بينوشيه … الجريمة والعقاب!
الجنرال بينوشيه صاحب الأوسمة التي تزن أكثر من طن، بالرغم من أنه لم يدخل معركة واحدة ضد أي جيش، والمعركة الوحيدة التي دخلها وانتصر فيها كانت ضد وطنه وشعبه في الانقلاب الذي دبَّره ضد حكومة الرجل الديمقراطي المنتخب من الشعب «الليندي» والمعركة كانت لحساب المخابرات الأمريكية ولصالح أم الدنيا على وزن أم المعارك ستنا وتاج راسنا الولايات المتحدة الأمريكية. وقد حقق فيها الجنرال نصرًا ساحقًا على أعدائه. أسقط النظام الديمقراطي، وقتل من أفراد شعبه ٣ آلاف مواطن مدني بين طالب، وعامل، ومحامٍ، ومهندس، والله وحده يعلم كيف قُتِلوا وما هي الأداة التي استخدمها القتلة في إزهاق أرواحهم؟ كما أن أحدًا لا يعرف أين دُفِنوا، وهل تم دفنهم في قبور جماعية؟ أم أن الجنرال قذف بجثثهم في أعماق المحيط لتحقيق الأمن الغذائي للأسماك؟
الجريمة ظاهرة وواضحة وعلى عينك يا تاجر، ومع أني كنتُ واثقًا منذ اليوم الأول لاحتجازه في لندن بأنه لن يلقى أي عقاب، ولن يدخل السجن ولو لساعات، وكيف يُحاكَم الجنرال والجريمة التي ارتكبها كانت لحساب الولايات المتحدة؟ صاحبة الكرة الأرضية وما عليها … أستغفر الله! وفي الريف مثلًا … من يرتكب جريمة لحساب العمدة لا يلحق به أي ضرر، فما بالك بالمجرم الذي يرتكب جريمة لحساب عمدة الدنيا كلها؟ هل كانت الإدارة الأمريكية ستسمح بتوقيع العقاب على الجنرال؟ لقد قامت مسز تاتشر أشهر وأقوى رئيس وزراء بريطاني في الأربعين سنة الأخيرة بزيارة الجنرال في مكان تحديد إقامته، وقالت عند خروجها من عنده … هذا الرجل كان حليفي في حرب فوكلاند، وقدَّم لنا مساعدات قيمة ولا يمكن أن أنسى موقفه من بريطانيا في تلك الأيام، يعني بينوشيه ليس زعيمًا عاديًّا، وليس رئيس دولة مثل دولة مدغشقر في أفريقيا أو دولة تشيكيا في أوروبا أو دولة بورما في آسيا ولكنه حليف قوي، في الحرب يسد، في السلم يا ميت حلاوة عليه، وهو قطب له «كرامتين» كرامة مع أمريكا وكرامة مع بريطانيا، مع أمريكا … أنقذها من حرَج شديد، فهي زعيمة العالم الحر وكعبة العالم الديمقراطي وقضيتها الأولى هي الديمقراطية، وقد أرادت شيلي أن تثبت لأمريكا أنها تمشي على دربها فأجْرَت انتخابات حرة ونزيهة ونظيفة، وإذا بالشعب الشيلي يختار زعيمًا اشتراكيًّا هو الليندي، وهي في نظر أمريكا جريمة لا تُغْتَفر، ولكن ماذا تقول أمريكا؟ وكيف تعترض وقد طبقوا أسلوبها في الديمقراطية، واتبعوا تعاليمها، ونفذوا إرشاداتها؟ وربما لم تشعر أمريكا بهذا الكم من الحرج كما شعرت به يومئذٍ، فهي لا ترضى عن الليندي ولا ترضى به، فيكف تحاربه إذن؟ وكيف تشن عليه حربًا إعلامية بلا هوادة؟ لقد جاء الرجل بالديمقراطية، وبالديمقراطية حكم، ولم تستمر حيرة أمريكا طويلًا، فقد تولَّى الجنرال بينوشيه تغيير الوضع بالطريقة التي يجيدها، قاد طابورًا من الدبابات في شوارع العاصمة، وأطلق عدة أسراب من الطائرات حلَّقَت فوق قصر رئيس الجمهورية المنتخَب ودكَّت قصره بمئات من القنابل المدمرة، وسقط الرجل قتيلًا تحت أنقاض قصره، وأصبح الجنرال هو الحاكم الفرد لشيلي بقوة المَدافع وليس بقوة الناخبين.
ولكن أمريكا لا دخل لها بما حدث وهي بريئة من دم الشعب الشيلي براءة الذئب من دم ابن يعقوب. فما حدث في شيلي هو مسألة داخلية، وأمريكا — أستغفر الله — لا تتدخل في الشئون الداخلية للدول ولكنها تدع الأمور تجري في أَعِنَّتها، ولا تَبيتَنَّ إلا خالية البال.
