إتمام المهمة!
كانت أصابعُ النهار قد بدأَت تُزيح ستارةَ الليل عن وجه الصحراء … وتقلب الضوء على الرمال … ما بين منكسرٍ … وخافتٍ … وواضحٍ … فتبدو هنا بعضُ الشجيرات المكسوة بالأشواك … وهناك بعض الأفرع العارية من الأوراق، والملتفَّة على جذع نحيف قصير.
ورغم الصيفِ وحرِّه … كانت نسماتُ الفجر باردةً … وفي السماء بعض أكوام السحاب تسير في تثاقل … ومثلها كانت السيارة «اللاندكروزر» التي يستقلُّها الشياطين تتحرك على مهلٍ … فلم يكن المطلوب أن تقطع الصحراء وتعود … بل كان المقصود … أن تمسحَ الصحراء شبرًا شبرًا … كان المقصود هو البحث عن «عثمان» … وفي نفس الوقت إتمام المهمة التي لم يُكلَّفوا بها بعدُ … وهي العثور على المخلوق الفضائي … وقد كان «أحمد» على يقينٍ من أن المنظمة على علم بهذا الأمر … غير أنه لم يشأ أن يضعَ قادتَه في موضع اللوم أو العتاب … فقرَّرَ أن يتمَّ الأمرُ وحده … دون أن يتصلَ بهم ويسألهم.
ومثل السيارة والسحاب. كان هناك مخلوق آخر يسير على مهلٍ بجوار السيارة … مخلوق لم يتوقع أحد أن يراه في هذا المكان. إنه ملكُ الغابة … ولكن ما الذي أتى به إلى هنا … وكيف يعيش … وعلى ماذا يتغذَّى؟
كلُّ هذه الأسئلة يطرحها الشياطين على بعضهم … غيرَ أن «مصباح» … وهو ليبيٌّ ويعرف عن الصحراء الغربية الكثيرَ، قال لهم: الصحراء الغربية غنيةٌ بالحياة البرية … وبها غزلان وضباع وأُسود وصقور من نوع نادر وثمين … وغيره الكثير.
ولم تكن «إلهام» مشغولةً بما تزخر به الصحراء … بل كانت مشغولةً بذلك الأسد السائر بجوارهم …
فهي ترى أنه يبحث عن إفطاره … ولو كان قد فرَّ حيًّا من المركبة الفضائية فهل سيمكنه الفرار حيًّا من هذه الوحوش؟
ورغم ذلك … ظل «أحمد» على يقينه من أن «عثمان» بخير … وأخذ يذكرها بضياعه قبل ذلك في غابات «زيمبابوي» … وقد كانت أشدَ خطورةً من هذه الصحراء.
فقال لها يذكِّرها: أتذكرين يا «إلهام» عمليةَ «رأس الأفعى».
نظرَت له «إلهام» وعلى وجهها ابتسامةٌ واسعة وكأنها وجدَت «عثمان».
فالموقف الذي كان فيه في غابات «زيمبابوي» كان أكثرَ صعوبةً من موقفه في هذه الصحراء … بل ليس هناك وجهٌ للمقارنة.
ولكي يُخرجَها من شرودها قال لها يُذكِّرها مرةً أخرى: أتذكرين كم حيوانًا هاجمنا … وكيف ضِعْنا في هذه الغابة … وها نحن هنا الآن نتذكرها كروايةٍ شيقةٍ … لا كأحداثٍ عشناها.
ومرة أخرى عادَت تنظر للأسد السائر بجوار السيارة … في انتظار فريسة سهلة … قد تخرج بين لحظة وأخرى …
وفي لحظةٍ انتقلَت بعينها إلى الأرض التي يسير عليها الأسد … فرأَت آثارَ عجلات سيارة … فقالت ﻟ «أحمد»: هل من الطبيعي أن تدخل هنا سيارات؟
لم يفهم المقصود من السؤال … ولكنه أجاب قائلًا: ليس من الغريب … ولكن من النادر … فالسائر على الطريق يقصد «مرسى مطروح» المدينة والبحر … لا يقصد الصحراء …
إلهام: إذن فلمَن هذه الآثار؟
وعندما نظر «أحمد» إلى ما تُشير قال لها: إنها آثارٌ حديثةٌ … لم يمرَّ عليها غيرُ ساعات معدودة.
وتحقَّق «مصباح» من الآثار ثم قال: السيارة التي صنعَت هذه الآثار … مرَّت هنا وقتَ وقوع الانفجار وهي سيارة غير عادية … ولها إطاراتٌ جارحة.
إلهام: وما هي الإطارات الجارحة؟
قيس: إنها إطاراتٌ ذات سيور تتكوَّن من أظافر صلبة … لتُمكِّنَها من السير على الأرض اللينة … والرملية في آنٍ واحدٍ.
