نابليون وإيطالية
لقد كان الشعورُ بكيان قوميٍّ في إيطالية في أوائل القرن التاسع عشر ضعيفًا، فمن الواضح أن الطليان ظلوا يحنُّون إلى الأيام التي كانت فيها روما تُملي إرادتها على العالم، ولما زالت السيطرة الإسبانية عن إيطالية في القرن الثامن عشر، وتوقفت النمسة في الشمال، وأخذت بيمونته تخطو خطاها في بطء؛ فقد ظل الطليان قانعين باتحادٍ وهميٍّ لدول لا شأن لها يقوم مقام الأمة، ولقد كان النصف الآخر للقرن المذكور دور سكون وإصلاح أورث إيطالية رفاهة وتقدمًا في الإصلاح الاجتماعي وازدهارًا في الفنون وإبداعًا في الشعر والغناء، إلا أنها كانت فاقدةً استقلالها ومحرومة حريتها.
ثم نشبت الثورة الإفرنسية ودفعت الإفرنسيين للتوغل في إيطالية؛ فانهارتْ بذلك الإمارات الإيطالية، وأقام نابليون جمهورياتٍ وممالكَ سرعان ما قضت قضاءً مبرمًا على السياسة الاجتماعية القديمة، ولعل إيطالية هي البلاد الوحيدة التي تعمد نابليون أن يشجع فيها الشعور القومي؛ إذ لاح له أن وحدة التقاليد واللغة والآداب كفيلةٌ بأن تجعل من إيطالية أمة واحدة، ومما حفزه على تأييد هذه الفكرة شعوره بأنه يَمُتُّ إلى أصل إيطالي من جهة، وأخذه بالسياسة التقليدية التي سارت عليها فرنسة في إقامة موانع في وجه النمسة من جهةٍ أخرى. حقًّا إن نابليون هو مؤسس إيطالية الحديثة.
ومما لا شك فيه أن إيطالية استفادت كثيرًا من الاحتلال الفرنسي؛ لأنه قضى على الإقطاعية السائدة فيها حينذاك، وجَهَّزَها بقوانينَ موحدةٍ ومراقبة نافعة، وفتح في وجه أبنائها أبواب الكفاية، وأمد الصناعات بفيضٍ من النشاط، وساعد إلغاءُ الأديرة على التخلص من الديون، فانتشرت المدارس في لمبارديه ونابولي، وحمل الجنود الطليان — الذين رافقوا نابليون في أسفاره وغزواته حين عودتهم إلى بلادهم — ذكريات البطولة، وبثُّوا في الأمة روحًا جديدة.
ثم سقط نابليون فانهار بسقوطه كل ما قام به في إيطالية من أعمال، على أنه رغم ما أسدى إلى إيطالية من خدماتٍ جليلة فإنه — في كثيرٍ من أعماله — قد مس كرامة الطليان القومية وأثار حنقهم، فقد مات منهم ستون ألفًا ونيف في إسبانية وفي روسية؛ في سبيل قضية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فكانت الضرائب فادحة، ودلت أعمالُ الشرطة والرقابة السياسية في ذلك العهد على أن الحرية والإمبراطور على طرفي نقيض، أضف إلى ذلك أن المدن كانت حانقة بسبب ما نهب من متاحفها من آثار، أما الإهانة التي ألحقها بالبابا فكانت بمثابة تحرُّش بالدين واستهانة بوطنية الدهماء، ومع ذلك كله فالشعور بالوطنية الذي بثه نابليون ظل راسخًا في النفوس، وراح الطليان يعتزون بمفاخر مملكة إيطالية ويتحدثون عن أمجادها، فطالما سعى الحلفاء لتأليب البلاد على نابليون ملوِّحين لها بالاستقلال، وحين أخذ نجمُهُ يأفل أبى أوجين بوهارته أن يلبي نداء قائده، أما المارشال مورات فإنه أخذ يسعى للاحتفاظ لنفسه بمملكة نابولي.
