انتبِهوا أيها السادة!
ما هذا الذي يحدث الآن على الطُّرق السريعة في بر مصر؟ سيارة مُسرِعة ضربَت بنتًا في عمر الورد أمام قرية «نما»، فخرج أهالي القرية بربطة المعلم، ولما اكتشفوا أن السائق القاتل هرب، قَطعوا الطريق الزراعي، واستوقفوا جميع أنواع السيارات وأشعلوا النار في بعضها وحطَّموا البعض الآخَر، واعتدوا على رُكَّابها الذين لم يَرتكِبوا أي جريمة. وبعد أيام قليلة تكرَّرت الحادثة أمام قرية «أولاد سيف» بالقرب من بلبيس، ضربت سيارة مسرعة عِدَّة بنات من سكان القرية، فقَتلت فتاتين وجرحت الأخريات، وتكرر السيناريو نفسه … وخرج سكان القرية بربطة المعلم فلما اكتشفوا هروب السائق القاتل، وهروب السائقين الآخَرِين الذين كانوا يتسابقون معه على الطريق الزراعي قاموا بقطع الطريق وأشعلوا النار في بعض السيارات وحطَّموا بعضها. ما الذي جعل الناس تفقد شعورها إلى الدرجة التي جعلتهم يقومون بتنفيذ القانون بأنفسهم، وتوقيع العقاب على الجناة بأيديهم؟ وما هي الأسباب الحقيقية وراء هذه الأعمال؟ وما هي الدروس المُستفادة منها؟ وما هي الوسائل الكفيلة بوقف هذه السلسلة من أعمال العنف على الطرق الزراعية في بر مصر؟
الحقيقة أيها السادة أن ما يحدث في الوقت الحاضر على الطُّرُق الزراعية في بر مصر خطير ويستحق أن ندرسه بعناية وباهتمام؛ لأن ما يحدث على الطُّرق المصرية لا يحدث في أي مكان على ظهر الأرض. فالأصل في الطُّرق أنها صنعت للمشاة؛ لأن المشاة وُجِدوا على هذه الأرض قبل اختراع السيارات بملايين السنين. والأصل في الطُّرق السريعة أن السيارات التي تقطعها لا تقابل شيئًا في طريقها، ويتحقق هذا بالأنفاق وبالكباري العلوية. وفي الطرق الشبيهة بأوروبا يستطيع السائق أن ينطلق وهو مغمض العينين؛ لأنه لن يقابل شيئًا يعترض طريقه على الإطلاق. وفي ألمانيا في عهد هتلر كان الإعدام عقوبة من يُضبَط سائرًا على قدميه في «الأوتوبان» وهي عقوبة مناسبة؛ لأن الحادثة التي كان سيتسبب فيها ستقضي على عدد كبير من الأرواح.
ولكن في بلدنا مطلوب من المشاة العابرين للطريق أو السائرين عليه أن يفتحوا أعينهم على الآخِر، وأن ينتظروا حتى يتوقَّف أسطول السيارات، فإذا حدث له مكروه … فهذا وعد ومكتوب، ولكل أجل كتاب. وعقوبة السائق في كل الأحوال … هي عقوبة القتل الخطأ، مع أن أغلبهم لم يتعلَّم السواقة بما فيه الكفاية، وبعضهم تخلَّى فجأة عن سواقة العربات الكارو وتفرَّغ لسواقة الأوتومبيل، ولكن في الحوادث لا شيء يهم على رأي إحسان عبد القدوس … مع أنه في جميع بلاد الله تُعتَبر حوادث القتل بالسيارة جريمة قتل من الدرجة الأولى إذا كان بدون رخصة قيادة، أو إذا كان السائق مخمورًا، أو حتى إذا كان السائق أرعن لا يلتزم بآداب وسلوك الطريق. وهناك قصور حكومي بالصَّهْيَنة عن إنشاء أنفاق أمام القرى التي توجد على الطريق. أنفاق تتسع للماشية وللمشاة، مع أن الدولة وفَّرَت كل أنواع الطُّرق من «كباري» وأنفاق في القاهرة، لدرجة أنها اختصرت المسافة من مصر الجديدة إلى الجيزة في عشر دقائق لا تزيد؛ وجاحد من ينكر إنجازات الحكومة في هذا المجال، ولكن بقدر ما تَوسَّعت الحكومة في الإنشاءات المدنية داخل المدن، بقدر ما قصَّرت في أنحاء الريف، صحيح أنها شقَّت طرقًا جديدة كانت بمثابة الأحلام بالنسبة للفلاحين. ولكنها على طريقة ست البيت التي أفسدت الطبخة علشان شوية ملح، أشاحت وجهها عن إنشاء الأنفاق والكباري العلوية أمام القرى على طول الطرق الرئيسية، حتى إن طريق مصر الإسكندرية الزراعي، صار يعج بقوافل الجاموس والبقر، ساعة الصباح الباكر وفي وقت الغروب. ولكن الأمر الخطير في هذا الموضوع هو اتفاق الناس فجأة بأن يقوموا قومة رجل واحد ليقاتلوا طواحين الهواء، وهات يا حرق في الأوتوبيسات، وتحطيم في السيارات، واعتداء على الركاب الأبرياء الذين لم يكن لهم ناقة ولا جمل فيما حدث، هذه المسألة بالذات تحتاج إلى دراسة من خبراء الاجتماع ومن رجال السياسة … وحتى لا نُفاجَأ بسلسلة من «الحوادث المؤسِفة» وهو الاسم الحركي الذي أطلقه اللواء ممدوح سالم على مثل هذه الحوادث في بداية عهد الرئيس السادات.
والعبد لله يَلفِت نظر حكومة الدكتور عاطف عبيد إلى ضرورة دراسة هذه الظاهرة قبل استفحالها، وذلك بتكليف وزارة المجتمعات العمرانية الجديدة بإنشاء ما يجب إنشاؤه من أنفاق «وكباري» علوية للمحافظة على أرواح المواطنين، وضرورة توقيع العقوبات الرادعة على السائقين الذين يتصورون أنهم ملكوا الطريق وما عليه. وبعض هؤلاء السائقين الذين لا ضمير لهم يتسابقون على الطُّرق السريعة كلعبة ظريفة يَتسلَّون بها، حتى لو أدَّى السباق إلى سقوط قتيل أو أكثر على الطريق. ولا بُدَّ من فرض رقابة على الطُّرق السريعة بدوريات راكبة لتنظيم السير وضبط المخالفين من السواقين، وهي مسائل بديهية وإجراءات معمول بها حتى في بلاد أفريقيا السوداء.
ورحمة الله على أرواح الضحايا الذين سقطوا على الطريق، والله يغفر لنا جميعًا … إنه على كل شيء قدير.
وأقول لكم أخيرًا … انتبِهوا أيها السادة، فالأمر خطير ويحتاج إلى إجراء سريع!