دعوة للاحتفال بهزيمة
في الوقت الذي مر فيه يوم ٥ يونيو بهدوء، فلا حس ولا خبر ولا إشارة ولا تعليق ولا احتفال من أي نوع، كانت بريطانيا وفرنسا تحتفلان بذكرى هزيمة دنكرك، وكان الاحتفال مهيبًا، شارك فيه ولي عهد بريطانيا، وقادة الجيوش في الدولتين، وحضره عدد كبير من الذين حضروا الهزيمة وشاركوا فيها، بعضهم جاء على مقاعد متحرِّكة، وبعضهم جاء بالزِّي العسكري، وبعضهم جاء بملابسه المدنية محتفظًا بنياشينه وأوسمته العسكرية، والجميع قاموا بزيارة المقابر التي تضم رفات الجنود والضباط الذين سقطوا في معركة دنكرك.
وفي رأي العبد لله أن الاحتفال بالهزيمة أجدى من الاحتفال بالنصر؛ لأن الهزيمة فيها عظات وعِبَر، وفيها دروس مُستفادة، وهزيمة يونيو لم تكن حادثة عابرة في طريقنا، ولكنها كانت أسوأ هزيمة في تاريخنا الحديث كله، لا تساويها إلا هزيمة محمد علي عندما أغرقوا أسطوله في نافارين، وكسَروا ظهر جيشه البري القوي الذي زحف على القسطنطينية ودق أبوابها بشجاعة، ونجحوا في تحويل الجيش القوي إلى فلول ضاعت في بر الشام كله من الموصل إلى غزة، ولا أعرف سببًا واحدًا يَحُول بيننا وبين الاحتفال بذكرى هزيمة ٥ يونيو … هل نخجل منها؟ وهل يوجد للخجل مكان في تاريخ الأوطان؟ إن هزيمة دنكرك أفدح ألف مرة من هزيمة ٥ يونيو، والجهة التي تجرعت الهزيمة فيها لم تكن دولة نامية، ولكن إمبراطوريتان كبيرتان، فرنسا كان لها مستعمرات مترامية الأطراف في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وبريطانيا التي كانت وقتئذٍ لا تغيب الشمس عنها، ٣٠٠ ألف جندي بريطاني و١٧٠ ألف جندي فرنسي، اضطروا جميعًا إلى خلع ملابسهم وفَرُّوا بأرواحهم وبالفانلة واللباس وعَبَروا بحر المانش في مراكب صيد وبعضهم في مراكب شحن وجُزء كبير منهم في زوارق صغيرة يملكها هواة، وعدد منهم فضل عبور البحر سباحة، ذهب عدد منهم طعامًا للأسماك.
حوالي نصف مليون جندي مدرَّبون أفضل تدريب، ومُسلَّحون بأحدث الأسلحة، تَحوَّلوا في لحظة واحدة إلى شلة أطفال مذعورين، وكان بوسع الجيش الألماني إبادتهم جميعًا لولا خاطر في نفس هتلر كان يُلِح عليه، أن ينجح في عقد حلف مع بريطانيا ليزحفَا معًا على الاتحاد السوفييتي، ليذبحوا الشيطان الشيوعي من الوريد إلى الوريد.
وقد تَعزَّز هذا الخاطر الساذج في نَفْس هتلر بإرساله نائبه «هيس» في طائرة خاصة قَفَز منها على الأرض البريطانية وطلب مقابلة تشرشل، ولكن الداهية البريطاني رفض مقابلته وأمر بإيداعه السجن، وبقي في السجن البريطاني حتى تم نقله بعد الحرب إلى محكمة نورمبرج التي حاكَمت مُجرِمي الحرب الألمان.
والغريب في الاحتفال بهزيمة دنكرك أن بعض الصيادين الذين اشتركوا في إنقاذ الجنود الهاربين حضروا الاحتفال، وبعض سكان القرى المنتشرة على جانبي بحر المانش في إنجلترا وفرنسا، والذين عاوَنوا في إخفاء العساكر الشاردين حضروا الاحتفال أيضًا، بعضهم جاوز التسعين من العمر وبينهم نساء وشيوخ كانوا أطفالًا وقت وقوع الكارثة.
وأسأل الحكومة الآن: لماذا لم نحتفل بهزيمة ٥ يونيو؟ على الأقل ليعرف الشعب الأسباب الحقيقية التي أدَّت إلى الهزيمة، ولماذا اهتزت أعصاب القيادة العسكرية؟ فتصرَّفَت برعونة وعالجت الأمر بغباء؟ ولماذا وقف الجيش المصري في العراء تحت شمس سيناء فترة طويلة دون أن يعرف شيئًا عن طبيعة خطوته التالية؟ … ولماذا جثمت الطائرات على الأرض في المطارات مكشوفة وعارية؟ … ولماذا أنزل الطيارون طائراتهم وذهبوا للإفطار في العاشرة صباحًا استنادًا إلى نظرية قديمة تزعم بأن العدو لا يهاجم إلا مع الخيوط الأولى للفجر؟ ولماذا تم الانسحاب بهذه الطريقة التي هي مزيج من الفوضى والسبهللة، وهل هذا التَّصُّرف هو مسئولية القيادة العامة أم القيادات الوسيطة والقيادات الميدانية، ما كان أحوجَنا إلى إقامة مثل هذا الاحتفال في هذا الوقت بالذات، خصوصًا وبعض كبار القادة لا يزالون أحياء بيننا، وهناك آخَرُون غيرهم كنا نحب الاستماع إليهم، بعض الذين سقطوا في الأسْر وعانوا أهواله، وبعض الذين هربوا في الصحراء وأشرفوا على الموت جوعًا وعطشًا، وبعض أعراب سيناء الذين مدوا يد الغوث للهاربين ودبَّروا لهم الغذاء والمأوى، وعندما انقطع القلب وتوقَّف البحث عنهم صحبوهم إلى شاطئ القناة؛ حيث عَبَروها إلى بيوتهم.
وبالرغم من مرور سنوات طويلة على هزيمة يونيو فالعبد لله يرى أن على رأس واجباتنا تكريم هؤلاء الأعراب الأبطال ومنحهم ما يستحقون من أوسمة ونياشين تقديرًا لبطولاتهم، خصوصًا بعد أن تولَّت أجهزة العدو بعد الهزيمة نَشْر الشائعات والدَّس بين أعراب سيناء وشعب مصر لحاجة في نفس جولدا مائير.
والعبد لله يعرف أحد هؤلاء الذين هاموا في الصحراء حتى صادَف بعض الأعراب، فأخذوه وأخْفَوه وأكرموه عدة أسابيع متصلة، ثم تحمَّلوا الصعب عندما اصْطَحبُوه وعَبَروا به قناة السويس ولم يتركوه إلا في بيته وبين أهله، إنه الكابتن ميمي درويش كابتن النادي الإسماعيلي في عصره الذهبي، وكان أحد ضباط الاحتياط في وقت الحرب.
وأرجو أن تحتفل جهة ما بذكرى الهزيمة في العام القادم، ففي الاحتفال بالهزيمة عظات وعِبَر ودروس مستفادة.
لكشة
لا أعرف لماذا كلما رأيت وجه الممثل أحمد عبد العزيز على شاشة التليفزيون تَذكَّرت الكابتن أحمد كشري بتاع كرة القدم؟ ما هي الصلة بين الاثنين؟ بالتأكيد … هناك صلة!