بيوس التاسع
مات البابا جرجوار في صيف سنة ١٨٤٦، وانتخب محله بيوس التاسع، الذي كان يُظهر عطفه على الأحرار مع أنه كان حاميًا لليسوعيين، وكان مطلعًا على كُتُب المعتدلين، مبديًا كرهه للاضطهاد السياسي، ولعله كان يتوفق في مهمته رئيسًا للممتلكات الكنيسية لو أتى في زمنٍ أكثر هدوءًا مِنْ زمنه وكان مثقفًا، حُرَّ الفكر، متحليًا بعقل نافذ إلا أنه كان ضعيف الإرادة متردد الرأي يخشى المسئولية، تلك كانت صفاتُ الرجل الذي سوف يتوقف عليه مصير البابوية.
وكان قد ورث حقد روما التقليدي على النمسة، فأول ما فكر فيه إزالة جميع مساوئ الحكم السابق، فجعل التجارة حرة، ووعد بمساعدته المؤتمرات العلمية وعين لجنة للسكك الحديدية، وعفى عن جميع الموقوفين السياسيين فكان لكل ذلك وَقْعٌ حسن في أنحاء إيطالية، وأثار الحماسة في نفوس الأحرار الذين تشبعوا بأحلام جيوبرتي واعتبروه المصلح المنتظر حتى إن الموسيقار روسيني وضع أغنية خاصة به، ولما عاد المنفيون جماعات وحضروا القداس اعتبر الناس هذا رمزًا لعهد جديد تتصافح فيه أيدي الحرية والتجديد الاجتماعي وأيدي الدين والإصلاح.
سارعت مدينة بولونيه إلى تقديم رمز مصالحتها مع روما، وزالت الرقابة التجارية وتم الصلح بين الشعب والشرطة، وانقلبت النقابات في الروماني إلى جمعيات وتبرعت بمبالغَ كبيرة لتأسيس المدارس، وقد رأى الملك شارل ألبرت في شخص البابا الجديد الرجلَ المصلح الذي يشجع الآمال إلى أقصى حد، فارتاح ضميره وهو الرجل المتدين لأنه سوف يسير في الطريق الذي يسلكه رئيس الكنيسة.
ولما هددت النمسة باحتلال الروماني رأى شارل ألبرت أن من واجبه الديني والقومي أن ينتصر لبيوس التاسع ويحميه من عدوان النمسويين، فصرح بما يلي: «إذا حاولت النمسة أو مملكة نابولي التوغُّل في دويلات الكنيسة فسأهتف بصرخة الاستقلال والدين.» وقد ألهب هذا التصريحُ نفوسَ كثير من الأغنياء والطبقة المتوسطة في بيمونته ووعدوه بالمساعدة.
ولما اجتمع المؤتمر العلمي في جنوة بعد هذا التصريح ببضعة أيام أخذ الأعضاء يتذاكرون كأنهم في قاعدة البرلمان، ويتداولون في استقلال إيطالية وحريتها وبعثها حتى إنه سار شوطًا بعيدًا في مذاكرته، وقرر أن يحتفل أهل جنوة بِعِيدِ رأس تحرير المدينة من النمسويين فتوجهت الأنظار إلى المستقبل القريب الذي تطرد فيه ميلانو وفنيسيه الأجنبي منهما، وكان من أمر ذلك أن امتدت شعلة الحماسة على طول جبال الأبنين في طوسكانه والروماني واشتد الكره ضد النمسة.
وكان اليسوعيون الرجعيون واقفين لهذه التبدُّلات بالمرصاد، ولم يكن اليسوعيون يؤلفون حزبًا قويًّا خطرًا في بيمونته وطوسكانه وروما، وإنما كانوا يَشغلون مناصبَ الإدارة ويقودون قسمًا كبيرًا من الأشراف والإكليروس وهم أقوياء بتنظيمهم الدولي ولهم في كل حكومة إيطالية نفوذٌ ظاهرٌ أو خفيٌّ، أما في نابولي ومودينه فظلت فكرة الإصلاحات خامدة.
وبدهي أن يصطدم بيوس في روما باليسوعيين والقسم الأعظم من الكرادلة وجماعة الإكليروس، وبما أنه رغب في ألا يتحرش بأي حزبٍ فقد احترم جماعات سنتوريون الجياع، واحتفظ بأكثر موظفي جراجوار الرجعيين، وكان هذا خطأ فاحشًا، عبثًا حاول وزير فرنسة المفوض أن يقنعه بأنَّ تطهير الإدارة يجب أن يسبق كل إصلاح؛ فلذلك أخذت بعضُ أوامر الكيرنيال تُهمَل ولا يُعمل بها، وبدأت أعضاء السانفيديست تتحدث عن احتمال نشوب الحرب الأهلية، وأخذت صحافتهم تهاجم البابا.
