حكاية أبو طرطور!
هل تذكرون أبو طرطور؟ وأبو طرطور الذي أقصده ليس هو العسكري العثمانلي الذي كان يُغطِّي رأسه بطرطور طويل، وكان ابن البلد المصري يصيح في وجهه محتجًّا ومتحدِّيًا … أنت فاهم إني راح أخاف من طرطورك؟ ولا أقصد به الأراجوز الذي كان يطوف بحواري العاصمة منذ نصف قرن يتأبط عصاه الطويلة الغليظة يضرب بها الست نجية وأفراد عائلتها جميعًا ويتركهم صرعى بلا حراك. ولكن أبو طرطور الذي أقصده هو مشروع الفوسفات الذي أَطلق عليه البعض وصْف المشروع القومي، ثم اتضح في النهاية أنه لا قومي ولا وطني، ولكن هذا الاكتشاف جاء متأخرًا وبعد أن بَدَّدْنا على المشروع ثلاثة آلاف مليون جنيه، استوردنا بالجزء الأكبر منها آلات ومعدات وسيارات للمشروع، وأنفقنا الباقي على إنشاء خط سكة حديد لنقل إنتاج مناجم الفوسفات من أبو طرطور إلى موانئ التصدير على البحر.
وبالرغم من أن الهدف من إنشاء خط السكة الحديد كان لنقل كميات الفوسفات من المنجم إلى البحر، إلا أن العباقرة الذين أسَّسوا المشروع، أنشئوا عِدَّة محطات للركاب على طول الخط، محطات للركاب في صحراء طولها شهر وعرضها شهر، ألوف الكيلو مترات ليس بها أثر لجن أو لإنس … حتى الوحوش الضارية ليست لها وجود في هذه البِيد التي دونها بِيد، وعندما ترك الوزير المتحمس للمشروع منصبه الوزاري وحل محله وزير آخر قام بتشكيل لجنة قومية أيضًا، درست المشروع وقتلته بحثًا، ثم قَررَت في النهاية وقْف العمل في المشروع؛ لأن عَيِّنة الفوسفات المستخرَجة من المنجم ليست من النوعية الممتازة، وأنها ليست أجود من التراب العادي، وأن ثمنها في الأسواق يقل كثيرًا عن تكاليف إنتاجه.
وجاء في تقرير اللجنة أن وقف العمل في المشروع هو وقف للنزيف المستمر الذي بلغ ثلاثة مليارات جنيه، الذي يعلم الله وحده الأوجه التي صُرِفت فيها، والعمولات التي حصل عليها البعض من ورائها، واكتشفَت اللجنة أيضًا أن الأصل في المشروع كان نتيجة اتفاقية بين الاتحاد السوفييتي أيام عِزِّه والحكومة المصرية، يقوم الاتحاد السوفييتي بمقتضاها بإنشاء المشروع وتأمين نفقاته، ثم شراء إنتاجه كله تخليصًا للدين، وبعد ذلك يعود المشروع كله للحكومة المصرية.
بهذه الاتفاقية السوفييتية كان المشروع استثماريًّا بحق وحقيق، ولكن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي كان يجب التوقُّف على الفور، ولكن الوزير الأسبق قرَّر المُضِي في المشروع والإنفاق عليه من الخزانة المصرية.
