السودان إلى أين؟!
كنت أود أن أنشر على حضراتكم نص الخطاب الذي أرسلَه للعبد لله كبير المصارف العربية ابن حارتنا العبقري محمود عبد العزيز رئيس البنك الأهلي، ورئيس اتحاد البنوك العربية، ولكن التطورات التي حدثت على الساحة العربية هذا الأسبوع اضطرتني إلى تأجيل نشره للأسبوع القادم.
أما التطورات التي أقصدها فهي التي حدثت في السودان، بإعلان الأحكام العرفية، وإبطال العمل ببعض مواد الدستور في محاولة من رئيس الدولة للقضاء على ازدواجية القرار في قمة السلطة.
والحق أقول: إن ما حدث كان متوقَّعًا منذ فترة، وأزعم الآن أن هذه الازدواجية في السُّلْطة عاشت أكثر مما يجب، فنحن العرب لا نجيد اللعب كفريق، ولكننا نعشق اللعب الفردي، ونحب تسجيل الأهداف بأنفسنا.
وأذكر أنني شاهدتُ برنامجًا تليفزيونيًّا على شاشة إحدى القنوات الفضائية العربية، سأل المذيع الرئيس البشير سؤالًا مباشرًا … مَن الذي يحكم السودان؟ … ورد البشير قائلًا … نحن الذين نحكم السودان.
وقال المذيع معلقًا، ولكننا وجَّهنَا السؤال نفسه إلى الدكتور الترابي فأجاب بأنه هو الذي يحكم السودان.
وغضب الرئيس البشير قائلًا … الترابي يقول على كيفه، ولكن نحن الذين نحكم السودان. لقد كشف هذا الحوار الخاطف، أن في النَّفْس أشياء وأشياء، رغم ما كان يبدو على السطح من حب ومودَّة وسَمْن على عسل، وأخيرًا حانت اللحظة وانفجر بركان الغضب، الترابي شرَع في تقليص سُلطات رئيس الدولة، فسارع البشير بحل المجلس النيابي، وهو القرار الذي يعني إقصاء الترابي عن السلطة وانفراد البشير بحكم السودان.
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه الآن … لمن الغلبة اليوم؟ ومن الذي سيتمكن من فرض إرادته ويجلس على قمة هرم السُّلْطة في الخرطوم؟ هل هو البشير؟ أم هو الترابي؟
الحق أقول: إن الترابي ليس لقمة سائغة والوصف نفسه نستطيع أن نطلقه على البشير، فالترابي استطاع أن يكون على قمة السُّلْطة في عهود سابقة، واستطاع أن يجذب النميري من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وأنصاره من السودانيين لا حصر لهم، بالإضافة إلى أنه سياسي قديم ويجيد المواجهة ويجيد المراوغة. أما الرئيس البشير فقد نجح في تمهيد الأرض قبل الدخول في المعركة، وتمكن بجدارة من وضْع حد للخلافات مع الدول المُجاوِرة، كما عقد عدة اجتماعات مع كبار زعماء المعارَضة، وصارت علاقاته وثيقة بمصر وليبيا في الفترة الأخيرة، كما أنه رجل يجيد التنظيم وقائد مُدرَّب على القيادة، ولذلك فالعبد لله يخشى على السودان من نتائج صراع السُّلْطة بين الرجلين؛ لأن صراع السُّلْطة هو أشرس وأعنف صراع على ظهر الأرض. والسودان بدأ يُشفى من أمراضه، ودخل في دور النقاهة، وينتظر الكثيرون له أن يتمكن قريبًا من الوقوف على قدميه، ومعركة شرسة من هذا النوع بين البشير والترابي ستترك آثارها على جسد السودان مهما كانت نتيجتها، وأخشى أن ينتهز الخواجا «جارانج» الفرصة فينشط أثناء انشغال الدولة السودانية في هذا الصراع.
أما بالنسبة للعبد لله فأعتقد أن الغلبة ستكون في النهاية للبشير؛ فهو يحكم قبضته على الجيش، كما أنه يتمتع بشعبية واسعة بين طبقات الشعب السوداني، هؤلاء الذين نعموا بالأمن بعد فترة طويلة من الفوضى وعدم الانضباط في أواخر أيام حكومة النميري، واستمرَّت في عهد حكومة الصادق المهدي، وهؤلاء الذين تَوفَّرت لديهم في عهد البشير كل المواد الغذائية، بعد أن كان اللحم والخضراوات والخبز والفاكهة من الصيد الحرام في العصور السابقة لحكم البشير. وكان بنزين السيارات هو الحلم البعيد المنال في فترات سابقة، وصار متوفرًا الآن في عهد البشير، ويستطيع البشير أن يحسم المعركة لصالحه فورًا إذا نجح في خفض الأسعار التي يشكو منها الناس، وإضافة زيادات ينتظرها الجميع على رواتب الموظَّفِين.
وكل ما أرجوه الآن، أن يكون الخلاف بين القُطبين هو بمثابة سحابة صيف، أو حسم الأمر لصالح الشرعية وللحرية ولسيادة القانون، فالحكومات تزول والقادة إلى زوال، ولكن يبقى السودان ويبقى شعب السودان إلى يوم الدين.