أما في ميلانو عاصمة المملكة فقد انشقت الآراء إلى شِيَع: ففريقٌ يميل إلى النمسة ويدعى بالحزب الإيطالي، وهو يرى في فرنسة خطرًا على السلم ويسعى في سبيل عودة الحكم النمسوي ذاكرًا الحكم الذاتي الصالح في عهد ماريا تريزا ويوسف الثاني، وكان ساسة فينا يغدقون على الطليان الوعود الخلابة في الحرية والاستقلال.
أما أشراف ميلانو فقد كان أكثرهم ضد النمسة، وضد نائب الملك أوجين، وقد ألفوا الحزب الإيطالي الحر، وكانت غايتُهُ ضمان استقلال مملكة إيطالية دون الاكتراث بجنسية الأمير سواء أكان نمسويًّا أم إنجليزيًّا أم إيطاليًّا، بَيْدَ أن بعض الأشراف كانوا يميلون إلى وحدة إيطالية بزعامة أسرة آل صافويه الإيطالية، واتفقت الأكثرية على الاحتفاظ بميلانو عاصمة للمملكة، وبذلك كله يستعيد الأشراف ما فقدوه من امتيازات في عهد نابليون، ولم يُلق أحدٌ من هؤلاء بالًا إلى فكرة الالتفاف حول الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يُحقق استقلال إيطالية ألا وهو أوجين بوهارنه نائب الملك.
ولما رأى هذا الرجل أن الأشراف تخلوا عنه لم يجرؤ على دعوة المجلس التمثيلي ليستشير بواسطته الشعب؛ خشية أن يتهمه نابليون بالخيانة، فلم يَسَعْهُ حينئذٍ إلا أن يتخذ نصف التدبير فطلب إلى مجلس الأعيان أن يُمارس صلاحياته، وطالب الحلفاء في الوقت ذاته بالتاج نفسه.
ولم يكن لَدى مجلس الأعيان الإرادة الكافية ليتحمل عبء تلك المهمة، فاستفادت الأحزابُ المعارضةُ في الداخل والخارج من عجز مجلس الأعيان، واتفقت فيما بينها على إسقاط نائب الملك ومجلس الأعيان معًا، وما كاد يشيع خبر تخلِّي نابليون عن الملك حتى لجأ الحزب الإيطالي إلى السلاح، وطلب إلى مجلس الأعيان دعوة المجالس التمثيلية، وهب الشعب يُظاهر هذه الحركة ويضغط على مجلس الأعيان لِيحمله على الإذعان، فما كان منه إلا أن قدم وزير المالية ضحية لتردده وإهماله، وكان في استطاعة قائد الحامية أن ينقذ الموقف بإرسال الجند لإنقاذ حياة وزير المال، وكان في وسع جيش أوجين أن يقبض على ناصية الحال لو لم يخش من نشوب الحرب الأهلية.
فكان من أمر ذلك أن انسحب مجلس الأعيان من الميدان، فتولى المجلس البلدي مجلس الوصاية لمدة مؤقتة، وأصبح هَمُّ هذا المجلس السعي لفصل لمبارديه من إيطالية وإدخالها في الحكم النمسوي، فدعيت المجالس التمثيلية في لمبارديه فقط؛ حيث يتكلم الناس اللهجة اللمباردية، وأوفد مجلس الوصاية مندوبًا عنه إلى باريس؛ لمطالبة الحلفاء بالاستقلال والدستور، ولكنه وجد أن مصير لمبارديه قد بُتَّ فيه قبل وصوله؛ ذلك لأن أوجين استسلم بلا مقاومة إلى القائد النمسوي الجنرال بلجارد وتخلى عن الملك؛ فدخل هذا القائد ميلانو عاصمة لمبارديه وأعلن انضمامها إلى النمسة.