وفي شهر آب عين البابا الكردينال «جيزي» مستشارًا للدولة، وكان هذا يعد رئيسًا لجماعة الإكليروس الحرة والمرشح الشعبي للبابوية إلا أن كِبَرَ سنه وجهله للأمور وتردُّده؛ جعله غير كفء للعمل الذي أنيط به، وإدارة يرأسها مستشار في التسعين، وبابا متردد؛ لا تثمر غير الفوضى.
وظلت جماعة السنتوريون على دأبها، تغتال الناس في ظلمات الطرق، مما جعل أحرار الروماني يطالب بتأليف حرس مدني لحمايتهم، وأخذت الدوريات تتجول في طرقات بولونيه وفراره قبل وصول جواب الحكومة، ثم جاء جوابها وإذا به بالرفض البات وبذلك أضاعت الحكومة هيبتها، ولو أنها اتفقت مع الأحرار والمعتدلين لَتغلبت على الصعوبات بَيْدَ أن مثل هذا الاتفاق كان يتطلبُ تطهير الإدارة والموافقة على تأليف الحرس المدني.
وأخذ الرجعيون يدبرون الدسائس للوقوف دون الإصلاحات بينما بقي المعتدلون بلا حركة، مكتفِين بنجاح برنامجهم الظاهر، ومعتمِدين على البابا، ووجلين أمام مطالبات الأحرار الراديكاليين، وكان منهجهم لا يطمئن الرغبات، فهو يتلخص بإعادة تنظيم الشرطة وفتح مصرف في بولونيه وإصلاح الجامعات وتأسيس مجلس الدولة، ولما استرسلت الحكومة في خمودها، وظل المعتدلون يتلاعبون بكتابة البرامج؛ فقد اشتد قلقُ أكثر الأحرار نشاطًا ولا سيما حين رأوا آمالهم تتحطم نهائيًّا وإلى الأبد.
وحينئذٍ برز مازيني للميدان؛ إذ رأى أن أحسن سياسة يتخذها بانضمامه إلى الحركة الجديدة وسوقها نحو الهدف الذي ينشده، وكان على استعدادٍ لأنْ يضحي بميوله الجمهورية إذا اقتضت الظروف، وأن يرضى برئيسٍ كالبابا أو ملك يعمل للوحدة، ومع أن أنصاره كانوا قليلي العدد فقد التحق به كثيرٌ من الأحرار أنصار بيوس، يعقدون أملًا على البابا، ويرون أنه والأمراء سيرضون طوعًا أو كرهًا بالاندماج في الحركة الدموقراطية ويؤسسون حكومة دستورية ويعلنون الحرب على النمسة.
أصبحت طوسكانه موطن استياء عام فجعل «سميني» رئيس وزرائها الشرطة في حالة الاستعداد للطوارئ تجاه الأعمال التي قام بها سلفه، ولَمَّا وافق مجلس الوزراء الرجعي على قبول اليسوعيين؛ اضطرب الرأي العام لذلك أيما اضطراب؛ لأن الناس كانوا يحملون في قلوبهم حقدًا دفينًا عليهم، ولما فشل البلاط في إدخالهم في فلورنسة حاول إدخالهم في بيزا إلا أن مونتا تيلي أحد أساتذة الجامعة حَرَّضَ التلاميذ ضدهم ففشلت بذلك المحاولة الأخيرة أيضًا، واتخذ هذا الأستاذ الصحافة السرية أداةً سياسية قوية وأصبح ذا نفوذ لدى الأحرار، وفي مثل هذا الوقت وردت أخبار اعتلاء بيوس كرسي البابوية وعفوه عن المبعدين.