بعد اكتشاف هذه الحقائق قرَّرَت وزارة الصناعة وقْف العمل في المشروع، وعلى الله العوض ومنه العوض، واعتقدنا أن صفحة أبو طرطور قد طُوِيَت إلى الأبد، غير أننا فوجِئْنا في الشهور الأخيرة بتصريحات كثيرة تخرج من وزارة الصناعة في عهد وزيرها الجديد دكتور مصطفى الرفاعي كلها تدور وتلف حول إحياء مشروع أبو طرطور … تاني؟! … آخر هذه التصريحات نشرته «أخبار اليوم» يوم السبت الماضي تحت عنوان «دراسة جدوى متكاملة لإعادة الحياة إلى مشروع أبو طرطور»، وهل يمكن إعادة الحياة إلى ميت؟ هل عاد زمن المعجزات؟ وكيف تعود الحياة إلى ميت أعلن الأطباء وفاته؟ وجاء في تفاصيل الخبر المنشور على صفحات «أخبار اليوم» عن دعوة الشركات ورجال الأعمال للمساهمة في إعادة الحياة لهذا المشروع القومي — خد بالك من حكاية القومي دي — والذي يتكلف حوالي ستة آلاف مليون جنيه … عجايب … على رأي جدي الشيخ خليل، إحنا ناقصين خسائر؟! وحتى على فرض أن المبالغ التي سيجري إنفاقها هي أموال القطاع الخاص وأموال المستثمرين العرب والأجانب، فهي أيضًا يجب الحرص عليها كالمال العام تمامًا، وتَضمَّن الخبر المنشور على صفحات «أخبار اليوم» أيضًا تصريحًا لوزير الصناعة الحالي، بأنه تم تشكيل لجنة من الخبراء في جميع المجالات لدراسته وتقييم المشروع؛ تمهيدًا لطرحه للمشارَكة من القطاع الخاص والشركات العالمية التي تقدَّمَت للمشاركة بعد تحليل عيِّنات من الفوسفات وثبتت جودته.
يا مثبت العقل يا ربنا، لجنة جديدة من الخبراء، طيب واللجنة التي تَشكَّلَت من قبل وحكَمتْ بأن الفوسفات المُستخرَج من أبو طرطور من النوعية الرديئة، هل كانت مُشَكَّلة من غير الخبراء، وربما كانوا خبراء في الكورة، وفي الفنون المسرحية، وفي الأدب الشعبي، هل المسألة هزار أم هي جد؟ ثم … أليس الوزير الذي حكَمَت لجنة من الخبراء في عهده بأن نوعية الفوسفات سيئة وأن المشروع على بعضه خاسر … خاسر … خاسر … يا ولدي، علي رأي عبد الحليم حافظ، ألم يكن من وزراء حكومة الحزب الوطني؟ أم كان وزيرًا في حكومة حزب الأحرار؟
والعبد لله يريد أن يسمع جوابًا شافيًا من وزير الصناعة الحالي، خصوصًا والوزير مصطفى الرفاعي مهندس قدير وكان إلى عهد قريب يدير شركة من أكبر شركات البترول في مصر، وهناك سؤال ينتظر جوابًا من الوزير الرفاعي … هل اللجنة التي أصدرت قرارها السابق بإعدام مشروع أبو طرطور، هل كانت لجنة من المهندسين؟ أم كانت لجنة من الأطباء البيطريين؟ وما هو العقاب الذي ينتظرهم بعد أن ضيعوا على مصر فرصة الاستفادة بخيرات أبو طرطور الذي كان سيحل مشكلات كثيرة في بر مصر؟ وإذا كان أعضاء اللجنة القديمة، كلهم مهندسون وخبراء ومتخصصون أيضًا، فلماذا تشكل لجنة جديدة؟ ولماذا نكلف بعض الهيئات بوضع دراسة جدوى جديدة؟ هل نحن غاويين خسائر؟ هل فلوسنا كثيرة ونبحث عن أوجه لإنفاقها؟ مرة على المدرب جيلي الفرنساوي ومساعده والمترجِم الذي يلازمه والمحامية الفرنساوية الحلوة التي جاءت معه إلى مصر وتولَّت تحرير العقد ولهفت ٢٥ ألف دولار حار ونار في جوفها، ومرة على إعادة الحياة إلى مشروع أبو طرطور الذي مات وشبع موتًا وهل يعود الموتى إلى الحياة؟ ومتى حدث هذا؟ وأين حدث؟ وفي أي عصر؟!
دبرني يا سيادة الوزير، دبرني يرحمك الله!