ومع أن الجيش كان قادرًا على مؤازرة أوجين إلا أن خيانة القادة وخَوَر عزيمتهم مكَّنتا بلجارد من اكتساب الوقت اللازم لإنزال الضربة القاضية، وبعد أن قبض على القادة ألقاهم في السجن.
ومع كل هذا فإن الوطنيين لم ييأسوا ما دام نابليون في جزيرة ألبة، وظلوا يعلِّقون آمالًا على عودته للحكم، وسعيه لإعادة استقلال إيطالية، وأخذوا يتصلون به سرًّا ويُعدُّون العدة لمساعدته عند الحاجة، وكان ثَمَّ قائد آخر من قادة نابليون يسعى لطلب ود الطليان، ألا وهو المارشال مورات أحد مارشالية نابليون الذين أنجبتْهم الحرب الناشبة بعد الثورة الإفرنسية وقد نَصَّبَهُ نابليون ملكًا على نابولي، كما نصب أوجين بوهارنه نائبًا للملك في إيطالية.
ولما رأى نابليون أن مورات يدبر الدسائس ليستقل بمملكته فكر في أن ينبذه وأن يتفق مع آل بوربون ملوك نابولي القدماء إذا رضوا بأن يسيروا تحت رايته، وكان مورات يعلم أنه إذا ما قضى على نابليون فلن يوافق الحلفاء على بقائه؛ فلذلك رأى أن أحسن خطة يسلكها هي أن يجعل نفسه بطلًا إيطاليًّا؛ ليظفر برضاء الإيطاليين، فراح يدبر الدسائس مع الحلفاء فعقد معاهدة سرية مع النمسة، وعدتْه فيها بأن تعطيه نابولي وجزءًا من دويلات الكنيسة على أن يعترف بحقوق النمسة في لمباردية.
وبينما كانت النمسة تسعى سرًّا لقلبه كان مورات قد اتصل بأوجين وحثه على رسم خطة مشتركة للدفاع ضد الحلفاء، بَيْدَ أن أوجين لم يوافق على خيانة البابا في روما، ولما سقط نابليون واحتل النمسويون لمبارديه أصبح مورات في موقفٍ حرج، ورغم أن الإنجليز كانوا يريدون التمسُّك بنصوص المعاهدة لضمان حقوق مورات فإن النمسة أرادت إعادة حقوق الملوك والأمراء المنفيين، فاستفاد مورات من اختلاف الرأي، وتقرب من الأحرار الطليان، ووافق على عدة قوانين إصلاحية كان قد أجلها سابقًا، واتصل بنابليون، ولما فر هذا من جزيرة ألبه رأى مورات أن الفرصة قد حانت فأعلن الحرب على النمسة، وتقدم بجيشه نحو الشمال، وأعلن استقلال إيطالية، وضم حوله الطليان، وقد سارع فاحتل إيالتي الروماني والمارك، وبعد أن انتصر على النمسويين في «ستيزينه» تقدم في إيالتي «بولونيه ومودينه»، مع أنه لو توجه نحو ميلانو لَكان من وسعه أن يحطم قوات النمسويين، لو لم يصغ لنصائح الإنجليز الذين خانوه، فأخذ بعد ذلك يخسر المعارك، وحاول عبثًا استفزازَ حمية النابوليين والصقليين ليلتفوا حوله، ولما رأى أنه قد فقد كل رجاء سلم سيفه للإنجليز وأضاع الطليان بذلك أملهم الأخير في الاستقلال.
وعلى إثر انتصار الحلفاء على نابليون في معركة «وترلو» فإنهم حنثوا بوعودهم؛ إذ بت مؤتمر فينا في مصير إيطالية من دون أن يكترث للعهود التي قطعها قادة الحلفاء للطليان أثناء الحركات ضد نابليون، وكشف رجالُ السياسة القناع عن وجوههم، حتى إن المندوب البريطاني في مؤتمر فينا قال للوفد اللمباردي إن تجربة الحكومات الدستورية قد فشلت، ولم تكن إيطالية في نظر المفاوضين في مؤتمر فينا سوى أداة للتوازن السياسي، فأمست غنيمة توزع على الملوك والأمراء.