وكانت طوسكانه دائمًا في ريبةٍ من روما إلا أن الدعاية القوية فعلتْ فعلَها وأمالتْها إلى جانب البابا، وقامت المظاهرات في أنحاء طوسكانه، يَضرم نارها الاستياء من سوء الحالة الاقتصادية والسياسية المستحوذ على النفوس، وانتهز بعضُ الرجعيين الفرصة واتخذوا هذا الهياج ذريعة لتسويغ الاحتلال النمسوي إلا أن لئوبولد كان حريصًا على استقلاله، يقاوم كل تدخل وأخذ الأشراف الأحرار في فلورنسة والراديكاليون يُلِحُّون على الحكومة بأن تصلح جهازها الإداري، فهناك حزب أولاد جورج المتيقظ بزعامة «كابوني» يقف بالمرصاد من جهة وجماعة أخرى صغيرة غير دمقراطية ولكنها تُطالب بالحرية الاجتماعية التامة وبحكومة دستورية من جهةٍ أخرى، وكان يرأسها «ريكاسولي»، فاتفق الحزبان على المطالبة بتخفيف وطأة مراقبة المطبوعات وكان الرئيسان يرغبان في أن يقيما الصحافة العلنية مقام الصحافة السرية وأخذ كابوني يسوق الوزراء رويدًا رويدًا نحو سياسة أكثر حرية وتساهلًا، ثم أبطل الصحافة السرية، ونشرت الحكومة أخيرًا قانون المطبوعات الجديد وبعد صُدُوره ببضعة أسابيع وعدت بتأسيس مجلس الدولة.
أما في ممتلكات البابا فقد عِيلَ صبر رعية البابا، وخبت الآمالُ حين رفضت الحكومة إيجادَ الحرس الأهلي وحين رأى الناس التلكؤَ في تنفيذ الإصلاحات وإنشاء السكك الحديدية، فأخذ أهل الروماني من جديد يسمعون النغمة القديمة وهي نغمةُ التهديد بالانفصال، أما أهل روما فكانوا يُلْقون تبعة هذا البطء على عاتق الكرادلة واليسوعيين حتى إنهم أخذوا يهتفون: «ليعش بيوس وحده.»
ولَمَّا زار البابا كلية اليسوعيين راح الأهالي يصيحون: «أيها الأب المقدس لا تذق شكولاتهم.» يرمزون بذلك إلى أن اليسوعيين يتآمرون على حياة البابا، وقد اتفق زعماءُ روما على شَلِّ أعمال الحكومة واعتمدوا على برونيتي الملقب «شيشراكيو» لقيادة العامة، وكان هذا الرجل قويَّ العزيمة، خالص النية وضع نفسه موضع الصديق الخاص للبابا.
وكان البابا قد ضاق ذرعًا بمعارضة البلاط له، ولكنه لا يتحلى بالجرأة الكافية لسحق هذه المعارضة، ولكن حركة شيشراكيو بث فيه بعض الشجاعة فأصدر أمره بعد التي واللتيا وبعد وعودٍ ومماطلات قانون المطبوعات، وفيه يلغي الرقابة، وذلك في شهر آذار سنة ١٨٣٧، وفي شهر نيسان وعد البابا بتأسيس مجلس الدولة، يعين من قبل مجالس الولايات، ويأخذ على عاتقه كثيرًا من شئون التشريع والمالية.
وفي حُزيران عين وزارة جديدة ومع أن أعضائها كانوا من رجال الدين فقد اعتبرها الناس خطوة للأمام، غير أن الوزارة أضاعت الفرصة وقضت على كل أملٍ بإمكان استعادة الثقة؛ ذلك لأنها خلطت الإصلاحات بأعمال الاضطهاد، وقد احتج «جيزي» رئيس الوزراء رسميًّا على الشُّعور العدائي الذي بدأ نحو النمسويين؛ إذ إن ذلك ينافي كون البابا أبًا لجميع المسيحيين في أي بقعةٍ من بقاع العالم.
وقد هوجم «فنتورا» لأنه في تأبينه للزعيم الأيرلندي «أوكونل» — وقد مات في جنوة في طريقه إلى روما — نَدَّدَ بسياسة الخضوع التام، وطلب إلى الناس أن يجعلوا من كفاح هذا الزعيم قدوةً لهم، وأمر الراهب «جافيزي» رسميًّا بأنْ لا يذكر اسم إيطالية في مواعظه الحماسية.
وحين تحرك المعتدلون بزعامة دآزجليو وبذلوا قليلًا من الجهد صدر القرارُ بتأليف الحرس المدني، ولعل الوزارة بموافقتها هذه كانت تتوقع أن الطبقة المتوسطة إذا تسلحت تكون درعًا يقيها حملة الأهلين من جهة والدسائس النمسوية أو السانفيديستية من جهةٍ أخرى.
