الوثبة القومية
وقد أصبح ميسورًا للأمة بعد أن انتهت القضيةُ الدستورية أن تُوَجِّهَ جهودها نحو الحرب، وكان لانتصار الثورة في فرنسة تأثيرٌ حاسم في أوروبا؛ لأنه دل على أن التوفيق كان يجانب الحركات المناهضة، واعتبرت النمسة خبر إعلان الجمهورية في فرنسة ضربة موجهة إليها؛ لأن الجمهورية في فرنسة ستَعطف حتمًا على الحرب التي تخوض إيطالية غمارَها للحصول على حريتها.
وأيقنت النمسة أن فرنسة وإنجلترة ستُعلنان الحرب عليها فيما إذا أرادت أن تحتل الدويلات الإيطالية الحرة، وكانت مجزرة ميلانو قد أَضرمت نار الحقد في جميع أنحاء إيطالية، حتى أخذ الناس ينظرون إلى المعركة المقبلة بفارغ الصبر، وكانوا يعلمون أن الشارة يجب أن تعطى من قبل لمبارديه أو بيمونته.
وكان كل ما يستطيع أن يقوم به الوطنيون المتحمسون في هذه الفترة أن يحملوا على اليسوعيين أصدقاء النمسويين؛ لأن المعركة إنما كانتْ بين الاستبداد والدمقراطية، فاليسوعيون كانوا — بطبيعة الحال — في جانب النمسة، وكان جيوبرتي قد ذكر في كُتُبه أن الاتحاد النمسوي اليسوعي هو أكبر عقبة في سبيل الإصلاحات، وسمى اليسوعيين بالأعداء الأَلِدَّاء لإيطالية.
ولما تأكدت الحكومات في إيطالية من كُرْه الشعب لليسوعيين قَدَّمَتْهم طعمة لهم؛ لتسكين الهياج، فترك الآباء اليسوعيون جنوة، وكانت حوادث الدستور سببًا في الهجوم النهائي عليهم فطردهم أهل ساردينه من الجزيرة، ثم قامت مدينة تورينو وألكسندرية وسبريه بالعمل نفسه.
وهرب الآباء من نابولي ليعودوا إليها متنكرين، ولما وردت أخبارُ الثورة في فينا طلبت الجماهير في روما طَرْدَهم، وعلى الرغم من أنهم علقوا الراية المثلثة الألوان على مبانيهم فإن البابا بيوس حاول أن يحميهم، ثم اضطرت الحكومة أمام العاصفة إلى إغلاق مبانيهم.
أما في لمبارديه فكان أهلها يستعدون للمعركة العظيمة، وأخذ الناس يوالون اجتماعاتهم السرية في أماكنَ معينة واجتمع آلافٌ من الناس في الكتدرائية يشكرون الله صامتين على منح الدستور في نابولي.
أما في البندقية فقد صرف الناس النظر عن عيد الكرنفال، وجمعوا الأموال لضحايا فتنة التبع وأوقفت الحكومة توماسو ومانين وأحالتهما للمحاكم بتهمة الخيانة العظمى، إلا أن المحكمة برأت ساحتهما بعد دفاعٍ مجيد، فأودعتهما الحكومة السجن.
ولاح لراديتسكي القائد العام في ميلانو أن العصيان العام والحرب في بيمونته على قاب قوسين، ومع أن قوته كانتْ تبلغُ سبعين ألفًا إلا أن نصف هذه القوة كان من الطليان الذين لا يوثَق بهم، فأخذ يرسل الرسلَ تلو الأخرى يطلب المدد، وأخذت القوات تتحشد في غرويجية، وترك نائب الملك والحاكم العام مدينة ميلانو وكان للثورة الإفرنسية أثرٌ عظيم في اندفاع البعض من المترددين، وجعلت القسمَ الأعظم من الأهلين يفقدون الصبر فبعثوا إلى الملك شارل ألبرت يقولون: «إذا لم تتجاوزوا نهر نسينا فسنعلن الجمهورية.»
وبلغ الاندفاعُ بالزعماء حدًّا رأوا معه أنْ لا يعتمدوا على الملك أكثر مما فعلوا وأنْ يثوروا في بضعة أيام.