والأغرب من كل ذلك أن الحلفاء لم يكونوا متحدي الرأي في موضوع تجزئة إيطالية وكيفيتها؛ فإنجلترة وروسية لم ترضيا بأن تُصبح إيطالية إقطاعًا للنمسة، وكانتا تميلان إلى إقصاء النمسة عن إيطالية إقصاءً تامًّا، ولما كانت روسيا تطمح في الحصول على ممتلكات أخرى في بولندة فإنها غضت النظر أخيرًا عن مطالب النمسة في إيطالية.
أسفرت نتائج مؤتمر فينا عن تملك النمسة «لمبارديه وفنيسيه وفالينتنه» واحتفظ البابا بممتلكاته في إيطالية المركزية، أما بيمونته فإنها طالبت بإلحاق لمبارديه بها، إلا أنها لم تُوفق ولكنها جزاء لخدماتها قد صححت حدودها، وألحق بها قسم من إيالة صافويه التي كان الفرنسيون قد ضموها إلى فرنسة عقيب الثورة، وضمت جنوه أيضًا، وهكذا خرجت هذه الدولة أقوى مما كانت عليه قبل حروب نابليون، أما في الأنحاء الأخرى فقد عاد الأمراء إلى ممتلكاتهم، إلا أن النمسة أدخلت هؤلاء تحت نفوذها بعقد معاهدات مع أمراء طوسكانه ومودينه وبارمه، وأقامت حاميات نمسوية في قلاعهم.
أما الملك فرديناند البوربوني فقد عاد إلى نابولي قاعدة ملكه، وضم إلى ملكه جزيرة صقلية أيضًا، وتعهد للنمسة في معاهدةٍ سرية بأن لا يعقد حلفًا مع أية دولة أخرى، ولا يمنح لرعيته أكثر من الحقوق الممنوحة إلى لمبارديه وفنيسيه، وعلى الرغم من هذه النتائج المحزنة فإن الأحرار الطليان لم يقطعوا رجاءهم في استقلال إيطالية، وقد رأينا كيف أنهم في فترة من الزمن يعلقون آمالًا على مورات في تحقيق هذا الرجاء، وحين انسحب هذا من الميدان فإنهم وجهوا أنظارهم نحو الأسرة الملكية في بيمونته التي تتبوأ العرش في تورينو، وكان ملكها الأمير الوحيد الذي ينحدر من أصل إيطالي من بين أمراء إيطالية، فراح الوطنيون يحلمون في تأسيس دولة إيطالية في الشمال تجمع بين بيمونته ولمبارديه وإيالات الروماني، ولم يفكر هؤلاء وقتئذٍ في الوحدة الإيطالية الشاملة، وإنما كان البعض منهم يرى أن الوقت الذي يتألَّف منه اتحاد إيطالي من الدول الإيطالية الثلاث: دولة إيطالية في الشمال ودولة البابا في الوسط، ودولة نابولي في الجنوب؛ سيأتي فيما بعد.
نتائج مؤتمر فينا
لقد جزأ مؤتمر فينا إيطالية إلى ثمانية أجزاء وهي: مملكة بيمونته، والإيالات النمسوية في الشمال، ودويلات الكنيسة ودوقيات طوسكانه ومودينه وبارمه ولوكا في الوسط، ومملكة نابولي وصقلية في الجنوب، وقد أُعطيت «بارمه» إلى الأميرة النمسوية «ماري لويز» أرملة نابليون، وأُعطيت «لوكا» إلى الأميرة ماري لويز البوربونية — وكانت تحكم «بارمه» قبل الثورة الإفرنسية، أما الدويلات الأخرى فقد أُعيدت إلى أصحابها القدماء باستثناء فنيسيه وجنوة.
