سنكوح وأبو طرطور
سمعتُ التعليق نفسه في أكثر من مناسبة وفي أماكن مختلفة مصحوبًا بدهشة كبيرة … لحرب بين بلدين متجاورتين يتضوَّر أهلهما جوعًا ويموت الأطفال على الجانبين في سن الرضاع.
كيف يزحف الجنود من الناحيتين بينما صِور بعضهم تُظهِر بوضوح أن العيون زائغة، والخدود غائرة والجلد ينبئ بأن صاحبه يعاني من جفاف؟
ومع أن التعليق نفسه تكرَّر في أكثر من مناسبة وأكثر من مكان، إلا أن العبد لله لم يجد سببًا للدهشة، فما يجري بين إثيوبيا وإريتريا هو شيء طبيعي للغاية؛ لأنه لا يثير الخناق والشجار بين الناس إلا الفقر ووقف الحال، هذا هو الوضع الطبيعي سواء بين الأفراد أو بين الدول.
وهل شاهد أحدكم خناقة بين سكان عمارة في المهندسين أو في جاردن سيتي؟ لا يتشاجر إلا سكان بولاق الدكرور وطابق الديابة. الناس تتشاجر من يأسها وبؤسها، أما الناس المرتاحة فلا يعرف الشجار طريقه إليهم، والدليل على ذلك أننا لم نسمع عن معركة نَشبَت بين سويسرا وفرنسا، أو بين هولندا وألمانيا. صحيح أن الحرب نشبَت بضراوة بين ألمانيا وجيرانها في أوروبا. ولكنها كانت حرب طمع وليست حرب جوع. والطمع كان من جانب الدول الأوربية التي استولَت على قارَّتَي آسيا وأفريقيا، وحرمَت ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. وعندما تستأثر جهة بكل شيء وتحرم الأخرى من كل شيء فلا بُدَّ من نشوب الحرب في محاولة لتغيير الواقع المؤلم.
ونظرة واحدة على خريطة العالم قبل الحرب العالمية الثانية ستجد أن القسمة التي تَمَّت بعد الحرب العالمية الأولى هي قسمة ضيزى، وستجد أن دولًا كبلجيكا كان لها مستعمَرات تحتوي على خيرات كثيرة، وهولندا بلد الوَرد واللبن الحليب كان لها مستعمَرات شتى، أما ألمانيا فليس لها مستعمَرات وليس من حقها أن تطالب بنصيبها. في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تحصل على نصيب الأسد، ولكن إذا كان من حق بريطانيا التكويش على مستعمَرات غنية باعتبارها سيدة البحار، باعتبار ما كان، فكيف يكون لبلجيكا مستعمَرة كالكونغو الديمقراطية بمناجمها الغنية وأحجارها الكريمة الغالية؟ … وكيف يكون للغلبانة البرتغال مستعمرات في أنجولا وموزمبيق؟ … بينما خرجت ألمانيا من المولد «ببابا أوبح» إنه الموقف نفسه بين قبيلة الهوتو وقبيلة التوتسي. قبيلة صاحبة مال وسُلطة وقبيلة أخرى صاحبة عَيا. ولكنَّ هناك سؤالًا: وهل الموقف في سيراليون هو الموقف نفسه بين إثيوبيا وإريتريا؟ والجواب لا. الموقف مختلف تمامًا، فالصراع بين ثوَّار سيراليون بقيادة الجنرال سنكوح والحكومة المنتخَبة هو صراع على مناجم الماس في سيراليون. وعندما هدأ الصراع في الماضي القريب تولَّى سنكوح وزارة المناجم، ويبدو أنه اعتبرها غنيمة له ولقبيلته ورجال جيشه؛ وباع محصول الماس كله لجهات أخرى غير زبائنه التقليديين. ولذلك فالثورة الجديدة في سيراليون اشتعلَت بفعل أصابع أجنبية. ويبدو دَوْر بريطانيا واضحًا في الأزمة الحالية؛ لأن القوات البريطانية الخاصة كانت أسرع قوة أجنبية تصل إلى سيراليون، وقيل إنها ذهبت لتساعد في ترحيل الرعايا الأجانب، ولكنها مع ذلك اشتركَت في قتال الثوار، وفي اعتقال سنكوح، ولا أعرف هل اسم قائد الثوار سنكوح أم هو اسم الدلع؟ ولا أدري لماذا هو سنكوح؟ مع أنه استطاع أن يجعل من نفسه مركز قوة وتمكَّن من فَرْض الصلح على الحكومة في فترة سابقة. ولا أدري هل هو السنكوح الوحيد في سيراليون؟ أم هناك سناكيح غيره في صفوف الثوار وفي صفوف الحكومة؟
وبعدُ … فإن ما يدور هذه الأيام بين إثيوبيا وإريتريا هو أمْر طبيعي للغاية. ولو الشعب شبعان وجيوبه مليانة، لو أن الشعب هنا وهناك مبسوط وفرحان، وآمن في يومه، وغير قَلِق على غده، لما تحرَّكَت دبابة ولا انطلقَت رصاصة ولا عَبَر جندي واحد حدود الدولة الأخرى.