وكانت بيمونته تترقب الحوادث بدقةٍ متناهية، ففتنة التبغ ومجزرة الطلاب في بافية وأمورٌ أخرى؛ كانت تَزِيد النار اشتعالًا، وأصدر دازجيلو رسالة بمصائب لمبارديه، ومع أنه كان من المعتدلين فقد صب اللعنات على النمسة كأكثر المتحمسين تطرُّفًا، وقد تألفتْ وزارةٌ جديدة برئاسة بالبو دخل فيها «باريتو» زعيم الأحرار في جنوة.
وكان بالبو يميل إلى الحرب ضد النمسة من جهةٍ، ويخاف من مطامع فرنسة في صافويه من جهةٍ أخرى، وبدلًا مِنْ أنْ يحشد القواد على الحدود اللمباردية فقد وزعها على أنحاء المملكة، ودعا ثلاثة دفعات إلى السلاح، وقبلت الوزارة بفتورٍ تكليف طوسكانه وروما بالحلف الدفاعي لتبقى حرة في حركة الهجوم — على ما يظهر — أما الملك شارل ألبرت فعلى الرغم من خشيته مما تؤدي إليه الثورة الإفرنسية ومن الطعن باليسوعيين؛ فقد اجتمع برُسُل ميلانو وطَمَّنَهم بأنه وشعبه سيمشقان الحسام في سبيل نجدة المدينة حين تثور.
وفي ١٧ آزار وردت أخبار مهيجة إلى ميلانو وتتلخص في أن الحركة في هنغارية قد اشتدت، ووصل صداها الإيالات الألمانية، وأصبحت فينا (معقل الاستبداد) في حالة عصيان، مما اضطر مترنيخ إلى تقديم استقالته، فقد وعد الإمبراطور بحرية المطبوعات وتأليف الحرس الأهلي ودعوة مجالس الدولة في لمبارديه، وشاهد الميلانيون صباح الغد مرسوم الإمبراطور معلقًا في الجدران من دون إشارة إلى حرية المطبوعات، وكان الخبر قد وصل قبل ذلك، فبذل الزعماء طول الليل جهدهم لترتيب مظاهرة وهيئوا البيانات، وكان الشعبُ لا يحتاج إلى مشوقات فقد تأكد من أن ساعة العمل قد حانت فكتب «كاساتي» على المرسوم هذه الكلمات «متأخر جدًّا.»
واجتمعت جماهيرُ كبيرةٌ من الأهلين برئاسة كاساتي وذهبت إلى دار نائب الحاكم، فقتلت الخفراء ودخلت الدار وأرغمتْه على التوقيع على المرسوم الذي وضعه رئيسهم، وكان ينص على تسريح الشرطة وتخويل المجلس البلدي حق تأليف الحرس المدني.
وأراد كاساتي أن يتفاهم مع راديتسكي، ريثما يحرك شارل ألبرت ساكنه إلا أن الزعماء الشعبيين رفضوا كل تفاهم لا يتضمن الاستقلالَ التام العاجل، فهاجمت الجماهير الجنود الذين كانوا يمرون بالشوارع بالآجر والحجارة والآنية، وصبتْ عليهم الماء أو الزيت الفائر، وهزمت جماعة مسلحة فوجًا بكامله، ونهب الناس السلاح من الدكاكين التي تُصلح السلاح، وأقاموا الموانع في الطرقات، وقضتْ بعض القطع العسكرية سِتَّ ساعاتٍ في معركةٍ حامية؛ لأجل أن تفتح لها الطريق إلى قصر البلدية.
وفي الليل أقام المتطرفون الشبان الذين قادوا الجماهير في النهار مئات الموانع، وفي صباح الغد استمر القتال بعنف، وامتد إلى جميع أنحاء المدينة وبلغ من شجاعة الأهلين وحماستهم أن شابين قاوما سرية يومًا كاملًا، وقد اشترك في القتال نساءٌ وصبيان، فقتل البعض منهم، وأخذت الكنائس تدق نواقيسَها فتشجع المواطنين على الكفاح وتُثير الذعر في نفوس النمسويين.
وفتح الأغنياء أبواب قُصُورهم للفقراء الذين أصبحوا بلا دور ولم تقع أي جريمة ما عدا بعض السرقات الطفيفة، وكان الفقراء يأتون بالذهب الذي وجدوه في خزائن الحكومة وعُومِل الأسرى بعطفٍ ووضعت الشرطة المكروهة في مأمن.