أحمد: وليس لهذه التربة مثيلٌ على الأرض.
إلهام: تقصدون أنها سيارة المخلوق الفضائي.
أحمد: نعم!
وفي هذه اللحظة بدرَ إلى ذهنِ «إلهام» سؤالٌ كان يشغلها … ولكنها انشغلَت عنه بالأحداث … فقالت ﻟ «أحمد»: ألم تفكر كيف انفجرَت سيارةُ «عثمان»؟
وكأن «أحمد» لم يكن جاهزًا لهذا السؤال؛ فقد جحظَت عيناه وهو يبحث عن إجابة … وأخيرًا قال لها: إن الأدلة التي جمعتها … لم تدلَّ على إصابة السيارة بقذيفة وصاروخ أو حتى شعاع ليزر.
مصباح: ولكن تنك البنزين هو سببُ الانفجار … فكيف انفجر التنك؟
أحمد: الاحتمال الوحيد … أن يكون قد تعرَّض لضغطٍ هائلٍ.
إلهام: تقصد أنه أحدُ أسلحة الكائنات الفضائية؟
أحمد: قد يكون ذلك … أو قد يكون سبب فيض الموجات الذي كان يحيط بمركبتهم.
إلهام: وهل سنتبع آثار السيارة؟
أحمد: بالطبع … لنرى إلى أين سيقودنا.
وعند واحة صغيرة … بجوارِ نبعِ ماءٍ تُحيطه بعضُ الأشجار … وتغطِّي جوانبَه النباتاتُ … وجدوا سيدةً بدويةً … تغطِّي وجهَها … وتقوم بقطع بعض النباتات … فطلب «أحمد» من «إلهام» أن تسألها إن كانت قد رأَت السيارة؟
ولم تنتظر حتى يُتمَّ كلامه … بل أخرجَت رأسَها من نافذة السيارة … وألقَت على المرأة التحية … ولكنها لم تردَّ … فسألَتها إن كانت قد رأَت السيارة … فلم تلتفت لها … ولم ترَ «إلهام» وجهها إلا في آخر لحظة … عندما ابتعدَت السيارةُ عنها.
ولاحظ «أحمد» أنها قد استدارَت للخلف … وظلَّت تتبع المرأة بعينها حتى اختفَت … وهي تُغمغم قائلة: غير معقول … غير معقول؟
وأثار «أحمد» ما تقوله … فسألها قائلًا: ماذا حدث يا «إلهام»؟
إلهام: هل ستُصدقني؟
بلا أنف.
لم يصدِّق الشياطين ما قالَته «إلهام» … وظنوا أنها مرهقةٌ بسبب عدم النوم … إلا أنها أكَّدَت لهم أنها في كامل يقظتها … فطلب منها «أحمد» أن تُعيدَ عليه وصْفَ ما رأَته … فقالت له: كانت المرأة تقف بجوار الماء وقفةً معتدلةً … أي وقفة رجل … غير أني لم أهتمَّ … حتى رأيت غطاءَ وجهها بحركة الهواء … فآثرتُ أن أرى وجهها، وقد كانت تستدير لكيلا نراها … فبعد الغطاء عن وجهها أكثر … ورأيت وجهًا بلا أنف.
مصباح: إنه المخلوق الفضائي!
ولم يكَد «أحمد» يسمع روايتها … حتى استدار بالسيارة … وعاد من حيث أتى … وصار قاصدًا النبع … إلا أنه لم يَصِل لا إلى نبع … ولا إلى أشجار. وظل هكذا في الصحراء … سائرًا على غير هدى … أكثر من ساعةٍ يبحث عن النبع والأشجار والكائن الفضائي المتنكِّر في زيِّ بدويةٍ.
ومرة أخرى … سمع صفيرًا متقطعًا … أعقبه طنينٌ عالٍ … فأسرع بإغلاق زجاج السيارة.
غير أنه ومن شدة الطنين … سَمِع صوتَ انفجار زجاج السيارة … وسقوطه شظايا على الطريق … فقال لزملائه: سنهلك لا محالة … إن عاد هذا الطنينُ مرةً أخرى.
فقال له «مصباح»: إن صوتَ الصفير كان قريبًا منَّا جدًّا … وأظن أن رجلَهم لم يبتعد عن هذا المكان.
قيس: ولكن أين يختبئ … فأنا لا أرى هنا مكانًا يصلح للاختباء!
أحمد: أنا أرى ما لا تراه … ولو صدق هذا … فسوف نحصل على الاثنين.
«عثمان» والرجل الفضائي.
إلهام: تقصد هذا المنحدر الخفي؟
أحمد: نعم أيتها اليقظة …
إلهام: ولكن الدخول فيه قد يكون خطرًا!
أحمد: سنُجرِّب.