أذكر أنني ذات يوم بعيد حاولتُ التدخل لإطفاء نار خناقة حامية قامت بين أسرتين في الحي الشعبي بالإسماعيلية. ولكن عم أحمد المنجد — وكان دكانه يقع بالقرب من المنزل الذي دبَّت فيه الخناقة — أشار على العبد لله بعدم التدخل، وسألته: ليه يا عم أحمد؟ فأجاب: يا بني سيبهم يتخانقوا شوية، الخناق لهم دوا، أنت مش عارف أن الحال واقف اليومين دول والعيشة ضنك والإنجليز محاصرين الحتة كلها؟ سيبهم يتخانقوا لحد ما يزهقوا وتهدأ أعصابهم وهمه هيسكتوا لوحدهم. وأعتقد أن الحرب ستتوقف في القرن الأفريقي بعد فترة من الحرب، عندما تهدأ الأعصاب وتروق الأدمغة على الجانبين. هكذا شاء الحظ أن يكون الخناق دواء لبعض الأفراد ولبعض الدول، وقاكم الله شر الفَلَس ووقف الحال والجوع الشديد!
•••
كتبتُ منذ فترة قصيرة عن مشروع أبو طرطور، وحذَّرْت من محاولة توريط الحكومة في عملية إحيائه بعد أن أهدَرْنا فيه ما يزيد على ٦ مليارات جنيه وانتهى المشروع إلى بوار. وردَّ على العبد لله السيد وزير الصناعة مؤكِّدًا أنه لا توريط هناك للحكومة ولا يحزنون، وأنه اكتشف إمكانات هائلة للمشروع يمكنها تحقيق أرباح طائلة، وتحدَّث عن دراسات جدوى للمشروع قامَت وتقوم بها هيئات أجنبية معتمَدة ومعترف بها. ثم فوجِئتُ برحلة قام بها الوزير إلى مشروع أبو طرطور مصطحبًا معه مجموعة من أعضاء مجلس الشعب ورجل أعمال مصري يعمل في مجالات لا علاقة لها بالمناجم. وظهر من تصريحات الوزير أنه ماضٍ في طريق إحياء المشروع، وأنه متحمِّس بطريقة تفوق حماس الذين أسسوه.
والآن … أسمح لنفسي بمخاطبة الدكتور عاطف عبيد رئيس الوزراء، وأقول له … إن إنفاق أي فلوس من خزانة الدولة على مشروع أبو طرطور الفاشل سيكون بمثابة جريمة في حق الشعب المصري … إن كل الدراسات، وكل تقارير الخبراء تُثبتُ أنه مشروع فاشل، وأنه حتى في حالة النجاح في استخراج الفوسفات فإن تكاليف استخراجه وغسيله ستحرمه من المنافسة في الأسواق؛ لأن ثمنه سيكون ضعف ثمن البضاعة المنافِسة.
وأسأل سؤالًا وأرجو أن أجد عليه جوابًا: لماذا الإصرار على استخراج الفوسفات من أبو طرطور؟ إن اليابان لا تملك أي مواد أولية من أي نوع، ومع ذلك أقامت نهضة صناعية تُنافِس أمريكا وبريطانيا وفرنسا. ونحن أنفقْنا على المشروع الفاشل ٦ مليارات ونصف المليار جنيه تقريبًا، لو كنا اشترينا بها فوسفات من الخارج فبالتأكيد كان سيكفينا نصف قرن تقريبًا.
وأقول لرئيس الوزراء … الأمر يحتاج إلى قرار منكم بوقف مُحاولة إحياء أبو طرطور؛ لأنه حرام علينا إهدار أموال الخزانة في إحياء مَيِّت مات وشبع موتًا من زمان.