وبوصول الإمدادات بلغت قوات راديتسكي عشرين ألفًا في ميلانو، ومع ذلك لم تستطع أن تسيطر على الموقف؛ إذ وهنت معنوياتُها بالجوع وبالمطر الشديد، وكانت حادثة الكسوف قد ألقت الذعرَ في نفوس الجنود من الخرواتيين المعتقدين بالخرافات، وخضع البعض من الجنود الطليان، بينما الآخرون ولا سيما الجنود من موارفيه وبوهيمية؛ قد دفعهم اليأسُ إلى القسوة فارتكبوا فظائعَ تقشعرُّ لها الأبدان، حتى راديتسكي نفسه لم يخجل من أن يأمر جنوده بقتل الأسرى من الأهلين، واضطر بعد ذلك إلى إخلاء الكتدرائية، واستولى أهل المدينة على جميع الحصون المحيطة بها فقدر راديتسكي حَرَجَ الموقف؛ إذ لو تحرك الجيش البيمونتي بسرعة لقُطع عليه خطُّ الانسحاب فاضطر أخيرًا إلى طلب الهدنة، إلا أن اللجنة التي استلمتْ كتابه رفضتْ شروط راديتسكي بعد أن هَبَّ الشعبُ يطالب باستقلاله وسُفك دمه في سبيل حريته.
وأخذ يتواردُ على أذهان أهل ميلانو السؤال التالي: هل يجب أن يطلبوا مساعدة شارل ألبرت؟ وكان أكثر زعماء الحركة من الجمهوريين الذين ينظرون إلى مدًى أَبْعَدَ من الاستقلال، إلى عهد الأخوَّة والإصلاحات الاجتماعية العظيمة الشأن.
وكان «كتاينو» أحد هؤلاء الزعماء يريد أن يحصر الحركة في النزاع بين الدمقراطية الميلانية وبين الجيش النمسوي، وكان يكره البيمونتيين كرهًا عظيمًا، وقد أرسلت إلى الملك في ساعات القتال الأولى رسالةُ استنجاد فجاء الجواب وعدًا بالمساعدة فيما إذا وصل إليه طلب من قبل شخصية ذات مقام في ميلانو.
وأصبح الناس في عشية الانتصار، وهاجم المتطوعون الذين هرعوا من مونزه وكرمة وبرغامة الأبواب الخارجية فلم يبق بيد النمسويين في صباح ٢٢ آذار إلا القلعة والحصون، وهاجم أهلُ ميلانو الأبوابَ من الداخل واستولوا على أحدها مساء.
ثم استمر القتال طول الليل، وكانت في أثنائه مدافعُ القلعة تَضرب المدينة، وكان راديتسكي قد قرر الانسحاب قبل يومين بعد أن أخذ الجوع والذعر يهددانه، وقد أظهرت الحادثة للعالم أن جماعة غير منظمة لا تملك السلاح في أول أمرها قد هزمت جيشًا منظمًا كامل العدة بعد قتالٍ عنيف استمر خمسة أيام، سميت أيام ميلانو الخمسة وغدت من مفاخر إيطالية.
أما البندقية فقد تخلصت من دون سفك دماء وأعلنت الجمهورية، إذ إنه حين وردت أخبار فينا في ١٧ آذار استولى الجمهور على السجن وأخلى سبيل مانين وتوماسو، وأدار مانين دفة الأُمُور بالكياسة التي تقتضيها الظروف، وكان أظهر مقدرة عظيمة كرجل سياسي في قضية مد السكة الحديدية بين ميلانو والبندقية؛ إذ استطاع بلباقته وصلابته أن يحمل السلطة على مد تلك السكة بصورةٍ تلائم الرغبات القومية، وقد أدرك أن دور استعمال الوسائل المشروعة للحصول على الآمال الوطنية قد فات فأصبح الهدف الذي يتوخاه بعد خروجه من السجن هو طرد النمسويين من المدينة بلا سفك الدماء وصيانة أرواحهم إلى حين تأسيس الحكومة.
وكان لدى النمسويين سبعة آلاف مقاتل فضلًا عن الأسطول المرابط بالقرب من المدينة، ونصف هؤلاء الجنود والقسم الأعظم من بَحَّارة الأسطول من الطليان والدلماسيين، وقد اضطربت السلطات في المدينة لسقوط مترنيخ ولانقطاع أخبار فيينا عنها، وحدث أن أطلق الجنود الرصاص على الجمهور فدق ناقوس كنيسة القديس ماركوس يدعو الأهلين إلى القيام، ونشرت الرايات المثلثة الألوان، وكان مانين يعرف كيف يعتمد على العامة من أهل البندقية، وكان يقول للذين لا يثقون بهم: «أنتم لا تفهمونهم ومزيتي الوحيدة أني أفهمهم.»