ولما أخذ رجال السانفيديست يهاجمون الأحرار في بعض المناطق ويدبرون الدسائس؛ نشط البابا في تأليف الحرس المدني، وأصدر أمرًا بتسريح السنتوريون، وأوقف رجال السانفيديست المشبوهين فاضطر الكرادلة والرُّهبان إلى قبول الأمر الواقع وأخذ الأهلون يهرعون إلى التطوُّع في صفوف الحرس المدني، وحينما استقال «جيزي» عين البابا ابن عمه «فتريني» بدله وكان فتريني هذا جاسوسًا للنمسة يعمل لحسابها، وأصبح مترنيخ ينظر إلى هذه الأمور بعين القلق واعتبر وجود بابا يميل إلى الأحرار من أعظم مصائب ذلك الدور، ولكن نفوذ النمسة عجز عن الوقوف في وجه الحركة الإيطالية.
وقد حاول مترنيخ عبثًا أن يثير في البابا وفي دوق طوسكانه الكبير المخاوف من الحركة القومية ومن أنها تنتهي بالجمهورية، وقد سعى كثيرًا لاستجلاب شارل ألبرت إلى جانبه بتحريك أطماعه، إلا أنه لم يوفق إلى ذلك فكلف حينئذٍ عملاءه بمهاجمة الملك، وحينما اطلع على الحماسة التي أثارتها في طوسكانه موافقةُ البابا على تأليف الحرس المدني؛ أرسل مذكرة إلى فلورنسة مهددًا الحكومة فيها بالاحتلال فيما إذا هي قررت — بدورها — تأليف الحرس فيها وأرسل صورة من هذه المذكرة إلى بلاط تورينو.
ولولا تهديد فرنسة إياه لَكان قد احتل الروماني وقد اضطره إلى التريُّث تهديد إنكلترا بإرسال أُسطولها إلى تريسته وتهديد «جيزو» رئيس وزراء فرنسة بإنزاله القوات الإفرنسية في دويلات الكنيسة، ولكنه عاد فترك جانب الاحتياط وأراد القيام بحركة عسكرية نحو نهر بوتكون بمثابة تهديد لروما، إلا أن زملاءه في الوزارة لم يوافقوه على هذا الرأي فاكتفى بمظاهرةٍ أخرى أقل أهمية من هذه، ففي اليوم الذي قامت فيه جماعة السانفيديست بإيعاز النمسة بمظاهرة، قوى النمسويون حاميتهم في قلعة «فراره» بقوةٍ عظيمة، ولما رفضت روما دخولهم أرض الروماني رفضًا باتًّا أخذت دورياتهم تتجول في طرقات المدينة، الأمر الذي اعتبره الإيطاليون إهانة من قبل النمسة للبابا ودليلًا على عزم النمسة على مناوأة الآمال القومية، فالمعتدلون أمثال دازجيلو وبالبو طالبوا باتخاذ تدابير حازمة، وأسرع الوطنيون أمثال «دي مونتفيدئو» وغاريبالدي الذي شاعت بطولته في العالم الجديد إلى تقديم خدماتهم للدفاع عن البابا، وأدى السخط العام والخوف من الاحتلال إلى انجراف الأمراء أيضًا إلى التيار.
أما في بيمونته فقد حام الملك حول حزب الأحرار وأخذ ينشط السياسة الاقتصادية، ولما اطلع على دسائس النمسة اغتاظ منها وغضب على مذكرتها بشأن الحرس المدني، وأخذ يتقرب من الوطنيين، فوافق على دُخُول كتبهم وجرائدهم إلى مملكته، وساعد أهل تورينو على الاكتتاب في سيف الشرف الذي أُريد تقديمه إلى غاريبالدي أثناء عودته، واجتمع هو بالمتأمرين الميلانيين.
ولما ورد خبرُ احتلال فراره اضطر الوزير «ديلا مارجريتا» نفسه إلى أن ينحني أمام العاصفة وأصبح في غيرِ مقدور الملك أن يصم أُذُنيه عن سماع نداء الأمة «التي رأتْ فيه سيفها المسلول» ولما ورد كتاب البابا أجابه بأنه في جميع الأُمُور لا يفرق بين قضيته وقضية بيوس، ولما اجتمعت الجمعية الزراعية في «كسالة» في رأس سنة العفو الذي كان أصدره البابا عن المبعدين أرسل الملك إليها كتابًا مفتوحًا قال فيه: «إذا شاء الباري تعالى أن تنشب الحرب في سبيل حرية إيطالية فسأضع نفسي على رأس جيشي لتحريرها.» فأجابه الأعضاء من أهل بيمونته وجنوة ولمبارديه وبارمه بولاءٍ وحماسة، واعدين إياه بالمعونة، وطالبين منه تأليف حرس مدني، وبلغت الحماسة في بيمونته أَشُدَّها فاشتركت جميع الطبقات بالتبرعات للقضية القومية.