ولما عاد الملك فيكتور عمانوئيل إلى عاصمة مملكته في تورينو استقبله شعبُهُ بحماسة، ومع أنه كان يتصف بخلقٍ نبيل وكان طيب القلب حسن النية، إلا أنه كان يكره كل تجدد، ويعتبر كل حركة إصلاحية بذرة من بذور الثورة التي كان هو عدوها الألد؛ ولذلك فإنه قضى على كل ما خلفته الثورة من أثرٍ؛ برفض جميع القوانين التي وُضعت حينما كان منفيًّا عن البلاد، ولم يعترف — فضلًا عن ذلك — بأي موظف لم يكن مُسجلًا في سجل الموظفين قبل خروجه من بلاده، ولكنه حين لقي مقاومة سلبية من شعبه اضطر إلى التساهُل وإغماض العين عن بعض القوانين، والموافقة على بعض الاصطلاحات، وأسس مجلس الإيالات، واحتفظ ببعض الموظفين من العهد الإفرنسي، وأدخل «بروسبير وبالبو» في الوزارة، وكان هذا الوزير من الإداريين القديرين، فأصبح من المتوقع القيام بإصلاحات جديدة.
ولكن عودة اليسوعيين أثارت انتقادات مُرة ضد الحكومة؛ لأنها بذلك استمرت على الجمع بين مساوئ العهد القديم كالاعتساف في الحكم وسوء الشرطة السياسية، وبين نقائص الحكم الإفرنسي الجديد كالمركزية في الحكم.
أما في لمبارديه وفنيسيه فقد فرح أكثر الناس بعودة النمسويين ظنًّا منهم بأن النمسويين سيؤلفون منها مملكة، وسيقيمون مجالس إدارية قد تنقلب في المستقبل إلى مجالس تمثيلية، أما القانونُ الجديد فسيسن ملائمًا لسجايا الطليان وعاداتهم كما وعد مترينخ، بَيْدَ أنه سرعان ما رأى اللمبارديون أن كل هذه الوعود لم تَتَعَدَّ حدود القول، فأصبح القانون النمسوي نافذًا، وأُسندت المناصب العالية إلى النمسويين والتيروليين، وساءت الأحوال، وفشا الجهل حتى إن إمبراطور النمسة صرح بأنه لا يرغب في أناسٍ متعلمين، وإنما يريد رعايا صادقين ومطيعين، وحدث عن خشونة النمسويين ووقاحتهم أمورٌ، فكشف كل ذلك الستار عن نيات الحكومة الجديدة نحو رعاياها الطليان.
أما في طوسكانه فكانت حركة الارتجاع خفيفة الوطأة؛ إذ لم يحدث تغييرٌ ما في المؤسسات المدنية التي أنشأها نابليون بدلًا من نظامها اللامركزي، وقد أدرك أولو الأمر في هذه الإمارة ما طرأ على العالم من تطوُّرٍ وتحرُّر، حتى قيل إن الدوق كان على استعداد لقبول مجلس منتخب على أنْ يحتفظ لنفسه بحق تصديق القوانين ورفضها، ثم أُعيدت بعض أملاك الرُّهبان إلا أنه لم يسمح مطلقًا بعودة اليسوعيين — كما وقع في لمباردية.
وفي روما عاد «كونسالفي» ممثل البابا في مؤتمر فينا ظافرًا في مهمته، فتولى رئاسة الحكومة، وكان مقتنعًا بأهمية التطورات التي طرأتْ على العالم، وميالًا إلى الأخذ بالإصلاحات، فأراد أن يقوي الدولة التي أنقذها بإدارة لا مركزية وإصلاحات معتدلة، ورغب في أن تحكم الدويلات البابوية حكمًا صالحًا وأن يرى أهلها مرفهين، وصرح أيضًا بأن على البابوية أن تعترف بالعادات والأفكار الحديثة والآراء الجديدة التي أحدثها علمُ الاقتصاد السياسي وبثها، وكان يطمح إلى إيجاد إدارة تتبع البابا مباشرة بعيدة عن سيطرة المطارنة والأهلين معًا، ومع ذلك فإنه لقي معارضة شديدة حينما حاول إصلاح القانون وتشجيع التعليم.