وكان أول عمل قام به أنْ طلب إلى الحاكم الموافقة على تأليف الحرس المدني، وحين تمت الموافقة كان أربعة آلاف نفس قد انخرطوا في سلك المتطوعين، وبينما كان البعض من الزعماء ميالًا إلى قبول الدستور النمسوي الجديد كان مانين وصحبه يستعدون لإعلان الجمهورية بعد أن شجعتهم أخبار ميلانو، وليس في هذا ما ينافي الهدف العام في الوحدة الإيطالية، فستندمج فنيسيه فيها نزولًا عند إرادة الأمة.
وفكر مانين في الاستيلاء على دار الصناعة البحرية، وبينما كان يضع الخطة لذلك إذا بالثائرين يتسرعون فيقتلون الحاكم المكروه، فأصبح همه أن يُنقذ الموقف قبل أن ينتقم النمسويون، فتقدم بعشرين رجلًا من الحرس المدني نحو دار الصناعة، وكان يعلم أنه سوف ينال عطف العمال وأكثر جنود البحرية القائمين على حراستها.
واستحوذ الرعب على الضابط حين رأى رجال مانين واعتداده فسلم إليه مفاتيح دار الصناعة، وهكذا وقعت أعظم دار للصناعة في إيطالية بيد مانين، ثم أذعن النمسويون للأمر الواقع وأخلوا المدينة، وحين غادروها أعلن الجمهورية وأصبح الدكتاتور.
وانتشرت الأخبار في جميع أنحاء لمبارديه وفنيسيه، وانحاز الجنود الطليان إلى المعسكر الوطني في مدينة «أودينو وبالمانوفه وترفيسه وفنيسيه»، وتحررت إيالة فنيسيه تمامًا ما عدا مدينتي «فيرونه ولجناجو».
أما في لمبارديه فهاجم أهل مونزه وبرغامة الحامية، وبعد قتالٍ عنيف في الشوارع اضطروها إلى التسليم أو الانسحاب، وأخلت حامية بافيه المدينة، وانضمت حامية «بريجتونة» إلى معسكر الوطنيين بسلاحها وعتادها، وهَبَّ أهلُ الجبل في الشمال فاحتلوا المضائق حتى صار القسم الجنوبي من التيرول على أُهبة العصيان، وأصبحت قوات النمسويين الساترة المشتتة في الوديان في حالة بُؤْس، وغدت القوات النمسوية في مانتويه وفيرونه وفي المدن الأخرى لا حول لها ولا طول.
وفيما وراء وادي بو استسلمت «كماكيتو» إلى متطوعي «رافيته»، أما حكومة البابا فرفضت الموافقة على مهاجمة «فراره»، وهكذا لم يبق بيد النمسويين سوى حصن «فراره» والقلاع الأربع في المدن الأربع، وكان للأيام الخمسة صدًى رَنَّان دوى في جميع أنحاء إيطالية.
وقد أخبرت بارمه بعد التغلُّب على الحامية دُوقها أن يمنحها الدستور وأنْ يدخل في الاتفاق التجاري الإيطالي إلا أن ذلك لم يقنع الأهلين، فاضطر الأمير بعد بضعة أسابيع إلى ترك البلاد، وطَردت مدينة «بياسنسة» اليسوعيين وأقامت حكومة أهلية، أما في مودينه فهرب الدوق مع الحامية النمسوية على إثر اقتراب متطوعة بولونيه.
أما في فلورنسة فأحرقت الجماهير شعار السفارة النمسوية، وذهب ثمانمائة متطوع إلى الحرب على النمسا، ولما رأت الحكومة أنها لا تستطيع المقاومة أعلنت الحرب، وأعلن الدوق بعباراتٍ طنانة: «أن ساعة البعث الإيطالي قد دقت.» بينما اعتذر أمام النمسويين بأنه لم يفعل ذلك إلا حرصًا على سلامة العرش، واجتازت متطوعة بولونيه نهر بو، دون أن تهتم لموافقة الحكومة على حركتها، وتوغلت في إيالة فنيسيه؛ حيث كان روكي الذي هرب من السجن يسعى لجمع جيش من المتطوعة ومن الهاربين من الجيش النمسوي.