وفي طوسكانه ولوكا تطور الهياج إلى مطالبةٍ مسلحة بتأليف الحرس المدني، فالثوراتُ التي حدثتْ بعد ثورة الأيرلنديين سنة ١٧٧٩ أيدت بأن الثورة التي توفق إلى وضع السلاح بيد الشعب تضمن الظفر بغاياتها بالحصول على المؤسسات التمثيلية.
وقد علم الطليان — وحقًّا ما علموا — بأن تسليح الحرس المدني يجعل الاستبداد عاجزًا لا حول له، على أن مطالبة الشعب بالحرس الأهلي لم يرد بها الدفاع ضد الاستبداد أو ضد الاشتراكية، بل الدفاع عن الوطن، فإن فكرة وجود شعب مسلح يطرد النمسويين أمامه قد تأصل في النفوس.
وبينما طالبت فلورنسة بالحرس المدني بمظاهرة صغيرة ولكنها عنيفة؛ تلقت لوكا الأمورَ بجد أكثر من ذلك، وكانت تتعقب حوادث طوسكانه بانتباهٍ عظيم وبينما كان أميرها منغمسًا في لَذَّاتِهِ وشهواته وحين اعتقال بعض الأحرار المحبوبين اشتد سخط الشعب اشتدادًا خشي الأمير عاقبة الأمر، فوافق على تأليف حرس مدني في شهر أيلول.
وفي أوائل تشرين الأول رفض نصيحة دوق مودينه باستدعاء النمسويين وباع حقوقَه إلى أمير طوسكانه وخلع نفسه فاضطر أمير طوسكانه الدوق الكبير أيضًا إلى الموافقة على تأليف الحرس في دولته، واشتدت حماسة الشعب ولا سيما بين الشباب والشيوخ والرهبان والجنود والأشراف ورجال الدين، ونشرت في لوكا الرايات المثلثة الألوان وأخذت كل مدينة تحتفل بعيد الاتحاد، وسارت القرى في الاحتفال على غرار المدن، فأوفدت من الرجال والنساء والأولاد إلى المدن حاملين أعلامهم وعلى رأسهم راهب القرية يجولون الطرقات صابِّين اللعنات على المستولي على فرارة.
وزحفت الجماهير في حشدٍ عظيم إلى قصر الأمير صارخة: «فليسقط النمسويون.» طالبين الاتفاق وروما فاقتنع الأمير حينئذٍ بلزوم استمالة الأحرار المعتدلين إلى جانبه، فأقصى الوزراء غير المرغوب فيهم من الوزارة وعين بدلهم «ريد ولفي وسربستوري»، وهكذا ساعد احتلال فراره كثيرًا على إشعال نار الحماسة في الدول الثلاث المتريثة.
وبينما كان أنصار الحكم القديم لا يزالون يشغلون المناصب ويقيمون العقبات بوجه القوانين الجديدة؛ كانت طلبات الشعب تشتد شيئًا فشيئًا، وأخذت الصحافة تلعب دورًا عظيمًا بحيوية ونشاط أكثر من قبل، وكانت الثورة في ليفورنة ومظاهرات شيشروكيو قد لفتت الأنظار حتى خشي العقلاء أن تنقلب الحركةُ الإصلاحيةُ إلى ثورةٍ دامية، ولا سيما بعد أن اندلعت نيرانُ الحرب الأهلية في كلبريه.
وكانت الظواهرُ تدل على أن إيطالية قد اتحدت ضد النمسة وكل شيء يدل على أن الحرب لا مناص منها، فبدأ الهياج في ميلانو وفي فنيسيه، وكان من نتيجة هذا الكفاح العظيم أن اندفع الأحرار في السعي إلى جمع الدول الثلاث في شبه اتحاد، وتطور الاهتمام بالتجارة الحرة إلى التفكير في الاتحاد التجاري أسوة بالاتحاد الجمركي الألماني.