وحكم الجنرال ۱۷ عامًا طويلة فلما سقط الاتحاد السوفييتي استراح الجنرال، وترك السُّلْطة وأصبح عضوًا محترمًا في مجلس الشيوخ، فالموقف الدولي لم يَعُد يحتاج إلى خدماته، ولكنه ظل يرتدي بدلة المارشال وصدره يَتزيَّن بطن أوسمة وطن نياشين، بالإضافة إلى الحصانة، وعهد مكتوب، وموقع من الدولة بأن المذكور أعلاه هو مواطن محترم لم يرتكب جريمة، ولم تمتد يده إلى مال حرام، ومن حقه أن يعيش إلى آخِر يوم في عمره كريمًا وسليمًا، فلا يتعرض له أحد ولا يعترض طريقه أحد، ولا يُسأَل أو يُسْتجوَب أو يُتَّهم، ولم يحصل على التعهد أحد من قبله ولكن حصل عليه من بعده واحد فقط هو الخواجة يلتسين بتاع الاتحاد السوفييتي أو بمعنى أصح قاتل الاتحاد السوفييتي.
هذا هو الجنرال، وهذا هو كَشْف الهيئة تبعه، فهل كان أحد من الناس يَتصوَّر أنه سيُحاكم فعلًا ويجري ترحيله إلى سجن الاستئناف؟ السُّذَّج وحْدَهم هم الذين تَصوَّروا أن الجنرال قد سقط أخيرًا في الفخ وأنه سيشرب من الكأس نفسها التي تجرَّعها ضحاياه، مع أن ما ذكرناه، وما حصرناه من أفضال للسيد الجنرال هو نصف جهود الرجل لأن أفضاله على بريطانيا تزيد قليلًا على أفضاله للولايات المتحدة؛ لأن يدَ الجنرال الكريمة امتدت لبريطانيا في وقت محنة، عندما نزلَت قوات كولونيلات الأرجنتين على جُزر فوكلاند باعتبارها جزءًا من التراب الأرجنتيني، ولكن المرأة الحديدية تاتشر رئيس وزراء بريطانيا حشَدَت الجيوش، وأعلنت التعبئة في الأساطيل البحرية والجوية وقالت قولتها الشهيرة: «تُقْطع يدي ولا تُقْطع فوكلاند»، وعندما وصلت طلائع جيشها إلى الشاطئ الآخَر من المحيط كانت قد قطعت أكثر من «٥٠٠٠» ميل بلا توقُّف وبلا راحة، ولذلك وصلت مُنهَكة وتعبانة وتعاني من صداع حادٍّ، وكانت هدفًا سهلًا لطائرات الأرجنتين، وفي لحظة من اللحظات تَصوَّرت تاتشر أنها أخطأت الحساب، وأنها أخطأت التَّصرُّف، وفي تلك اللحظة بالذات امتدت يد الجنرال إلى جيش مدام تاتشر بالدَّعم والمُسانَدة والمُساعَدة، وهو بهذا العمل ليس صديقًا فقط لبريطانيا أو حليفًا لها، ولكنه رفيق سلاح، ورفقة السلاح هي أوثق وأقوى رفقة في دنيا البشر.
ويقولون في الأمثال: «يا بخت من كان النقيب خاله»، والنقباء كثيرون، فشيخ الخفراء نقيب، وشيخ البلد نقيب، والعمدة نقيب، والمدير نقيب، والمدير العام نقيب عام، ويا بخت من كان أحد هؤلاء خاله، فما بالك بمن كان خاله هو عم الدنيا الولايات المتحدة وعَمَّة الدنيا بريطانيا العظمى العجوز الحيزبون.
ولكن وبالرغم من ذلك فالعبد لله يرى أن ما حدث للجنرال بينوشيه يكفي وزيادة، فهذا الفرعون الذي قتل الألوف، وعذَّب الألوف، ودفن الألوف أحياء، والذي تصوَّر في لحظة من اللحظات أنه هو الذي يُحيي ويُميت، هذا الرجل عاش في الحبس الإجباري سبعة عشر شهرًا طويلًا، والعقوبات أنواع والمجرمون أيضًا، فإذا كان سيد عجلة بلطجي حي زينهم لا يردعه إلا سجن مدى الحياة، فالجنرال بينوشيه أبو وردة على الخدين وأبو شريط أحمر على الساقين يكفيه تمريغ أنفه في الرغام وإحساسه بأنه لا يستطيع أن يبرح هذا المكان إلا بإذن، وأعتقد أن هذا يكفي وأنه إنذار إلى كل جبَّار عنيد، ولكن هل يستفيد الجبابرة والطغاة؟ … هذا هو السؤال.