أما في روما فذهب ألفان من المتطوعين إلى الحرب بعد وصول الأخبار بثلاثة أيام، وكان جميع الجيش فيها على أهبة الحركة وأخذت المدن في الإيالات ترسل متطوعيها حتى بلغ عددهم في دويلات البابا حسبما قيل اثني عشر ألفًا، وأرسلت نابولي متطوعتها أيضًا واستعدت الحكومة بعد أن رأت ضغط الناس عليها إلى إرسال ستة عشر ألفًا من جيشها النظامي بقيادة ببه، وبعد مضي شهر أرسلت صقلية أيضًا قوة صغيرة، وهكذا طغت الموجة الوطنية الزاخرة على إيطالية، وجرفت معها البابا والأمراء ورجال الإكليروس والأشراف والتلاميذ والعمال والطبقة الوسطى كلها والمدن والأرياف.
وانتابت الجماهير نوبة من الحماسة لإنقاذ لومبارديه وفنيسيه من الحكم الأجنبي، فمن الطلاب والعمال الذين تركوا أهلهم ودراستهم وذهبوا إلى ميادين القتال البعيدة لمحاربة العدو واحتمال المصائب، إلى الفتيان الذين تشردوا من المدرسة للاشتراك بالحرب، وأخذ الأحداث في المدارس المدنية يتدربون على أساليب الجندية، فلا القانون ولا الأشغال الرسمية كانت تستطيع أن تحول دون إقبال الشعب على السلاح، وأخذ الناس كلهم يلبون نداء الرُّهبان الوطنيين ويتبرعون بالمال لينفَق في سبيل الحرب.
وقَدَّمَ الأغنياء ذهبهم وحُلاهم، وأعطى الفقراءُ أثمن شيء لديهم وأخذت الحماسة فتاة من مدينة بولونيه فقَصَّتْ شعرها وقدمته، وكان الرُّهبان يباركون الأعلام، وحمل المتطوعون على أكتافهم الصليب وذهبوا للقتال في سبيل قضيةٍ مقدسة.
وما أسرع ما لبت تورينو نداء ميلانو؛ ففي اليوم الثاني من الأيام الخمسة امتلأت الطرقات المؤديةُ إلى الحدود بجماهير النافرين إلى الحرب، وكان كافور يخطب في حماسةٍ بالغة في المجالس الخصوصية وفي العلانية صائحًا: «إلى الحرب إلى الحرب، بلا تريث.»
وكان الشرفُ يقضي على بيمونته بأن تنضم فورًا إلى جانب لومبارديه، وقد سنحت الفرصة لشارل ألبرت كي يرضي طموحه القديم، وينتقم من النمسة، ويغسل عار سنوات حداثته، وبرهن حقًّا على أنه «سيف إيطالية».
وقد كانت الثورة الإفرنسية بمثابة إنذار له فإذا انتظر أكثر من ذلك فقد تُعلن الجمهورية في لومبارديه ويتزعزع عرشه، ورغم ذلك فإنه بقي ينتظر وتتنازعه الخشية من مصير هذه العاصفة الدموقراطية، وتدعوه لمؤازرتها والخوف من لوم السياسة الأوروبية واتهام رجالها إياه بأنه اتفق مع الثورة.
وفي ٢٢ آذار تأكد من أن الشروط التي اشترطها على الميلانيين قد نفدت، واطمأن إلى أن حركتَهم ليست جمهوريةً فاتجه عزمه نحو الحرب، وفي المجلس الذي تَرَأَّسَهُ كان وزراؤه الضعفاء الحائرون لا يزالون مترددين ولكن الوزيران «باريتو وريجي» من أهل جنوة قالا بإعلان الحرب فورًا كما يرى الملك، ولم يستطيعوا إقناع زملائهم بذلك الرأي إلا بمشقةٍ كبيرة، وفي الغد جاء الرسل من ميلانو يحملون بشرى الانتصار، وحمل الملك الوشاح المثلث الألوان الذي أرسلته المدينة، وصرح أمام الجمهور بأنه يقف نفسه في سبيل قضية الأمة، وأعلن بعد يومين من ذلك في ندائه للحرب أنه دائمًا يقدم مساعدته لشعوب لمبارديه وفنيسيا، باسم الله والبابا وما يبذله الأخ لأخيه والصديق لصديقه.