شيخ حارة مصر!
في مثل هذه الأيام منذ ١٦ عامًا رحل عن دنيانا الزعيم البطل جمال عبد الناصر، مات في الثانية والخمسين من عمره، في الوقت الذي عاش فيه المعلم قطب ٨٢ عامًا مع أنه كان ينام على الرصيف في مواجهة كازينو الحمام بالجيزة، وكان يكتفي في طعامه بما يجود به الكرماء، عاش عبد الناصر لمصر ومات من أَجْلها، وخلال حياته التي مرَّت كالحلم كان أشهى طعام لديه هو الجبنة البيضاء، وأفخر رحلاته الترفيهية إلى برج العرب، وأحلى سهراته في السينما الملحقة بمنزله، وبعد موته بسنوات طويلة شن بعض الأراذل من المصريين حملة شعواء ضد البطل فاتهمه أحدهم بأنه حرامي، واتهمه أحدهم بالإتجار في العملة الصعبة!
العجيب أن هؤلاء السادة الأشاوس عاشوا في عهد عبد الناصر يَمْشُون على العجين ما يلخبطوهش، وبعضهم أرسل للرجل برقيات التأييد وعرائض النفاق والمديح، وبعض الذين هاجموا البطل كتبوا ونشروا عقب وفاته مباشرة قصائد المدح في مناقبه، سألتُ أحدهم مرة: لماذا مدحتَ عبد الناصر في حياته؟ ولماذا هاجمتَه بعد ذلك؟ أجابني الأشوس إياه: لأنني كنت خائفًا وهو حي، ومن حق الخائف أن يحمي نفسه من باب «التقية».
سألتُ أحد الأطباء النفسانيين فأجاب: لا بُدَّ من دراسة كل حالة على حدة؛ لأن الناس تختلف والأسباب أيضًا، ولم أتَّفِق مع الأستاذ الطبيب في الرأي، ربما لأنني أعرف السبب الحقيقي في مثل هذا التصرف، فهؤلاء السادة الأشاوس الذين قبضوا بأيديهم على سكاكينهم وهات يا تشريح في جثة عبد الناصر بعد أن مات وشبع موت في قبره، إنما يفعلون ذلك جميعًا لسبب واحد … هو قلة الأصل.
•••
شباب هذه الأيام قد لا يعرف شيئًا عن نظام شيخ الحارة الذي كان معمولًا به في مصر حتى نهاية الخمسينيات، وشيخ الحارة كان واحدًا من الرعية، ولكنه يتمتَّع بسمعة طيبة بين الناس، ويحظى أيضًا بالاحترام في دوائر الشرطة، وكانت المدن المصرية مُقسَّمة إلى حارات، وكل حارة لها شيخ، الجيزة — مثلًا — كان لها أربع حارات، وكانت حارة رابعة هي أشهر الحارات، وهي الحارة التي أنجبَت خالدة الذكر المرحومة «سكسكة» أشهر فتوات الجيزة فترة طويلة من الزمان، ولا يزال الأحياء من ضباط الشرطة العظام يتذكرون المرحومة «سكسكة» ويذكرون ما قامت به من أعمال أغرب من الخيال، اللواء الوزير السابق حسن أبو باشا عرف المرحومة «سكسكة» عندما عمل في قسم الجيزة في بداية عمله بالشرطة برتبة ملازم، واللواء هجرسي كان بينه وبين «سكسكة» حوادث وحكايات عندما كان مأمورًا لقسم الجيزة، وأيضًا اللواء جمال شكري الذي عمل مأمورًا للجيزة في الخمسينيات، وإذا كانت حارة رابعة هي أشهر حارات الجيزة، فإن أشهر شيخ حارات الجيزة كان الحاج عوف شيخ حارة أول، ولقد تَشرَّفتُ بمعرفة الحاج عوف في آخر أيام حياته، واكتشفتُ أنه يعرف كل أسرار الجيزة وأدركتُ لحظتها أنه ليس كل إنسان يصلح للمنصب، ولكن يصلح له مَن كان مثل الحاج عوف يعرف أسرار المنازل وأسرار الناس! وكنتُ أظن أن هذا الطراز من الناس قد أصبح نادر الوجود الآن، غير أنني اكتشفتُ أن هناك من بين أصدقائي من يصلح لهذا المنصب، ليس شيخًا للحارة على مستوى النظام القديم، ولكن شيخ حارة لمصر كلها ومن مرسى مطروح إلى أسوان! الأول هو اللواء الوزير السابق عبد الحليم موسى، وهو زعيم شعبي بكل معنى الكلمة، ويصلح رئيسًا لحزب شعبي جماهيري من مستوى رفيع، أسأله أحيانًا عن شخص في المنصورة أو دمنهور أو دمياط أو أسيوط. ويأتيني الجواب على الفور، مَن أبوه؟ ومن أمه؟ ومن خالته؟ ومن زوج عمته؟ ومتى وكيف مات جده؟ وعن أي عُمر يرحمه الله؟! وعندما ترك منصبه كمحافظ أسيوط وجاء إلى القاهرة ليتولَّى منصب وزير الداخلية، ترك وراءه على الأقل عدة ألوف من أهالي المحافظة يمكنك أن تصفهم بأنهم أصدقاء شخصيون، رجال سياسة وموظَّفُون، وعُمَد، وأعيان، وخفر، وفلاحون، وناس على باب الكريم، ذات مرة أمعن النظر في صورة قديمة الْتُقِطَت للعبد لله في حفل أقيم في أسيوط عام ١٩٧٠م، وكان يحضر الحفل المرحوم شعراوي جمعة وعدد من لواءات الشرطة منهم اللواء رأفت البسطويسي، واللواء مصطفى الكسار، واللواء حسن طلعت، وبعد فترة سألني قائلًا: أنت تعرف الجدع ده؟ وتصوَّرت أنه يقصد أحد اللواءات، ولكني اكتشفتُ أنه يقصد شخصًا كان يقف خلف الصفوف يرتدي جلبابًا صوفيًّا وكوفية ويحمل بندقية على كتفه، كنتُ قد نسيتُ الرجل ولكني عدتُ فتذكَّرْته، فقد كان من ضمن الذين حصلوا على مكافآت مالية في هذا الحفل بسبب أدائهم المتميز في خدمة الأمن، وانطلق اللواء عبد الحليم موسى يقول … إنه خفير نظامي في مركز درنكة بأسيوط وهو ابن الرجل الشهير المعروف باسم «الخط» وإذا كان والده كان سببًا في إصابة جهاز الأمن بصداع خطير ودائم، فإن ابن الخط خفير نظامي ممتاز هو شجاع ومقاتل شديد المِراس وأدَّى للأمن خدمات كثيرة، سألتُ اللواء عبد الحليم موسى … هل تعرفه؟ قال بالطبع … وقابلتُه في المحافظة عدة مرات، ومنحته مكافآت مالية وشهادات تقدير، وأحمل له تقديرًا كبيرًا واحترامًا شديدًا كرجل يحترم كلمته ويؤدِّي وظيفته بإخلاص شديد.
شيخ حارة مصر الثاني هو المستشار عبد الحميد يونس، إنه يعرف أصل وفصل ٨٠ في المائة على الأقل من أهل مصر. كتَب أخيرًا فصلًا مدهشًا عن شخص ينتحل صفة «المستشار» مع أنه لم يصل خلال حياته الوظيفية إلا لدرجة مساعد مستشار، ولقد نشأ في مدينة ريفية ووالده كان يعمل بقالًا في المدينة، وكان له قريب يشغل منصبًا كبيرًا في الحكومة، وخلال الحرب العالمية الأخيرة زار قريبَه ليتوسط من أَجْل حصول والده البقال على كمية المواد التموينية المخصصة للمدينة، ولما كان طلب «المستشار» غير عادل؛ لأن تحقيقه يعني حرمان كل البقالين في المدينة إياها من حصص التموين، ولذلك رفض الباشا المسئول الاستجابة لطلب المستشار إياه، وكان لا يزال طالبًا في ذلك الوقت، وعلى الفور قام الطالب الذي أصبح «مستشارًا» فيما بعد بشن حملة شعواء على الوزير قريبه، وجاءت الحملة على صورة مقالات كان ينشرها في جريدة «الكتلة» لسان حال حزب الكتلة الذي كان يرأسه مكرم عبيد باشا وكان «الباشا» مكرم عبيد يقدم هذه المقالات بعبارة من سطر واحد «وشهد شاهد من أهلها» باعتبار أن كاتب المقال من عائلة الوزير الوفدي الذي كان من أشرف السياسيين الذين عرفتهم مصر. وأتَحرَّق شوقًا الآن لمقابلة شيخ حارة مصر الثاني المستشار عبد الحميد يونس لأسأله عن هذا الشخص الذي ينتحل صفة مستشار مع أنه لم يكن مستشارًا في أي وقت، والذي أدَّت به قلة الأصل إلى شن حملة ظالمة ضد الوزير؛ لأنه رفض منح أخيه البقال كل كميات التموين المخصصة للمدينة الريفية.
ولا أدري لماذا تذكرتُ الرئيس الراحل عبد الناصر بعد أن قرأت مقال المستشار عبد الحميد يونس، ربما هي قلة الأصل التي تربط بين «المستشار» إياه وهؤلاء الذين شنوا حملات عنترية ضد عبد الناصر بعد موته، ولكن التاريخ لا يرحم هؤلاء الناس ولا يحترمهم؛ لأنهم غالبًا جبناء وعديمو الأصل.
ليتَ المستشار عبد الحميد يونس — بمناسبة ذكرى رحيل عبد الناصر — يُقدِّم لنا كتابًا يكشف فيه عن أصل وفصل هؤلاء الجبناء الذين هاجموا عبد الناصر بعد أن مات وشبع موتًا في قبره، لعل مثل هذا الكتاب يكون عبرة لهؤلاء الذين نَصَّبوا أنفسهم فتوات على مقابر البساتين، والخفير، والنخال، والإمام الشافعي!