غادر «أحمد» السيارة … وسط تساؤل الجميع … ثم خلع العجلةَ الاحتياطية … وقام بدحرجتها في اتجاه المنحدر … فسارَت حتى وصلَته … وأكملَت فيه سيرَها حتى اختفَت تمامًا … ولم يسمعوا لها صوتَ ارتطام.
وأعجبَتهم الفكرةُ … ووافقوه على نزول هذا المنحدر بالسيارة.
وبمنتهى الحذر … سارَت السيارة على مهلٍ حتى ابتلعها المنحدر … وللعجب أنها لم تقابل أية عثرات في الطريق … فقد كان ممهدًا … وكأن هناك مَن مهَّده.
وظلَّت السيارة تسير وسط دهشة الشياطين … وظلام المنحدر … فقد طال المسير … ولم يصلوا إلى نهايته.
وبعد فترة ليست بالقصيرة … ظهر عن بُعد … بصيصُ ضوء … وأخذ الطريقُ يعلو شيئًا فشيئًا والمنطقة المحيطة به تظهر أكثر … حتى عمَّ الضوءُ المكانَ … ونظروا حولهم … فوجدوا أنفسهم وسط مزارع البطاطس الخاصة بالمقرِّ الكبير.
هل كان هذا الكائن يستدرجهم إلى المقرِّ … أم أنه مختبئٌ هنا؟
إلا أن «إلهام» تساءلَت تساؤلًا آخر؛ حيث قالت: أيكون الفضائيون قد استدلوا على المقرِّ؟
وسؤال آخر طرحه «مصباح»؛ فقد قال: هل سنجد «عثمان» هنا؟
وخرج «قيس» بنتيجة واحدة ومهمة … وهي أن ينتظروا خارجَ المقرِّ … حتى يروا ما أسفرَت عنه الأمورُ بداخله … فماذا لو أنه تعرَّض للاستيلاء عليه … من الفضائيِّين؟
وكان عليهم أن يتأكدوا من صدْق ذلك أو كذبه.
فقرر «أحمد» أن يغادر السيارة، ويتوجه إلى جراجِ المقرِّ … في حماية زملائه الذين سيبقون في السيارة … ويتابعون عن بُعد.
وبخفةِ الفهد ورشاقته … وسرعة الصاروخ … جرى على أطراف أصابعه حتى بلغ مدخلَ الجراج. وما إن مرق منه حتى عاد سيرته الأولى.
وانتظر الشياطين خروجَه بالسيارة البراق كثيرًا … غير أنه لم يخرج … فنزل «مصباح» … ومثلما فعل «أحمد» … فعل هو … وفي غضون دقائق كان بداخل الجراج.
وما إن رآه «أحمد» حتى فتَح له بابَ السيارة … ونادى عليه.
وعندما ركب بجواره، سأله عن سببِ تأخيره وعدم خروجه … فقال له: عندما ركبت السيارة … وأدرت أجهزتها … عرفت من الكمبيوتر الخاص بها … أن المقرَّ يتعرض لهجوم شديد من كائنات فضائية بسبب ضياع عميلهم في الصحراء … وهم يظنون أنه في المقرِّ …
مصباح: ولماذا لم تخرج بالسيارة … هل توجد كائنات منهم في الخارج؟
أحمد: لا … ولكن المركبة الفضائية التي فجرَت سيارة «عثمان» … ستقوم بتفجيرِ المقرِّ بعد ستين دقيقة.
مصباح: أي بعد ساعة؟
أحمد: نعم.
مصباح: وماذا سنفعل ونحن جالسان هنا؟
أحمد: نحن لن نظلَّ جالسين هنا … فبمجرد حضورها سيكون لي معها شأنٌ آخر.
مصباح: هل ستُخبرني ماذا ستفعل؟
أحمد: أريد منك الآن أن تخرجَ مرة أخرى إلى المزارع … ستجد ماسورةَ غاز طبيعي موصلة بخزان أرضي … عليك أن تُغلقَ محبسها … ثم تقوم بفكِّ الوصلة التي تربطها ببقية المواسير.
مصباح: وبعد ذلك؟
ورغم أنه لم يفهم ما يقصده «أحمد» من كل ذلك … إلا أنه قام بتنفيذه كاملًا.
وما كاد يفرغ منه … حتى سَمِع طنينًا عاليًا … يأتي من بعيد … ثم توقَّف للحظات … ثم عاد مرة أخرى ولكنه أكثر شدة.
ولم تمرَّ لحظات إلا وكانت المركبة الفضية العملاقة … تلمع في ضوء الشمس وتحجبه عن المقرِّ السريِّ.
ومن ثقبٍ صغير بقاعدتها … امتدَّت ماسورة مدفع، ثم انطلق منه شعاعُ الليزر أصاب خزانَ المبنى ففجَّره … وانهمر منه الماءُ كالسيل.