أما في نابولي فقد تظاهر الملك فرديناند بأنه أكثر أخذًا بمبادئ الحرية من مورات، وتأهب لنشر بيان يعد فيه الناس بالدستور الجديد، ولكنه حين علم بسقوط خصمه سرعان ما تَنَصَّلَ من وعوده، وعاد المهاجرون ورجالُ الإكليروس يطالبون بحقوقهم، ثم استلم المهاجرون أملاكهم ولقيتْ صقلية التي التجأ إليها الملك أيام نكبته كل جحود منه فيما بعد، وكانت الجزيرة تعتز بدستور — يمنح الأشراف بعض الحقوق — حصلت عليه بعد جدال عنيف وبتدخُّل قائد الحامية الإنجليزية، ورغم أن الملك أقسم يمين المحافظة على الحريات الممنوحة وكفلت إنجلترة ذلك أدبيًّا، فإنه لم يَرْتَحْ إلى وجود إدارة دستورية بالقرب من مملكته، خشية سريان مبادئ هذه الحريات، وعملًا بالمعاهدة التي عقدها مع فينا فإنه أوقف الدستور الصقلي وألحق صقلية بمملكة نابولي وألغى الجيش والراية الصقليين.
ذكرْنا فيما تقدم خلاصة ما أصاب الدول الإيطالية من تبدلات بعد مؤتمر فينا، وعلى الرغم من أن هذه التبدُّلات تحمل في باطنها الآراء الرجعية إلا أنها لم تكن شديدة القسوة، وإذا استثنينا فرديناند ملك نابولي فإن الأمراء كانوا بصورةٍ عامة صالحين وذوي رغبات حسنة.
ومع أنهم كانوا بعيدين عن فهم روح العصر الجديد فإن نفوسهم كانت تتوق إلى رؤية رعاياهم سعداء، وعليه فإن الإدارة في حكومات المقاطعات قد تدرجت من حسن إلى أحسن، ومع ذلك فقد ظل رجال تلك التبدُّلات يعتبرون القانون الإفرنسي من العوامل الهدَّامة لدعائم الأخلاق التي تستند إليها الهيئة الاجتماعية، ولاح لهم أن القانون المذكور قد أضعف الدين وأضر بروابط الأسرة، فراحوا يطالبون — مُلِحِّين — بفسخ الزواج المدني وإلغاء قانون الطلاق وترك أمر التعليم إلى الإكليروس.
فأعدت العدة لأن يكون التعليم الإجباري بموجب تعاليم الكثلكة، ونظرًا إلى الريبة فيما تبثه الجامعات فإنها رُوقبت من قِبل الشرطة، واتخذ الأمراء دوق «مودينه» قدوةً لهم في أعمالهم، وقد كان هذا الأمير — في الحقيقة — من أفظع المستبدين في إيطالية الحديثة، يخشى النتائج السياسية التي قد تنشأ من التعليم، واعتبر المدرس الذي يبث في تلاميذه المبادئ التقدُّمية الحرة من أكبر المذنبين، وطالما صرح «بأن الأحرار آثمون، علينا أن ندعو لهم أَنْ يتوبوا وأنْ نجازي غير التائبين منهم.»
بَيْدَ أنه مهما أُعد للحركة الرجعية من عُدَّةٍ فإنه كان مقدرًا لها أن تصطدم بجميع المستنيرين من رجال الرقي والتقدُّم في الأمة، أما طبقة التجار التي أدركتْ ما بلغتْ قوتها في العهد الإفرنسي؛ فقد رأتْ ما أصاب تجارتَها من فشل من جراء المكوس الجمركية التي وُضعت بين دولةٍ ودولة أخرى.