وكان هذا الرأي بمثابة تنبيه إلى مترنيخ بأن مثل هذا الاتحاد سيحمل الحكومات الثلاث إلى انتهاج سياسة قومية موحدة، وحيث إن البابا بيوس كان لا يزال يتألم من الاحتلال «فراره»، فإنه رسم خطة لضمان مساعدة الجيش البيمونتي فيما إذا هدد النمسويون باحتلال الروماني فأوفد «كربولي بوس» إلى تورينو، فاستُقبل فيها بحفاوة وصَرَّحَ الدوق الكبير بأنه لن يبقى مدةً طويلة من دون أن يتفق مع روما وبيمونته للدفاع عن القومية الإيطالية، ولقي مندوب البابا معونة من اللورد منتو الذي أوفده بالمرستون، وكان هذا يتحمس للحركة الحرة، لمراقبة الأمور عن كثب.
ومع أن منتو جهر بأن إنجلترا لا تُوافق على أَيَّة تعديلات أرضية إلا أنه شجع الحكومات على السير في سياسة الإصلاحات والاستقلال، وقد رأى أن الملك شارل ألبرت قد انتابه التردد مرة أُخرى، وأن حكومته غير متأهبة للحرب وهو لا يزال في قبضة اليسوعيين الذين أدخلوا في روعه بأن الهياج والشغب السائدين في طوسكانه لا بد من سريانهما إلى مملكته فساعد الملك الشرطة على مهاجمة الذين اجتمعوا لإنشاد نشيد روسيني الذي وضعه من أجل البابا بيوس، فكان لهذا العمل وقعٌ سيئٌ في نفوس الناس، فقدم فيلا مارينا استقالته واضطر بلا مارجريتا إلى تقديم استقالته بعده.
وأظهر الملك التردد لنفسه في موضوع الاتحاد التجاري وكان يرغب أن يكون الاتحاد مطمئنًّا لرغبات بيمونته السياسي؛ فلذلك اشترط بعضَ الشروط التي جعلتْ طوسكانه وروما ترفضان الاشتراكَ في الاتحاد، وسعى اللورد منتو عبثًا لإقناع الملك بعقد معاهدةٍ دفاعية بين الحكومات الثلاث، وبينما كانت المساعي تدعو إلى التفاؤل إذا بالملك يغير رأيه بعد أن عثر على أغنية شعبية بعنوان الملك الثرثار فغضب وعاد إلى موقفه السابق.
وأراد أخيرًا أن يهدئ شعبه ببعض الإصلاحات، فقام بالإصلاحات التي تتناول الحكومة المحلية والشرطة والصحة ومراقبة المطبوعات وإحداث دائرة للمعارف، ومنح الحرية المدنية للبروتستان، وفي زيارته السنوية إلى جنوة طلب أهلها منه العفو عن أنصار مازيني، وطرد اليسوعيين، وساروا في مظاهرةٍ يهتفون فيها «اجتازوا نهر تسينا فسنكون معكم.» وبينما كانوا يهتفون له توهم بأنه سمع بعض الهتافات لمازيني فما كان منه إلا أن أمر بمنع الاجتماعات في المدينة، الأمر الذي ألقى الماء البارد على حماسة الأهلين.
ولما عاد إلى تورينو لم يَرُقْ له الظهورُ أمام شعبه بل ذهب إلى قصره خلسة، ومع ذلك كله فقد ظل على عزمه بمقاتلة النمسا إذا أرادتْ أن تتقدم، وزاد الطين بلة أنْ ماتت حينذاك أرملة نابليون دوقة بارمه، وبموجب معاهدة فلورنسة يجب أن تنظم الدوقة إلى دوقية لوكا مع أن هذه الدوقية كانت قد التحقت قبل هذا بطوسكانه، وكان أهل الدوقية يرغبون في الانضمام إلى طوسكانه ولوكا بدلًا من أن تقسم ويعطى قسم منها إلى مودينه والآخر إلى طوسكانه لأنهم كانوا ينفرون من حكومة مودينه المستبدة.
وكانت حكومة طوسكانه قد تريثتْ وتربصتْ حتى احتلت قوات الدوق فرنسوا أمير مودينه فيفزانو في أوائل تشرين الثاني، فشبت معركةً عنيفة في طرقاتها وكادت تؤدي إلى دخول طوسكانه الحرب إلا أن الحكمة تغلبت، وعلى الرغم من تهديد دوق مودينه بالانضمام إلى الاتفاق التجاري وبعد مؤتمرات طويلة عريضة وتضايُق بالمرستون الشديد؛ أذعن مترنيخ وأمر بسحب قواته من فراره.