من ذلك. كان معنا في سجن القناطر مسجون يطلقون عليه اسم الزعيم، وكان يقضي النهار كله في الحوش يسب المأمور والإدارة والحكومة والناس وكل شيء. كان قد أصيب بالجنون وكانت حالته واضحة لكل ذي عينين، ولا أدري ماذا جرى للنزيل المجنون، لأنني تركته في السجن ولم أعرف ماذا جرى له بعد ذلك؟
أخونا اللواء العادلي وزير الداخلية … خطابات النزلاء الذين أمضوا عشرين عامًا خلف القضبان عندي إذا أردتَ الاطلاع عليها، مع العلم بأنه غير مسموح بوضع بني آدم في السجن كل هذه المدة، اللهم إلا في سجون نتانياهو … وبشرط أن يكون المسجون عربيًّا.
ونحن ننتظر منك الكثير … صدقني، خصوصًا بعد أن نجحتَ ووضعتَ الداخلية على الطريق الصحيح، أو بمعنى أصح وضعتَ الداخلية على الطريق إلى الوضع الصحيح! وأقول لك يا سيادة الوزير: السجن ليس تأديبًا وتهذيبًا وإصلاحًا إذا طالت المدة، ولكنه يَتحوَّل إلى هدم وتدمير وتخريب ليس للمسجون فقط ولكن لأسرته، والعالم كله يتغير الآن، والنظريات التي كانت صالحة للقرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر لا تصلح بالتأكيد في القرن القادم، وأغرب شيء يا سيادة الوزير أن المواطن المسجون يحتاج إلى ضعف المبلغ الذي كان يكفيه خارج الأسوار، وهناك وضع سيئ أريد أن أهمس لك به، هو وجود جهاز مباحث داخل السجون نفسها، والعبد لله كان شاهد عيان في بداية حقبة السبعينيات يا سيادة الوزير، وكانت نتيجة وجود هذا الجهاز في السجن هو مضاعفة الرشوة التي يدفعها النزلاء للحصول على طعام أطيب أو نزهة أطول.
السجون يا سيادة الوزير تحتاج إلى نظرة إصلاح وتجديد من الرجل المسئول عن الوزارة، ووجودك على رأسها الآن هو فرصة طيبة لكي نطالبك بإصلاح السجون مرة واحدة وإلى الأبد.
والعبد لله يعتقد أنك صالح جدًّا لأداء هذه المهمة، ليس بالنسبة للسجون فقط ولكن بالنسبة لكل المصالح والإدارات التابعة للوزارة، وليست هذه شهادة العبد لله في حقك، ولكنها شهادة عمنا حسن أبو باشا، واللواء عبد الحليم موسى، واللواء فؤاد علام، واللواء محمد تعلب، واللواء رضا عبد العزيز، واللواء عبد الوهاب الهلالي.
الله معك … ونحن أيضًا.